التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

النفس لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه به ، ويوجبه عليها ، وأجرى مجرى القسم. (دُونَ ذلِكَ) : منحطون عنهم في الدرجة. (خَلْفٌ) الخلف والخلف : من يخلف غيره مطلقا ، وقيل الخلف للصالح والخلف للصالح. (عَرَضَ) المراد : المال لأنه عرضة للزوال. (دَرَسُوا) : قرءوا وفهموا. (نَتَقْنَا الْجَبَلَ) : رفعناه من أصله. (ظُلَّةٌ) : كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر.

المعنى :

واذكر يا محمد إذ أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه كتب عليهم وأوجب على نفسه ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، يفرض عليهم الجزية ، ويعطونها عن يد وهم صاغرون ويحاربهم ، ويبدد ملكهم ويفرق شملهم ، حتى يكونوا أذلة مساكين .. والتاريخ يحدثنا أن اليهود ذاقوا الأمرّين بسبب أعمالهم مع الله ذاقوا من البابليين ثم من النصارى ثم من المسلمين وفي العصر الحديث لا تنس (هتلر) زعيم ألمانيا الذي أذاقهم سوء العذاب وشردهم في البلاد ، انظر إلى قوله تعالى : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ). والبعث يفيد القيام فجأة ، ولم يعين مما يبعث؟ ولا في أى وقت يكون؟ ولا بأى كيفية يحصل. ولا تغتروا بهم في فلسطين فملكهم عرض زائل قريبا إن شاء الله ، فنحن واثقون بكلام الله ، قد بدت تباشير الخلاص!! إن ربك لسريع العقاب شديد العذاب وإنه لغفار رحيم بمن عصى ثم تاب من قريب ، فلا يغرنكم بالله الغرور ، ولا تقنطوا من رحمة الله.

أما اليهود فقد كانوا في الدنيا على أسوأ حال عصاة مذنبين دائما ، ولذا حكم الله عليهم بهذا ، وفرقناهم في الأرض كلها أمما لا تجمعهم جامعة ، ولا تربطهم رابطة ، منهم الصالحون الذين آثروا الآخرة على الدنيا ، ولم يعتدوا يوم السبت بل ونهوا غيرهم عن ارتكاب الذنوب ، ومنهم دون ذلك ، من هؤلاء غلاة الكفر والفسوق والعصيان والله ـ سبحانه ـ يعاملهم كما يعامل غيرهم ، يبلوهم بالحسنات علّهم يشكرون ، وبالسيئات علهم يرجعون وينتبهون ، وكان فيهم الخير والشر ... فخلف من بعدهم خلف ، ورثوا كتابهم وهو التوراة والظاهر أنهم هم المعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء يأخذون عرض هذه الدنيا وحطامها الفاني وظلها الزائل من غير طريق شرعي ، ومع

٧٨١

هذا فقد غرهم بالله الغرور ، وقالوا : لن تصيبنا النار إلا أياما معدودات إذ نحن أبناء الله وأحباؤه.

وإن مكن لهم وصادفهم مال من طريق غير شرعي كالربا أو الرشوة أو ببيع أحكام الله أخذوه ولم يتعظوا ولم يتوبوا ، إن تعجب فعجب هذا!

ثم رد الله عليهم قولهم سيغفر لنا وهم مقيمون على المعاصي فقال :

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب؟! وفيه أن الكذب على الله من أكبر الكبائر ، وهم قد درسوه وفهموه ، وفيه أن أكل مال الغير حرام ، وأن الاعتداء على الغير بأى لون حرام ، ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها خير من الدنيا وما فيها ، وأن الدار الآخرة خير للذين يتقون الله ويخافون عذابه ، أعميتم فلا تعقلون أن الآخرة خير وأبقى؟!

وليس القرآن متحديا أو متعصبا ، بل الذين يتمسكون بالكتاب وما فيه من أحكام ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة سواء كانوا من اليهود أو من غيرهم فسيجازيهم ربهم أحسن الجزاء (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [سورة الكهف آية ٣٠].

واذكر وقت أن رفعنا عليهم الجبل لما أبوا أن يقبلوا التوراة ، فلما رفعناه فوقهم حتى أظلهم ، واضطربت قلوبهم منه ، خروا ساجدين على حواجبهم اليسرى ، وقيل لهم : خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واذكروا ما فيه دائما واعملوا به دائما رجاء أن تملأ قلوبكم بالتقوى فتصدر أعمالكم موافقة للدين وفي هذا فلاح لكم وخير ...

الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)

٧٨٢

المفردات :

(أَخَذَ) : أخرج ، وإنما عبر به لأنه يدل على الاصطفاء والتمييز. (مِنْ ظُهُورِهِمْ) الظهر : الجزء المهم في جسم الإنسان وهو ما فيه العمود الفقرى.

هذا كلام جديد ، سيق لإلزام اليهود مع غيرهم بالميثاق العام ، بعد أن ألزمهم بالميثاق الخاص ، وللاحتجاج عليهم بالحجج العقلية والسمعية ، ولقطع أعذارهم في التقليد.

المعنى :

واذكر يا محمد وقت أن أخذ ربك من ظهور بنى آدم ذريتهم ، والأخذ من ظهور بنى آدم يلزمه الأخذ من ظهر آدم نفسه ، وفي هذه الآية الكريمة رأيان : رأى للسلف ورأى للخلف ـ رضى الله عنهم ـ جميعا ، أما السلف فيقولون : إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة ، أما الخلف فيقولون : هذا من باب التمثيل والتصوير ، فلا سؤال ولا جواب ، وإنما الله ـ سبحانه ـ بما ركب في بنى آدم من العقول والإدراك وبما نصب من الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله. كأنه قال للخلق : قروا بأنى ربكم ، ولا إله غيرى ، وكأنهم قالوا بلسان الحال : نعم أنت ربنا ، ولا إله غيرك ، فنزل تمكينهم من العلم ، وتمكينهم منه منزلة الشهادة والاعتراف ، وهذا أسلوب في القرآن والسنة وكلام العرب كثير : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [سورة فصلت آية ١١].

وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ولا تبديل لخلقه «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» حديث شريف.

فعل الله بكم هذا مخافة أن تقولوا يوم القيامة ، عند سؤالكم عن أعمالكم : إنا فعلنا هذا لأنا كنا غافلين عن التوحيد ، ولم ينبهنا أحد إليه ، فلا عذر لكم بالجهل بعد نصب الأدلة ، ووجود العقل والفطرة.

ومخافة أن تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل ، ونحن خلف لهم ، قلدناهم في

٧٨٣

أعمالهم ، مع حسن الظن بهم ، ولم نهتد إلى التوحيد ، أفتؤاخذنا بالعذاب وتهلكنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟!

ولكن الله لا يقبل عذرهم في هذا أبدا.

ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل للناس الآيات البينات ، ولعلهم بهذا يرجعون ويتوبون إلى الله.

والآية الكريمة تفيد أنه لا عذر في الشرك بالله أبدا ، أما الأحكام التفصيلية للدين ، والأمور الغيبية كالسمعيات فلا أحد مطالب بها ، إلا بعد إرسال الرسل (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).

مثل المكذبين الضالين

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)

المفردات :

(نَبَأَ) النبأ : الخبر المهم. (فَانْسَلَخَ) المراد : خرج منها وكفر بها. (فَأَتْبَعَهُ

__________________

(١) سورة الإسراء آية ١٥.

٧٨٤

الشَّيْطانُ) أدركه ولحقه. (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) : ركن إليها ومال. (يَلْهَثْ) اللهث : التنفس بشدة مع إخراج اللسان. (مَثَلُ) المثل : الصفة الغريبة ...

ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد أخذ الميثاق العام عليهم وعلى الناس وبعد أن أرسلت لهم الرسل فكذبوا بها.

المعنى :

واتل يا محمد على اليهود وعلى غيرهم الخبر المهم الخاص بالذي آتيناه آياتنا ، وأوقفناه عليها وعلمناها له ، ولكنه لم يعمل بها ، وتركها وراءه ظهريا ، عازما على عدم العودة لها أبدا ، وقد سبق شيطانه في الفساد سبقا ملحوظا فكان من الغاوين الضالين المفسدين ، يا سبحان الله! يسبق الشيطان في الفساد والضلال!

يقول الله : ولو شئنا لرفعناه بالآيات وجعلناه في عداد الأبرار والصالحين ، ولكنه أخلد إلى الأرض ، وجعل كل همه التمتع بلذائذها الفانية ، واتبع هواه ، وران على قلبه ما كان يكسب ، حتى صار حيوانيا شهوانيا ، ظلمانيا.

وهذه الآية تفيد أن مشيئة الله متلازمة مع عمل الشخص وتابعة له.

وذلك أن الله جعل للعبد اختيارا وجعل اختياره مناط الثواب والعقاب ، وخلقه في الدنيا وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوه أيمتثل أم لا؟

وقد جعل من يختار الخير له سبل ميسرة ، وعنده قدرة على ذلك ، ومن يختار الشر له سبل ميسرة ، وله قدرة على ذلك (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) [سورة الإسراء آية ١٨]. وكانت مشيئة الله تابعة لما يعلمه من اتجاه العبد في الحياة.

هذا الذي أوتى علما بالكتاب ولم يعمل به ، بل صارت روحه مدنسة ، وقلبه مظلما ، صفته العجيبة التي كالمثل في الغرابة ، كصفة الكلب يلهث دائما سواء حملت عليه وكلفته أم لا؟

وهكذا الذي يركن إلى الدنيا ويكفر بآيات الله دائما في عمل ونصب ومهما أعطى فهو في هم وتعب ، وتراه كلما بسط له الرزق زاد طمعه وألمه ، ذلك المثل الذي

٧٨٥

ضربناه لبعض الأفراد مثل للقوم الذين كذبوا بآياتنا ، واستكبروا عنها ، ولم تنفعهم الموعظة.

فاقصص هذا القصص ونحوه رجاء أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويتفكروا في أنفسهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الرعد آية ٣].

ساء مثلا مثل الذين كذبوا بآياتنا ، وقبح عملهم الذي أضحى كالمثل في الغرابة ، وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم فقط.

وقد ذكر اسم الشخص صاحب النبأ بعض المفسرين ولكن يظهر ـ والله أعلم ـ أن المراد الوصف لا الشخص.

صفة أهل النار

مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)

المفردات :

(ذَرَأْنا) : خلقنا وأوجدنا. (الْجِنِ) : خلق مستتر الله أعلم به. (قُلُوبٌ) القلب : يطلق على العضو الصنوبري الواقع في الصدر إلى الجهة اليسرى ، ويطلق كذلك على العقل ، والوجدان والضمير. (لا يَفْقَهُونَ) الفقه : الفهم الدقيق.

بعد أن ضرب الله المثل للمنسلخ من الدين الخارج منه قفّى على ذلك ببيان حقيقة المهتدى والضال ، ومن هم أهل النار؟

٧٨٦

المعنى :

من يهديه ويوفقه للخير ولاتباع الشرع ، والاهتداء بالقرآن فهو المهتدى حقيقة لا غير ، ومن يضله الله ، ولا يوفقه ولا يهديه إلى الخير وإلى نور القرآن فأولئك البعيدون عن الهداية هم الخاسرون ، وأى خسارة أكثر من هذا!!؟

والهداية الإلهية نوع واحد (فهو المهتدى) وأنواع الضلال لا حصر لها ، ولذا قال سبحانه : (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

وهذا بيان لما أجمل.

يقسم الله إنا قد خلقنا خلقا كثيرا من الجن والإنس ، خلقناهم مستعدين لعمل مآله جهنم ، وخلقنا كذلك خلقا مستعدين لعمل مآله الجنة (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، [سورة هود ١٠٥] (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [سورة الشورى آية ٧].

أما حقيقة أهل النار فهم قوم ليس لهم قلوب يفهمون بها الأوضاع الصحيحة التي بها تزكو نفوسهم ، وتطهر أرواحهم ، فهم لا يفقهون الحياة الروحية ولذتها الموصلة للسعادة الدنيوية والأخروية ، ولكنهم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (١). ولا يفقهون أن الخير فيما أمر به الدين ، وأن الشر فيما نهى عنه الدين ، وليس لهم عيون يبصرون بها آيات الله الكونية وآياته القرآنية ، وليس لهم آذان يسمعون بها آيات الله المنزلة على رسله ولا يسمعون بها أخبار التاريخ والأمم السابقة ، وكيف كانت سنة الله معهم؟

أولئك كالأنعام لهم حواس مادية فقط ، همهم الأكل والشرب والتمتع باللذات ، بل الحيوان يأكل بلا إسراف وهم مسرفون ؛ فهم أضل سبيلا وأسوأ قيلا ، أولئك هم الغافلون عن آيات الله وغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم فيما خلقت لأجله ، بل هم غافلون عن ضرورات الحياة الشخصية والقومية والدينية.

فالخلاصة أن أهل النار هم الأغبياء الغافلون حيث لم ينظروا إلى الحياة الباقية بل شغلوا أنفسهم بالحياة الفانية فقط : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [سورة يوسف آية ١٠٥].

__________________

(١) سورة الروم آية ٧.

٧٨٧

وأهل الجنة هم الأذكياء عرفوا الدنيا على حقيقتها فعملوا للآخرة الباقية ولم يهملوها.

وحذار أن يكون المسلمون من الغافلين.

أسماء الله الحسنى

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))

المفردات :

(الْحُسْنى) : مؤنث الأحسن. (يُلْحِدُونَ) الإلحاد : هو الميل عن الطريق الحق.

المعنى :

روى أن بعض المسلمين دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال المشركون : محمد وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله ـ عزوجل ـ هذه الآية.

ولله ـ سبحانه وتعالى ـ الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وقد روى عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر : الله الذي لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن.

٧٨٨

الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور».

والذي عليه أهل العلم أنها جمعت من القرآن والسنة فهي توقيفية ولكنها لا تنحصر في تسع وتسعين بدليل حديث ابن مسعود عن رسول الله أنه قال : «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن فقال : اللهم إنى عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري ، وجلاء حزنى ، وذهاب همي. إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا».

وذروا الذين يكذبون في أسمائه ويسمونه بما لم يتسمّ به ولم ينطق به في كتاب الله ولا سنة رسوله هؤلاء سيجزون بما كانوا يعملون.

ومعنى أن أسماءه توقيفية أنه لا يسمى (سخيا) وإن سمى (جوادا) ويسمى (رحيما) ولا يسمى (رفيقا) ويسمى (عالما) ولا يسمى (عاقلا) وفي القرآن (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (١) أفتسمى الله مخادعا؟ حاش لله ، أفتحسبه مكارا؟

حاش لله؟ بل يدعى بأسمائه ولا نلحد فيها أبدا.

المهتدون والضالون

وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ

__________________

(١) سورة النساء آية ١٤٢.

٧٨٩

هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)

المفردات :

(يَهْدُونَ) : يرشدون الناس إلى الحق والخير. (يَعْدِلُونَ) : يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان على ما ينبغي. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) الاستدراج : من الدرجة ، وهي المرقاة ، بمعنى الصعود والنزول درجة بعد درجة ، والمراد سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا. (وَأُمْلِي لَهُمْ) : من الإملاء ، وهو الإمهال. (كَيْدِي) الكيد والمكر : هو التدبير الخفى الذي يقصد به غير ظاهره حتى ينخدع المكيد ، والمتين : القوى ، من المتن وهو الظهر. (يَعْمَهُونَ) : يترددون في حيرة وعمى.

بعد أن ذكر الله أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق لا قلوب لهم ولا أعين ولا آذان يصلون بها إلى الخير ، ثم ذكر بعد ذلك ما يجعل الإنسان قوى الإيمان ... ذكر هنا أن في أمة الدعوة المحمدية فريقين : مهديين وضالين ، مع ذكر وجوب الفكر والنظر في ملكوت السماء والأرض علّنا نصل إلى الخير.

المعنى :

وبعض من خلقنا أرسلنا لهم الرسل خاصة أمة الدعوة المحمدية أمة يهدون بالخير ، ويرشدون إليه ، وبه يحكمون فيما يعرض لهم حتى تكون أمورهم متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان ويكونوا أمة وسطا عدولا كما أخبر عنهم القرآن ، وروى عن على بن أبى طالب قال : لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة ، يقول الله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة.

٧٩٠

والذين كذبوا بآياتنا ندعهم في الضلال تائهين ، ونستدرجهم من حيث لا يعلمون ، ونملي لهم بإعطاء النعم تلو النعم استدراجا حتى لا يرعووا عن غيهم مع أنا نمهلهم فلا نرسل لهم المخدرات والمنبهات ، وما علموا أن سنة الله في الخلق لا تتغير ، وأن الله يملى لهم ويمدهم بالمال والنعم حتى يغتروا ولا ينتبهوا كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (١) نعم. إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

وها هم أولاء المشركون ظلوا مغرورين بأن الحرب يومان يوم لنا ويوم علينا ، معتزين بقوتهم وكثرة عددهم ، وبقلة عدد المسلمين ، وما علموا أن هذا مكر بهم وكيد لهم. ولقد كان فتح مكة آية على ذلك .. أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في شأنه وشأن دعوته؟ إنهم إن تفكروا في ذلك أوشكوا ـ لا بد ـ أن يعرفوا الحق وأن صاحبهم ليس به جنة ، ولقد حكى القرآن عنهم (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٢). (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٣) كذبوا وضلوا إن هو إلا نذير مبين بين يدي عذاب شديد ، وهو منذر ناصح ، ومبلغ أمين وكيف لا تعرفون هذا وهو صاحبكم وأنتم أدرى الناس به؟!! أكذبوا الرسول ولم ينظروا في هذه العوالم المحكمة الدقيقة ، المنظمة البديعة؟ فإن هذا دليل على الوحدانية الكاملة والعلم التام والقدرة القادرة ، ولو نظروا بعين البصيرة لاهتدوا إلى الخير ، أو لم ينظروا في كل ما خلقه الله وأن الحال والشأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، وحان وقت قدومهم على ربهم بالأعمال ، لو نظروا لاحتاطوا وعملوا لذلك اليوم حتى ينالوا الجزاء الأوفى.

لعل أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يبادرون إلى التصديق والإيمان بالقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل فوات الفرصة ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأى حديث بعده يؤمنون؟!

هؤلاء فقدوا الاستعداد للخير والهدى والإيمان بالنبي والعمل بالقرآن فكانوا هم الضالين. ومن يضلل الله فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يترددون. وفي باطلهم

__________________

(١) سورة المؤمنون الآيتان ٥٥ و ٥٦.

(٢) سورة المؤمنون آية ٧٠.

(٣) سورة الحجر آية ٦.

٧٩١

ينغمسون!! ألا تعلم أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد ، وأن العمل الفاسد يجعل على القلب حاجزا سميكا حتى لا يهتدى إلى الخير أبدا (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

علم الساعة عند ربي

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)

المفردات :

(السَّاعَةِ) هي في اللغة : جزء معين من الزمن ، وعند الفلكيين : جزء من أربع وعشرون من اليوم ، والمراد بها هنا الوقت الذي يموت فيه كل حي ، ويضطرب نظام العالم ، أى : عند النفخة الأولى للصور. (أَيَّانَ مُرْساها) : متى إرساؤها واستقرارها؟ (لا يُجَلِّيها) : لا يظهرها ولا يكشفها. (حَفِيٌ) : مبالغ في السؤال عنها.

قد تكلم القرآن عن أجل الفرد في قوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) فناسب بعده أن يتكلم عن الساعة العامة التي فيها نهاية الدنيا كلها.

المعنى :

يسألونك يا محمد عن الساعة متى تكون؟! : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١). وفي التعبير بالإرساء إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لهذه الحركة الدائبة في السموات والأرض.

__________________

(١) سورة الشورى آية ١٨.

٧٩٢

قل لهم : إنما علمها عند ربي وحده ، وإليه يرجع الأمر كله لا يجليها لوقتها ، ولا يظهر أمرها ، ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده ، فلا يطلع أحد من خلقه على وقتها ولو كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا ؛ عظم أمرها عند الملائكة والثقلين في السماء والأرض لخفاء وقتها ولهول أمرها وشدة وقعها ، فهم مضطربون خائفون ، لا تأتيكم أيها الناس إلا بغتة وفجأة ، أى : وأنتم منهمكون في الدنيا وتعميرها.

عجبا لهم يسألونك ملحين عنها كأنك حفى عنها ، ومبالغ في السؤال عنها!!! قل لهم : إنما علمها عند الله عالم الغيب والشهادة.

ولكن أكثر الناس لا يعلمون السر في إخفائها ، فلو علمت لاضطرب نظام الكون واختل العمران ، وهكذا يخفى الله ليلة القدر ، وساعة الإجابة لحكم هو يعلمها ولينشط الناس في طلبها وليكون العمل لها في وقت أكثر ، وللساعة علامات وأشراط وردت في الصحيح من السنة ، ويقال لها علامات صغرى وكبرى.

الرسول إنسان لا يملك شيئا بل هو نذير وبشير

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)

المفردات :

(الْغَيْبَ) : هو ما غاب عنا ، وهو حقيقى لا يعلمه أحد ، وإضافى يعلمه بعض الخلق كالأنبياء والرسل. (الْخَيْرِ) : ما يرغب فيه سواء كان ماديا كالمال أو معنويا كالعلم. (السُّوءُ) : ما يرغب عنه.

سألوا النبي وألحفوا في السؤال فناسب أن يبين القرآن حقيقة الرسالة.

٧٩٣

المعنى :

هذا هو القول الفصل ، الذي ليس بالهزل ، مفخرة من مفاخر الإسلام وأسس من أسسه السليمة ، حارب القرآن بهذه الآية وأمثالها أفكارا جاهلية وعقائد وثنية ، وانظر إلى هنا ، وإلى ما يفهمه المسيحيون عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ نعم إن الدين عند الله الإسلام.

قل يا محمد : أنا بشر شرفت بالرسالة وحملت تلك الأمانة ، فلا أملك لنفسي أى نفع كان ، ولا أدفع عن نفسي أى ضرر كان ، إلا ما شاء الله ، وأنا بشر لا أعلم الغيب وإنما الغيب عند الله وحده ، فكيف تسألونى عن الساعة كأنى حفى بها؟ أما لو كنت أعلم الغيب حقيقة لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء أبدا والواقع غير هذا. إذ أنا بشر كبقية الناس شرفني الله بالرسالة فقط ، وما أنا إلا نذير لكم وبشير (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١) والخلاصة أن الرسل خلق من خلقه وعباد مكرمون لا يشاركون الله في صفاته ، ولا سلطان لهم على علمه وتدبيره ، شرفهم الله بالرسالة ، وهم القدوة الصالحة للعباد في الدنيا ..

هكذا الإنسان

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)

__________________

(١) سورة مريم آية ٩٧.

٧٩٤

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)

المفردات :

(لِيَسْكُنَ إِلَيْها) : ليطمئن ويسكن من الاضطراب النفسي. (تَغَشَّاها) :

أتاها لقضاء ما تطلبه الغريزة الجنسية. (حَمَلَتْ) : علقت منه ، والحمل : ما كان في بطن أو على شجرة ، والحمل ما كان على ظهر. (فَمَرَّتْ) : استمرت إلى وقت ميلاده من غير سقوط. (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) : حان وقت ثقلها وقرب وضعها. (صالِحاً) المراد : نسلا صالحا في الجسم والفطرة.

هذه سورة بدئت بالكلام على القرآن والتوحيد ، ثم تبع ذلك كلام على النشأة الأولى وما تبع ذلك ، ثم الكلام على قصص الأنبياء خصوصا موسى ، وها هو ذا يختمها بالكلام على التوحيد وعلى القرآن.

هو الذي خلقكم يا بنى آدم من جنس واحد وطبيعة واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، ويطمئن بها ، فإن الجنس إلى جنسه ميال ، وجعل منها زوجها حتى إذا بلغا سن الحلم وهي السن التي معها تظهر الغريزة الجنسية في الرجل والمرأة. وجدا أنفسهما ـ خاصة الرجل ـ مضطربا ومحتاجا إلى الزوجة لتهدأ نفسه وتسكن من اضطرابها ، وبهذا وحده يتحقق بقاء النوع الإنسانى.

فلما تغشاها واتصل بها الاتصال الجنسي المعروف حملت منه حملا كان خفيفا في أول الأمر لم تشعر به ، فلما أثقلت وصارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها ، وحان وقت الوضع. دعوا الله ربهما مقسمين لئن آتيتنا ولدا صالحا تام الخلقة قوى البنية سليم الفطرة لنكونن لك يا رب من الشاكرين.

وقد آتاهما الله ذلك ، وكانت الفطرة لكل مخلوق الميل إلى الإسلام والتوحيد.

فلما آتاهما النسل الصالح جعلا ، أى : بعض بنى آدم من الذكور والإناث له شركاء فيما آتاهما ، واتجها إلى غير الله الذي أعطاهما ، تعالى الله عما يشركون!!

٧٩٥

وقد رأى بعض المفسرين في هذه الآية أن المراد : خلقكم يا بنى آدم من نفس واحدة هي آدم وجعل منها زوجها وهي حواء ، وأن الشرك كان من بعض أولادهما ككفار مكة واليهود والنصارى وقد نسب إليهما ، والمراد أولادهما بدليل : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وفي الكشاف أن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان.

ثم أخذ القرآن في نقاش هؤلاء المشركين ، أيشركون بالله شيئا لا يخلق أبدا أى شيء؟ بل إنه لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لغيره ، والحال أن ما يشركون به من صنم أو وثن هو مخلوق ضعيف إن يسلبه الذباب شيئا لا يستطيع إنقاذه منه ولا يستطيع لهؤلاء المشركين نصرا في أى ميدان ، وإن تدعوهم إلى هدايتكم لا يستجيبون لكم وكيف يستجيبون؟

وكيف يداوى القلب

من لا له قلب

يستوي عندهم دعاؤكم وبقاؤكم صامتين ، والإله المعبود ، والرب الموجود لا يكون بهذا الوضع أبدا فهو السميع البصير ، العليم الخبير الناصر القادر ـ سبحانه وتعالى ـ!!

حقيقة الأصنام والأوثان

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا

٧٩٦

أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)

المفردات :

(تَدْعُونَ) الدعاء : النداء ، وغالبا يكون لدفع ضر أو جلب خير ، والمراد : تعبدون. (يَبْطِشُونَ) : يصولون بها. (فَلا تُنْظِرُونِ) أى : تمهلون.

هذا تمام للكلام السابق وهكذا شأن القرآن في إثبات التوحيد ونفى الشرك.

المعنى :

هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله هم مخلوقون مثلكم ، فلا يصح أن يكون المخلوق محل عبادة وتقديس من مخلوق مثله.

وإن تعجبوا فعجب حالكم تستكثرون الرسالة على بشر منكم خصه الله بالعلم والمعرفة ، وقوة اليقين ونور البصيرة ثم تعبدون من دون الله حجارة!!

وإن كنتم صادقين فادعوهم ، وإن كانوا كذلك فليستجيبوا لكم ، ولكن كيف يكون ذلك؟

وهم أحط درجة ممن يعبدونهم ، فليس لهم أرجل يمشون بها ، وليس لهم أيد يصولون بها ، وليس لهم أعين يبصرون بها ، ولا آذان يسمعون بها إذ هم حجارة صماء ، أو صنيع من طين وماء ، أو من عجوة أو حلاوة كصنم بنى حنيفة.

أكلت حنيفة ربها

عام التقحم والمجاعة

على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بأن يتحداهم ويدعوهم لأمر عملي فقيل له : قل لهم يا محمد : ادعوا شركاءكم وآلهتكم من دون الله ثم تعاونوا معهم على أن يكيدوا لي ويوقعوا بي المكروه بأى شيء كان ، ولا تمهلون ، ومع هذا لم يعملوا شيئا فيه.

وهذا رد عليهم في قولهم : إنا نخاف عليك من آلهتنا!!

٧٩٧

والرسول يعلل ذلك بقوله : إن متولّى أمرى هو الله ولينا ، وهو ربنا الذي أنزل الكتاب الذي يدعو إلى التوحيد والبر والصدق ، وهو الذي يتولى الصالحين من عباده ، أما أنتم أيها المشركون فوليّكم الشيطان : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [سورة البقرة آية ٢٥٧].

والذين تدعونهم من دون الله ، وتخصونهم بالعبادة والتقديس لا يستطيعون لكم نصرا حتى ولا أنفسهم ينصرون. بل وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى سواء السبيل لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرون شيئا!!! أفيليق بكم إن كنتم عقلاء أن تتخذوا هؤلاء آلهة؟!!

من خلق القرآن في معاملة الناس والشيطان

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢))

المفردات :

(الْعَفْوَ) : ما أتى عفوا وسهلا من غير كلفة ولا مشقة. (يَنْزَغَنَّكَ) النزغ كالنخس والوكز : هو إصابة الجسم بشيء محدد كالإبرة والمهماز ، والمراد : وسوسة الشيطان. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) المراد : الجأ إليه وتذكره. (طائِفٌ) : لمة منه ، وطاف : أى ألم. (يَمُدُّونَهُمْ) : يكونون مدادا لهم.

٧٩٨

المعنى :

هذه هي أسس المعاملة الحسنة ، ودعائم الخلق الكامل الذي به يرضى الناس عن الإنسان ، ورضا الناس من رضا الله فألسنة الخلق أقلام الحق ، وبهذه الأمور تجتمع القلوب النافرة ، والنفوس الهائمة : خذ ما أتى من الناس عفوا ، لا تكلفهم بما يشق عليهم ويستعصى من الأفعال بل كن سمحا سهلا «يسروا ولا تعسروا» حديث شريف.

خذي العفو منى تستديمى مودتي

ولا تنطقى في سورتي حين أغضب

ولله در معاوية يقول : «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ؛ إن شدوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها».

وأمر بالمعروف الذي تعارف عليه المسلمون من كل ما أمر به الشرع ، فالمعروف : اسم جامع لكل خير من طاعة وإحسان ... وأعرض عن الجاهلين ، نعم أعرض عن الجاهل الأحمق واجعل كأنك لم تسمع ولم يقل ، وعلى العموم لكل صنف من الناس معاملة ، ولا تنس قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [سورة البقرة آية ٢٣٧].

هذا جوامع الكلم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وجوامع الخلق ، ولقد صدقت السيدة عائشة حيث تقول : «كان خلقه القرآن».

أما معاملة الشيطان العدو اللدود فإما ينزغنك منه نزغ أو يثر فيك داعية من دواعي الشر كالغضب والشهوة حتى يجعلك ثائرا متأثرا كتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز (المنخاز).

فاعلم أن العلاج هو اللجوء إلى الله ، والتوجه إليه بالقلب ، والاستعاذة بالله من شر الشيطان ووسوسته ، والانتقال من هذا الجو وتغييره بقدر الاستطاعة ، فالله سميع لكل دعاء ، عليم بكل قصد ونية ، واعلم أن الشيطان أقسم ليغوينهم جميعا إلا العباد المخلصين فإنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما معناه : «ما منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن. قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : وأنا إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم». إن الذين اتقوا الله وخافوا منه إذا مسهم طائف من الشيطان ، وألمت بهم لمة منه تذكروا الله وما أعده

٧٩٩

للمتقين الأبرار ، وما أعد للعصاة الفجار فإذا هم مبصرون طريق الحق والخير ، فالمؤمن الكامل قوى الإيمان كالجسم الصحيح لا تدخله جراثيم المرض وإن دخلت ماتت ، كذلك المؤمن لا تدخله الوساوس وإن دخلت تذكر وطردها.

وكل إنسان يشعر بدوافع للخير ودوافع للشر ، فالأولى لمة الملك ، والثانية لمة الشيطان ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للشيطان لمة وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك منكم فليعلم أنه من الله وليحمد الله على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان ثم قرأ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) (١). وإخوانهم وهم الجهلاء غير المتقين الله ، الشياطين يمدونهم وينصرونهم ويتعاونون معهم على الإثم والعدوان ثم هم لا يقصرون أبدا في ذلك.

القرآن من عند الله

وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)

المفردات :

(لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) : هلا جمعتها من تلقاء نفسك واختلقتها؟

المعنى :

كانوا طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات كونية خاصة فلما لم يجابوا إلى طلبهم قالوا على سبيل التعنت : هل اختلقت آية وجمعتها من عندك؟ يقصدون أن كل ما ينزل من القرآن إنما هو من عند محمد.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٦٨.

٨٠٠