التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى وهو بمكة متجها إلى الكعبة ، ثم لما هاجر أمر بتحويل القبلة إلى صخرة بيت المقدس تألفا لليهود وقد فرحوا بذلك.

وظل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك بضعة عشر شهرا إلا أنه كان كثيرا ما ينظر إلى السماء ويدعو الله أن يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم وهي الكعبة ، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق ، وكان أول صلاة صلاها هي العصر كما في الصحيحين.

المعنى :

علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ ما سيكون عند تحويل القبلة من اضطراب بعض الناس اضطرابا قد يودى بإيمانهم ، وعلم ما سيقوله سفهاء الناس فأخذ يمهد تمهيدا دقيقا لتحويل القبلة حتى لا يفاجأ المسلمون بالتحويل واضطراب الناس وإنكارهم ، ولذا لقنهم الحجة ، ووضح لهم الطريق ثم بعد هذا أمرهم بالتحويل.

سيقول ضعفاء العقول والإيمان من اليهود والمنافقين والمشركين : أى شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا ثابتين عليها؟ فقد ساء اليهود انتقال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وأما المشركون فقصدهم الطعن في الدين وبيان أن التوجه في الحالين وقع بغير داع ، وأما المنافقون فهذا شأنهم من الدين وديدنهم.

فيرد الله عليهم : قل لهم يا محمد : لله تعالى ناحيتا المشرق والمغرب ، فالجهات كلها ملكه فلا اختصاص لناحية دون أخرى ، ولا مزية لها ، وإنما الأمر بيده يختار ما يشاء ، فأينما تولوا فثم وجه الله (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يهدى من يشاء إلى الصراط المستقيم ، ولقد هدى المؤمنين حقا إلى ذلك حيث أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس ثم رجع إلى الكعبة ، فامتثلوا أمره لأنهم على علم بأن المصلحة فيما أمر والخير فيما وجه.

ومثل هذه الهداية والتوفيق إلى الصراط المستقيم جعلناكم أيتها الأمة المحمدية وسطا عدولا بلا إفراط ولا تفريط في أى شيء من شئون الدين والدنيا ، فالأمة الإسلامية وسط في عقائدها العامة تحافظ على المادة والروح ، وتنمى هذا وذاك وهي وسط في معاملتها للفرد وللجماعة فلا تجعل الفرد يطغى على الجماعة باستبداده ولا تلغى شخصية

٨١

الفرد في الجماعة ، ولقد صدق الله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) وذلك لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا ، ولتكونوا شهداء على الأمم يوم القيامة ، ويكون الرسول عليكم شهيدا.

روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لهم ، فيطالبهم الله تعالى بالبينة ـ وهو أعلم بكل شيء ـ إقامة للحجة على الجاحدين المنكرين ، فتقول الأنبياء : أمة محمد تشهد بذلك ، فيؤتى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشهدون للأنبياء فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم ذلك؟

فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله ـ تعالى ـ في كتابه الناطق ، على لسان رسوله الصادق ، فيؤتى عند ذلك بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد لهم وذلك قوله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

وما جعلنا القبلة التي تحبها والجهة التي كنت عليها بمكة (يعنى : وما رددناك إليها) إلا امتحانا وابتلاء ليظهر ما علمناه ، ويتبين في الواقع الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه فيرتد ، حتى يجازى كل على عمله.

وإنما شرعنا لك التوجه إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة ليظهر حال المؤمنين والمنافقين.

وإن كانت هذه الفعلة لشديدة على نفوس الناس إلا على الذين هداهم الله ووفقهم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [سورة التوبة الآيتان ١٢٤ و ١٢٥].

وروى أنه لما غيرت القبلة أخذ المرجفون يقولون : ما حال المسلمين الذين ماتوا قبل التحويل؟ وكيف نحكم على صلاتهم وإيمانهم؟ ولقد سأل بعض المسلمين عن أقاربهم الذين ماتوا ليطمئنوا فأجابهم : وما كان الله ليضيع إيمانكم وثباتكم على الإسلام ، وبالتالى لا يضيع صلاتكم وعبادتكم. إن الله بالناس لرءوف رحيم.

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ١١٠.

٨٢

تحويل القبلة

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)

المفردات :

(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) : تردده طلبا للوحى والتجاء إلى الله. (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) : فلنوجهنك جهتها. (فَوَلِّ وَجْهَكَ) : فوجه وجهك. (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : جهته. (الْمُمْتَرِينَ) : الشاكّين.

المعنى :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ؛ لأنها قبلة أبيه

٨٣

إبراهيم ، والأمة المسلمة هي الوارثة لإبراهيم وإسماعيل ولعهد الله معهما ، فطبيعى أن ترث بيت الله في مكة ، وأن تتخذ منه قبلة ؛ لأنه بيت الله وتراث إبراهيم ، وبناؤه مع إسماعيل ، لأنها أدعى إلى إيمان العرب المعول عليهم في الرسالة ، وتطلعه إلى ما يظنه خيرا ، ويعتقد أن فيه الرضا والرضوان ، ولذلك أجابه الله إلى طلبه وقال : فلنوجهنك قبلة ترضاها وتحبها لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحب إلا الخير.

وقد قرن الله الوعد بالأمر للإشارة إلى أن ما يرجوه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما تتطلبه الحكمة الإلهية فقال : فول وجهك وجهة المسجد الحرام فالواجب استقبال جهة الكعبة حقيقة في القرب وظنا في البعد.

ثم أمر المؤمنين عامة فقال : فحيثما كنتم فولوا وجوهكم جهته ، وكان يكفى الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أمره أمر لأمته إلا إذا خصص. ولكن أمر المؤمنين أيضا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة ، فإنها حادثة كبرى استتبعت فتنة عظمى كان لها أثر كبير ، ولتشتد قلوبهم ، وتطمئن نفوسهم فيضربون بأقوال المنكرين عرض الحائط.

ثم رجع القرآن لمناقشة أهل الكتاب ممن اشترك في هذه الفتن فقال : وإن اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا أن هذا التحويل هو الحق الثابت لأنه في كتابهم ، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق ، وترويج الباطل ، وما الله بغافل عن أعمالهم بل مجازيهم عليها.

ولقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على إيمان أهل الكتاب لأن كلامهم مصدق عند العوام ، فكان يود لو تزال كل شبهة عندهم حتى يؤمنوا ، ولذا يقول الله تهدئة لخاطره وتسلية له : إنهم قوم منكرون معاندون فلا تنفعهم الآيات ، ولا تزيل شبههم الحجج الواضحات ، تالله لئن أتيتهم بكل آية رجاء أن تقنعهم باتباع قبلتك ما اقتنعوا ، ولا اتبعوك ، ولست أنت تابعا لقبلتهم ، قطعا لطمعهم في أن يعود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس ، فإنهم كانوا يمنون أنفسهم برجوع النبي إليه ، وكيف يرجى منهم اتباع قبلتك؟ وليست لهم قبلة واحدة ؛ فعيسى كانت قبلته مع موسى ولكن بعد موته وتحريف الإنجيل اتخذوا قبلة أخرى.

ثم هدد الله نبيه الكريم ورسوله الأمين بهذا التهديد حتى تعرف أمته خطر مخالفة كلام الله ، واتباع أهواء الناس وممالأتهم على حساب الدين.

٨٤

فقال : ولئن اتبعت يا محمد أهواء أهل الكتاب بعد ما ظهر لك الحق واضحا وعرفت الخير والشر إنك إذن لمن الظالمين لأنفسهم المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة ، وكيف تتبع هؤلاء؟ وهم يعرفون الحق كمعرفتهم أبناءهم أو أشد ، وإن فريقا منهم ليكتمونه .. الحق من ربك ، فما أنت عليه هو الحق ، فلا تكن من الممترين.

حول تحويل القبلة

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)

٨٥

المفردات :

(فَاسْتَبِقُوا) : تسابقوا. (الْحِكْمَةَ) : العلم النافع مع العمل.

كل هذا تأييد للدعوى وبطلان لكلام المنكرين.

المعنى :

لكل فريق من الأمم قبلة هو موليها وجهه ، فلليهود قبلة ، وللنصارى قبلة ، وللمسلمين قبلة ، فلم تكن جهة من الجهات قبلة لكل الأمم ، وليست القبلة ركنا من أركان الدين ، وليست مهمة لهذه الدرجة ، وإنما المهم أن تتسابقوا إلى الخيرات حتى تحرزوا قصب السبق ، لا أن تجادلوا وتعترضوا على تحويل القبلة ، والله ـ سبحانه ـ يستوي عنده كل مكان ؛ فأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة فيحاسبكم على أعمالكم ، والله على كل شيء قدير وفي هذا تهديد للمنكرين.

ثم أعاد الله ـ سبحانه ـ الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتولية وجهه جهة المسجد الحرام مرة ثانية. ثم أعاده مرة ثالثة ، وليس في هذا تكرير ، بل تأكيد للأمر بتحويل القبلة في صور مختلفة ليعلم أن التوجه إلى الكعبة ليس خاصا بوقت دون وقت وبمكان دون مكان في الحضر أو السفر ، ولقد بنى القرآن على كل أمر ما يناسبه. فمع الأول أثبت أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق ، ومع الثاني بين أنه الحق الثابت من عند الله ، ومع الأمر الثالث الحكمة في تحويل القبلة.

الحكمة الأولى : لئلا يكون للناس على الله حجة ، فأهل الكتاب يعرفون أن النبي المبشّر به عندهم قبلته الكعبة ؛ فجعل القبلة إلى بيت المقدس دائما طعن في نبوته ، والمشركون من العرب كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه جده إبراهيم ، فقد جاء التحويل موافقا لما يرونه ، فانتفت حجة الفريقين.

إلا الذين ظلموا أنفسهم فهم لا يهتدون بكتاب ، ولا يؤمنون بحجة ، ولا يعتدّون ببرهان لأنهم السفهاء فلا تخشوهم واخشون ، وتشير الآية إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى وغيره يجب ألا ينظر إليه.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ الحكمة الثانية في تحويل القبلة : ولأتم نعمتي عليكم إذ لا شك أن محمد بن عبد الله نبي عربي من ولد إبراهيم ، والكتاب المنزل عليه عربي ، وقد ظهر

٨٦

في العرب ، وهم أهله وعشيرته ، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم الكعبة ، وأن يحيوا سنة إبراهيم الخليل في تقديس الكعبة لأنها معبدهم وموطن عزهم وفخارهم ، إذن التحويل نعمة تامة من الله لهم ، وليتم نعمته عليكم ويهديكم صراطا مستقيما. ومع هذا فقد محص الله بها المؤمنين وظهر الثابت على الإيمان من المنافق.

الحكمة الثالثة : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : وليعدكم بذلك إلى الاهتداء والثبات على الحق وعدم المعارضة فيه.

أتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي جعله قبلة لكم ، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم يتلو عليكم القرآن بلسان عربي مبين ، ويطهركم من كل دنس ورجس وعبادة صنم ، ويعلمكم ما به تسمو نفوسكم وتزكو من أشرف العلوم وأسناها ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من الإخبار بالمغيبات والقصص الذي لا يخلو من عبر وعظات ، فاذكروني يا أمة الإجابة بالامتثال والعمل الصالح ، والاقتداء بالرسل أجزكم على هذا ، وأذكركم عندي بالثواب والجزاء وأفاخر بكم الملائكة ، واشكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم ، ولا تكفروا بها فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

الصابرون والمقاتلون في سبيل الله

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)

٨٧

المفردات :

(الصَّلاةِ) في اللغة : الدعاء ، وهي من الملائكة الاستغفار ، ومن الله الرحمة. (بِالصَّبْرِ) الصبر : حبس النفس على ما تكره. (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) : لنمتحننكم ، أى : نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم. نقص (الْأَنْفُسِ) : موتها. نقص (الثَّمَراتِ) : قلّتها ، وقيل موت الأولاد.

المعنى :

علم الله ما سيلاقيه المؤمنون في دعوتهم من الشدائد وما يصادفهم في أمور دينهم من أقوال السفهاء وافتراء أهل الكتاب كما حصل في تحويل القبلة وغيره وسيؤدي هذا إلى القتال حتما ، ولا دواء لكل هذا إلا استعانة بالصبر والصلاة وتربية النفوس على تحمل المكروه في سبيل الله ، ولقاء الكبير المتعال في كل صباح ومساء ، أما الاستعانة بالصلاة فلا تحتاج إلى تعليل وبيان لأنها أم العبادات ، وفيها لقاء المؤمن بربه لقاء يقوى روحه ويشد من أزره ، ويضاعف من قوته ، ومن هنا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه ـ اشتد به ـ أمر همّ إلى الصلاة ، وهي عند المؤمنين في المحل الأعلى : «جعلت قرّة عيني في الصّلاة» وأما الاستعانة بالصبر فلأن الله ـ سبحانه ـ أكد بأنه يكون مع الصابرين ، وناهيك بمعيته ـ سبحانه ـ إذ المراد منها الولاية والنصرة وإجابة الدعوة وكفاهم فخرا أنهم متبعون في هذا.

يا أيها الذين آمنوا : استعينوا بالصبر ، وثقوا تماما بأن عاقبته خير إذ غايته الاستشهاد في سبيل الله ، وما هم أولاء الشهداء؟ ليسوا كغيرهم أمواتا بل هم أحياء في قبورهم حياة ويرزقون رزقا على كيفية الله أعلم بها ، فنحن لا نشعر بذلك لأنها حياة لا تدرك بالمشاعر ولكنها حياة حدثنا عنها الدين فيجب أن نؤمن بها.

وليصيبنكم أيها المؤمنون بشيء قليل من الخوف والجوع والنقص في الأموال بضياعها ، وفي الأنفس بموتها ، وفي الثمرات بقلتها أو بموت الأولاد ، اختبر الله بهذا لتهدأ قلوب المؤمنين وتسكن ، مستسلمين إلى الله راضين بقضائه وقدره إذا ما أصابهم شيء من ذلك في الدنيا محتسبين الأجر عند الله قائلين : إنا ملك لله وإنا إليه راجعون.

البشرى والنجاح لهذا الصنف من الناس فإنهم الصابرون. وإنما يوفى الصابرون

٨٨

أجرهم بغير حساب ، أولئك تنزل عليهم المغفرة والرحمة ممن رباهم وتولى أمورهم ، وأولئك هم المهتدون إلى الأفعال النافعة.

والأحاديث في الصبر والاسترجاع عند المصيبة كثيرة ، منها حديث أم سلمة «لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم أجرنى على مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به» وما يروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قال الله : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدى؟ قبضت قرّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال : نعم قال : فما قال؟ قال : حمداك واسترجع ، قال : ابنوا له بيتا في الجنّة وسمّوه بيت الحمد».

وما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما مات إبراهيم : «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» فهذا هو نظام الدين إذا أصاب المسلم شيء يستسلم لقضاء ربه ويرضى بحكمه ويسترجع عند المصيبة ، وعلى العموم لا يقول إلا ما يرضى ربه.

بعض شعائر الحج وجزاء من يكتم آيات الله

إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)

٨٩

المفردات :

(الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) : جبلان بمكة. (شَعائِرِ اللهِ) : جمع شعيرة ، وهي العلامة ، والمراد بشعائر الله هنا : مناسك الحج. (حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحج في اللغة : القصد ، وفي الشرع : قصد مكة للنسك. (وَالْعُمْرَةَ) : الزيارة ، واعتمر : زار ، وفي عرف الشارع هي كالحج لكن ليس فيها وقوف بعرفة وليس لها زمان محدود. (فَلا جُناحَ) : فلا إثم. (تَطَوَّعَ) : فعل الطاعة فرضا أو نفلا. (يُنْظَرُونَ) : من الإنظار وهو الإمهال.

المناسبة :

قد تكلم القرآن الكريم عن معاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة وما ترتب على ذلك من ذكر القتال والصبر وجزائه.

ومن الحكمة في تحويل القبلة توجيه أنظار المسلمين إلى مكة قلب الجزيرة ، فناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج وهي السعى بين الصفا والمروة : إلهابا لهم وتذكيرا بمكة.

سبب النزول :

روى البخاري عن عاصم بن سليمان : سألت أنسا عن الصفا والمروة؟ قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ـ لأنه كان عليهما صنمان (أساف ونائلة) وكان الجاهليون يمسحون عليهما ـ فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فنزل قول الله ـ عزوجل ـ : إن الصفا ... إلخ.

المعنى :

إن السعى بين الصفا والمروة من مناسك الحج والعمرة ومن أعمالهما ، فمن قصد البيت للحج أو للعمرة فلا إثم عليه أن يطوف بهما ، أى : يسعى بينهما ، ونفى الإثم والحرج يشمل الواجب والمندوب ، ومن تطوع بعمل خير لم يجب عليه من طواف أو غيره شكره الله بالجزاء على فعله إذ هو عليم بكل فعل يصدر من العبد.

ثم رجع إلى اليهود فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) وقد نزلت في علماء اليهود وأحبارهم.

٩٠

إن الذين يخفون ما أنزل الله بكتمه على الناس مع شدة الحاجة إليه ، أو وضع شيء مكذوب من عندهم مكانه فجزاؤهم الطرد من رحمة الله ، وغضب الله عليهم ، فاليهود قد كتموا الآيات الواضحات الدالة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآيات الهاديات إلى حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به ، كل ذلك من بعد ما بينها المولى ـ جل شأنه ـ ووضحها في التوراة ماذا يكون جزاؤهم؟ أليس هو الطرد من رحمة الله؟ ودعاء الملائكة أجمعين عليهم إلا من تاب منهم ورجع عن كتمان كلام الله ، وأصلح ما أفسده بأن أزال ما وضعه من عنده ، وكتب الأصل وبلّغ ما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل ، فأولئك البعيدون في درجة الكمال بتوبتهم وإيمانهم يتوب الله عليهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم ؛ لأنه هو التواب الرحيم.

هذا شأن من تاب وأناب ، ومن عاند وظل يغير ويحرف حتى مات!! فأولئك الذين كفروا بالله ورسله وماتوا على الكفر ، أولئك عليهم لعنة الله وحقت عليهم كلمته وعليهم لعنة الملائكة والناس أجمعين خالدين في النار وماكثين مكثا الله أعلم به ، لا يخفف عنهم من عذابها ، ولا يمهلون.

ما تشير إليه الآية :

الإجماع منعقد على أن السعى بين الصفا والمروة من أعمال الحج والعمرة ، والخلاف في حكمة فعن أحمد أنه سنة ، وعن أبى حنيفة أنه واجب يجبر بدم ، وعن مالك والشافعى أنه ركن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السّعى» (١).

آية كتمان ما أنزله الله نزلت في اليهود ، ولكن العبرة بعموم اللفظ ، فمن كتم حكما شرعيا أو علما نافعا أو رأيا ناضجا خالصا لوجه الله والوطن دخل تحت طائلة هذا العقاب.

__________________

(١) رواه أحمد ٦ / ٤٢١ والشافعى وغيرهما وللحديث طريقة أخرى عند ابن خذيمة إذا انضمت إلى الأولى قويت قاله ابن حجر في الفتح ٣ / ٥٨٢.

٩١

إثبات وحدانية الله ورحمته ونفى الشركاء عنه

وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)

المفردات :

(بَثَ) : نشر وفرق ، ويقال : بث الخبر : نشره وأذاعه. (دَابَّةٍ) الدابة : ما دب من الحيوان على الأرض ، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : توجيهها إلى الجهات المطلوبة. (الْمُسَخَّرِ) : المذلل. (أَنْداداً) :

٩٢

جمع ند ، وهو النظير المخالف. (يُحِبُّونَهُمْ) : يعظمونهم كما يفعل المحب. (الْأَسْبابُ) : الصّلات والعلاقات. (كَرَّةً) : رجعة. (حَسَراتٍ) : ندامات.

المعنى :

بعد ما نعى القرآن على الكفار كفرهم ، وعلى من كتموا الآيات كتمانهم ، وأنهم ملعونون من الله والناس ، وأراد أن يعالج الداء الذي يدفعهم إلى استمرار كفرهم ، بإثبات الوحدانية لله بالدليل ، وأنه رؤوف رحيم ، وأن من الخير الالتجاء إلى الله وحده فقال :

وإلهكم ـ الذي يجب أن يعبد وحده ، ولا يشرك به شيء ـ إله واحد ، لا معبود بحق في الوجود إلا هو ، الرحمن الرحيم بخلقه ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، وكيف لا؟ وهو الذي خلق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك كل يجرى إلى أجل مسمى في مداره ، ومع هذا نظمت تنظيما دقيقا بقدرته وعظمته : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ...) [سورة يس الآيتان ٣٧ و ٣٨].

وهناك الأرض وما بها من عوالم الحيوان والنبات والمعادن والأنهار تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز الحكيم ، أفلا يدل هذا على صانع منفرد بالوحدانية؟ إذ لو كان له شركاء لاختلّ النظام وتبدل الحال ولاستحالت الحياة ، أما دلالة هذه العوالم على رحمته فأمر ظاهر بيّن.

واختلاف الليل والنهار وطولهما وقصرهما وحرارتهما وبرودتهما واختلاف الفصول بسبب خطوط العرض والطول كل ذلك يدل على الواحد الرحمن الرحيم.

وهذه السفن الشراعية والبخارية التي تجرى على الماء وقد ذلل لها ، لا بد لفهم كون الفلك دليلا على الوحدانية من فهم طبيعة الماء وطبيعة قانون الثقل في الأجسام ، وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء ، كل ذلك يجرى بسنن إلهية مطردة تدل على أنها صادرة من قوة واحدة هي قوة الإله الواحد الرحمن الرحيم.

٩٣

والمطر وما أدراك؟؟!! الذي يحيى الأرض بعد موتها ، وانظر كيف يخرج من البحار والأنهار بخارا يتكاثف ويتجمع فيكون سحبا تثقل شيئا فشيئا ثم تسيرها الرياح حيث يشاء الله ، ثم يسقط مطرا ، أفلا يدل هذا على الواحد الأحد الفرد الصمد الرحمن الرحيم؟!!

ومن آثار الماء النازل من السماء مطرا أن نشر في الأرض كل دابة : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء آية ٢١].

وانظر إلى قدرة الله ووحدانيته التي تفردت بتصريف الرياح وتدبيرها وتوجيهها على حسب الإرادة ، فمرة من الشمال وأخرى من الجنوب وتارة حارة وأخرى باردة ، فسبحان الله الواحد الرحمن الرحيم لا إله إلا هو!! وانظر إلى السحاب المذلل بين السماء والأرض كيف تكوّن وتجمّع؟ ثم تفرق بنزوله مطرا وتبدّد في الجهات التي أرادها له خالقه.

من الذي خلق هذا وأودع السر في هذه كلها؟؟ إن في ذلك لآيات دالات على الوحدانية والرحمة بالعباد ، ولكنها آيات لقوم يعقلون.

ثم يذكر الله ـ تعالى ـ حال المشركين به في الدنيا وعاقبتهم في الآخرة ، حيث جعلوا لله أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه! وهو الله لا إله إلا هو ، لا ندّ له ، ولا شريك معه ، والذين آمنوا بالله ورسله أكثر حبا لله منهم ، فتمام معرفتهم وحبهم وتعظيمهم له ـ سبحانه ـ أنهم لا يشركون به شيئا ، بل يعبدونه وحده ويلجئون إليه في جميع أمورهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أما غيرهم فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله ـ سبحانه ـ مخلصين ، وإذا ما نزلوا على الأرض اتجهوا إلى آلهتهم وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فهم في الشدة مع الله وفي الرخاء يسوون به غيره ، فإذن هم يحبون آلهتهم كحب الله ، والذين آمنوا لا يحبون إلا هو ، فهم أشد حبا لله.

ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد وإشراكهم بالله وقت صب العذاب عليهم صبا لعلموا حينئذ أن القوة لله وحده ، وله الحكم لا شريك له. وأن الكل تحت قدرته ومن بينها الأصنام والأنداد ، ورأوا أن الله شديد العذاب (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر : ٢٥ و ٢٦] لو علموا هذا لانتهوا عما هم فيه.

٩٤

ولو يرى الذين ظلموا وقت أن يتبرأ المتبوعون كالملائكة والجن من الذين اتبعوا وعبدوا غير الله فيتبرأ كل معبود ممن عبده ، والحال أنهم رأوا العذاب ، وتقطعت بهم الصلات والأنساب بل وقال الذين اتبعوا : نتمنى أن تكون لنا رجعة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا وتركونا في الشدة ، مثل ذلك رأوه رأى العين من العذاب يريهم الله جزاء أعمالهم حسرات عليهم وندامات وما هم بخارجين من النار أبدا!!

العلاج الناجع

يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)

٩٥

المفردات :

(طَيِّباً) : طاهرا من كل شبهة. (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يقال : اتبع خطواته : إذا استن سنته وسار على طريقته. (بِالسُّوءِ) : السيّئ القبيح. (الْفَحْشاءِ) ما تجاوز الحد في القبح مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع. (ما أَلْفَيْنا) : ما وجدنا. (يَنْعِقُ) : يصوت على غنمه ويدعوها. (الْمَيْتَةَ) : ما ماتت من غير ذبح شرعي سواء أكانت موقوذة أو متردية أو نطيحة أكلها السبع. (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) : الإهلال : الصراخ ورفع الصوت ، والمراد : ما ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى. (غَيْرَ باغٍ) : غير طالب للمحرم ذاته ، وقيل : هو الخارج على المسلمين. (وَلا عادٍ) : غير متجاوز قدر الضرورة ، وقيل : المعتدى على المسلمين بقطع الطريق.

المعنى :

بعد ما سجل عليهم اتخاذ الأنداد والشركاء وأن المتبوع يتبرأ من التابع يوم يرى العذاب ، ناداهم : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا أحله الله لكم طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يعلق به حق للغير مهما كان ، واصرفوا نظركم عن ذلك المال الذي يأتيكم عن طريق الدين وتأخذونه من الأتباع فهو حرام خبيث لا يحل أكله.

وفي هذا إشارة إلى أن أكثر رجال الدين من أهل الكتاب لم يؤمنوا خوفا على الدنيا وأعراضها الفانية : من الرياسة الكاذبة والمال الزائل الحقير وإلى أن ما للأكل من أثر في توجيه النفس واتباع الشيطان.

وإياكم والشيطان الذي يوسوس لكم ويزين الشر ؛ إنه لكم ـ كما كان لأبيكم آدم ـ عدو ظاهر العداوة فلا تتبعوه وخالفوه ؛ إنه لا يأمر بالخير أصلا ولا يأمر إلا بالقبيح وكل ما ينكره الشرع ويأباه الطبع السليم والعقل الراجح ، فها هي ذي أعمال الشيطان وأماراته فاحذروه ولا تتبعوه.

وخالف النفس والشيطان واعصهما

وإن هما محّضاك النصح فاتّهم

والشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون من أمور الدين.

ولكن حكم القرآن على المشركين وبعض اليهود أنه إذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله

٩٦

على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو خير لكم وأجدى قالوا : لا ، إنما نحن نتبع آباءنا وهم أعقل وأدرى بالدين. عجبا أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا من أمور الدين بل يتخبطون تخبط الأعمى ولا يهتدون إلى الصواب.

ومثل داعي الذين كفروا إلى الإسلام كمثل الذي يدعو سوائمه ، فكل من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع ، وإنما يشعر بجرس اللفظ ورنينه فقط ، لأن الكفار قد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، فليس عندهم استعداد للخير أبدا. والبهائم لا عقل لها تعى به.

ما يؤخذ من الآية :

١ ـ لا يحل لمسلم أن يأخذ ما لا يتعلق به حق الغير أو يأخذه بغير وجه شرعي.

٢ ـ يجب على المسلم أن يخالف الشيطان فإنه داع للشر والسوء والفحشاء.

٣ ـ لا يصح للمسلم أن يقلد غيره تقليد الأعمى بل ينظر على قدر طاقته وقوته في أمور دينه.

ما تقدم من أول السورة يتعلق بالقرآن ومؤيديه ومعارضيه ومن هنا إلى أواخر الجزء الثاني في الأحكام الفرعية التي تعنى بتكوين الفرد المسلم والمجتمع الإسلامى.

يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، كلوا مما رزقناكم أكلا طيبا ما دمتم غير معتدين على أحد ، فكل شيء حلال لكم ، واشكروا الله ـ سبحانه ـ خالق هذه النعم.

هذا هو نظام الإسلام ، قد جعلنا أمة وسطا تعنى بالجسم ، فنأكل ما نشاء حلالا طيبا بلا إسراف ولا تقتير (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما) رزقناكم (الآية : ٨٧ من سورة المائدة). وتعنى بالروح ، فنغذيها بالشكر لله صاحب تلك النعم ، فقد أباح الله لكم ثمرات الأرض وطيباتها إلا ما حرم.

وما حرم عليكم إلا الميتة فإنه بقي فيها دمها وقد يكون ملوثا بالأمراض كما هو الغالب ، وحرم الدم المسفوح فإن النفوس الطيبة تأباه مع تلوثه بالجراثيم ، وكذلك لحم الخنزير فإنه حيوان قذر لا يأكل إلا من القاذورات والنجاسات ، والطب يؤيد خطره على الصحة ، وما ذكر عليه غير اسمه ـ تعالى ـ عند الذبح فإنهم يذبحون في الجاهلية

٩٧

للأصنام ويقولون عند ذبحها : «باسم اللات والعزى» ، ثم يضاف إلى هذا ما حرم في سورة المائدة ، وكله محرم شرعا وذوقا وطبا لمصلحتنا ، إلا من اضطر إلى أكل شيء من ذلك بأن لم يجد ما يبقى به رمقه فله أن يأكل ولا إثم عليه ، بشرط ألا يكون طالبا المحرم لذاته ، ولا باغيا ، ولا متجاوزا الحد في سد جوعه فيأكل بقدر الضرورة فقط وبعض المفسرين على أنه يشترط فيه ألا يكون خارجا على المسلمين ، ولا قاطع طريق ؛ لأن هذه رخصة لا تعطى للمعتدين فإذا نظرنا إلى أنه قد يهلك بسبب حرمانه تجاوزنا عن ذلك ، والله غفور للزلة رحيم بعباده.

ما يستنبط من الآية :

كل ما في الأرض والبحر والجو من نبات وحيوان وسمك وطير حلال لنا إلا ما ذكر من المحرمات هنا وفي سورة المائدة وما نص عليه في كتب الفقه الإسلامى.

وللمضطر أن يأكل مما حرم قدر الضرورة.

موقف أهل الكتاب من القرآن والنبي

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)

٩٨

المفردات :

(يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) : يبيعونه بثمن قليل. (يُزَكِّيهِمْ) : يطهرهم. (شِقاقٍ) الشقاق : المخالفة.

هذا موقف آخر لأهل الكتاب وأحبارهم بالنسبة للقرآن والنبي ، وما قبله كان الكلام عليهم وعلى المشركين حيث حرموا بعض الحلال ، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا.

المعنى :

إن الذين يكتمون ما أنزل الله ـ الكتاب المنزل عليهم من وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان زمانه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته ، فعلوا هذا حرصا على رئاسة كاذبة وعرض زائل ـ تراهم باعوا الخير والهدى بثمن بخس قليل لا ينفع ، أولئك البعيدون في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلّا ما هو موجب لدخول النار. ومن شدة غضب الله عليهم أنه لا يكلمهم يوم القيامة ، ولا يثنى عليهم بالخير كما يفعل مع أهل الجنة ، وللكافرين عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة.

ثم أشار إليهم مرة ثانية دليلا على تمكنهم في الضلال فقد استبدلوا الضلالة بالهدى واستحقوا العذاب بدل المغفرة ، فعجبا لهم وأى عجب لصبرهم على تعاطى موجبات دخول النار من غير مبالاة منهم!! ذلك العذاب الشديد الذي لحق بهم لأن الله نزل الكتاب بالحق ، وأن الذين اختلفوا في كتب الله فقالوا : بعضهم حق وبعضهم باطل لفي خلاف بعيد عن الحق.

٩٩

حقيقة البر

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)

المفردات :

(الْبِرَّ) : اسم جامع للخير ولكل فعل مرض. (الْيَتامى) اليتيم : من لا والد له وهو محتاج. (الْمَساكِينَ) : صنف من الفقراء المحتاجين الذين سكنت نفوسهم للرضا بالقليل ، فالمسكين له مال لا يكفيه ، وأما الفقير فلا مال له فيعطى من باب أولى. (ابْنَ السَّبِيلِ) : ابن الطريق ، وهو المسافر المحتاج. (وَفِي الرِّقابِ) : أنفق المال في فك الرقاب من قيد الرق. (الْبَأْساءِ) من البؤس : وهو شدة الفقر. (الضَّرَّاءِ) : ما يضر الإنسان من مرض أو فقد محبوب. (حِينَ الْبَأْسِ) : وقت شدة القتال.

المعنى :

كثر الكلام والجدال حول تحويل القبلة من أهل الأديان ، حتى شغل المسلمون بها ، وغلا كل فريق في التمسك بقبلته ، فأراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يبين للناس كافة أن

١٠٠