التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

هؤلاء قد خسروا أنفسهم ، حيث اشتروا الضلالة بالهدى ، والدنيا بالآخرة ، وأى خسارة أفدح من هذا؟ هؤلاء قد خسروا كل شيء وضل عنهم ما كانوا يفترون وتختلقون كذبا من الشركاء والشفعاء!!

وحدانية الله ودعاؤه

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

المفردات :

(رَبَّكُمُ) الرب : السيد المالك والمربى. الله : علم على الذات الأقدس ، والإله هو المعبود الذي منه النفع والضر ، ويتقرب إليه بالعبادة والدعاء ، وليس للموحدين إله إلا الله. (أَيَّامٍ) : جمع يوم ، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها. (اسْتَوى) : في اللغة بمعنى استقر. ومنه : استوى على الكرسي ، وعلى ظهر الدابة ، أى : استقر واستوى بمعنى قصد ، واستوى بمعنى استولى وظهر.

(الْعَرْشِ) قال الجوهري : هو سرير الملك : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) والعرش : سقف البيت ، وهودج المرأة ، وقيل : العرش : الملك والسلطان ، ومنه : ثلّ عرشه إذا ذهب ملكه. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) : يجعل الليل كالغشاء ، أى : يذهب نور النهار. (حَثِيثاً) الحث والحض بمعنى واحد : وهو الإعجال والسرعة ،

٧٢١

والمعنى : يطلبه من غير فتور. (تَضَرُّعاً) التضرع : التذلل وإظهار الخضوع. (خُفْيَةً) الخفية : ضد العلانية. (خَوْفاً) : هو توقع الشر والمكروه. (طَمَعاً) : هو توقع الخير.

المعنى :

إن ربكم ومالك أمركم ، ومتولى شئونكم هو الله لا إله إلا هو فاعبدوه وحده واستعينوا به وحده ، فهو الذي خلق السموات وعوالمها ، وقدرها وأحكم نظامها ، وخلق الأرض وجعل فيها رواسى من فوقها ، وبارك فيها وقدر أقواتها ، كل ذلك في ستة أيام الله أعلم بمقدارها وحدودها : (إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١) ولو أراد خلقها في لحظة لخلقها (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) ولكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور ، وأن خلق السموات والأرض ليس بالشيء الهين : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (٣).

وما ورد من أن هذه الأيام الستة هي كأيام الدنيا ، وأنه بدئ الخلق يوم الأحد فروايات الله أعلم بها ، وأنها إسرائيليات ... إن ربكم أيها الناس جميعا الله ، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ودبر أمورها وحده ، فيجب عليكم أن تعبدوه وحده.

ثم إنه تعالى قد استوى على عرشه ، واستقام أمره واستقر على هيئة الله أعلم بها مع البعد عن مشابهة الحوادث في شيء ، ولقد سئل مالك ـ رضى الله عنه ـ في ذلك فقال : الاستواء معلوم ، أى : في اللغة ، والكيف ـ أى : كيفية الاستواء ـ مجهول ، والسؤال عن هذا بدعة ، وهذا القدر كاف ، وهذا رأى الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ورأى السلف : قبول ما جاء من غير تكيف ولا تشبيه ، وترك معرفة حقيقتها إلى الله ، وأما الخلف فيؤولون ويقولون : استوى على عرشه بعد تكوين خلقه ، على معنى أنه يدبر أمره ، ويصرف نظامه ، على حسب تقديره وحكمته (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (٤). وإلى رأى السلف أميل ، إذ هو رأى الصحابة والتابعين جميعا.

__________________

(١) سورة الحج آية ٤٧.

(٢) سورة يس آية ٨٢.

(٣) سورة غافر آية ٥٧.

(٤) سورة يونس آية ٣.

٧٢٢

والله ـ سبحانه ـ جعل الليل يغشى النهار بظلمته. ويستره بلباسه حتى يذهب نور النهار ليتم قوام الحياة ، فالليل للسكون ، والنهار للمعاش ، والليل يطلب النهار دائما من غير فتور مع الإعجال والسرعة.

وخلق الشمس والقمر والنجوم التي لا يعلمها إلا الله حالة كونها مسخرات ومذللات بأمره ، كلّ يدور في فلكه إلى أجل مسمى عنده ، ألا له الخلق ، أى : المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها فلا دخل لهذه الكواكب في شيء. وله الأمر والنهى والتصريف والتدبير ، ليس لأحد دخل في شيء ، سبحانه وتعالى عما يصفون ، وتبارك الله رب العالمين.

ادعوا ربكم الذي تعهدكم وأنعم عليكم نعمه التي لا تحصى ، وبخاصة ما مضى في الآية السابقة ، ادعوه متضرعين ، مبتهلين مخلصين ، فالدعاء مخ العبادة. ادعوه مخفين الدعاء متسترين ، فالإخفاء حسن مندوب إن لم يكن واجبا ، إذا هو أبعد عن الرياء والسمعة ، وأنت لا تدعو غائبا أو ناسيا ، فالله أقرب إلينا من جبل الوريد ، وهو السميع البصير ، على أن الله مدح العبد الصالح زكريا فقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (١) وقد كان دعاء الصحابة وعملهم في الخفاء ، إنه لا يحب المعتدين المتجاوزين الحدود المرسومة ، خاصة في الدعاء ، فمن رفع صوته للرياء أو بالغ في الصيغة ، أو طلب غير المشروع. كل هذا تجاوز في حدود الدعاء يجب ألا يكون. أما دعاء غير الله فشرك.

ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بما خلق فيها ، وما هداكم إلى الانتفاع بها وتسخيرها.

والإفساد في الأرض شامل لإفساد النفوس بالقتل والاعتداء ، وإفساد المال بالسرقة والنصب ، وإفساد الدين بالكفر والمعاصي ، وإفساد العقل بالمسكرات.

ادعوه خائفين من عقابه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

وادعوه طامعين في ثوابه ، مؤملين في جزائه ، إن رحمة الله قريب من المحسنين : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٢).

__________________

(١) سورة مريم آية ٣.

(٢) سورة النجم آية ٣١.

٧٢٣

من أدلة البعث

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)

المفردات :

(الرِّياحَ) : جميع ريح ، ولها أسماء عند العرب ، وإذا جمعت كانت في معنى الخير ، وإذا أفردت كانت في معنى الشر ، كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ). (بُشْراً) : مبشرات. (أَقَلَّتْ) : حملت. (الْبَلَدُ) : الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء. (الثَّمَراتِ) : واحده ثمرة : وهي الحمل تخرجه الشجرة. (نَكِداً) : لا خير فيه. (نُصَرِّفُ) : نغير ونبدل.

المعنى :

هذا أثر من آثار رحمة الله بالخلق ، ودليل على قدرته على البعث.

إن ربكم هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته بقدوم المطر رحمة من الله بالخلق ، حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء سقناه إلى بلد ميت فأخرجنا به ثمرات مختلفة في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها. مثل هذا الإخراج وإيجاد أنواع النبات والثمار من الأرض الميتة بعد نزول المطر ، نخرج الموتى ونبعثهم ، فالله قادر على كل

٧٢٤

شيء ، يخرج الحي من الميت والميت من الحي ، فانتبهوا رجاء أن تتذكروا وتتعظوا ، فتؤمنوا بالبعث والحياة الآخرة.

ومع هذا فهناك من ينكر البعث بعد ظهور أمارته ، ولا غرابة في ذلك ، فالناس في الفهم والإدراك كالأرض ، منها طيبة ظاهرة المعدن تخرج نباتا حسنا ، ومنها خبيثة التربة كالأرض السبخة أو الحجرية لا تخرج نباتا حسنا ، بل نباتها لا خير فيه ، مثل ذلك التصريف البديع ، يصرف الله الآيات لقوم يشكرون.

قصة نوح عليه‌السلام

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)

المفردات :

(عَذابَ يَوْمٍ) المراد به يوم القيامة. (الْمَلَأُ) : أشراف القوم ورؤساؤهم ، لأنهم يملؤون العيون بهجة ورواء. (ضَلالٍ) الضلالة والضلال : العدول عن طريق الحق والذهاب عنه.

٧٢٥

(وَأَنْصَحُ) : أرشد إلى المصلحة مع حسن النية. (ذِكْرٌ) أى : وعظ من ربكم.

(الْفُلْكِ) السفينة. (عَمِينَ) : واحده عم ، وهو ذو العمى. قيل : المراد عمى البصيرة ، وقيل : هو عام.

أنهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الآيات السابقة الكلام عن مظاهر القدرة والوحدانية ، ثم ختم الكلام بذكر البعث وأنه كالخلق الأول.

ثم قفى على ذلك بذكر قصص الأنبياء السابقين ، وكيف لاقوا من أممهم العنت والتكذيب ، وكيف آل أمر هذه الأمم ، وفي هذا عبرة وعظة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة هود آية ١٢٠] (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [سورة يوسف آية ١١١].

المعنى :

أقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأهل مكة بأنه أرسل نوحا إلى قومه ، ونوح هو النبي الأول الذي أرسل إلى قومه كما

ثبت في حديث الشفاعة ، فقال : يا قومي ويا أهلى وعشيرتي : اعبدوا الله ربكم الذي خلقكم فسواكم وعدلكم على أتم صورة وأكمل نظام ، هو الذي خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه ـ سبحانه وتعالى ـ هو المعبود بحق ، لا إله إلا هو ، ما لكم من إله غيره ، تدعونه وتتضرعون إليه ، آمركم بهذا لأنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وقعه ، شديد هوله.

قال الملأ من قومه ـ وهكذا أشراف الأمم ورؤساؤهم ، دائما أعداء للهداة والمرشدين ـ قالوا : إنا لنراك في غمرة من الضلال ، أحاطت بك ، إذ كيف تنهانا عن عبادة آلهتنا : ود ، سواع ، يغوث ، يعوق ، ونسر ، إن هذا لضلال بين ظاهر!!

قال نوع مجيبا لهم : يا قوم ليس بي ضلالة ، وليس بي خروج عن الحق والرشاد إذ أمرتكم بتوحيد الله ، وعبادته وحده دون الآلهة ، ولكني رسول من رب العالمين أهديكم إلى سبيل الرشاد ، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة ، أبلغكم

٧٢٦

رسالات ربي من التوحيد الخالص ، والإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وما فيه من جنة ونار ، وثواب وعقاب ، وأبلغكم الأحكام العامة ، من عبادات ومعاملات .. وأنصح لكم وأحذركم عقاب الله ، وأذكركم به.

وأعلم من الله ما لا تعلمون ، فوعظى لم يكن عن جهل ، وأنذركم عاقبة الشرك ، كل ذلك عن علم .. أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ، على لسان رجل منكم؟ وذلك أنهم يتعجبون من نبوة نوح ـ عليه‌السلام ـ ويقولون : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، وكيف يكون الرسول بشرا! ولو شاء ربك لأنزل ملائكة؟ ومهمتى لكم أنى أحذركم عاقبة الكفر وأنذركم بين يدي عذاب شديد ، لينذركم ، ولتتقوا عذاب يوم عظيم.

أما هؤلاء الكفار فقد كذبوه وأصروا على تكذيبه وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون ، ولم يؤمن معه إلا قليل ، وكان عاقبتهم أنه نجى نوحا والذين آمنوا معه برحمة منه ، فركبوا في السفينة ونجوا من الغرق.

وأغرق الذين كذبوا بآيات الله ، وكفروا بها ، ولا غرابة في ذلك فهم قوم عمون عن الهدى والرشاد ، قد طمس الله على قلوبهم وختم عليها.

فإياكم يا أمة الدعوة أن تكونوا مثلهم ، حذار ثم حذرا أن تسيروا على منوالهم ، وفي سورة هود تفصيل أوسع لهذه القصة.

قصة هود عليه‌السلام

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧)

٧٢٧

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)

المفردات :

(أَخاهُمْ) المراد : واحد من أشرافهم ، كما قالوا : يا أخا العرب. (فِي سَفاهَةٍ) السفاهة : خفة حلم وسخافة عقل. (خُلَفاءَ) المراد : خلفتموهم في الأرض. (آلاءَ) واحدها : إلى ، وهي النعمة. (رِجْسٌ) : عذاب ، من الارتجاس : وهو الاضطراب. (وَقَعَ عَلَيْكُمْ) : حق عليكم ووجب. (غَضَبٌ) : انتقام. (أَتُجادِلُونَنِي) المجادلة : المماراة والمخاصمة. (دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) : آخرهم ، والمراد استئصالهم جميعا.

عاد : قبيلة كبيرة كانت تسكن الأحقاف : (الرمل) فيما بين عمان إلى حضر موت باليمن وكانت لهم أصنام يعبدونها ، وكانوا ذوى قوة وشدة ، قالوا (مَنْ

٧٢٨

أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؟ وقد بعث الله إليهم هودا ، وكان من أوسطهم نسبا ، وأشرفهم حسبا ، وقد دعاهم إلى عبادة الله ، فكفروا وعصوا وأفسدوا في الأرض ، فأمسك الله عنهم القطر ، وأرسل إليهم ريحا فيها عذاب أليم. (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [سورة الأحقاف آية ٢٥].

المعنى :

وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا ، وهو واحد من أنفسهم! ليفهموه ، ويفهم منهم ، ويعرفوا شمائله وأخلاقه ، فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه.

ماذا قال لهم؟ قال : يا قوم اعبدوا الله وحده ، لا تعبدوا غيره ، فما لكم من إله غيره ، أعميتم فلا تتقون ربكم؟ وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي ، ولعله قال في مرة أخرى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ كما في سورة هود.

وما ذا قالوا له؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه خاصة : إنا لنراك في سفاهة وحماقة ، خفة وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر ، مهما كان ذلك الدين ، عجبا لهم!! حيث جعلوا السفاهة ظرفا له للإشارة إلى تمكنه فيها ، كما قال قوم نوح : إنا لنراك في ضلال مبين ، وقالوا له : إنا لنظنك ونعلم أنك واحد من الكاذبين الذين يكذبون على الله!!

ماذا أجابهم هود؟ قال : يا قومي ويا أهلى ، ليس بي سفاهة ولا حماقة ، حيث دعوتكم إلى دين التوحيد الخالص ، والعبادة الصادقة ، ولكني رسول من رب العالمين ، قد اختارني الله لأداء هذه المهمة و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ١٢٤] وفي إجابته ـ عليه‌السلام ـ لهم ، حيث نفى عن نفسه السفاهة فقط ولم ينسبها لهم ـ مع أنهم أضل الناس ، وأسفه الناس ، بل وأحقر الناس ـ أدب حسن ، وخلق عظيم ، صنعه الله على عينه ، ليكون مثلا أعلى يحتذيه عباده الصالحون ، يا قوم أنا رسول رب العالمين ، مهمتى أبلغكم رسالات ربي ، في التكاليف وأمور الدين ، وأنا لكم ناصح أمين كما عرفتموني من قبل ، ما كذبتكم في شيء فكيف أكذب على الله؟

٧٢٩

أكذبتم وعجبتم لأن جاءكم ذكر من ربكم ووعظ على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه؟!

واذكروا فضل الله عليكم ونعمه ، إذ جعلكم ورثة نوح ، وزادكم بسطة في أجسامكم ، وقوة في أبدانكم ـ روى أنهم كانوا طوالا أقوياء ـ اذكروا هذا واتقوا الله واحذروا أن يقع عليكم العذاب ، مثل ما وقع على قوم نوح فأهلكهم.

فاذكروا نعمة الله واشكروه واعبدوه وحده ، واهجروا الأوثان والأصنام لعلكم تفلحون.

ماذا ردوا عليه؟ قالوا : أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده ونترك ما كان يعبد آباؤنا؟ إن هذا لشيء عجاب!!

فجئنا بما تعدنا من العذاب ـ فنحن مستعجلون ـ إن كنت من الصادقين في دعواك ، وهذا منتهى الغرور ، فأجابهم هود بقوله :

قد قضى عليكم ربكم بعذاب شديد ، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تنزع الناس وترميهم صرعى (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (١).

عجبا لكم!! أتخاصمونني في أشماء لا مسميات لها ولا حقائق ، وضعتموها أنتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا حجة لكم فيها ولا برهان ، وتتركون عبادة الرحيم الرحمن؟

وإذا سرتم على هذا المنوال ولم تغيروا طريقكم فانتظروا عذابا من الله شديدا إنى معكم من المنتظرين ، وقد نزل بهم كما مر ، ونجاه الله والذين معه برحمة منه ، واستأصل الكافرين وقطع دابرهم : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ).

__________________

(١) سورة القمر آية ٢٠.

٧٣٠

قصة صالح مع قومه عليه‌السلام

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)

٧٣١

المفردات :

(ثَمُودَ) : قبيلة من العرب كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى قرب تبوك وهم من ولد سام بن نوح ، وصالح نبيهم ، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا. (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أنزلكم فيها وجعل لكم فيها منازل. (وَتَنْحِتُونَ) النحت : النحر في الشيء الصلب. (وَلا تَعْثَوْا) العثى والعثو : الفساد. (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) : نحروها بالذبح ، وأصل العقر : الجرح. (وَعَتَوْا) : تمردوا واستكبروا ، ومنه نخلة عاتية إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها. (الرَّجْفَةُ) : المرة من الرجف ، وهو الحركة والاضطراب. (جاثِمِينَ) جثم الناس : قعدوا لا حراك بهم ، والمراد أنهم جثث هامدة ميتة لا حراك بها.

كانت قبيلة ثمود من قبائل العرب البائدة ، وقد كانوا خلفاء لقوم عاد بعد أن أهلكهم الله ، فورثوا أرضهم وديارهم. وآتاهم الله نعما كثيرة ، وأرسل إليهم صالحا نبيا فيهم يهديهم إلى الصراط السوى ، ولكنهم عصوا وتكبروا وكفروا وطالبوا صالحا بآية ، فبعث الله إليهم ناقة تصديقا له ، ولكنهم عقروها وعتوا عن أمر ربهم ، فقال لهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، بعدها نزل عذاب الله ووعده ، ونجى الله صالحا والذين آمنوا معه ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا أثرا بعد عين ، (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) وتلك عقبى الظالمين ومآل الفاسقين.

المعنى :

ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، وجعلكم خلفاء لعاد فاستغفروه وتوبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب.

يا قوم قد جاءتكم حجة من ربكم وآية منه دالة على صدقى ، وكأنهم قالوا له ما هذه البينة؟ فقال : هذه ناقة الله لكم آية ، وإنما أضاف الناقة إلى الله تعظيما لشأنها وتكريما ، ولأنها جاءت من عنده مكونة من غير فحل وناقة ، بل من صخرة صلبة ، والله على كل شيء قدير ، هذه الناقة آية لكم يا بنى ثمود خاصة ، لأنكم المشاهدون لها

٧٣٢

وحدكم ، هذه الناقة من الله ، فذروها تأكل في أرض الله ، ولا تحولوا بينها وبين ما تطلب ، ولا تتعرضوا لها بسوء ، وكانت هذه الناقة تشرب جميع مياههم ، ثم تحيلها لبنا لهم : (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [سورة الشعراء آية ١٥٥].

ثم ذكرهم بنعم الله التي توجب الشكر والعبادة لله وحده ، وبخاصة بعد ما قامت الحجج على صدق رسالته فقال : واذكروا نعم الله عليكم إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد ، في الحضارة والعمران ، وأورثكم أرضهم ، وأنزلكم منازلهم تجعلون بدل سهولها قصورا زاهية. ودورا عالية ، بما ألهمكم من صناعة اللّبن والآجر (الطوب الأخضر والأحمر) وتنحتون من الجبال بيوتا ، فقد علمكم صناعة النحت وآتاكم القوة والصبر.

روى أنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء ، والسهول في باقى الفصول ، فاذكروا هذه النعم الجليلة ، واشكروا الله واعبدوه حق العبادة ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.

قال الملأ الذين استكبروا من قومه ، وكفروا بالله ورسوله ، قالوا للمستضعفين الذين آمنوا منهم : أتعلمون أن صالحا مرسل من عند ربه؟ وهكذا جرت سنة الله مع أنبيائه ، يتبعهم الضعفاء ، ويكفر بهم الرؤساء.

قال المستضعفون المؤمنون : نعلم أنه مرسل من عند ربنا علما لا يحتاج إلى بيان ، وإنا بما أرسل به مؤمنون ومصدقون.

قال الذين استكبروا : إنا بما آمنتم به كافرون ، ولم يقولوا : إنا بما أرسل به صالح كافرون ، خوفا من أن يقروا له بالرسالة ولو ظاهرا.

أما أفعالهم الدالة على الكفر : فقد عقروا الناقة : نعم أجمعوا أمرهم ونادوا صاحبهم ، فتعاطى هذا الفعل الشنيع ، فعقر الناقة ، وصاحبهم هذا هو قدار بن سالف ، أشقى القبيلة ، وإنما نسب العقر إليهم جميعا لأنهم بين راض عن هذا الفعل ، وبين آمر به.

فعقروا الناقة وتمردوا واستكبروا عن امتثال أمر ربهم الذي أمرهم به على لسان نبيه صالح ، من قوله : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) [الأعراف ٧٣].

وقالوا يا صالح : ائتنا بما تعدنا به من العذاب ، إن كنت رسولا من عند الله ،

٧٣٣

وتدعى أن وعيدك تبليغ عنه ، وأن الله ناصرك على أعدائه ، إن كان هذا صحيحا فعجل ذلك لنا!!

فأخذتهم الرجفة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) كما في سورة هود (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) كما في سورة السجدة ، والمراد أنه نزلت بهم صيحة شديدة القوة ، ارتجفت لها الأفئدة واضطربت من حولها الأرض ، وتصدع ما فيها من بنيان : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) فأصبحوا في دارهم جثثا هامدة لا حراك بها ، وسقطوا صرعى الصاعقة.

قال لهم صالح ـ بعد أن جرى ما جرى ـ : لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، ولم أدخر وسعا في ذلك ، ولكنكم لا تحبون الناصحين ، فحقت عليكم كلمة العذاب.

ونداؤه لهم بعد الموت ، كنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتلى بدر بعد أن دفنوا في القليب : «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟».

قصة لوط عليه‌السلام

وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)

٧٣٤

المفردات :

لوط : هو ابن أخى إبراهيم عليه‌السلام. وكان يسكن قرب البحر الميت بشرق الأردن في قرية من قرى خمس اسمها (سدوم) كانت تعمل الخبائث التي حكاها القرآن. (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) : مأخوذ من قولهم : أتى الرجل المرأة : إذا غشيها. (مِنَ الْغابِرِينَ) أى : الباقين في عذاب الله ، يقال : غبر الشيء : إذا مضى ، وغبر : إذا بقي.

المعنى :

واذكر لوطا حين قال لقومه بعد أن دعاهم إلى عبادة الله : أتأتون الفعلة التي بلغت الغاية في الفحش والقبح ، هذه الفعلة ما عملها قبلكم أحد من الناس فأنتم قادة لغيركم في هذا الجرم الشنيع ، إنكم لتأتون الرجال لقصد الشهوة فقط وسفح الماء ، فقد نزلتم عن مستوى الحيوان ، فإن ذكره يأتى أنثاه بقصد الشهوة وبقاء النسل ، أما أنتم فقد أعماكم الضلال وأصبح لا غرض لكم إلا إرضاء شهواتكم ، وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم شديد!! وفي قوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) إشارة إلى أنهم تركوهن وهن محل الشهوة عند الفطر السليمة.

بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون الحد عادون ، قد تجاوزتم حدود العقل والطبع السليم والصحة والأدب.

وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وذلك النصح شيئا من الحجج المقنعة ، أو رجوعا عن ذلك الغي ، أو اعتذارا يخفف حدة الغضب ، لم يكن شيء من هذا ، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم الظالم أهلها ، وقالوا لهم مفتخرين متعللين على سبيل السخرية والتهكم : إنهم أناس يتطهرون.

وكان من نبأ لوط أن أرسل الله إليه ملائكة الرحمة به ، ورسل العذاب إلى قومه ، استجابة لدعائه عليهم ، بعد أن ضاق صدره وعيل صبره. وقالت الملائكة يا لوط : إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك ودفع العدوان عنك ، فأصبح لوط وقد كشف الله عنه الغمة وأنجاه الله وأهله المؤمنين معه إلا امرأته ، فإنها كانت موالية للكفار ، فكانت من الباقين في عذاب الله.

٧٣٥

خرج لوط وأهله وفارق تلك القرية ، حتى إذا صار بعيدا عنها جاءها أمر الله وزلزلت الأرض زلزالها ، فصار عاليها سافلها. وأمطر عليهم نوعا من المطر عظيما يقال : هو حجارة من سجيل.

فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ، في حق أنفسهم وفي حق مجتمعهم ، وفي حق ربهم؟ وهذا هو العقاب الطبيعي للترف والفسق الذي يفسد الخلق ، ويبيد الأمم ، وهذه سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا.

عقاب هذه الفعلة :

قال الإمام مالك ـ رضى الله عنه ـ : يرجم ، أحصن أو لم يحصن ، وكذلك يرجم المفعول به إن كان بالغا ، وروى عنه أيضا : يرجم إن كان محصنا «متزوجا» ويحبس ويؤدب إن كان لم يتزوج ، وعند أبى حنيفة : يعزّر وعند الشافعى : يحد حد الزنا قياسا عليه ، إلى آخر ما هو مذكور في كتاب القرطبي عند تفسير هذه الآية.

قصة شعيب عليه‌السلام

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً

٧٣٦

وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)

المفردات :

(مَدْيَنَ) : قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان من أطراف الشام ، وكانوا يكفرون بالله ، وقد عبدوا الأيكة من دونه ، وكانوا يبخسون الناس أشياءهم ، في الكيل والوزن ، وقد بعث الله فيهم شعيبا. (وَلا تَبْخَسُوا) بخسه حقه : نقصه. (تُوعِدُونَ) : تخوفون الناس. (تَبْغُونَها عِوَجاً) : تطلبون اعوجاجها. (فَكَثَّرَكُمْ) : بارك الله فيكم.

المعنى :

ولقد أرسلنا إلى قبيلة مدين شعيبا نبيا فيهم ، وهو من أشرفهم ، فقال : يا قوم اعبدوا الله وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، ما لكم من إله غيره ، هو الذي خلقكم وخلق كل شيء لكم. قد جاءتكم بينة من ربكم ، وآية دالة على صدقى.

فأوفوا الكيل إذا كلتم ، وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ولا تنقصوا الناس شيئا من حقوقهم ، في بيع أو شراء أو حق مادى أو معنوي ، وقد أمرهم شعيب بالوفاء في الكيل والوزن ، ونهاهم عن نقص الناس شيئا من حقوقهم بعد الأمر بعبادة الله مباشرة وذلك لأن هذه الخصلة كانت فاشية فيهم ، كما فشا في قوم لوط الفاحشة ، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس وأخذوا حقهم يستوفون ، وإذا كالوهم وباعوا إليهم شيئا ينقصون ويبخسون ، وهذا مرض نفسي وداء إذا تفشى في أمة قضى عليها وأزال ملكها وعزها.

٧٣٧

وقال شعيب : يا قوم لا تفسدوا في الأرض بأى نوع من أنواع الفساد ، كالظلم والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ، وارتكاب الإثم والفواحش ، وإفساد المجتمع بشيوع الانحلال الخلقي.

ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وقد أصلحها ، وقد أصلحها الله بما فطر الناس على حب الخير ، وبما أودع فيهم من الميل إلى الرشاد ، وبما أرسل فيهم من الرسل والهداة والمرشدين.

فعليكم ألا تفسدوا فيها بالبغي والعدوان على الأنفس والمال والعقول والأعراض.

ذلكم الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم في الدنيا والآخرة ، وهو مجلبة للسعادة في الدارين إن كنتم مؤمنين حقا بي وبرسالتي ، وهكذا العلم وحده لا ينفع في قمع النفس وردها عن الشر بل لا بد معه من إيمان قلبي وتصديق روحي خالص ، ومخالفة للنفس والهوى. وقال شعيب لهم : لا تقعدوا يا قوم في الطرقات تنهون الناس عن الإيمان وتخوفونهم عاقبته ، وتعدونهم بالشر إن آمنوا ـ وقد كانت قريش تفعل ذلك ، كما ورد في حديث ابن عباس ـ ولا تصدوا عن سبيل الله من آمن به من الناس.

ولا تطلبوا اعوجاجا لسبيل الله ودينه ، بما تصفون وبما تكذبون وبما تشوهون الحقائق ، وتفترون على الله الكذب.

واذكروا نعم الله عليكم وقت أن كنتم قلة في المال والرجال والسطوة فبارك فيكم ، وزاد مالكم ونما ، وكثر عددكم وربا ، مع الجاه والقوة ، وانظروا نظرة عبرة وعظة كيف كان عاقبة المفسدين الظالمين من قوم عاد وثمود وقوم لوط.

وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وصدقوا ، وكانت هناك طائفة لم يؤمنوا ، وهذا شأن الناس قديما وحديثا.

إن كان هذا فاصبروا أيها المؤمنون حتى يحكم الله ويقضى بيننا ، وهو الحكم العدل ، وقد حكم بنصرة عباده المؤمنين وهلاك الظالمين المفسدين ، وهو خير الحاكمين.

٧٣٨

شعيب عليه‌السلام وقومه

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)

المفردات :

(افْتَحْ) : احكم ، والفاتح : الحاكم على المبالغة.

المعنى :

أمر شعيب قومه بعبادة الله وحده ، والوفاء بالكيل والميزان ، وعدم الفساد في الأرض ، فما كان من أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان بالله ورسله وعاثوا في الأرض الفساد ، إلا أن قالوا : تالله لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من بلادنا حتى تسكن الفتنة ، وتهدأ الثورة التي أثرتموها باتخاذكم دينا غير دين الآباء والأجداد.

ليكونن أحد الأمرين : إما إخراجكم من القرية ، وإما عودتكم في ملتنا ، ودخولكم في زمرتنا وجماعتنا.

قال شعيب : عجبا لكم!! إذ تأمروننا أن نعود في ملتكم ، أنعود ولو كنا كارهين؟! إنكم تجهلون موقفنا ، وتأثير العقيدة في نفوسنا ، فطلبتم منا هذا الطلب ..

٧٣٩

رد شعيب عليهم في الأمر الثاني المهم فقال : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم ملة الكفر والضلال ، إذ الكافر يختلق على الله الكذب حيث يدعى أن له شريكا وولدا بل المرتد أعظم جرما ، وأكثر كذبا حيث يوهم غيره أنه رجع بعد معرفة الحقيقة والواقع.

أنعود إلى ديانتكم بعد أن نجانا الله منها؟ إن هذا لشيء عجيب!!

ما أعظم كذبنا وكفرنا إن عدنا فيها بعد أن نجى الله أصحابى منها وأنا معهم ، وما ينبغي أن نعود فيها أبدا ، ولا يقدر أحد على تحويلنا إليها في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة ربنا إذ هو المتصرف في أمرنا ، وهذا رفض أبلغ.

والله واسع العلم كثير الفضل ، أعلم بخلقه ، لا يشاء إلا الخير لهم ، هذا اعتقادهم في الله ، على أنهم قوم مؤمنون حقا لا يهمهم تهديد ولا يخوفهم وعيد ، ويقولون : على الله وحده توكلنا ، وإليه أنبنا وما عداه فشيء لا يعبأ به أبدا ، وهذا رفض آخر بالدليل.

ثم دعا عليهم لما يئس منهم فقال : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين ، بل وبين كل محق ومبطل ، وأنت خير الحاكمين عدلا وإحاطة ونزاهة ، سبحانك أنت الحكم العدل ..

مآل الكافرين

وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ

٧٤٠