التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

المفردات :

(مِيقاتُ رَبِّهِ) : الوقت المحدد لعمل من الأعمال كمواقيت الصلاة والصوم. (اخْلُفْنِي) : كن خليفتي فيهم. (تَجَلَّى رَبُّهُ) : انكشف وظهر نوره. (دَكًّا) : مدكوكا. (صَعِقاً) : مصعوقا مغشيا عليه. (أَفاقَ) : رجع إليه عقله. (بِقُوَّةٍ) : بعزيمة ونشاط.

المعنى :

ذكر المفسرون أن موسى ـ عليه‌السلام ـ وعد بنى إسرائيل إذا أهلك الله عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون ، وما يذرون ، فلما أهلك فرعون سأل موسى ربه أن ينزل الكتاب الموعود فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها ، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه فاستاك ، فأمره الله أن يصوم عشرا وأن يلقى الله صائما فتلك هي الأربعون ليلة التي ذكرت في البقرة مجملة وذكرت هنا مفصلة.

ضرب الله ـ تعالى ـ موعدا لموسى لمكالمته فيه ، وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ، وقال موسى لأخيه هارون : كن خليفتي في القوم مدة غيابى عنهم ، وعليك بإصلاح نفسك وخاصتك ، وأهل مشورتك ، وعملك وحكمك لتكون من الصالحين للخلافة ، وإياك أن تتبع رأى أهل الفساد والضلال ، هذه هي سبل النجاة للحكام.

ولما جاء موسى للوقت المحدود ، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة استشرفت نفسه للجمع بين فضيلة الكلام والرؤية ، فقال : رب أرنى ذاتك المقدسة ، واجعلنى متمكنا منها بأن تتجلى لي فأنظر إليك. قال الله : لن تراني الآن ولا في المستقبل ؛ إذ ليس لبشر ما أن يطيق النظر إلى في الدنيا «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه» حديث شريف.

ثم أراد المولى أن يخفف عليه الأمر ، وأنه لا يطيقها فقال مستدركا : ولكن انظر إلى الجبل الذي يرجف بك ، ويضطرب كيف أفعل به؟ وكيف أجعله مدكوكا ... ، فإن

٧٦١

استقر مكانه وثبت عند التجلي الأعظم عليه فسوف تراني إذ هو مشارك لك في الوجود ، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يقو على الثبات فكيف بك يا موسى؟

فلما تجلى ربه للجبل ، وانكشفت بعض آياته له جعله دكا مدكوكا ، وخر موسى من هول ما رأى مصعوقا ، فلما أفاق من غفوته ، وصحا من رقدته قال : سبحانك يا رب وتنزيها لك وتقديسا ، إنى تبت إليك من سؤالى ، وقيل : تبت إليك من الجرأة والإقدام على السؤال بلا إذن ، وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك.

ثم أراد المولى أن يطيب خاطره ويبين له مكانته فقال :

يا موسى إنى اصطفيتك على الناس الموجودين معك برسالتي ونبوتي ، وخصصتك بكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين القانعين ، ولا تطلب ما ليس لك.

وكتبنا له في الألواح من كل شيء مما يحتاجون له من أمور دينهم ، موعظة مؤثرة وهداية نافعة ، وتفصيلا لأحكام الشريعة.

وهل هذه الألواح هي كل ما أوتيه أو بعضه؟ وهل كان عددها عشرا أو أقل؟ الله أعلم بذلك.

فخذها بقوة ، واقبلها بجد ونشاط ، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها فلكل درجات ومراتب ، فمثلا هناك عفو وقصاص وصبر وانتصار ... إلخ فليأخذوا بالعفو والصبر (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ). (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كعاد وثمود ، أو قوم فرعون ، وقيل : سترون عاقبة من يخرج من طاعتي!!!

ورؤيا الله ـ سبحانه وتعالى ـ كانت ولا تزال مثار خلاف وجدل لتعارض النصوص فيها. مثلا (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، (لَنْ تَرانِي) مع قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) والأحاديث الصحيحة الكثيرة.

ولذا قال بعضهم : إن الرؤية محال ، وبعضهم قال : إنها جائزة ، وينبنى على هذا طلب موسى للرؤية. هل كان للرد على من طلب من قومه بالدليل (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وعلى هذا فطلبه خارج ، ولذا تاب وأناب ، وقيل : إنها جائزة ، والتوبة من التعجل بالسؤال ، وعلى العموم فهذا بحث مبسوط في كتب التوحيد وكتب التفسير المطولة.

٧٦٢

وجمهرة العلماء على أن رؤيا العباد لربهم في الآخرة حق والله أعلم بكتابه.

وتشير الآية إلى أن الواجب على أصحاب الشرائع أن يأخذوها بجد ونشاط وينفذوا أحكامها كلها متبعين أحسن السبل وأفضلها ، وأن الأمة تكون عزيزة الجانب ما دامت متمسكة بدينها ، عادلة في أحكامها ، حتى إذا خرجت من دينها وظلمت في أحكامها انهارت وضاعت ، انظروا إلى بنى إسرائيل كيف كانوا وما آل إليه أمرهم!!

السبب الحقيقي للكفر غالبا

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)

المفردات :

(يَتَكَبَّرُونَ) الكبر : غمط الحقوق وعدم الخضوع لها ، ويصحبه احتقار الناس غالبا. (الرُّشْدِ) الرشد والرشاد : الصلاح والاستقامة ، وضده الغي والفساد.

المعنى :

يبين الله ـ سبحانه وتعالى ـ سبب الطغيان والكفر ، والظلم والفساد ، فيقول ما معناه : سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتي ، وعن اتباع رسلي ، المتعالين على غيرهم بغير حق ، سأصرفهم عن الإيمان بآياتى ، وأمنعهم من فهم الأدلة والحجج الدالة على

٧٦٣

عظمتي ، وما في شرعي من الهدى والنور ، فالتكبر والكبر مرض نفسي خطير ينشأ من مركب النقص عند ضعفاء العقول والأفهام ، ويجعل صاحبه في صندوق محكم لا يصل إليه نور أبدا ولا خير أبدا ؛ لأنه يفهم في نفسه أنه كبير ، وأنه لا يحتاج إلى شيء ، وهذا معنى صرفهم عن الآيات ، أى : يطبع الله على قلوب المتكبرين بحيث لا يفكرون في الآيات ولا يعتبرون بها لإصرارهم على التكبر (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) وقد منع الله قوم فرعون عن فهم الآيات لأنهم متعالون ظالمون متكبرون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢) وهكذا يا محمد كفار قريش صرفهم الكبر والغرور عن النظر في الآيات ، ألم يقولوا :

(لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣) فلا تأس عليهم ولا تحزن لهم ، هؤلاء المتكبرون من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بأى آية تدل على الحق وتثبته ؛ إذ الآيات تفيد من نفس مستعدة للفهم وتقبل الحق ، وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد ، ولا يختارون إلا الغي والفساد ، بل إن يروا سبيل الغي سارعوا إليه وانغمسوا فيه. وما ذلك كله إلا لأنهم كذبوا بآياتنا ، وكانوا عنها غافلين.

والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى فلم يؤمنوا ولم يهتدوا ، وكذبوا بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب ، أولئك تحبط أعمالهم وتذهب سدى ، لأنهم اتبعوا أنفسهم وشياطينهم ، وتركوا أمر الله وراءهم ظهريا فكانت أعمالهم هباء منثورا ، وهل يجزون إلا بما كانوا يعملون!!!

قصة عبادتهم العجل وموقف موسى

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ

__________________

(١) سورة الصف آية ٥.

(٢) سورة النمل آية ١٤.

(٣) سورة الزخرف آية ٣١.

٧٦٤

فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)

المفردات :

(حُلِيِّهِمْ) مفردة : حلى ، وهو ما يتخذ للحلية من ذهب أو فضة.

(عِجْلاً) : هو ولد البقرة. (خُوارٌ) : صوت البقر ، كالرغاء للإبل. (أَسِفاً) الأسف : الغضب الشديد ، أو الحزن ، والأسيف : الشديد الغضب. (أَعَجِلْتُمْ) عجل عن الأمر : تركه غير تام ، وأعجله عنه غيره : حمله على تركه ناقصا.

(الْأَلْواحَ) مفردة لوح ، وهو ما كتب في التوراة.

٧٦٥

(غضب) المراد : ما أمروا به من قتل أنفسهم. (وَذِلَّةٌ) : خروجهم من ديارهم وهوانهم على الناس. (نُسْخَتِها) : ما نسخ وكتب منها. (يَرْهَبُونَ) الرهبة : الخوف الشديد.

المعنى :

داء التقليد يسرى في الأمة كما يسرى في الفرد من حيث لا يشعر ، وبنو إسرائيل عاشوا مع المصريين دهرا طويلا وهم يعبدون الأصنام والأوثان من شمس وغيرها ولذلك كلما سنحت فرصة خاطفة عادوا إلى ما كانوا عليه ، فمرة يقولون : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، وقد مضى ذلك. وهنا عند ما فارقهم موسى لمناجاة ربه اتخذوا من حلى القبط التي استعاروها منهم. اتخذوا عجلا ذا جسد ، وله خوار ، اتخذوه إلها لهم ، والذي اتخذه واحد منهم هو السامري ، وإنما نسب إليهم جميعا لأنه عمل برأى جمهورهم ، ولم يحصل منهم إنكار عملي فكأنهم مجمعون عليه.

وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل ، هل له لحم ودم وخوار حقيقة؟ أم هو تمثال من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر. الرأى الأول لقتادة والحسن البصري وغيره ، وتعليله أن السامري أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فنبذها في جوف التمثال فحلت فيه الحياة وأصبح جسدا ذا روح وله خوار ، ويؤيد هذا ظاهر القرآن الكريم. والرأى الثاني أنه تمثال خواره بسبب الريح الذي يدخل فيه بكيفية فنية عملها السامري.

وهاك الرد على من اتخذ العجل إلها : ألم يروا أن هذا الإله لا ينطق ، ولا يكلمهم بواسطة رسول كموسى ، ولا هو يهديهم إلى خير أبدا؟ فهل يعقل أن يكون هذا إلها؟!! والإله الحق هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ لو كان البحر مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته ، وهو الهادي إلى الخير والرشاد بما ركب من العقول ، وبما أرسل من رسل.

اتخذوه بلا دليل ولا برهان ، بل عن جهل وتقليد وهكذا كانوا ظالمين في كل أعمالهم.

ولما تبين لهم وجه الحق ندموا ندما شديدا ، وازدادت حسرتهم لما فرطوا في جنب الله

٧٦٦

وسقط في أيديهم ، وهذا تعبير لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب قبل هذا ، وهو كناية عن الندم والحسرة ، وذكرت اليد ، وإن كان الندم في القلب لأن أثره يظهر فيها بعضّها أو بالضرب بها على أختها (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف ٤٢].

ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا : لن يسعنا بعد هذا إلا رحمة ربنا ومغفرته ، فقد وسعت كل شيء ، وإن لم يغفر لنا ربنا لنكونن من الخاسرين في الدنيا والآخرة.

هذا ما حصل من موسى بعد رجوعه إثر بيان ما حصل من قومه في غيابه.

ولما رجع موسى إلى قومه بعد غيابه في الطور للمناجاة ، ورجع غضبان شديد الأسف والحزن قال : بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري ، وتركتم عبادة الله ، فالخطاب للسامري وأشياعه ، ويجوز أن يكون الخطاب للكل ، والمعنى : بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم ، فقد كان موسى في خلافته شديد الشكيمة قوى العزيمة ، لقنهم التوحيد الخالص ، وردهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم.

أما هارون فقد رأى موسى منه أنه لين العريكة غير حازم في أمره فظن به الظنون.

قال موسى : أعجلتم أمر ربكم؟ قال الزمخشري : المعنى : أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظاري حافظين للعهد ، ولما وصيتكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره عند تمام الثلاثين ليلة ، ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم وغيرتم عقائدكم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها. وكان من أمر موسى أن ألقى الألواح ، وطرحها من يده وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه ظنا منه أنه قصر في خلافته له ، ولم يكن مثله مع أن حق الخليفة أن يتتبع سيرة سلفه (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟) [سورة طه الآيتان ٩٢ و ٩٣].

قال هارون : يا ابن أمّ إن القوم استضعفوني ولم يسمعوا لكلامي وهموا بقتلى ، فيا ابن أمّ لا تجعلهم يشمتون بي من كثرة اللوم والتقريع ، ولا تجعلني في عداد الظالمين.

قال موسى : رب اغفر لي ما عساه فرط منى من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة

٧٦٧

لأخى ، واغفر لأخى ما عساه أن يكون قد فرط في خلافته لي ومؤاخذته القوم حين ضلوا.

وأدخلنا في رحمتك الواسعة وأنت أرحم الراحمين ، وقد دعا موسى بهذا ليظهر لمن شمت في أخيه أنه راض عنه ، وليرضى أخوه عنه ويزيل ما في نفسه إن كان ...

والآية صريحة في أن هارون برىء من اتخاذ العجل إلها ، وأنه لم يقصر في وعظهم ، وقد غفر الله له ، وهذا بخلاف ما في التوراة من أن هارون هو الذي صنع العجل لهم واتخذه إلها.

إن الذين اتخذوا العجل بعد ما غاب عنهم رسولهم موسى ـ عليه‌السلام ـ من بنى إسرائيل كالسامرى وأشياعه. سيصيبهم غضب شديد من ربهم فلا تقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة آية ٥٤] هذا في الدنيا ، وأما الغضب في الآخرة فلا يعلمه إلا هو.

وسينالهم ذلة في الحياة الدنيا بخروجهم من أوطانهم ، وتهالكهم على حب الدنيا ، وهوانهم على الناس ، إذ هم الماديون الأنانيون المطرودون في كل أمة ، أليست هذه هي الذلة في الدنيا بأعظم معانيها؟! ولا يغرنكم ما هم فيه في فلسطين الجريحة فإن ذلك سحابة صيف عن قريب ستنقشع غيومها ، فالله صادق في قوله : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) [سورة البقرة آية ٦١] بكل معانيها القريبة والبعيدة.

وأملنا في الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يهيّئ للمسلمين جميعا وللعرب خاصة الظروف التي بها يطردون اليهود المغتصبين لفلسطين حتى لا تقوم لهم دولة.

ومثل ذلك الجزاء الذي نزل على الظالمين من بنى إسرائيل نجزى القوم المفترين الظالمين.

وهاكم القانون العام السمح حتى لا ييأس مذنب أسرف على نفسه فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها توبة نصوحا خالصة لوجه الله مع العمل

٧٦٨

الصالح والإيمان الكامل فأولئك يتوب الله عليهم. إن ربك من بعدها هو الغفور الرحيم.

يقول الكشاف في قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) هذا مثل ، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) [الأعراف ١٥٠] وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك ، ولمه على ما فعل في جفوة ، ثم ترك الغضب النطق بذلك وقطع الإغراء ، وفي هذا من البلاغة ما فيه حيث شبه الغضب برجل وجعل دليل ذلك قوله (سَكَتَ) وهذه من عيون الاستعارات القرآنية.

ولما سكت عن موسى الغضب وهدأت ثائرته أخذ الألواح التي كتبت فيها التوراة ، وفيها هدى لكل حائر ، ورحمة لكل مذنب من الذين يرهبون ربهم ، ويخشون عذابه وحسابه.

ما حصل لموسى أثناء المناجاة

وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)

٧٦٩

المفردات :

(الرَّجْفَةُ) : الصاعقة التي تزلزل القلوب والأبدان. (حَسَنَةً) المراد : صحة وعافية ، وغنى عن الناس ، واستقلالا في الدولة. (هُدْنا) : رجعنا وتبنا.

المعنى :

ذكر المفسرون أن الله قد أوحى إلى موسى أن يختار سبعين رجلا من بنى إسرائيل ويصطفيهم ، ويأتى بهم إليه ؛ وقد اختلفوا هل كان هذا عقب عبادتهم العجل ليتوبوا؟ أو كان هذا عقب طلب موسى للرؤية.

فاختار موسى سبعين رجلا لميقاتنا ، وأمرهم أن يصوموا ، وأن يتطهروا ثم خرج بهم إلى طور سيناء ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا ، وسمعوا المولى ـ جل شأنه ـ وهو يكلم موسى بأمره ونهيه : افعل ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام ، فأقبلوا على موسى وطلبوا منه الرؤية ، قيل : لم يصدقوا أن الذي أمرهم بقتل أنفسهم هو الله حتى يروه ، فوعظهم موسى وزجرهم ، فقالوا : يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال : رب أرنى أنظر إليك ، قال : لن تراني ، وبعض العلماء يقول : طلب موسى الرؤية مع علمه بعدم إمكانها ليسمعوا الرد فيكون هذا أبلغ من الرد عليهم ، ولذا أجيب بلن تراني. ورجف بهم الجبل وصعقوا حينما ألحوا في طلب الرؤية ، ولما أخذتهم الرجفة قال موسى : رب لو شئت أهلكتهم من قبل هذا حينما عبدوا العجل ، وقيل : حين طلب الرؤية وأهلكتنى معهم كذلك قبل أن أرى ما رأيت!!

قال موسى : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ حيث طلبوا الرؤية لك جهارا قياسا منهم على سماع كلامك وهو قياس فاسد .. وقيل : ما فعله السفهاء هو عبادة العجل.

ما هي إلا فتنتك وابتلاؤك حين كلمتنى فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية ، تضل بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك ، ولست ظالما لهم أبدا بل هذا موافق لطبعهم ، وتهدى بها من تشاء من عبادك الثابتين المؤمنين ، وهذا موافق لطبعهم والله أعلم بعباده ، فلو تركوا وشأنهم لاختار كل منهم ما هو فيه ، وما قدر له ، أنت ولينا يا رب فاغفر لنا

٧٧٠

وارحمنا ، واستر عيوبنا برحمتك ، يا أرحم الراحمين ، وأنت خير الغافرين ، تغفر الذنوب وتعفو عن السيئات بلا سبب ولا علة ، لأن رحمتك وسعت كل شيء ؛ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة هي نعمة الصحة والعافية والرزق الحسن والتوفيق في العمل والاستقلال في الدولة ، واكتب لنا في الآخرة حسنة هي نعمة الثواب الجزيل والعطاء الكثير.

إنا عدنا إليك ، وتبنا ، ورجعنا إلى حظيرة الإيمان بالعمل لا بالقول فقط.

قال الله : إن رحمتي سبقت غضبى ، وإن عذابي أصيب به من أشاء من عبادي المسيئين لأنفسهم بالعمل الفاسد. وفي قراءة : إن عذابي أصيب به من أشاء.

وأما رحمتي ونعمتي وفضلي فقد وسعت كل شيء في الكون ، وسعت الكافر والعاصي ، والمسلم واليهودي وعابد العجل ... إلخ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (١) فسمائى تظلهم ، وأرضى تقلهم ، وبرزقي يعيشون ، وبخيرى يتمتعون ، وأنا أدعوهم دائما إلى الصراط المستقيم ، ومع ذلك كله فبعضهم خارجون عن ديني.

فإذا كان الأمر كذلك من إصابة عذابي من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها كما دعوت يا موسى ، أى : أثبتها خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي للذين يتقون الله في كل شيء ويؤتون الزكاة ، وخصت بالذكر لأنه يخاطب قوما ماديين نفعيين مانعين للزكاة ، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون.

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته ، والمؤمنون به

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ

__________________

(١) سورة النحل آية ٦١.

٧٧١

عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)

المفردات :

(الْأُمِّيَ) : الذي لا يقرأ ولا يكتب. (إِصْرَهُمْ) الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه ، أى : يحبسه عن الحركة لثقله. (الْأَغْلالَ) : جمع غلّ وهو الحديد الذي يجمع بين يد الأسير وعنقه ، والمراد : التكاليف الشاقة.

المعنى :

سأكتب رحمتي الواسعة للذين يتقون ويؤتون الزكاة ، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون ، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمى ، وهذه الأوصاف تنطبق على محمد المفرد العلم ؛ فهو رسول ونبي أمى ، وقد كان أهل الكتاب يصفون العرب بأنهم أميون (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [سورة آل عمران آية ٧٥].

وقد وصفه القرآن الكريم ووصف رسالته بأوصاف :

١ ـ النبي الأمى ، وفي هذا الوصف إشارة إلى كمال صدقه حيث أتى بالقرآن المعجز

٧٧٢

في أخباره وقصصه وحكمه وأصوله العامة في السياسة والاجتماع والدين ، مع أن من نزل عليه أمى بين أميين!! يا سبحان الله!!!

٢ ـ وهو محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فبشارته وصفته وزمانه في التوراة والإنجيل ، وقد عرفوا ذلك كله كما يعرفون أبناءهم أو أكثر ، وآمن به بعض علمائهم الأحرار من اليهود كعبد الله بن سلام ، ومن النصارى كتميم الداري ـ رضى الله عنهم جميعا ـ وفي كتاب (إظهار الحق) لعالم هندي تحقيق لهذا الموضوع لمن أراد الزيادة.

٣ ، ٤ ـ أنه يأمرهم بالمعروف شرعا ، وهو ما تعرفه العقول الرشيدة ، ولا تنكره الطباع السليمة ؛ وهو ينهاهم عن المنكر شرعا وهو ما تنكره النفوس الأبية الكاملة في العقل والسمو الروحي : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). [سورة النحل آية ٣٦].

٥ ـ يحل لهم الطيبات التي تستطيبها الأذواق السليمة من الأطعمة الحلال (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [سورة الأعراف آية ١٦٠].

٦ ـ ويحرم عليهم الخبائث مما تأباه النفوس السليمة كالميتة والدم المسفوح ، ويأباه العقل الراجح كالخنزير خصوصا عند ما عرّفنا الطب أنه يولد الدودة الوحيدة في جسم من يأكله.

٧ ـ وقد وضع عنهم التكاليف الشاقة التي تأصرهم وتثقل عليهم والأغلال التي كانت في أعناقهم كقتل النفس عند التوبة وقطع مكان النجاسة ... إلخ ، فدينه اليسر ، وشريعته السمحة السهلة ، والحنيفية البيضاء.

فالذين آمنوا به وبرسالته وحموه ونصروه مع الإجلال والإكبار واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك البعيدون في درجات الكمال المتميزون على غيرهم هم المفلحون حقا ، ويدخل في ذلك دخولا أوليا قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ الذين ينطبق عليهم هذا الوصف العام.

ذكر العلامة أبو السعود أنه لما حكى ما في الكتابين التوراة والإنجيل من نعوت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف من يتبعه من أهلها ونيلهم السعادة في الدارين ، أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان

٧٧٣

أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من يكون وذلك ببيان عموم رسالته.

قل يا محمد لجميع البشر من كل جنس ولون ، وفي كل وقت وزمن : إنى رسول الله إليكم جميعا (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (١) ، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (٢) ، ولقد ثبت في الصحيحين في حديث خصوصياته ، «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إنى رسول الله الذي له الملك التام ، والتصريف الكامل في السموات وعوالمها ، والأرضين وما فيها يدل على وحدة الصانع؟ وكمال قدرته وتمام علمه وحكمته.

هو الله ، لا معبود بحق في الوجود إلا هو ، أما غيره فوهم وخيال ، وخرافات لا تليق بعاقل ، إذ هو الذي يحيى كل حي ، ويميت كل ميت ، بيده الحياة والموت ، وله الأمر كله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنت ترى أن الله وصف نفسه بثلاث : هو المالك المتصرف في الملكوت ، والمعبود بحق في الوجود ، خالق الحياة والموت.

ومن كان كذلك وقد أرسل رسولا ومعه البرهان على رسالته وصدقه. فيجب أن تؤمنوا به أيها الناس ؛ فهو الرب الواحد القهار الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وآمنوا برسوله حيث قامت الأدلة على صدقه ، الرسول النبي الأمى ، آمنوا به يؤتكم كفلين (نصيبين) من رحمته ، ويجعل لكم نورا تمشون به ، ويغفر لكم ، فهو النبي الذي يعلمكم الكتاب والحكمة ويرشدكم إلى الخير والفلاح ، ويطهركم من الخرافات والرجس والأوثان والشرك والضلال ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، المبشر به كل الكتب ، دينه الإسلام السمح السهل الصالح لكل زمان ومكان.

وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يؤمن بالله إيمانا كاملا لا شبهة فيه أبدا ، ويؤمن بكلماته المنزلة على رسله جميعا التي هي مظهر قدرته وحكمته ـ سبحانه وتعالى ـ واتبعوه كذلك في كل ما يأتى ويذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم وتوفيقكم.

فيا أيها المسلمون : هذه هي نصيحة القرآن وكلمته ؛ اتبعوه لعلكم تهتدون ، والله لا هدى إلا في القرآن ، ولا خير إلا في الدين ، وعلى قدر قربنا منه واتباعنا له يكون فلاحنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٩.

(٢) سورة سبأ آية ٢٨.

٧٧٤

من نعم الله على بنى إسرائيل

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))

المفردات :

(يَهْدُونَ) : يرشدون ويدلون. (يَعْدِلُونَ) : يحكمون بين الناس بالعدل.

(قَطَّعْناهُمُ) : صيرناهم قطعا وفرقا. (أَسْباطاً) : جمع سبط ، وهو عندهم

٧٧٥

كالقبيلة في ولد إسماعيل ، والسبط : ولد الولد ، وجعله ولد البنت أمر عرفي.

(فَانْبَجَسَتْ) : انفجرت ، بمعنى انفتحت بسعة وكثرة. (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) : جعلنا الغمام يظللهم في التيه ، والغمام : سحاب رقيق. (الْمَنَ) : شيء أبيض حلو كالعسل ، و (السَّلْوى) : طير سماني.

المعنى :

هذه شهادة الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أمرنا بالقسط ، وقد شهد لقوم موسى بأن منهم جماعة عظيمة تهدى بالحق ، وترشد إلى الخير ، وتوصل إلى سواء السبيل ، وتحكم بين الناس بالعدل الذي أمر الله به.

وهاكم بعض النعم التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل ولم يقابلها بعضهم بالشكر ؛ وصيرناهم ، أى : قوم موسى الذين منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ، صيرناهم قطعا وفرقناهم اثنتي عشرة فرقة ، كل فرقة لها ميزة خاصة ، ونظام خاص بها وتسمى جماعة.

وأوحينا إلى موسى وقت أن طلب من قومه السقيا وقد لحقهم العطش في التيه ، أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه مع السرعة والسعة والكثرة اثنتا عشرة عينا بقدر أسباطهم ، كل سبط له عين خاصة به ، وقد علم كل جماعة منهم مشربهم.

وإذا أصابهم الحر الشديد في الصحراء المحرقة جعلنا الغمام يظلهم بظله الظليل رحمة منا وشفقة عليهم.

وأنزلنا عليهم طعاما شهيا بلا تعب ولا مشقة ، يقيهم شدة الجوع وغائلته ، هذا الطعام هو المن والسلوى.

ثم قيل لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وما متعناكم به ، ولكنهم جاروا واعتدوا ، ولم يقوموا بواجب الشكر ، وما ظلمونا بهذا أبدا ، ولكن أنفسهم فقط كانوا يظلمون ، ومن ظلم نفسه وإن لم يعرف فظلمه لغيره أكثر ، وفي الحديث القدسي : «يا عبادي : إنى حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعونى».

٧٧٦

تقدم مثل هاتين الآيتين في البقرة آية ٥٨ ، ٥٩ ، فالموضوع واحد والصياغة مختلفة اختلافا يدل على كمال الإعجاز الذي حير الألباب وزلزل العقول ، إذ البلاغة : إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ، فهنا قال : اسكنوا بدل ادخلوا ؛ وكلوا بدل فكلوا ، وحذف هنا رغدا ، وعكس الترتيب (قُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) وهناك قال : (خَطاياكُمْ) بدل (خَطِيئاتِكُمْ) وهنا قال : (سَنَزِيدُ) وحذف الواو ، كل هذا لنسق الكلام ولكمال التعبير ، والله أعلم بأسرار كلامه.

فالسكنى أخص من الدخول ولا عكس ، فمن يسكن يدخل قطعا وليس كل من يدخل يسكن ، والدخول لأجل الأكل يعقبه الأكل فجاء هناك بالفاء ، والأكل عقب الدخول مباشرة له لذة ، ولذا أتى هناك بكلمة رغدا. أما من يسكن فقد تقل لذة أكله بل قد تنعدم لمرض أو ألم.

وفي الترتيب لا شيء إذ الواو لا تقتضي ترتيبا ، والمهم أنهم أمروا بالدعاء مع الخضوع والانحناء فسواء تقدم هذا أو تأخر فلا ضرر.

وحذفت الواو هنا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ) دليل على أن الموعود به شيئان : المغفرة وزيادة الحسنة ، على معنى أنه قيل : ماذا حصل بعد المغفرة؟ قيل : سنزيد المحسنين ، والإرسال كما هنا كالإنزال في المعنى العام وإن أفاد الإرسال كثرة وزيادة ، والظلم والفسق شيء واحد وإن أفاد الأول الاعتداء على الغير والثاني الخروج عن الدين ، وتشير الآيتان إلى أنهما جمعا بين النقيصتين.

فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ، والتبديل : التغيير في القول والفعل فهم لم يعملوا بظاهر القول ولا بحقيقته بل تركوه كله ، هذا هو التبديل ، وبعض العلماء يرى أنهم غيروا لفظا بدل لفظ فقالوا : حبة في شعرة ، أى : حنطة في زكائب من شعر ، بدل قوله تعالى لهم قولوا : حطة.

أيها المسلمون العبرة من هذا القصص أن يفهم جيدا أن الله مع خلقه سنة لا تتغير ولا تتبدل ، فالأمة التي تفسق وتظلم نفسها وغيرها وتبتعد عن دستورها وكتابها مآلها أن ينزل الله عليها عذابا أليما يضطرب له كل قلب ، وهذا الرجز من السماء قد يختلف ويأتى بأشكال متباينة على حسب الأزمنة والأمكنة.

٧٧٧

عاقبة المخالفين وفوز الآمرين بالمعروف

وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)

المفردات :

(حاضِرَةَ الْبَحْرِ) : قرية قريبة منه. (يَعْدُونَ) : يعتدون. (حِيتانُهُمْ) : سمكهم. (شُرَّعاً) المراد : ظاهرة على وجه الماء. (مَعْذِرَةً) : هي العذر ، وهو التنصل من الذنب. (بَئِيسٍ) : شديد. (خاسِئِينَ) : صاغرين.

المعنى :

واسألهم يا محمد عن حال أهل القرية التي اعتدى بعضهم يوم السبت ووقف بعضهم موقف الواعظ ووقف فريق آخر موقفا خاصا ، وهكذا الحال في كل أمة شاع فيها الفساد.

٧٧٨

أما القرية فالله أعلم بها ، وإن قيل : إنها أبلة.

وتلك قصة أخرى ما كان يعرفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا قومه ولكنه علمها عن طريق الوحى ، وهذا سؤال تقرير ، أى : قروا بهذا ، والمراد التقريع والتوبيخ على أعمالهم السابقة ، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بدعا بل هو موروث.

واسألهم يا محمد عن أهل القرية القريبة من البحر وقت أن اعتدوا على حدود الله ، وتجاوزوها يوم السبت ـ وهو يوم يعظمونه بترك العمل فيه وجعله للعبادة ـ إذ تأتيهم أسماكهم يوم السبت ظاهرة على وجه الماء ، قريبة لا تحتاج في الصيد إلى عناء ، وفي غير يوم السبت تختفى ولا تظهر.

مثل ذلك البلاء المذكور نبلو السابقين والمعاصرين ، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم ليجازى كلا على عمله ، كل ذلك بسبب ما كانوا يفسقون ويخرجون عن طاعة الله.

ظهرت المعاصي جهارا فكان منهم من أنكر عليهم ذلك : واذكر إذ قالت جماعة منهم عظيمة لمن يعظهم وينكر عليهم عصيانهم ، قالت : لم تعظون قوما كهؤلاء قد قضى الله عليهم بالهلاك والفناء أو بالعذاب الشديد؟

قال الوعاظ للائمين : نعظهم حتى نعذر أمام ربكم عن السكوت على المنكر ، ولعلهم يتقون فإذا نوقشنا الحساب يوم القيامة ماذا كان موقفكم عند شيوع المنكرات؟ نقول : قد فعلنا ما أمرتنا به فنكون بذلك معذورين ، فلما نسى المرتكبون للذنب ما ذكروا به ، وتركوا العمل بالمواعظ حتى كأنهم نسوها ، أنجينا الذين ينهون عن السوء وهما الفريقان فريق الواعظين وفريق اللائمين ، الظاهر ـ كما قال ابن عباس ـ أن بعضهم كان ينكر قولا وفعلا وهم الوعاظ ، وبعضهم كان ينكر بقلبه وهم اللائمون.

وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم منهم بالمعاصي أخذناهم بعذاب شديد.

والرأى ـ والله أعلم ـ أن العذاب للفريقين فريق العصاة وفريق اللائمين وإن يكن عذاب الآخرين خفيفا بظاهر الآية ولتعليل النجاة بالنهى عن السوء والنهى كان للواعظين فقط.

أما من يسكت بل ويلوم الوعاظ على العمل والوعظ فهذا ذنب كبير ، اللهم إلا إذا قلنا : إنه ينكر بقلبه ويائس من نصحهم ، والله أعلم.

٧٧٩

فلما عتوا وبغوا ، وتمردوا وتكبروا ، ولم يصغوا لوعظ الواعظين ، قلنا لهم : كونوا قردة صاغرين أذلاء فهذا عذابهم في الدنيا كما نرى ، وفي الآخرة عذاب شديد ، وهل صاروا قردة حقيقة ، أم أصبحوا كالقردة في الطباع والفساد وعدم التوفيق إلى الخير؟!

هكذا اليهود في الدنيا

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)

المفردات :

(تَأَذَّنَ) بمعنى آذن ، أى : أعلم ، وهو يفيد العزم على الشيء ، وإيجابه على

٧٨٠