التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

قل لهم يا محمد : إنما أتبع ما يوحى إلى من ربي فقط وليس لي أن أخترع أو آتى بشيء من عندي ، إنما أنا رسول ولست قادرا على إيجاد الآيات التي طلبتموها.

وما لكم تطلبون غير هذا القرآن وهو بصائر من ربكم وحجج وآيات واضحة دالة على صدقى وأنه من عند الله وهو كالبصائر للقلوب التي تنير طريق الفلاح وهو هدى ورحمة ، ولكن لقوم يؤمنون بالله وبالحياة الآخرة ، فمن آمن به وحافظ عليه وحكم به فأولئك هم المفلحون دون سواهم.

من أدب استماع القرآن والذكر

وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)

المفردات :

(فَاسْتَمِعُوا) : الاستماع يزيد عن السمع بالإنصات والقصد والنية.

(تَضَرُّعاً) : من الضراعة والذلة والخضوع. (وَخِيفَةً) : خائفين. (بِالْغُدُوِّ) الغدو : جمع غدوة ، وهي ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. (وَالْآصالِ) : جمع أصيل ، وهو ما بعد العصر إلى الغروب.

المعنى :

إذا قرئ القرآن الكريم فاستمعوا له بإنصات وأدب ، وقصد مع السكون والخشوع

٨٠١

رجاء أن ترحموا من الله فإنه لا يستمع لكلامه بأدب وحسن استماع إلا المخلصون الذين في قلوبهم نور الإيمان وبرد اليقين.

أما من أهمتهم الدنيا وأقضّت مضاجعهم حتى أصبحت قلوبهم خلوا من نور الإيمان تراهم عند سماع القرآن لا ينصتون أبدا بل ويتكلمون في توافه الأمور.

والآية عامة في سماع القرآن في الصلاة والخطبة وغيرهما. أيليق بالمسلم أن يتكلم الله فلا يستمع ويتكلم جاره فيستمع؟!

واذكر ربك في نفسك وذلك بذكر أسمائه وصفاته وشكره واستغفاره ، والمهم التذكر بالقلب (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١).

اذكره ضارعا متذللا خاضعا خائفا راجيا ثوابه ، مع إتمام الاسم وعدم استعمال ما يخل. اذكره بلسانك وقلبك ذكرا دون الجهر وفوق السر ، أى : اذكره وسطا بين هذا وذاك (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٢).

وأنسب الأوقات للذكر وقت الصباح والمساء ، وبقية النهار للعمل وتحصيل الرزق.

وإياك أيها المسلم أن تكون من الغافلين عن ذكر الله بقلبك ، واعلم أن الذين عند ربك من الملائكة والمقربين لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه في الليل والنهار ، وله وحده يسجدون!! فكيف بك؟!

سجود التلاوة : يكون عند ما يسمع المسلم هذه الآية وأمثالها التي ستأتى ، وقد شرعه الله لنا إرغاما لمن أبى السجود من المشركين واقتداء بالملائكة المقربين. وروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في سجوده : «اللهم لك سجد سوادي ، وبك آمن فؤادي ، اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني» (٣) وروى أيضا «إذا قرأ ابن آدم آية السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى فيقول : يا ويله : أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» (٤)

ولسجود التلاوة أحكام في كتب الفقه.

__________________

(١) سورة الرعد آية ٢٨.

(٢) سورة الإسراء آية ١٠.

(٣) أخرجه ابن أبى شيبة ج ٢ ص ٢٠.

(٤) أخرجه مسلم في كتاب الايمان حديث رقم ١٣٣.

٨٠٢

سورة الأنفال

مدنية كلها وهو الأصح ، وقيل : مدنية ما عدا الآيات ٣٠ إلى ٣٦ فمكية لأنها في شأن الواقعة التي وقعت بمكة ، ولكن الأصح أن هذه الآيات نزلت بالمدينة تذكيرا لهم بما وقع في مكة ، وعدد آياتها خمس وسبعون آية.

وهي في القصص الخاص برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاصة في أوقات الشدة كالحروب والهجرة وما قبلها في قصص الرسل عليهم جميعا الصلاة والسلام. فالمناسبة بين السورتين ظاهرة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)

المفردات :

(الْأَنْفالِ) : جمع نفل ، والمراد به هنا : الغنيمة لأنها من فضل الله ـ تعالى ـ وعطائه ، وهي من خصائص النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد زادت هذه الأمة بها على الأمم السابقة ، روى في الصحيحين عن جابر بن عبد الله ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله

٨٠٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» فذكر الحديث (وهو المسمى بحديث الشفاعة) إلى أن قال : «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» ، والنفل : الزيادة عن الواجب ، ألا ترى إلى صلاة النوافل؟ (ذاتَ بَيْنِكُمْ) : حقيقة ما بينكم ، والبين من معانيه : الاتصال ، والمراد : الوصلة الإسلامية وإصلاحها ويكون بالأمور التي تحققها من مودة وإخاء وترك النزاع والجفاء. (وَجِلَتْ) : فزعت وخافت.

سبب النزول :

عن عبادة بن الصامت : نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله ، وإصلاح ذات البين.

وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا» فأما الشيوخ فثبتوا تحت الرايات ، وحول رسول الله ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقال الشيوخ للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا. فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت.

المعنى :

لقد وقع خلاف بين المسلمين في غنائم بدر فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهي للمهاجرين أم للأنصار؟ أهي للشبان أم للشيوخ؟ أم لهم جميعا؟ فقيل له : قل لهم : إن حكمها لله خاصة ويقسمها الرسول على حسب أمر الله فلا رأى لأحد ، وفي هذه الآية إجمال بيّن في آية (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...) [سورة الأنفال آية ٤١].

وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش بما شاء تحريضا على القتال وإثارة للنفوس كما ورد : «من قتل قتيلا فله سلبه» وهذا النفل زيادة عن سهمه في الغنيمة.

وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله واجتنبوا ما أنتم فيه من شجار ونزاع وخلاف ، فإن هذا يغضب الله لا سيما في حالة الحرب ؛ وأصلحوا ذات بينكم من الأحوال حتى تتحقق الوصلة الإسلامية فتكونوا في ألفة ومحبة واتفاق ، وفي ذلك تقوى الله ، وطاعة

٨٠٤

رسوله ، وإصلاح ذات البين ، وأطيعوا الله ورسوله في كل ما أمر ففي طاعتهما الخير والفلاح ، والهدى والرشاد ، أطيعوهما إن كنتم مؤمنين حقا ، فهذه أمور ثلاثة لا بد منها لصلاح حال الجماعة : تقوى الله ورسوله ، أى : طاعة القيادة الرشيدة الحكيمة.

وها هي ذي صفات المؤمنين الخمسة التي تحقق هذه الأوصاف الثلاثة ؛ إنما المؤمنون حقا الكاملون المخلصون في إيمانهم هم :

١ ـ الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم واستشعروا عظمته وجلاله وتذكروا وعده ووعيده خافت قلوبهم واضطربت أرواحهم.

٢ ـ والذين إذا تليت عليهم آياته القرآنية المنزلة على عبده وحبيبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ازداد إيمانهم ، وكمل يقينهم لتظاهر الأدلة وتمامها ، نعم المؤمن كلما كثرت الأدلة وتعاضدت الآيات والحجج ازداد قوة في الإيمان ، ورسوخا في العقيدة ، ونشاطا في العمل ، انظر إلى إبراهيم الخليل حيث قال : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١) ردا على قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) (٢)؟.

٣ ـ والذين هم على ربهم وحده يتوكلون ، وعليه وحده يعتمدون ، وإليه يلجئون ، كل هذا بعد أخذ الأسباب ، والعمل على حسب طاقته وإمكانه ، وهذه صفات تتعلق بالقلب ، وها هي ذي الصفات المتعلقة بالجسم :

٤ ـ الذين يقيمون الصلاة ، ويؤدونها كاملة مقومة تامة الأركان والشروط.

٥ ـ والذين ينفقون مما رزقناهم في وجوه الخير والبر ، وذلك يشمل الزكاة الواجبة المقيدة ؛ والنافلة المطلقة التي قد تصبح واجبة تبعا للظروف.

أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف ، المشار إليهم لكمالهم فيها هم المؤمنون حقا. لهم درجات ومنازل عند ربهم على حسب أعمالهم ونواياهم ولهم مغفرة ، ولهم رزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. والعرب يصفون الشيء الذي لا قبح فيه ولا ضرر بأنه كريم ، وهذه الآيات بينت لنا حكم الغنائم ، وأسس نجاح الجماعة ، وبعض صفات المؤمنين الكاملين.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٦٠.

(٢) سورة البقرة آية ٢٦٠.

٨٠٥

ما حصل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت خروجه لغزوة بدر الكبرى

كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ

٨٠٦

الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)

المفردات :

(الشَّوْكَةِ) : واحدة الشوك ، وفيها معنى الحدة والقوة ، شبهوا بها الرماح والأسنة. (دابِرَ الْكافِرِينَ) : آخرهم الذي يكون في دبرهم من ورائهم.

(تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) استغاث : طلب الغوث والمعونة ليخلص من شدة.

(مُمِدُّكُمْ) : ناصركم ومعينكم. (مُرْدِفِينَ) : متبعين بعضهم بعضا ، مأخوذ من أردفه : إذا أركبه وراءه. (يُغَشِّيكُمُ) المراد : يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم. (النُّعاسَ) : فتور في الأعصاب يعقبه النوم ، فهو مقدمة له. (رِجْزَ الشَّيْطانِ) الرجز والركس : الشيء المستقذر ، والمراد وسوسة الشيطان. (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) : ليثبتها ويوطنها على الصبر. (الرُّعْبَ) : الخوف الكثير. (فَوْقَ الْأَعْناقِ) المراد : الرءوس. (بَنانٍ) : هو أطراف الصابع من اليدين والرجلين ، والمراد الأيدى والأرجل. (شَاقُّوا) : خالفوا وعادوا إذ هم أصبحوا في شق وناحية والرسول في شق وناحية.

يحسن بمن يريد أن يقف على معنى هذه الآيات أن يلم بتلك القصة.

لما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة بعد أن لاقى ما لاقى ، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين ، وسمع بأن تجارة لقريش فيها مال كثير آتية من الشام ، وعلى رأس العير أبو سفيان مع أربعين نفرا من قريش ، انتدب المسلمين إليهم ، وأغراهم بالعير قائلا : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها ، لعل الله أن ينفلكموها فأعجبهم تلقى العير لكثرة المال وقلة الرجال.

أما أبو سفيان قائد العير وحاميها فكان يتجسس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه وعلم أن

٨٠٧

محمدا أغرى أصحابه عليه ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد تعرض لهم في أصحابه وقد غير أبو سفيان طريقه وسار محاذيا البحر ، ونجا العير والتجارة ، أما قريش فجمعوا جموعهم واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا : النجاء. على كل صعب وذلول ، عيركم وأموالكم ، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا ، وخرج أبو جهل على رأس النفير وهم أهل مكة ، ثم قيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة فقال : لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجذور ونشرب الخمور ، وتعزف القينات ببدر فيتسامع جميع العرب بنا وبخروجنا وأن محمدا لم يصب العير.

أما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه فلما علم بنجاة العير ، وأن قريشا جمعت جموعها ليمنعوا عيرها ، استشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ فقالا وأحسنا ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض كما أمرك الله ، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) ولكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله ثم قال : «أشيروا علىّ أيها الناس» وكأنه يريد الأنصار إذ كان يخاف أنهم لا ينصرونه ما دام الحرب في غير المدينة كما شرطوا ذلك في عهدهم ، فقال سعد بن معاذ : قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله فو الله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك .. إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عيناك ، فسر على بركة الله ، فسرّ رسول الله لقول سعد.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين : العير القادمة من الشام ، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. فعلم من هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المدينة لأجل العير وأنه استشار أصحابه في قتال النفير من قريش بعد هذا.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٢٤.

٨٠٨

وقد وقع للمسلمين في بدر أمران يكرهانهما.

أولا : كراهتهم قسمة الغنيمة بينهم بالسوية وهذه الكراهة من شبانهم فقط ؛ إذ هم الذين قاتلوا وغنموا وقتلوا العدو ، وهذا ينشأ من طبع الإنسان.

ثانيا : كراهتهم قتال قريش ، وعذرهم فيها أنهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة ولم يستعدوا لقتال ، والكارهون فريق من المؤمنين لا كلهم.

وقد شبه الله إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهية وأن امتثال أمر النبي في كلّ هو الخير.

روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما كان يوم بدر ونظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال : كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله الآية ... وفي رواية فخرج رسول الله وهو يقول (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [سورة القمر آية ٤٥].

المعنى :

هذه الحال التي حكم الله فيها بأن الأنفال حكمها لله تعالى وتنفيذها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كره شبانهم ذلك ـ هذه الحال تشبه حالهم وقد أخرجك الله من المدينة لقتال النفير من قريش وقد كرهوا ذلك (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ).

أخرجك ربك من بيتك بالمدينة متلبسا بالحق والحكمة وصواب الرأى والحال أن فريقا بسيطا من المؤمنين لكارهون ذلك لعدم استعدادهم للحرب.

يجادلك المؤمنون في الأمر الحق والرأى السديد وهو تلقى النفير لأنهم آثروا تلقى العير لقلة الرجال وكثرة المال ، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب ، حينما أخبرتهم أنهم هم المنصورون ، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد نجا العير ، فلم يبق إلا النفير ، ولقد جادلوا بأنهم قليلوا العدد والعدد ولم يستعدوا ، وقد كان خروجهم لتلقى العير.

٨٠٩

لقد وعدهم إحدى الطائفتين على الإبهام فتعلقت آمالهم بالعير فلما نجت العير ، ولم يبق إلا مقابلة أبى جهل في النفير ، صعب على بعضهم اللقاء وخافوا الحرب وأخذوا يعتذرون ، ولكن الحق تبين ولم يعد للجدال وجه إلا الجبن والخور والخوف من القتال حتى كأنهم لشدة ما هم فيه من الجزع والرهبة يساقون إلى الموت المحقق وهم ينظرون إليه ، إذ الفرق بين القوة شاسع جدا ، ولكن الله وعدهم بالنصر ووعده لا يتخلف : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة آية ٢٤٩] ، والأسباب الظاهرة كثيرا ما تختلف والأمر كله لله.

واذكروا وقت أن وعدكم الله إحدى الطائفتين من العير أو النفير وتودون أن العير لكم فإنه قليل العدد ولا شوكة معه مع كثرة المال.

ويريد الله لكم غير هذا وهو ملاقاة النفير الذي له الشوكة والحول والطول ، وتكون الدائرة على المشركين ، ويحق الله الحق بآياته المنزلة على رسوله في محاربة الكفار ، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين ، وبما قضى لهم أولا من أسر وقتل وطرح في القليب (بئر بدر) ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين ، ويستأصل شأفتهم ويمحو أثرهم.

فبعض المسلمين أراد العاجلة وعرض الدنيا وخاف ما يرزؤه في بدنه ونفسه وماله والله يريد معالى الأمور ، يريد لكم النصر وتقوية الروح وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وكسر شوكتهم بهزيمتهم وهم كثرة وينصركم وأنتم قلة.

ويريد الله هذا ليحق الحق ويثبت دعائم الإسلام ، ويبطل الباطل ويهدم الشرك والكفر والطغيان ، ولو كره المجرمون ، وذلك لا يكون بأخذ العير أبدا وإنما يكون بهزيمة النفير وقتل صناديد الشرك وأسرهم وإذلالهم.

اذكروا يا أمة محمد وقت استغاثتكم ربكم قائلين : أى ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا ، والمراد بالذكر تذكير لهم بالنعم ليشكروا وقد استغاث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك كما روى ، وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال وملاقاة النفير من قريش أخذوا يدعون الله ويستغيثون.

واعلم أن النصر في الحروب إنما يرجع إلى أسباب حسية ومعنوية إن تحققت جاء

٨١٠

النصر من الله : والله ـ سبحانه ـ هو الموفق لسلوك أسباب النصر أو أسباب الهزيمة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ذلك ، وأن لله سننا مع خلقه لا تتخلف ، وأن عنده آيات يؤيد بها رسله ، ولكنه لما رأى ضعف المسلمين وقلة عددهم وتهيبهم من القتال ، استغاث الله ليوفقه إلى سنن النصر ويؤيده ، فتقوى الروح المعنوية فيتحقق النصر ، وقد استغاث الصحابة كما استغاث ، ولقد استجاب الله الدعاء وأمدهم بألف من أعيان الملائكة يردف بعضهم بعضا حتى يتحقق قوله في سورة آل عمران : (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [الآيتان ١٢٤ ـ ١٢٥] وما جعل الله ذلك المدد الإلهى إلا بشرى بأن النصر لكم ، وأن الله معكم ، ولتسكن قلوبكم ، ويهدأ روعكم فتلقون الأعداء ثابتين مطمئنين.

واعلموا أن النصر من عند الله لا من عند غيره أبدا ، إن الله عزيز لا يغالب ، حكيم في كل صنع.

وهل الملائكة قاتلت بالفعل كما ورد في بعض الروايات؟ أو هي قوة معنوية وتكثير للسواد ولم يحاربوا ، بل ثبتت قلوب المسلمين وقويت روحهم المعنوية بهم. والله أعلم ، على أن المتفق عليه أنهم لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله علق النصر على الصبر والتقوى ولم يحصلا.

واذكروا إذ ألقى الله عليكم النعاس حتى غشيكم كما روى البيهقي عن على ـ كرم الله وجهه ـ قال : «ما كان فينا فارس إلا المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى تحت شجرة حتى أصبح» ولا شك أن النعاس يزيل الخوف ومن دلائل الأمن والطمأنينة والوثوق بالنصر.

ولقد نزلوا في بدر منزلا في كثيب (تل) أعفر تسوخ فيه الأقدام وليس فيه ماء ، وقد احتلم بعضهم ليلا ، ولما أصبحوا ظمئوا وصلّوا مجنبين محدثين ، وكان المشركون على الماء فوسوس لهم إبليس وقال : لو كنتم على حق وفيكم نبي لما صليتم بجنابة وبغير وضوء ولما كنتم عطاشا وهم على الماء!! فأنزل الله مطرا كان على المشركين وابلا شديدا وكان على المسلمين طلّا خفيفا طهرهم من الرجس والدنس والجنابة والحدث ، وقضى على وسوسة الشيطان وأصبحوا يطئون الرمل بسهولة فثبتت أقدامهم وسكنت قلوبهم ،

٨١١

وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه ، وبنى لرسول الله عريش على تل مشرف على المعركة.

واذكروا إذ يوحى ربك إلى الملائكة بالإلهام أنى معكم بالنصر والتأييد فثبتوا قلوب المؤمنين ، وقووا عزائمهم ، وذكروهم وعد الله ورسوله ، وأنه لا يخلف الميعاد.

وقد روى أن الملائكة كانت تسير بين الصفوف وتبشرهم بالنصر : إنا معكم سنلقى في قلوب الكافرين الرعب.

فاضربوا رءوسهم التي فوق الأعناق واقطعوها ، واقطعوا أيديهم التي طالما عصت الله.

ذلك النصر المؤزر للنبي وصحبه ، وذلك الخذلان والهزيمة للمشركين بسبب أنهم عادوا الله ورسوله ، وأصبحوا في شق والرسول في شق ، وهل تستوي الظلمات والنور؟

ومن يعاد الله ورسوله فإن له فوق الهزيمة والألم والخزي في الدنيا عذابا شديدا ؛ فإن الله شديد عقابه سريع حسابه.

توجيهات حربية للمؤمنين

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً

٨١٢

إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)

المفردات :

(زَحْفاً) زحف : إذا مشى على بطنه كالحية ، أو دب على مقعده كالصبي ، أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب خطو ، والعسكر المجتمع كأنه شخص واحد إذا تحرك يبدو أنه بطيء زاحف ، والواقع أنه سريع. (الْأَدْبارَ) : جمع دبر ، وهو ما قابل القبل ، ويطلق على الظهر ، والمراد الهزيمة. (مُتَحَرِّفاً) تحرف وانحرف : مال إلى حرف ، أى : إلى جانب. (مُتَحَيِّزاً) : منحازا إلى جماعة أخرى ، أى : منضما إليها. (لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ) البلاء : الاختبار بإعطاء النقم لاختبار الصبر ، والنعم لاختبار الشكر ، والمراد هنا الابتلاء بالنعم. (تَسْتَفْتِحُوا) أى : تطلبوا الفتح والنصر في الحرب والفصل في الأمر.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ، وصدقوا به وبرسوله يجب عليكم إذا لقيتم الذين كفروا في ميدان الحرب حالة كونهم كالزاحفين على أدبارهم إذ الجيش إذا كثر عدده يرى في سيره بطيئا والواقع أنه سريع ، وقد زحف الكفار على المسلمين يوم أن انتقلوا من مكة إلى بدر ، فيجب عليكم والحالة هكذا ألا تولوهم الأدبار ، وألا تفروا منهم مهما كثر عددهم وأنتم قلة ، بل اثبتوا وقاتلوا فالله معكم عليهم ، وقد خص بعض العلماء هذا إذا كان الكفار لا يزيدون على الضعف ؛ ومن يولهم يومئذ دبره في القتال ، ومن يفر منهم ويجبن عن قتالهم فعليه غضب من الله ومأواه جهنم.

فالفرار من الزحف إذا التقى الجيشان كبيرة من الكبائر ـ كما ورد في الحديث

ـ

٨١٣

يستحق صاحبها الغضب الشديد والعذاب الأليم إلا رجلا منحرفا من مكان إلى مكان رآه أصلح في ضرب العدو. أو أراد أن يوهم العدو أنه يفر حتى يستدرجه بعيدا عن صحبه ثم يكر عليه فيقتله ، فتلك من خدع الحرب المحبوبة. أو رجلا منتقلا من جماعة إلى جماعة أخرى رأى أنها في حاجة إليه فيشد أزرهم ويقوى عزمهم.

يا أيها الذين آمنوا إذا حاربتم الكفار فلا تولوهم ظهوركم أبدا ، ولا تفروا منهم فأنتم أولى بالثبات والشجاعة ؛ فأنتم تطلبون إحدى الحسنيين ، وقد وعدكم الله بالنصر ، انظروا إلى ما حصل في غزوة بدر ، قد نصركم الله بها وأنتم قلة في العدد ، وما كان ذلك إلا بتأييد الله ، وتثبيت قلوبكم ، ومدكم بالملائكة. وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم ، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي كسر شوكتهم في الواقع ، ولكن الله قتلهم بأيديكم (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [سورة التوبة آية ١٤].

ولقد كان من المسلمين بعد أن رجعوا من غزوة بدر افتخار كثير فكان الواحد يقول : أنا قتلت ، أنا أسرت ، فعلمهم الله أن ذلك فخر كاذب لا يليق ووجههم توجيها حسنا حتى يلجئوا إليه ويعتمدوا عليه وحده فقال : فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم بتأييده ونصره وإنزال الملائكة وإلقاء الرعب وهو على كل شيء قدير.

روى أنه لما طلعت قريش قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذّبون رسولك ، اللهم إنى أسألك ما وعدتني. فأتاه جبريل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فرمى بها وقال : شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه.

وما رميت يا محمد حين رميت الحصا ، ولكن الله رمى ، وهذه ظاهرة التناقض ، لكن المعنى : وما رميت يا محمد فإن الأثر الذي حدث من قبضة التراب التي رميتها أثر كبير حيث وصل إلى عيون الجيش كله. وهذا لا يمكن أن يكون من بشر ، وإن يكن أنت الذي رميت في الظاهر فصورة الرمي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثر الرمي وما حدث منه لله ـ سبحانه وتعالى ـ.

فعل الله ذلك كله لتقام حجته على الكفار بتأييد رسوله ونصره على عدوه وإن اختلفت الإمكانات الحربية ، وليعطى المؤمنين الذين فارقوا ديارهم وأموالهم عطاء حسنا بالغنيمة والنصر وحسن السمعة ورد الاعتبار ، إن الله سميع لكل قول والتجاء إليه ، عليم

٨١٤

بكل نية وعمل ، ذلك القتل والرمي والإعطاء حق من الله ـ تعالى ـ موهن كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه وأنهم يريدون القضاء على الدعوة قبل أن يشتد أمرها ، وذلك كله حق ؛ فقد رد كيدهم في نحورهم ، ورجعوا مهزومين مطرودين.

روى أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتى بما لا يعرف فأمته الغداة فكان ذلك منه استفتاحا.

وروى أنهم تعلقوا بأستار الكعبة قبل خروجهم وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين ، فأجابهم الله بقوله استهزاء بهم وتوبيخا لهم على عملهم وتعجبا من حالهم :

إن تستفتحوا أيها الكفار فقد جاءكم الفتح ، وهذا منتهى التهكم ، إذ جاءهم الهلاك والذلة ، وإن تنتهوا وتسلموا وتتركوا عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو خير لكم وأجدى ، وإن تعودوا إلى محاربته نعد نحن إلى نصره وهزيمتكم ، ولن تغنى جماعتكم وقوتها شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين بالنصر والتأييد والتوفيق إلى سلوك طرق النجاح والفلاح ، والعاقبة للمتقين.

تحذير من مخالفة الدين

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)

٨١٥

المفردات :

(الصُّمُ) الصمم : عدم السمع ، والأصم : الأطرش. (الْبُكْمُ) البكم : عدم الكلام ، والأبكم : الأخرس. (الدَّوَابِ) : جمع دابة ، وهي ما تدب على الأرض ، والغالب استعمالها في الحشرات والدواب التي تحمل على ظهرها ، وإذا أريد منها الإنسان كان المقصود الاحتقار.

المعنى :

يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان أطيعوا الله ورسوله فيما أمر ونهى ، ولا تعرضوا عن الأمر بالجهاد وبذل المال وغيرهما والحال أنكم تسمعون المواعظ والزواجر في القرآن والحديث.

وإياكم أن تكونوا كالذين قالوا سمعنا والحال أنهم لا يسمعون أبدا ... إن شر المخلوقات عند الله من لا يصغى بسمعه إلى الحق فيتبعه ويعتبر بالموعظة الحسنة فيعمل بها ، فإن من لا يستخدم جهاز السمع فيما خلق له كان كأنه فاقد له ، فهو أصم عن الحق والخير والهدى والفلاح .. والبكم الذين لا يقولون الحق ، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا حاسة الكلام ، والذين لا يعقلون الفرق بين النور والظلام ، والهدى والضلال ، والإسلام والكفر ؛ إذ هم لو استخدموا عقولهم وأبعدوا عنها ذل التقليد وحمى العصبية الجاهلية لعقلوا المنفعة وأدركوا الصالح المفيد ولكنهم كالبهائم لا يعقلون.

ولو علم الله في نفوسهم الميل إلى الخير والسداد والاستعداد إلى الإيمان والهدى ولم تفسد فطرتهم بسوء القدوة وفساد التربية لأسمعهم بتوفيقه سماع تدبر ووفقهم لكلامه وكلام رسوله ، ولكنه لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فهم لا خير فيهم أصلا.

ومن يلقى إليه شيء لا يخلو من واحد من أربع :

١ ـ معاند لا يسمع أبدا بل يجعل أصابعه في آذانه.

٢ ـ منافق يسمع ويتظاهر بالقبول ساعة الحضور ثم هو لا يتدبر ولا يفهم شيئا.

٣ ـ يسمع ليتسقط العيوب ويتلمس السقطات.

٤ ـ يسمع ليهتدى بنور الحق وهم الفئة المؤمنة الموفقة المهدية إلى يوم القيامة.

٨١٦

فيا أيها المسلمون اسمعوا القرآن وتدبروا معناه واهتدوا بهديه ولا تسمعوه تسلية أو تعزية أو تبركا فقط.

الاستجابة لداعي القرآن

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)

المعنى :

ناداهم الله بوصف الإيمان الذي يوجب الامتثال والاستجابة ثم أمرهم بأن يستجيبوا لله ورسوله ، وذلك بالطاعة والامتثال إذا دعاهم لما يحييهم ، وحثهم على الخير لهم وحرضهم على ما به يسعدون في الدنيا والآخرة. وقد دعانا الرسول للإيمان والقرآن والهدى والجهاد ، ومن حرم من هذا فهو ميت لا حياة فيه (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (١) فخذوا ما آتاكم الرسول بقوة وعزم ونشاط وجد فالخير فيه ، وسعادة الدارين معه.

واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ويفصل بينهما. والمعنى أن المسلم يجب ألا يغتر

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٢٢.

٨١٧

بعمله وطاعته ، وألا يأمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليه في الجنة ، فالقلوب بين أصابع الرحمن ، والله يحول بين المرء وقلبه.

فالواجب عليه دائما أن يغذى قلبه بالعمل ويجلوه بالذكر (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد آية ٢٨].

والواجب على المسلم العاصي ألا ييأس من روح الله فالله يحول بين المرء وقلبه.

وعلينا أن نسرع دائما في الخير ولا نألوا جهدا في تحصيله فالله يحول بين المرء وقلبه فيموت قبل فعل الخير أو التوبة الصادقة ، وعلينا أن نحذر خطرات القلوب وأمراضها فالله عليم بذات الصدور ، وهو يفصل بين المرء وقلبه ، وهو أقرب من حبل الوريد.

واعلموا أنكم إليه تحشرون فأسرعوا في العمل وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وأعدوا العدة ليوم الحشر.

واتقوا فتنة لا تصيبن الظالمين بل تعمهم وغيرهم كالفتن القومية التي تهد كيان الأمة وتزعزع أركانها كفتنة الملك والسيادة ، أو الخلافات السياسية وما يتبعها من أحزاب وانقسام ، وكالأحزاب الدينية ، وكظهور البدع ، والكسل عن الجهاد ، أو ظهور المنكرات مع إقرارها ، والالتواء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فهذه فتن لا تصيب أصحابها فقط بل تلتهم نيرانها الأمة جميعا إذ هم بين رجلين : رجل اشتراك في الإثم ، ورجل سكت عنه ولم يمنعه فهو كالمشترك معه.

انظر إلى الفتن التي لا حقت الإسلام في العصر الأول كفتنة عثمان ، وحادثة الجمل ومقتل الحسين وغيرها وكيف كان أثرها!! واعلموا أن الله شديد العقاب على من خالف أمره فهو معاقبه في الدنيا والآخرة.

واذكروا أيها المهاجرون ، وقيل : الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل ، واذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة والمشركون معكم بحولهم وطولهم يذيقونكم سوء العذاب. وأنتم تخافون أن يأخذوكم بسرعة خاطفة كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت ٦٧] فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار ، وأيدكم بنصره وبما أرسل لكم من الملائكة

٨١٨

ووفقكم لسبل النجاح ، وبما ألقى في قلوب أعدائكم من الرعب والخوف ، والله رزقكم من الطيبات رزقا حسنا رجاء أن تقوموا بالشكر.

وفي الآية عبرة وعظة لنا ؛ فالله يعامل أولياءه وأحبابه من المؤمنين إذا امتثلوا أمره بهذا ، أى : يؤويهم ويؤيدهم وينصرهم على أعدائهم ويجعلهم أعزة وملوكا ويرزقهم من طيبات الرزق ، كل ذلك رجاء قيامهم بالشكر ، فإن شكروا زادهم الله ، وإن لم يشكروا ولم يمتثلوا كما هو حال المسلمين اليوم أصبحوا أذلة في ديارهم مستعبدين في أوطانهم ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

الخيانة من صفات المنافقين

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)

المفردات :

(لا تَخُونُوا) الخيانة والخون يدلان على النقص وإخلاف ما كان يرجى ، ومنه قيل : خانه الحظ ، وخانته رجلاه ، ثم استعمل الخون والخيانة في ضد الأمانة والوفاء.

(والْأَمانَةَ) : تدل على التمام ، وهي حق مادى أو معنوي يجب عليه أداؤه.

(فِتْنَةٌ) : هي الاختبار والابتلاء ، أو المراد بها الإثم والعذاب.

روى أنها نزلت في أبى لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود ، فلما خرج إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إجلاء بنى النضير وحاصرهم حصارا شديدا دام إحدى وعشرين ليلة وقد طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن أمواله وعياله فيهم ، فبعثه إليهم فقالوا له : ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد بن معاذ كما طلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار إلى حلقه ، أى : أن حكم سعد الذبح ... قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى

٨١٩

علمت أنى خنت الله ورسوله ، فنزلت الآية ، وقد شد نفسه على سارية المسجد وأبى الطعام والشراب حتى الموت ، أو يتوب الله عليه ، ومكث سبعة أيام وبعدها تاب الله عليه وفك النبي وثاقه.

المعنى :

يا من اتصفتم بالإيمان وتصديق الرحمن ، والاهتداء بالقرآن : لا تخونوا الله فتعطلوا فرائضه ، أو تنقصوا شيئا من أحكامه التي بيّنها لكم في كتابه ، فإن ذلك خيانة تتنافى مع الإيمان ، ولا تخونوا الرسول فيما أمركم به أو نهاكم عنه ، ولا تخونوه فترغبوا عن بيانه للقرآن فهو أدرى وأقرب ، فخيانة الله والنبي عبارة عن تعطيل فرائض الدين ، وعدم العمل بأحكامه والاستنان بسنته ، فإن هذا كله نقص لا يليق بالمؤمن والمؤتمن على دينه ، على أن الخيانة من صفات المنافقين ، والأمانة من صفات المؤمنين.

ولا تخونوا الأمانة التي في أيديكم لغيركم سواء كانت معاملات مالية أو شئونا أدبية أو سياسية أو سرا من الأسرار ، أو عهدا من العهود ، والحال أنكم تعلمون خطر الخيانة وسوء عاقبتها دنيا وأخرى ، وأنتم تعلمون الأمانة ومكانتها ، وقيل المعنى : وأنتم تعلمون أن هذا خيانة وذاك أمانة كما حصل لأبى لبابة.

واعلموا أن أموالكم وأولادكم فتنة وابتلاء ، وأى فتنة وابتلاء؟! إذ المال عند الإنسان شقيق الروح ، يركب الأخطار ، ويتحمل المشاق في سبيل الحصول عليه ، فإذا هو أعطى المال ؛ فهل يشكر ويرضى؟ أم يكفر ويعصى؟ وإذا حرم منه فهل يصير ويرضى أم يغضب ويلعن؟ أليس هو فتنة وابتلاء؟ على أن المال وحبه الغريزي قد يدفع صاحبه إلى عمل يوقعه في المهالك والمصائب.

وأما الولد فقطعة من أبويه فلذة كبدهما ، وثمرة فؤادهما. وحبه فطرة وطبيعة عند والديه ، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل النفس والنفيس في سبيل راحته وسعادته وقد يؤدى ذلك إلى اقتراف الذنوب والآثام وركوب الشطط في سبيله ، أليست الأولاد فتنة بهذا المعنى وابتلاء ، وقد ورد «الولد ثمرة الفؤاد ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» أى : يدعو إلى ذلك كله.

٨٢٠