التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)

المفردات :

(الرَّجْفَةُ) : الحركة والاضطراب ، والمراد : الزلزلة والعذاب. (يَغْنَوْا) غنى بالمكان : أقام به. (آسى) الأسى : الحزن الشديد. (قَرْيَةٍ) : مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة. (بِالْبَأْساءِ) : الشدة والمشقة من حرب أو فقر أو غيره. (الضَّرَّاءِ) : ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته. (يَضَّرَّعُونَ) : يظهرون الضراعة والخضوع. (عَفَوْا) : كثروا ونموا ، من قولهم : عفا النبات : إذا كثر.

المعنى :

وقال الملأ الذين كفروا ـ وهم عيون مدين وأشرافهم ـ قالوا للمستضعفين المؤمنين : تالله لئن اتبعتم شعيبا وآمنتم به إنكم إذا لخاسرون شرفكم حيث تركتم دين آبائكم إلى دين لم تعرفوه ولم تألفوه ، وخاسرون دنياكم حيث تركتم ما به ينمو مالكم ويزيد من التطفيف في الكيل ، وأكل أموال الناس.

ولقد كان وصفهم بالاستكبار أولا لمناسبة التهديد بالإخراج من الديار ، ووصفهم هنا بالكفر يناسب الضلال والصد عن سبيل الله ، أما جزاؤهم فأخذتهم الرجفة وعمتهم الصيحة ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، حتى أصبحوا جثثا هامدة ، جاثمين في مكانهم لا حراك بهم.

وكان قوله تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) بمعنى أنهم حرموا من ديارهم ، وأخرجوا من أوطانهم كأن لم يقيموا فيها : ردّا عليهم في قولهم : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك.

٧٤١

وكان قوله تعالى : الذين كذبوا هم الخاسرون على سبيل الحصر ردّا عليهم في قولهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ...) (١) وحقا الكافرون هم الذين خسروا في الدنيا والآخرة دون سواهم.

وأما شعيب فقد تولى عنهم وأعرض قائلا : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ، وبلغتكم ما فيه صلاحكم في المعاش والمعاد ، ونصحت لكم ، ومن بشر وأنذر فقد أعذر ، ومن أعذر فكيف يحزن على قوم عصوه ولم يؤمنوا؟ وكانوا كافرين!!

وما أرسلنا في قرية من القرى ولا مدينة من المدن ، ما أرسلنا فيها رسولا ثم كذب أهلها وعصوا إلا أخذناهم بالشدة والمكروه وأصابتهم سنين عجاف ، لعلهم بهذا يتضرعون ، ويلتجئون إلى ربهم ؛ وهكذا سنة الله في الخلق ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، يرسل الشدائد لعلها ترجع الإنسان إلى ربه ، وترده عن غيه ، ولكن كثيرا من الناس لا تردعهم الروادع ، فهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

ثم أعطيناهم بدل الشدة سعة ، ومكان الفقر والضيق غنى وفضلا ، حتى عفوا وكثروا في المال والعدد ، فالله ـ سبحانه ـ يريهم الحالتين ويمكن لهم في الجهتين ؛ لعلهم يعتبرون ، ولكن العصاة يقولون : هؤلاء آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء ، وحل بهم الضيق والفرج والعسر واليسر. وما نحن إلا مثلهم ، وهذا قول من لم يعتبر ويتعظ بأحداث الزمن ، أليس ما هم فيه ابتلاء واستدراجا؟ ألم يعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟ وهم مع ذلك قد أعرضوا ونأوا ، واستكبروا وبغوا فكان جزاؤهم ما يأتى :

فأخذناهم بغتة وحل بهم العذاب فجأة ، وهم في غيهم سادرون ، وفي عمايتهم لاهون (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٣).

فاعتبروا يا أولى الأبصار ، واتعظوا بما حل بغيركم فتلك سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا!!!

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٩٠.

(٢) سورة الأنعام آية ٤٣.

(٣) سورة الأنعام آية ٤٤.

٧٤٢

من سنة الله مع الأمم

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)

المفردات :

(لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ) : لسهلنا عليهم. (بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : المراد خيرى السماء والأرض المعنوي والمادي كالعلوم والمطر والنبات. (ضُحًى) : وقت ارتفاع الشمس وامتلاء الكون بالضوء. (أَوَلَمْ يَهْدِ) : أو لم يبين. (عَهْدٍ) :

٧٤٣

العهد : الوصية ، وقد يكون بين طرفين كالمعاهدة أو طرف واحد. بأن يعهد إليك بشيء ، أو تلتزم به ، والميثاق : العهد المؤكد.

المعنى :

هكذا نظام الله في الكون ، وتلك سنته مع الخلق قديما وحديثا فاعتبروا واتعظوا أيها الناس خاصة أنتم يا زعماء الشرك من العرب ، ولو أن أهل القرى التي كذبت رسلها ، ولم تؤمن بربها. لو أنهم بدل الكفر آمنوا ومكان العصيان اتقوا لفتح الله عليهم أنواع الخير من السماء والأرض كالعلوم والهداية والوحى والإلهام ، وكذا المطر والسحاب وسهل عليهم خير الأرض من نبات ومعادن ، وخصب وكنوز. والمعنى : أنهم لو آمنوا ليسر الله لهم كل خير من كل جانب.

ولكن كذبوا وكفروا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر بما كانوا يكسبون ... فعلوا ما فعلوا فأخذهم الله بغتة ، وعلى غرة منهم ، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ، وينزل بهم عذابنا وهم بائتون ونائمون؟!!

أو أمن أهل القرى أن يأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون ، فإن من يأتى من الأعمال ما لا فائدة فيه فهو لاعب ولاه!!!

والمعنى : إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر.

أفأمنوا مكر الله؟ وقد كرر الاستفهام الإنكارى لزيادة التوبيخ ، وهو معطوف على قوله : أفأمن أهل القرى ، ولذا كان بالفاء ، ومكر الله عبارة عن جزائه ، وأخذه العبد إذا طغى من حيث لا يشعر مع استدراجه والإملاء له ، فعلى العاقل ألا يأمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليه في الجنة ، ومعنى الآية : أيأخذهم ربك بغتة في الليل أو الضحى فأمنوا مكر الله؟! إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

أجهل هؤلاء الناس (خاصة قريشا) الذين يرثون الأرض من بعد أهلها ـ بعد هذا البيان الكامل ـ أن سنة الله في الخلق لا تتغير؟ أكان ما ذكر ولم يتبين لهم أن شأننا معهم

٧٤٤

كشأننا مع من سبقهم؟! فلو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، وعذبناهم على أعمالهم ، كما أصبنا أمثالهم من قبل بغتة وهم لا يشعرون.

ونحن نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع قبول وتدبر (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة يونس آية ١٠١].

تلك القرى التي مر عليك ذكرها نقص عليك بعض أنبائها وأخبارها ، مما فيه عبرة وعظة وتسلية ، ولقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات ، والمعجزات الخارقات ولكنهم لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل مجيء المعجزات ، أى : في بدء الدعوة ، فهم قد ظلوا على حالهم ، ولم تنفعهم الآيات الدالة على صدق الرسل.

مثل ذلك الطبع الذي طبعه الله على قلوب الكافرين من تلك الأمم يطبع الله على قلوب الكافرين من أمة الدعوة ، إن هذا الجمود والعناد الذي تراه عند كفار مكة قد سبقوا بمثله عند الأمم السابقة ، فلا تأس عليهم ، ولا تحزن على كفرهم.

وما وجدنا لأكثرهم عهدا وفوا به ، سواء كان عهد فطرة أو عهد شرع أو عرف ، وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد ، وفي التعبير (بأكثرهم) إيماء إلى أن البعض قد آمن ووفى بعهده.

قصة موسى عليه‌السلام

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى

٧٤٥

عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)

المفردات :

(مُوسى) : هو موسى بن عمران نبي بنى إسرائيل. (فِرْعَوْنَ) : لقب كل ملك لمصر في العهد القديم ، وقيل : كان اسمه منفتاح. (حَقِيقٌ) : جدير وخليق. (تَأْمُرُونَ) : تشيرون علىّ ، من قولهم : مرني بكذا ، أى : أشر على به. (أَرْجِهْ) وفي قراءة أرجئ بمعنى : أخر ولا تفصل في شأنه. (حاشِرِينَ) جامعين لك السحرة.

أفردت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ عن قصص الأنبياء السابقين ، لأن قصصهم جميعا طبع على غرار واحد إذ كلهم أرسل لأمته وقد كذبته وحل بها العذاب ، وأما موسى فقد أرسل لغير قومه ، وكانت معجزته ظاهرة واضحة ، وآمن به أكثر قومه ، وشريعته أقرب الشرائع لشريعة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لاشتمالها على أمور دينية

٧٤٦

ودنيوية وأسس أمة لها حضارة ونظام ، ولذا تراها ذكرت مفصلة وكررت في القرآن وذكر اسمه أكثر من مائة مرة.

المعنى :

ثم بعثنا بعد هؤلاء الرسل موسى بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقه ورسالته ، بعثناه إلى فرعون وملئه فظلموا بها وكفروا ، ولا شك أن الظلم والكفر من واد واحد (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) على أنهم ظلموا بها أنفسهم ، وظلموا غيرهم بما صدوا عنها وآذوا في سبيلها .. وإنما ذكر أن موسى بعث إلى فرعون وملئه دون قومه لأنه أرسل لإنقاذ بنى إسرائيل من فرعون وكيده ، والذين استعبدهم هو فرعون وأشرافه وبطانته ، أما الشعب فكانوا مستعبدين كذلك على أن فرعون وملأه لو آمنوا لآمن الشعب كله.

فانظر كيف كان عاقبة المفسدين؟ هذه جملة القصة وخلاصتها والعبرة منها ، مع إفادة التنبيه والتفات إلى القصة ، وهاك التفصيل :

وقال موسى : يا فرعون إنى رسول من رب العالمين ، الذي بيده كل شيء ، وأنا حقيق بأنى لا أقول على الله إلا الحق ، وكيف يكون غير ذلك؟ وأنا رسول رب العالمين ، فتراه بإيجاز أثبت الرسالة له من قبل المولى ـ جل شأنه ـ وأنه معصوم من الكذب وقد أيد بالمعجزات ، وقد جئتكم يا قوم ببينة وحجة من ربكم ، لا من وضعي أنا بل من الله ـ سبحانه ـ الواحد الأحد رب السماء والأرض ورب فرعون وهامان ، فهذا فرعون مخلوق ضعيف لا رب معبود.

وإذا كان الأمر كذلك فأرسل معنا يا فرعون بنى إسرائيل ، ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك ، والسلام على من اتبع الهدى.

قال فرعون : إن كنت جئت بآية ـ كما تدعى ـ فأت بها إن كنت من الصادقين في دعواك ، فأجابه موسى بالفعل لا بالقول.

فألقى موسى عصاه ، فإذا هي ثعبان ظاهر حقيقى يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان وأخرج يده من جيب قميصه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض ، تتلألأ لكل من ينظر إليها.

__________________

(١) سورة لقمان آية ١٣.

٧٤٧

وهناك ذكرت روايات في كتب التفسير حول الثعبان والعصا ، واليد ، والله أعلم.

إنها إسرائيليات مدسوسة من خيال وهب بن منبه وكتب الأحبار وأمثالهم.

وماذا حصل بعد هذا وما قالوا؟

قال الملأ من قوم فرعون ، وهم أشراف القوم وبطانة الملك : إن هذا لساحر عليم بفنون السحر وضروبه ، وقد وجه همه لسلب ملككم ، وإخراجكم من أرضكم ، ونزع الملك من أيديكم بطرق سحرية (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس آية ٧٨].

قال فرعون لهم : فماذا تأمرون؟ وبأى شيء تشيرون؟

قالوا : أخر الفصل في أمره وأمر أخيه ، وأرسل في المدائن جندك وعيونك ، جامعين لك السحرة ، وسائقيهم إليك ، حتى يأتوك بكل ساحر عليم (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه ٥٨ ـ ٦٠].

وجاء السحرة من كل حدب وصوب وقالوا لفرعون : أئن لنا لأجرا كاملا يكافئ ما نقوم به من عمل عظيم يتم به الغلب على موسى وسحره؟

وقال فرعون : نعم لكم أجركم كما تطلبون ، وإنكم لمن المقربين إلى مجلسنا ، فيكون السحرة جمعوا بين المركزين المالى والأدبى.

ولما اجتمعوا قال السحرة ـ في اليوم الموعود لموسى ـ : إما أن تلقى بسحرك ، وإما أن نكون نحن الملقين ، وهذا كلام الواثق من نفسه.

قال موسى : ألقوا ما أنتم ملقون (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة يونس آية ٨١].

فلما ألقوا سحروا أعين الناس من النظارة ، واسترهبوهم وملئوا قلوبهم خوفا وجاءوا بسحر عظيم في الظاهر.

سحروا أعين الناس بخفة الأيدى والحركة السريعة ، أو باستخدام الزئبق في العصى أو البخور المؤثر على العيون.

ومن تعبير القرآن بقوله : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ). وقوله : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ

٧٤٨

سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) أن السحر له تأثير على خيال الشخص فقط ولا تأثير له على حقيقة الأشياء ، ومن هنا كان الفرق بين السحر والمعجزة ، إذ إن المعجزة تظهر على يد مدعى النبوة ، والسحر على يد رجل فاسق ، والسحر كان يعلم عند قدماء المصريين ، وله ضروب وأنواع شتى ، على أنه خيال ، والمعجزة لها حقيقة واقعة ، وتأتى بلا تعليم.

السحرة مع موسى وفرعون

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)

المفردات :

(تَلْقَفُ) لقف الشيء وتلقفه : تناوله بحذق وسرعة. (ما يَأْفِكُونَ) الإفك في الأصل : قلب الشيء عن وجهه الأصلى ، ولذا قيل للكذاب : أفاك ؛ لقلبه الكلام عن وجهه ، وكل أمر صرف عن وجهه فهو مأفوك ، فالإفك يكون في القول بالكذب ويكون في العمل بالسحر. (انْقَلَبُوا) : عادوا. (لَمَكْرٌ) المكر : صرف الغير

٧٤٩

عما يقصده بحيلة. (مِنْ خِلافٍ) المراد : يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس. (تَنْقِمُ) : تكره. (أَفْرِغْ عَلَيْنا) : صب علينا صبا يغمرنا.

المعنى :

أوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك فكانت ثعبانا ظاهرا ، وكان على أثر ذلك أن دعا فرعون السحرة ، وأوحى إليه مرة ثانية أن ألق عصاك لما حضر السحرة وسحروا أعين الناس فألقاها فإذا هي تأتى على فعل السحرة فتبطله ، وتلقف ما يأفكون ، قال ابن عباس : فجعلت العصا لا تمر بشيء من حبالهم وعصيهم إلا التقمته فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء وليس بسحر فخرّوا ساجدين.

وقيل المعنى : تبطل سحرهم ، وتبين حقيقته للناس وتبطل عمله المصروف من وجهة الحق إلى الباطل.

ولما كان هذا شأنهم ، وقد عرف السحرة حقيقتها ، وأنها ليست كالسحر الذي يعرفونه ظهر الحق وثبت أن موسى رسول وليس ساحرا ، وبطل ما كانوا يعملون.

فغلب موسى فرعون وجموعه المجموعة في اليوم المشهود بأمر الله وقوته ، وانقلبوا صاغرين أذلة ، يجرون ثياب الخزي والعار ، وخر السحرة ساجدين كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم ، إذ الحق بهرهم والنور دفعهم فلم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا ، وقالوا : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ، سبحانه وتعالى عما يصفون!!

ولما ظهر الحق وزهق الباطل ، وألقى السحرة ساجدين مؤمنين وفي هذا خطر شديد على فرعون وملئه ، قال فرعون : أآمنتم بموسى قبل أن آذن لكم؟ إن هذا العمل الذي عملتموه وهو أن تتظاهروا أولا بالعداوة ، والاعتداد بالسحر ، وإرادة الغلبة لموسى مع إصراركم على أنكم ستنحازون إليه بعد التجربة ، إن هذا لمكر ، وأى مكر كهذا ، دبرتم العمل بالمدينة وأحكمتم الرواية فيها ثم أمامنا وأمام الشعب مثلتموها ، وما دفعكم إلى هذا إلا حبكم في أن تخرجوا من البلد أهلها ثم تستقلوا بها مع بنى إسرائيل (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) (١) فسوف تعلمون ما أنا فاعل بكم.

__________________

(١) سورة طه آية ٧١.

٧٥٠

لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف كل يد مع رجل تنكيلا بكم وتعذيبا ، ثم لأصلبنكم على الخشب جميعا حتى تموتوا ، وتكونوا عبرة وعظة لغيركم.

ولكنهم ردوا رد المؤمن الواثق قائلين : لا ضير علينا في هذا إن الأمر لله والمرجع إليه مهما طال العمر أو قصر ، وإن الجسد فان ، وإنا إلى ربنا منقلبون حتما ، وما تفعلون بنا إلا تعجيل اللقاء المحتوم.

وما تكرهون منا؟ إنكم لا تكرهون منا إلا إيماننا بالله ورسوله لما جاءتنا البينات. وظهرت أمامنا المعجزات ، ونحن أدرى بمعرفة السحر وأثره ، وقالوا : ربنا صب علينا صبرا يفيض كالماء ، وثبت أقدامنا على صراطك المستقيم ، وتوفنا مسلمين ، فإنك أنت العزيز الحكيم.

ما كان من أمر فرعون وملئه مع موسى وقومه

وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)

٧٥١

المفردات :

(وَيَذَرَكَ) : يتركك. (نَسْتَحْيِي) : نبقيهم أحياء.

المعنى :

ولما كان أمر السحرة ومن تبعهم من الناس حينما انضموا إلى موسى وآمنوا به على مشهد من الجموع المحتشدة ، لما كان هذا يقض مضاجع فرعون وملئه قالوا لفرعون : أتذر موسى وقومه أحرارا في الأرض يدعون لدينهم ، ويكثر سوادهم ؛ ويتركك موسى مع آلهتك فلا يعبدونك ؛ ولا يعبدونها وفي هذا فساد للأرض ، وذهاب للملك؟!! قال فرعون : سنقتل أبناءهم ، ونستبقى نساءهم أحياء فلا يكثرون كما كنا نفعل قبل ولادة موسى ليعلموا أنا على هذا قادرون ، وأنا فوقهم قاهرون (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (١).

ولما سمع بنو إسرائيل خافوا فطمأنهم موسى وقال : استعينوا بالله وحده فهو القادر على كل شيء ، واصبروا فالصبر سلاح المؤمن ، واعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، واعلموا أن العاقبة للمتقين ، والنصر للمؤمنين فليس كما يظن فرعون وقومه.

ولكن هذه الوصية لم تهدئ من روعهم فقالوا والأسى يحز في نفوسهم : أوذينا من قبل مجيئك ، ومن بعد إرسالك ، فقد كنا نسأم الخسف ، ونذوق المر ، وتقتل أولادنا ويسوموننا سوء العذاب ، وها أنت ذا ترى اليوم ما نحن فيه!!

قال موسى لهم : رجائي من الله ـ والله محققه إذا شاء ـ أن يهلك عدوكم ويجعلكم خلفاء في الأرض وسادة ، وينظر كيف تعملون؟؟!

__________________

(١) سورة غافر آية ٢٦.

٧٥٢

جزاء العصاة في الدنيا

وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)

المفردات :

(بِالسِّنِينَ) : جمع سنة ، وهي بمعنى الحول ، إلا أنه كثر استعمالها في السنة المجدبة كما هنا. (الْحَسَنَةُ) : المراد : الخصب والنماء. (سَيِّئَةٌ) المراد بها : ما يسوءهم من جدب وقحط ، أو ما يصيبهم في البدن أو المال. (يَطَّيَّرُوا) : يتطايروا ويتشاءموا ، ولعل السر في إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تعقد الأمل في الخير على الطائر إذا طار يمينا وتتوقع الشر إذا طار جهة اليسار. (طائِرُهُمْ) : المراد : ما قضى لهم وقدر. (الطُّوفانَ) : ما يطوف بالإنسان ويغشاه ، وغلب في طوفان الماء. (الْجَرادَ) : حيوان طائر يأكل النبات. (الْقُمَّلَ) : هو السوس الذي يظهر في القمح. وقيل هو الدود الذي يأكل الزرع.

٧٥٣

المعنى :

أقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ إظهارا لكمال العناية بمضمون المقسم عليه لما له من الأثر في تربية النفوس ، أقسم أنه أخذ آل فرعون بالقحط والجدب والسنين العجاف ، وقد شاع استعمال القرآن كلمة (أخذ) في العذاب والشدة (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [سورة هود آية ١٠٢].

ولقد أخذناهم بهذا كله لعلهم يتذكرون ويتعظون ، وذلك أن من سنته تعالى أن يرسل الزواجر من المصائب والآفات والنقص في الثمرات تنبيهات لعل أصحابها ترجع وتثوب ، فإن ثابت واهتدت كان الخير ، إلا فالهلاك المحتوم ، والقضاء المعلوم ، وقد كان آل فرعون من النوع الأخير ومثلهم كل شخص أو أمة لم تنتبه للزواجر ، ولم تتعظ بالحوادث في كل زمان إلى يوم القيامة.

فإذا جاءت أمة فرعون الحسنة من الخير والنماء ، والزيادة في الثمرات قالوا : إنما أوتينا هذا على علم ومعرفة ، وهذا لنا نستحقه بعملنا ، وإن أصابتهم سيئة الجدب وقلة الثمر وهلاك الزرع تشاءموا واطّيّروا بموسى ومن معه يا سبحان الله!! أهكذا يكون ضيق العقل وفساد الرأى وعدم التوفيق؟ فهم يقولون عند حلول المصائب بهم : ما هذا إلا بشؤم موسى وقومه ، وغفلوا عن سيئات أعمالهم ، وشرور أنفسهم (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة النساء آية ٧٨].

ألا إن كل ما يصيبهم من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره ، والله قد قضى أن يكون الخير ابتلاء أيشكر صاحبه أم يكفر؟ وقضى أن يكون الشر ابتلاء كذلك هل يرجع صاحبه عن الغي والفساد أم يظل سادرا في الطغيان والضلال؟!! والله قد قضى كذلك أن تكون أعمال العباد سببا فيما ينزل بهم من خير وشر غالبا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحكمة الإلهية في تصريف الكون ، ولا يعلمون كيف ربطت الأسباب بمسبباتها ، وأن كل شيء عنده بمقدار ، فليس هناك شيء بشؤم موسى أو غيره ، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون.

ومع ذلك كله فقد قالوا : مهما تأتنا به من آية تستدل بها على صدقك وأنك محق في

٧٥٤

دعوتك ـ وسموا ما يأتى به موسى آية كما يقول فقط لا عن اعتقاد ـ مهما تأتنا به من الآيات لتسحرنا بها وتصرفنا عما نحن فيه بلطف ورقة فما نحن لك بمصدقين أبدا ، هذا ما كان منهم.

أما جزاؤهم عليه فقد أرسل الله عليهم الطوفان والسيل فأغرقهم ، وأتلف زراعتهم كما ورد في التوراة وأرسل عليهم الجراد الذي يأكل ما اخضر من ثمارهم وزرعهم ، وأرسل عليهم القمل وهي صغار الذر (كالدودة) التي تأتي عندنا اليوم فتأكل البرسيم وباقى الزرع في لحظة وأرسل عليهم الضفادع وجعل ماءهم كالدم.

كل ذلك آيات مفصلات واضحات ، لا تخفى على عاقل أنها من عند الله وأنها عبرة ونقمة لهم ، وهذه آيات دالة على صدق موسى إذ قد توعدهم بوقوعها على وجه التفصيل لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل التآويل ، وهذا معنى (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ).

أما هم فاستكبروا وعاندوا ولم يعتبروا بعد هذا كله ، وكانوا قوما مجرمين.

وهذه الآيات تشير أولا إلى ربط الأسباب بالمسببات على حسب مشيئته تعالى. وثانيا إلى أن الآفات التي تصيب الزرع فتهلكه والثمر فتنقصه هذا كله بسبب أعمال الناس فمن أعمالنا سلط علينا ، وما الآفات التي يرسلها الله كل عام علينا ببعيدة ، وحذار أن تقولوا : نحن لا نستحق هذا ، فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وفقنا الله للخير.

عاقبة الكفر وخلف الوعد

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)

٧٥٥

المفردات :

(الرِّجْزُ) : العذاب الشديد الذي يضطرب له الناس. (يَنْكُثُونَ) : ينقضون العهد ، والنكث في الأصل ، نقض الغزل ، ثم استعمل في نقض العهد. (الْيَمِ) : البحر ، سمى بذلك لأنه مقصود ، والتيمم : القصد.

المعنى :

ولما وقع عليهم ذلك العذاب الشديد الشامل لكل نقمة من النقم الخمس السابقة قالوا يا موسى : ادع لنا ربك بسبب ما عهده عندك من النبوة والرسالة ؛ والكرامة والمحبة ، ونحن نقسم لك لئن كشفت عنا ذلك الرجز لنؤمنن لك ولنصدقن بك وبرسالتك ولنرسلن معك بنى إسرائيل إلى أرض الميعاد.

فلما كشفنا عنهم العذاب وأزلنا عنهم هذا العقاب ، إلى أجل محدود هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلول ذلك اليوم .. إذ هم ينكثون ، وينقضون العهد من بعد ميثاقه.

وقد ورد أنهم كانوا يمكثون في العذاب الواحد من الطوفان والجراد ... إلخ أسبوعا ثم يسألون موسى الدعاء برفعه ، ويعدونه بالإيمان وإرسال بنى إسرائيل ثم ينكثون العهد وينقضونه.

ولما حان الأجل المضروب انتقمنا منهم فأغرقناهم في البحر ، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات كلها التي نزلت عليهم ، وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب في الدنيا والآخرة.

هذا لأكثرهم ، وبعضهم آمن ، وبعضهم كان يكتم إيمانه.

٧٥٦

من نعم الله على بنى إسرائيل

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)

المفردات :

(مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) المراد : جميع جهاتها ، والأرض هي أرض الشام ومصر. (كَلِمَتُ رَبِّكَ) : وعده لهم. (دَمَّرْنا) الدمار : الهلاك والخراب. (يَعْرِشُونَ) : يبنون.

ما تقدم كان جزاء فرعون وملئه وهكذا جزاء الظالمين!!

وما هنا عاقبة المؤمنين الصابرين من بنى إسرائيل.

المعنى :

وأورثنا القوم من بنى إسرائيل الذين كانوا يستضعفون بقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، وإسامتهم سوء العذاب ، أورث الله هؤلاء المستضعفين الأرض التي باركنا فيها بالخصب والنماء ، وكثرة الخيرات والأمطار. أورثناهم مشارقها من حدود الشام ومغاربها من حدود مصر ، وتمت كلمة ربك الحسنى ، وتحقق وعده الأسمى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (١) (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) وهكذا نتيجة الصبر ، وحسن تلقى الأمر ، أما من يخلعه جزعه ، ويهلكه هلعه فتكون عاقبة أمره خسرا.

__________________

(١) سورة القصص الآيتان ٥ و ٦.

٧٥٧

ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المبانى والقصور ، والعمارات والدور ، وما كانوا يقيمون من العرائش والسقف في الجنات والبساتين ، وهكذا من يقوم وقلبه عامر بالإيمان ، وروحه مليئة باليقين والإسلام ، يقوم ضد عدو الله ولو كان فرعون مصر صاحب الحول والطول والجند والحشم والمال والخدم ، يقوم لله ولإزالة الفساد والطغيان فالله معه وناصره ومؤيده.

وقد كان موسى وهارون ومن معهما كذلك (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) وما حوادث الانقلاب التي مرت بنا ببعيدة!!.

نعم الله على بنى إسرائيل وما قابلوها به

وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)

المفردات :

(وَجاوَزْنا) جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه : عداه وانتقل عنه. (يَعْكُفُونَ) عكف يعكف على الشيء : أقبل عليه ولازمه تعظيما له. (أَصْنامٍ) جمع صنم ، وهو

٧٥٨

ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن أو عجوة رمزا لشيء حقيقى أو خيالي ؛ ليعظم تعظيم العبادة ، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقى ، فإن عبد فهو صنم. (مُتَبَّرٌ) التبار : الهلاك. (باطِلٌ) : هالك وزائل لا بقاء له.

المعنى :

أنعم الله على بنى إسرائيل نعما لا تحصى ؛ حيث نجاهم من فرعون وملئه ، وأهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وجاوز بهم البحر آمنين ، وأغرق فرعون وقومه ، ومع هذا لم يقابلوا النعم بما يجب من الشكر والطاعة ، بل قابلوها بالكفر والعصيان ، وهكذا كان اليهود قديما وحديثا ، وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ، أى : تجاوزوه بعناية الله ورعايته حتى كأن الله معهم بذاته ، فلما انتقلوا عنه ورأوا قوما «قيل : من العرب ، وقيل : من غيرهم» عاكفين على أصنام لهم ومقبلين عليها ومعظمين لها تعظيم العبادة والتقديس.

قالوا يا موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، وهذا الطلب منهم دليل على أن تقديس الأصنام وعبادة غير الله كانت متأصلة في نفوسهم وفيهم حنين لها ، وهذا شأن من دخل في دين الله حديثا.

ولقد رد موسى على من طلب منه هذا الطلب بقوله :

إنكم قوم تجهلون ما يجب لله ـ سبحانه ـ من صفات التقديس والكمال ، وتجهلون حقيقة التوحيد الخالص له سبحانه ، وأنه ليس في حاجة إلى شفيع أو واسطة ، بل هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد ، وتجهلون حقيقة الرسالة بدليل طلبكم منى هذا!!

إن هؤلاء القوم العاكفين على أصنامهم مقضىّ على ما هم فيه بالهلاك والتبار ، إذ إنها لا تنفع أبدا ولا تضر ، وباطل عملهم في الدنيا والآخرة ، وفي تعبير القرآن إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك ، وأن عملهم هذا إلى زوال ، أو في هذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض ، قل لهم يا موسى : أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أأطلب لكم إلها غيره؟!! إن هذا لشيء عجيب.

وكيف تطلبون هذا وهو فضلكم على عالمي زمانكم.

٧٥٩

واذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون ، وأنقذناكم من ذل العبودية ونار الاستعمار ، وأنهم كانوا يسومونكم العذاب السيئ : يقتلون أبناءكم الذكور ويتركون نساءكم أحياء ، وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله ، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء واختبار من ربكم عظيم ، والمراد بذكر الوقت ذكر ما حصل فيه حتى يشكروا الله ـ سبحانه ـ ويخصوه وحده بالعبادة والتقديس.

رؤية الله ونزول التوراة

وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)

٧٦٠