التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

والواجب على المؤمن أن يتقى الله في المال فيكسبه من طريق الحلال وينفقه في سبيل الله ، وعلى العموم يتبع أوامر الدين ، ويخالف نفسه وهواه فإن المال فتنة وابتلاء ، ويتقى الله في الولد فلا يكون حبه داعية من دواعي ارتكابه الإثم والعدوان ، ويراقب الله فيه فينشئه تنشئة صالحة دينية ، ولا يدفعه حب الولد إلى أن يكون في جمع المال له كحاطب الليل.

واعلموا أن الله عنده أجر عظيم وخير كثير هو خير من الدنيا وما فيها ، فارعوا الأمانة ، ولا تخونوا الله ورسوله.

تقوى الله وأثرها

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)

المفردات :

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) التقوى : من الوقاية ، وهي : امتثال الأمر واجتناب النهى لأن هذا يكون وقاية للعبد من النار. (فُرْقاناً) : فارقا بين الحق والباطل .. الخيانة سببها الإفراط في حب المال والولد غالبا ، وعلاج هذا كله هو التقوى والاعتدال.

المعنى :

يا أيها المؤمنون إن تتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، يجعل لكم فرقانا ، فيكون المسلم حيث أمره الله ، ولا يكون حيث نهاه الله ، هذه التقوى إن حصلت لعبد جعل الله له نورا يمشى به بين الناس ، وحكمة يهتدى بها ، وعلما نافعا ، وعملا صالحا ، وهذا كله يجعله يفرق بين الحق والباطل والنافع والضار ، ويهتدى إلى الصراط المستقيم ، كيف لا؟ والمتقرب إلى الله بالنوافل يكون ربانيا ، ويكون المولى ـ جل

٨٢١

شأنه ـ سمعه وبصره ويده ورجله ، أفتراه يضل بعد هذا؟ ألست معى في أن التقوى هي السبيل الأقوى؟!!

إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم السابقة ويسترها ويغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات النعيم ، والله ـ سبحانه ـ ذو الفضل العظيم.

عداوتهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولدينه

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)

المفردات :

(يَمْكُرُ) سبق شرحه آية ٥٤ آل عمران. (لِيُثْبِتُوكَ) : ليحبسوك ويوثقوك ؛ إذ كل من شد شيئا وأوثقه فقد أثبته حتى لا يقدر على الحركة. (أَساطِيرُ) : جمع أسطورة ، وهي : القصص التي سطرت في الكتب بدون تمحيص ولا نظام.

هذه من نعم الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت بعد أن منّ الله على المسلمين بقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ). [سورة الأنفال آية ٢٦].

وهذه قصة تمثل جانبا من رواية الهجرة الشريفة يحسن الوقوف عليها.

لما شاع خبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصبح أتباعه يزيدون يوما بعد يوم اجتمع أشراف مكة في دار الندوة للتشاور في الخطر الداهم ، وتمثل لهم إبليس في زي شيخ نجدى وحضر

٨٢٢

اجتماعهم ، فقال أبو البختري : الرأى أن تحبسوه في بيته ، وتشدوا وثاقه وتسدوا عليه بابا وتتربصوا به ريب المنون. فقال الشيخ النجدي : ما هذا بالرأى ؛ فإن أهله وأتباعه يقاتلونكم ويفكون أسره ، ثم قال هشام بن عمر :

الرأى أن تخرجوه من ديارنا وتستريحوا منه ولا يضركم ما يفعل. فقال النجدي : ما هذا برأى أرأيتم إلى طلاقة لسانه وحلو حديثه وقوة تأثيره فلا تأمنوا أن يجتمع عليه العرب ويغزوكم في عقر دياركم ... ثم قال أبو جهل : لي رأى!! أن نجمع من كل قبيلة فتى جلدا قويا ومع كل فتى سيف بتار فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيضيع دمه بين القبائل ، وماذا يفعل بنو هاشم في هذا؟ قال إبليس : نعم هذا الرأى ... ولكن الله أطلعه على كل ذلك وأحبط تلك المؤامرة وردهم خائبين ، وخرج النبي وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

المعنى :

واذكر يا محمد وقت أن اجتمع الذين كفروا ليمكروا بك ويدبروا أمر القضاء عليك وعلى دعوتك ، وعاونهم في ذلك إبليس اللعين. فإن في ذلك القصص ذكرى وعبرة لك ولأمتك وفيه دليل صدقك وتأييد الله لك.

إنهم دبروا لك إحدى ثلاث : إما الحبس والمنع من لقاء الناس ، وإما القتل الجماعى ، وإما الإخراج من أرض الوطن.

فهم يمكرون بك وبأصحابك ، ويدبرون لك الأذى ، ولكن الله يحبط مؤامراتهم ويبطل كيدهم فقد أخرجك من مكة إلى المدينة مهاجرا ، وعدت إلى مكة غازيا فاتحا ، وقد سمى هذا مكرا من باب المشاكلة ، والله خير الماكرين ؛ لأن مكره إعزاز للحق وأهله ، ونصر للإسلام ورجاله وخذلان للباطل وحزبه.

وهكذا دائما لا تنتظروا أيها المسلمون من غيركم من الكفار والمشركين إلا هذا وأمثاله.

هذا كيدهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ، أما كيدهم للدين وكتابه فها هو ذا : وإذا تتلى

٨٢٣

عليهم آياتنا البينات الواضحات التي أنزلت على النبي الأمى قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، فنفوا بمشيئتهم الإتيان بمثله!

أفيعقل هذا؟ أن تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله تحديا سافرا وهم أهل اللسان والبيان وأحرص الناس على التسابق في ميدان البلاغة والفصاحة!

ثم عللوا هذا بقولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين ، وأخبار كأخبار الأمم السابقين ، قيل : إن أول من قال هذا هو النضر بن الحارث وتبعه الناس.

صورة من حماقة العرب وجاهليتها

وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)

المفردات :

(مُكاءً) : صفيرا. (وَتَصْدِيَةً) : تصفيقا.

روى أنه لما قال النضر بن الحارث : إن هذا إلا أساطير الأولين ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٨٢٤

ويلك إنه كلام رب العالمين. فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا ..

وروى أن معاوية قال لرجل من سبأ : ما جهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال : بل أجهل من قومي قومك حين قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر ... الآية.

المعنى :

واذكر إذ قالت قريش : اللهم إن كان هذا القرآن هو الحق من عندك ، لا شك فيه ولا مرية ، فعاقبنا على الكفر به ، بحجارة من سجيل كما عاقبت أصحاب الفيل ، ومرادهم إنكار كونه حقا منزلا من عند الله ، كأنهم قالوا : إن كان الباطل حقا فائتنا بعذاب أليم ، تراهم علقوا نزول العذاب على محال في ظنهم ، وفي تعبيرهم (هذا هو الحق) المفيد للتخصيص تهكم بمن يقول : القرآن حق!! فهذا أسلوب بليغ في الجحود والإنكار.

إن كان هذا القرآن هو الحق دون غيره فأمطر علينا حجارة من السماء هي الحجارة المسومة للعذاب أو ائتنا بعذاب أليم آخر.

وهذا هو بيان لموجب التأخير في إجابة دعائهم.

وما كان من مقتضى سنة الله ورحمته وحكمته أن يعذبهم بعذاب الاستئصال وأنت فيهم قد بعثت رحمة للعالمين ، وما عذب الله أمة ونبيها معهم.

وما كان الله ليعذبهم والحال أنهم يستغفرون ، أى : ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر لما عذبهم الله أبدا ، ولكنهم قوم مرنوا على الكفر والشرك فلن يتوقع منهم ذلك ، وقيل : ما كان ينبغي تعذيبهم وفيهم من يستغفر الله من المؤمنين الذين بين ظهرانيهم.

وتقييد نفى العذاب بكون الرسول معهم دليل على أن العذاب يترصدهم وأنهم معذبون لا محالة بدليل قوله تعالى :

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ)؟ على معنى : وأى شيء ثابت لهم حتى ينتفى عنهم العذاب ، فهم معذبون لا محالة!!

٨٢٥

وكيف لا يعذبون؟ وهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عنه عام الحديبية ، ألم يخرجوا النبي وصحبه من المسجد الحرام؟!! أفلا يكون هذا صدا عنه؟!!

وكانوا يقولون : نحن أولياء البيت الحرام نصد من نشاء ، وندخل من نشاء ، فيرد الله عليهم بقوله : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) ، وكيف يكونون أولياء له مع شركهم وعداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وما أولياؤه وأحبابه إلا المتقون المؤمنون من المسلمين فقط ، وليس كل مسلم يوصف بأنه ولى الله.

ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك ، وقليل منهم من يعرف حقيقة نفسه ... وقد كانوا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء مع الصفير والتصفيق وقد سجل الله عليهم ذلك.

وما كان صلاتهم عند البيت الكريم إلا صفيرا وتصفيقا فكان طوافهم وصلاتهم من قبيل اللهو واللعب.

وإذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب الأليم المعد لكم بسبب كفركم وشرككم!!.

عاقبة إنفاقهم للصد عن سبيل الله

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)

٨٢٦

المفردات :

(حَسْرَةً) : ندامة وألما.

نزلت في أبى سفيان حين أنفق المال الكثير على المحاربين في بدر وأحد. وحين قالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال ـ يريد مال العير الذي نجا ـ على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا.

المعنى :

إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن اتباع محمد وما علموا أن هذا صد عن سبيل الله ، فسينفقونها في حربه والصد عنه ثم تكون في النهاية حسرة عليهم وندامة لهم ، لأنه مال ضائع في سبيل الشيطان ولن يصلوا إلى ما يريدون ؛ فالله قد كتب وقدر (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١) (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (٢).

هذا عذابهم في الدنيا : ضياع المال والهزيمة النكراء ، وهم في الآخرة إلى جهنم يحشرون.

إن الله كتب النصر لعباده والغلب لهم ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض متراكما في جهنم ، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) سورة المجادلة آية ٢١.

(٢) سورة الرعد آية ١٧.

٨٢٧

من فضل الله على الناس

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)

بعد ما تعرض للكفار وذكر نتيجة أعمالهم في الدنيا والآخرة فتح لهم باب الرحمة الواسعة والفضل الكبير فقال : قل يا محمد للذين كفروا : إن ينتهوا عما هم فيه ، يغفر الله لهم ما قد سلف منهم ، فالإسلام يجب ما قبله ، ويفتح للمسلم صفحة جديدة تسطر فيها أعماله ويجازى عليها ، وأما ما عمله قبل الإسلام فدون الكفر ، والإسلام يمحو كفره وشركه ، وأما إن عادوا إلى حظيرة الكفر فسيلحقون بمن تقدمهم من الأمم السابقة التي كفرت بالله وبرسله ووقفت منهم موقف العناد ، وهذه سنة الله في الخلق جميعا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وأما أنتم أيها المسلمون فقاتلوهم قتالا عنيفا مبيدا حتى لا تكون هناك فتنة أبدا لمسلم في الأرض ، ويكون الدين كله لله ، والأمر له وحده. فإن انتهوا فإن الله بصير بأعمالهم ومجازيهم عليها ، وإن تولوا وأعرضوا فلا يهمنكم أمرهم ، واعلموا أن الله مولاكم ومن كان الله مولاه فلا يضام أبدا ، وهو نعم المولى ونعم النصير ـ سبحانه وتعالى ـ والله أعلم.

٨٢٨

كيف تقسم الغنائم

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)

المفردات :

(غَنِمْتُمْ) : من الغنيمة ، وأصلها إصابة الغنم ، والمراد : ما أخذ من الكفار قهرا أما ما أخذ بلا حرب فهو فيء كالجزية وعشر التجارة ... إلخ ما هو مبين في كتب الفقه. (يَوْمَ الْفُرْقانِ) : هو يوم بدر لأنه فرق بين الحق والباطل وظهر في الوجود أن لمحمد المهاجر من بلده قوة غلبت كفار قريش المغرورين.

المعنى :

سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأنفال وتقسيمها ؛ والمراد بها الغنائم كما سبق. فأجاب القرآن على سؤالهم مبينا أن حكمها لله ويقسمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حسب ما أمر به (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ). [سورة الأنفال آية ١].

وهذا بيان لحكمها بالتفصيل.

واعلموا أيها المسلمون أن الذي غنمتموه من الكفار ، أيا كان قليلا أو كثيرا فحق ثابت ، واجب أن لله خمسه وللرسول ، ولذوي القربى ؛ واليتامى ؛ والمساكين ؛ وابن السبيل.

فالغنيمة تقسم خمسة أقسام ، خمسها لهؤلاء الخمسة ، وأربعة أخماسها الباقية للجيش بدليل

٨٢٩

بيان هذا الخمس والسكوت عن الباقي مع قوله تعالى (غَنِمْتُمْ) قال القرطبي : لما بين الله ـ تعالى ـ حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين.

والمراد بذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب دون بنى عبد شمس ، وبنى نوفل ، واليتامى : من فقدوا آباءهم وهم فقراء ، والمساكين : هم ذوو الحاجة من المسلمين ، وابن السبيل : المنقطع في سفره مع شدة حاجته حتى صار الطريق أبا له.

كان يقسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخمس على خمسة : سهم له يصرفه في مصالح المسلمين وسهم لذوي القربى ، والثلاثة الباقية لأصحابها المذكورين ، وبعد وفاته اختلفت الأئمة فمن قائل أن سهم النبي وسهم ذوى القربى يسقطان ، وفقراء آل البيت كفقراء المسلمين ، ولا يعطى أغنياؤهم ، وهكذا كان يسير أبو بكر مع بنى هاشم ، وقال الشافعى : سهم رسول الله يصرف على مصالح المسلمين. وسهم ذوى القربى لفقراء آل البيت وأغنيائهم بالسوية كالميراث ، والرأى أن سهم الرسول وسهم ذوى القربى يترك أمرهما للإمام يفعل ما فيه المصلحة للمسلمين.

وبعض العلماء تمسك بظاهر الآية وقال : الخمس يقسم ستة أقسام لا خمسة.

إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على رسول الله من الوحى والملائكة والنصر يوم الفرقان يوم التقى الكفار والمسلمون فاعلموا أن الخمس ليس لكم ولكنه لله ولرسوله ، وللأصناف المذكورة ، فحذار من أن تتعدوا الحدود في وقت من الأوقات ، ولا غرابة في جعل الإيمان بإنزال هذه الأشياء من دواعي العلم بأن لله خمسه وللرسول ... إلخ الأصناف لأن الوحى ناطق بهذا ، ولما كانت الملائكة والنصر من عند الله ، وجب أن تكون الغنيمة التي حصلت بسببها مصروفة في الجهات التي عينها الله ، وليس المراد اعلموا فقط بل العلم المشفوع بالعمل والاعتقاد.

٨٣٠

امتنان الله على المؤمنين بالنصر على عدوهم

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)

المفردات :

(بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) : شط الوادي ، والدنيا ، أى : القريبة من المدينة. و (الْقُصْوى) : مؤنث الأقصى ، أى : البعيدة عن المدينة.

المعنى :

يذكرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالنعم العظيمة التي حبانا بها ، وكان لها الأثر الفعال

٨٣١

في الانتصار على كفار قريش ، وهذا يوجب الشكر علينا والامتثال لأمر الله في تقسيم الغنائم وغيره.

واذكروا يوم التقى الجمعان إذ أنتم بالعدوة القريبة من المدينة اخترتموها مكانا لكم مع أنها كانت رملية تسوخ فيها الأقدام ، ولا يسهل السير عليها ، والكفار في العدوة البعيدة ، وكانت مكانا صالحا للوقوف قريبا من الماء ، ومع ذلك فكان العير الذي يحمل التجارة والركب الذي يرأسه أبو سفيان في أربعين من قريش أسفل منكم ، ووراء ظهور المشركين حاميا لها ، وهم يدافعون عنه دفاع المستميت ، وهذا بلا شك مما يقوى الروح المعنوية فيهم ؛ واعلموا أنكم لو تواعدتم على القتال لاختلفتم في الميعاد خوفا من بطشهم وقوة عددهم.

كل ذلك ليتحقق للمسلمين أن النصر من عند الله وحده ، وأن الله هو الذي جعلهم يتغلبون على عدوهم مع قلة عددهم وعددهم فيزدادوا إيمانا وشكرا وامتثالا لأمر الله.

ولكن جمع الله بينكم على هذه الحال من غير ميعاد ليقضى الله أمرا كان مقدورا فعله ، محتما وقوعه لأنه نصر لأوليائه ، وقهر لأعدائه ؛ ليهلك من هلك بعد ظهور تلك البينات الواضحات عن حجة وبينة ، فإن المقدمات الظاهرة لو تركت وحدها لأنتجت هزيمة المسلمين هزيمة ساحقة ، أما وقد ظهر أن الله على كل شيء قدير ، وأنه ولى الذين آمنوا ، وهو يتولى الصالحين ، وقد نصر المسلمين على عدوهم نصرا مؤزرا ، وتحقق قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (١) فمن يهلك بعد ذلك يهلك عن بينة وحجة ، ومن يحيا بعد ذلك يحيا عن بينة وحجة ، فليس الأمر يسير كالعادة والمألوف ، بل هذه معجزات قواطع دمغت الكفر ، ومحقت الشرك ، وقيل : المراد بالحياة والهلاك : الإسلام والشرك ، وإن الله لسميع بكل دعاء والتجاء إليه ، عليم بكل قصد وعمل. واذكر إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا ، بمعنى ضعفاء ، فتخبر أصحابك بذلك فتثبت قلوبهم ، ولو أراكهم على حسب الواقع لفشلتم واختلفتم وتنازعتم في أمر القتال ، ولكن الله سلّم من الفشل والنزاع ؛ حيث أخرجكم للعير ثم وعدكم الله إحدى الطائفتين ، وقد فر العير فلم يبق إلا القتال ، وقد منّ عليكم بنعمه حتى انتصرتم ، إنه عليم بذات الصدور وهو أعلم بخلقه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [سورة الملك آية ١٤].

__________________

(١) سورة القمر آية ٤٥.

٨٣٢

واذكروا إذ يريكم الله الكفار ساعة القتال قلة في أعينكم حتى تجرؤوا وتقوى روحكم المعنوية ، ويجعلكم قلة في أعين الكفار فيغتروا ، ولا يعدوا العدة لكم ولا يحكموا الضربة الموجهة إليكم ؛ هذا قبل القتال وأما فيه فإنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويتملكهم الفزع وتسوء حالهم المعنوية (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران آية ١١٤].

كل ذلك ليقضى الله أمرا كان مفعولا بلا شك ، وإلى الله ترجع الأمور كلها يصرفها كيف يشاء ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ـ سبحانه وتعالى ـ.

نصائح حربية

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)

المفردات :

(فِئَةً) : جماعة. (رِيحُكُمْ) المراد : القوة والغلبة والدولة ، ويقال : هبت رياح فلان : إذ دالت له الدولة ونفذ أمره. (بَطَراً) البطر والأشر : هما الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء وجعلها وسيلة إلى ما لا يرضى الله. (رِئاءَ النَّاسِ) أصله : رياء الناس.

٨٣٣

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، إذا حاربتم جماعة من الكفار ، والتقيتم بهم في ميدان الحرب فالواجب عليكم أن تثبتوا في قتالهم وتصمدوا للقائهم ، وإياكم والفرار من الزحف ، وتوليتهم الأدبار. فالثبات فضيلة ، والفرار كبيرة يعاقب الدين عليها ؛ وعليكم بذكر الله في السراء والضراء وحين البأس ، فبذكره تطمئن القلوب ، وبدعائه تفكّ الكروب ، فهو القريب المجيب دعوة الداعي ، لا سيما إذا كان دعاء بالنصر على عدو الله ، اثبتوا عند اللقاء ، واذكروا الله كثيرا ، رجاء أن تفوزوا بالأجر والثواب ، والنصرة على الأعداء ... وأطيعوا الله في كل ما أمر به ونهى ، وكذا رسوله الكريم ؛ فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله ، وإياكم والنزاع فإنه مدعاة للفرقة وأساس الهزيمة ، وإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم وكثرة اعتراضهم ، فالنزاع أداة الهلاك ، ومعول الهدم والشقاء ، به تذهب الدولة ، وتفنى القوة ؛ وعليكم بالصبر فهو سلاح المؤمن الذي لا يفل ، ولقد قيل : الشجاعة صبر ساعة ، وكفى بالصبر شرفا أن الله مع الصابرين بالمعونة والتأييد ، وإياكم أن تكونوا كأولئك الكفار الذين خرجوا من ديارهم ليحموا عيرهم خرجوا حالة كونهم بطرين طاغين بالنعمة ، غير شاكرين ؛ إذ قيل لهم : إن العير نجا فارجعوا ، فقال أبو جهل ، لا ، حتى نقدم بدرا ونشرب الخمور وتضرب القيان علينا بالدفوف ، وتسمع العرب بمقدمنا .. كما مر قريبا ، وكان مآلهم كما علمت ، بدل الله شرب الخمر بشرب كأس الموت ، وبدل ضرب القيان والغناء بنوح النائحات ، وبدل نحر الجزور بنحر الرقاب وهكذا!! لا تكونوا مثلهم بطرين أشرين مرائين الناس صادين عن سبيل الله ، فهذه من عوامل الهدم والفناء ، واعلموا أن الله بما يعمل العاملون محيط وسيجازى كلا على عمله.

فهذه هي النصائح التي تكفل النصر للمسلم : الثبات عند اللقاء ، وذكر الله والالتجاء إليه ، وطاعة الله وطاعة رسوله وكذا قائد الجيش ورئيس الدولة ما دام يأمر بما يرضى الله ورسوله ، وعدم النزاع والشقاق ، والصبر عند الشدائد ، وعدم البطر والرياء والكبر والخيلاء ...

٨٣٤

كيف يتخلص الشيطان

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)

المفردات :

(زَيَّنَ) : حبب إليهم أعمالهم ووسوس لهم بها. (نَكَصَ) : رجع هاربا ، أى : رجع القهقرى ، والمراد : أحجم ، والعقب : مؤخر القدم. (أَدْبارَهُمْ) : جمع دبر ، أى : مؤخرهم ، والمراد : ظهورهم ، وقيل : المراد أستاههم.

المعنى :

واذكر يا محمد إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها ضد دين الله ، ووسوس لهم بها وحببهم فيها حتى فهموا أنهم لا يغلبون أبدا ، وأوهمهم أن خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم ، فلما تراءى الجمعان ، والتقت الفئتان في الميدان وجها لوجه. نكص على

٨٣٥

عقبيه ، ورجع هاربا لا يلوى على شيء ، وقال : إنى برىء منكم ومن عملكم ، إنى أرى ما لا ترون من جند الله التي تحارب في صفوفهم ؛ والمراد أنه بطل عمله ، وذهب كيده أدراج الرياح ، وهذا تمثيل لحاله مع الكفار في الدنيا فما باله في الآخرة؟!!

وفي المأثور : أن إبليس تمثل في صورة سراقة بن مالك الشاعر الكناني وتحدث معهم بالفعل ، وفي بعض الروايات : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص وتركهم وقد حمى الوطيس قال له الحارث : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال : إنى أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانطلق. إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله!! انظر كيف وقف الشيطان منهم هذا الموقف؟!! والله شديد العقاب فاحذروا عقابه.

واذكر وقت أن يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض الشك والحسد وداء الحقد والبطر : غر هؤلاء المسلمين دينهم حتى يخرج ثلاثمائة لمحاربة ألف من زعماء قريش ، إن هذا لغرور!!

وما علم المنافقون أن من يتوكل على الله فهو حسبه ، وناصره ومؤيده ، فإن الله عزيز يعز أولياءه ويذل أعداءه ، غالب على أمره ، حكيم في فعله عليم بخلقه. سبحانه وتعالى.

ولو رأيت يا من تتأتى منك الرؤية وقت أن يتوفى الذين كفروا الملائكة ، لو رأيت الكفرة في هذه الحال لرأيت شيئا عجيبا لا يكاد يوصف ، فهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد ، ويقولون لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة.

ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدمته الكفار ، واجترحته من المعاصي والذنوب ، وأن الله ليس بذي ظلم للعباد أبدا بل يضع الموازين القسط ، ويعطى كل ذي حق حقه.

ما حل بهم بسبب أعمالهم

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)

٨٣٦

ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)

المفردات :

(كَدَأْبِ) الدأب : مصدر دأب يدأب : إذا كدح وأتعب نفسه وداوم على فعله ، ثم سميت به العادة لأن الإنسان يداوم عليها ويواظب.

المعنى :

هذا استئناف ، أى : كلام جديد مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بسبب شيء آخر فهو تأكيد لمضمون ما قبله (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

عمل هؤلاء الكفرة الذين مرنوا عليه وتعودوه كعمل آل فرعون والذين من قبلهم من آل عاد وثمود وقوم لوط والمؤتفكات ، أتتهم رسلهم بالبينات فكفروا بآيات الله ، وكذبوا برسل الله. فأخذهم الله بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ، ولا غرابة في ذلك فإن الله قوى عذابه شديد عقابه فالجزاء من جنس العمل ومسبب عنه.

ذلك العذاب الذي يأتى مسببا عن العمل بسبب أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، أى : لم يصح في حكمته أن يغير نعمة حتى يتغير صاحبها إذ هو الحكيم الكريم الرحمن الرحيم.

وهؤلاء الكفار كانوا في نعمة الأمن والرفاهية ، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بينهم يتلوا عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، نعم كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام

٨٣٧

لكن هذه لم تمنعهم من إفاضة نعمة الإمهال عليهم وسائر النعم التي سبقت من الأمن والرفاهية وإرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما بعث إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيروا حالهم السيئة إلى أسوأ منها حيث كذبوا النبي وعادوه وحاولوا قتله وعذبوا أصحابه وتحزبوا عليه .. فغير الله ـ تعالى ـ ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) وذلك بسبب أن الله يسمع كل صوت ويعلم كل قصد وعمل.

دأبهم وما هم عليه من عادة كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فكان من نتيجة ذلك أن أهلكهم الله بذنوبهم التي من جملتها التكذيب وأغرق آل فرعون وأرسل الريح والصيحة على غيرهم ، وكل هؤلاء كانوا ظالمين.

كيف حال من نقض العهد؟

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)

المفردات :

(الدَّوَابِ) : جمع دابة ، وهي : ما تدب على الأرض ، والمراد الناس.

(تَثْقَفَنَّهُمْ) تثقفت الرجل في الحرب : أدركته ، وثقفته : ظفرت به. (فَشَرِّدْ بِهِمْ) التشريد : تفريق مع إزعاج واضطراب. (فَانْبِذْ) : فاطرح وارم.

(سَبَقُوا) : أفلتوا وفاتوا.

٨٣٨

المناسبة :

بعد أن تكلم على الكافرين الظالمين الذين هلكوا بأعمالهم. أخذ يتكلم على أحوال الباقين منهم.

روى أنها نزلت في بنى قريظة من اليهود ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عاهدهم ألا يحاربوه وألا يعاونوا أحدا عليه فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله ، ثم قالوا : نسينا. فعاهدهم ثانية فنقضوا ومالئوا الكفار يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف زعيمهم إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول الله.

المعنى :

إن شر الناس عند الله الذين كفروا وصدوا عن سبيله ، ولجوا في العناد وأصروا على الكفر ، وقد جعلهم القرآن شر الدواب إشارة إلى أنهم بلغوا درجة الحيوانات والدواب ومع ذلك هم شر منها (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (١) وهم لذلك لا يؤمنون ولا يرجى منهم خير أبدا.

إن شر الناس عند الله ، أى : في حكمه وقضائه : الذين كفروا ، أى : الذين عاهدت منهم وأخذت العهد عليهم كبني قريظة ثم تراهم ينقضون العهد في كل مرة من المعاهدة والحال أنهم لا يتقون الله ولا يخافون حسابه وليس لهم ضمير أو ذمة يرعونها.

هذا حالهم عند الله ، أما حكم من نقض العهد منهم فإن أمكنتك الفرصة منهم وثقفتهم في الحرب فاضربهم الضربة القاضية التي تفرق بها جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة وغيرها ، افعل هذا لعل الذين خلفهم يتعظون بهم.

أما من أشرف على نقض العهد وبدرت منه بوادر تؤذن بأنه سينقض فهاك حكمه.

وإما تخافن من قوم خيانة بنقض العهد بأن لاح لك دلائل الغدر ومخايل الشر ، والمراد بالخوف : العلم ، فاطرح لهم عهدهم وانبذه لهم نبذ النواة مستويا أنت وهم في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة إن الله لا يحب الخائنين.

__________________

(١) سورة الفرقان آية ٤٤.

٨٣٩

وقيل المعنى : فانبذ إليهم عهدهم على طريق مستو واضح ، والمراد : أخبرهم خبرا مكشوفا.

ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم أفلتوا من القتل والأسر يوم بدر أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم بل هم في قبضته ولن يفلتوا أبدا إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بالعذاب الشديد ، وأما أنت يا محمد فاعلم أن الله محيط بهم ومعذبهم على كفرهم ومنتقم منهم فاطمئن واصبر فإن الله معك!

الإعداد الحربي للأعداء

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)

المفردات :

(رِباطِ الْخَيْلِ) يقول الكشاف : الرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله.

(تُرْهِبُونَ) : تخيفون.

المعنى :

الجيش هو عدة الوطن وسلاحه ودرعه وسياجه ، وجه الأمة التي تقابل به العدو ، ويدها التي تبطش بها ، وقلبها النابض وعينها الساهرة ، ولذا كانت عناية القرآن به كما ترى في كثير من الآيات ، ورعاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له وإعطاؤه القسط الوافر المناسب لزمنه أمر ظاهر واضح.

والإعداد والتكوين أمر شاق على النفوس عسير على الناس إلا المؤمنين بالله المتوكلين عليه أصحاب النفوس العزيزة والهمم العالية.

٨٤٠