التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)

المفردات :

(فَوَسْوَسَ) الوسوسة : الصوت الخفى المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلي : وسوسة ، والمراد هنا ما يجدونه من الخواطر التي تزين ما يضر. (ما وُورِيَ) : ما ستر وغطى. (مِنْ سَوْآتِهِما) السوءة : ما يسوء الإنسان ويؤلمه ، فإذا قيل : سوأة الإنسان كان المراد عورته لأنه يسوؤه ظهورها. (وَقاسَمَهُما) : أقسم لهما بجد ونشاط. (فَدَلَّاهُما) : حطهما عن منزلتهما من الجنة. (ذاقَا الشَّجَرَةَ) : أكلا منها. (وَطَفِقا) : أخذا وشرعا. (بِغُرُورٍ) الغرور : الخداع بالباطل. (يَخْصِفانِ) : يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة.

المعنى :

قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ؛ وهل هي المعدة للجزاء يوم القيامة أم غيرها؟ الله أعلم بذلك ، وإن كان الظاهر أنها ليست دار الجزاء ، لأنها ليست دار تكليف ولا عصيان ، ولا يدخل فيها إبليس.

وخاطب آدم أولا لأنه الأصل في تلقى الوحى ، وتعاطى الأمور ، ثم خاطبهما معا لتساويهما في الأكل ، فكلا منها أكلا رغدا ، لا تعب فيه ولا مشقة ، أكلا كثيرا هنيئا. من أى مكان شئتما ، ومن أى ثمر أردتما ، ولا تقربا هذه الشجرة الخاصة (والله أعلم

٧٠١

بها) ولو كان في معرفتها خير لعرفها لنا ، وانظر كيف يوسع الله على عباده في الحلال وفي الأكل ثم يحرم عليهم القليل الضار ، اختبارا لهم وامتحانا.

فإنكما إن قربتما منها ، وأكلتما من ثمرها تكونا من الظالمين لأنفسكما الخارجين عن حدود الله.

أما الشيطان إبليس العدو المبين فلم يترك آدم وزوجه يتمتعان بالنعيم ، بل وسوس وزين لهما الأكل المحرم من الشجرة.

فوسوس لهما الشيطان ليكون عاقبة تلك أن يبدي لهما ما ورى عنهما وستر من عورتهما ، وهل هذه كناية عن شهوتهما التي ظهرت فجأة بعد استتارها. أو هي العورة الحقيقية؟

فكان عمل إبليس عمل من يثير الغرائز ، ويظهر الدفائن المكنونة في الإنسان من عوامل الفساد.

وقال إبليس : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ، لكما من الخصائص ما للملائكة في القوة والبطش وطول الأجل ، أو تكونا من الخالدين فيها.

ثم أقسم لهما قسما مغلظا : إنى لكما لمن الناصحين المخلصين ، ثم بعد هذا ما زال يخدعهما بالترغيب ، وبالوعد ، وبالقسم ، حتى نسيا موقفهما من الله وأمره إليهما ، وأسقطهما عما كانا فيه من مكانة ومنزلة وطبيعة. (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [سورة طه آية ١١٥].

فلما ذاقا الشجرة ، وأكلا منها ، بدت لهما عوراتهما ، وكانت مستورة ، وأحسا بالغريزة الجنسية.

ونادهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة؟ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ، فاحذروه ، واجتنبوه : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [سورة طه آية ١١٧].

قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفتك وطاعة الشيطان عدونا وعدوك وإن لم تغفر لنا وتستر ذنبنا ، لنكونن من الخاسرين الذين خسروا الدنيا والآخرة : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة آية ٣٧].

٧٠٢

قال : اهبطوا ـ والخطاب لآدم وحواء وإبليس ـ اهبطوا بعضكم لبعض عدو في الدنيا ، ولكم فيها استقرار وسكون إلى أجل مسمى عند الله. ولكم فيها متاع إلى أجل محدود.

قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ وحكم : في هذه الأرض تحيون وفيها تموتون. ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [سورة طه آية ٥٥].

الغرض من القصة : ذكر في الجزء الأول ص ٣٣.

من نعم الله وفضله علينا

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)

المفردات :

(رِيشاً) ريش الطائر : ما ستره الله به ، والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. (لا يَفْتِنَنَّكُمُ) الفتنة : الابتلاء والاختبار ، من قولهم : فتن الصائغ الذهب أو الفضة في البوتقة ليعرف الجيد من الرديء. (قَبِيلُهُ) : جماعته كالقبيلة.

٧٠٣

المعنى :

يا بنى آدم : تذكروا نعم الله عليكم وعلى أبيكم من قبل ، وإياكم والمعاصي ، وعليكم بتقواه في السر والعلن ، فهو قد أنزل عليكم من السماء مطرا أنشأ منه نبات القطن والكتان ، والصوف والوبر ، وغير ذلك مما يتخذ لباسا للضرورة كستر العورة أو لباسا لستر البدن أو للزينة والتجمل ، يا سبحان الله! دين الإسلام ودين الفطرة والطبيعة ، لا يمنع من اتخاذ اللباس للزينة والتجمل إلا الحرير الذي يكسر قلوب الفقراء ويكون لبسه إرضاء للنفس وغرائزها.

ولباس التقوى ذلك خير وأجدى وهو لباس معنوي ، لباس العمل الصالح والإيمان الخالص ، ولا شك أنه خير من الرياش واللباس.

وخير لباس المرء طاعة ربه

ولا خير فيمن كان لله عاصيا

وذلك اللباس من آيات قدرة الله ؛ ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم ؛ وهذه النعم تؤهل بنى آدم لتذكر ذلك الفضل ، والقيام بما يجب عليهم من الشكر ، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات.

يا بنى آدم : لا تغفلوا عن أنفسكم ، ولا تتركوها غير محصنة بالتقوى ، واجلوها بذكر الله دائما ؛ فإن القلب ليصدأ كما يصدأ الحديد ، حتى تقوى النفس على مقاومة الشيطان وغروره ، وتنجح في ابتلائه واختباره ، واحذروه فإنه أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما.

احذروه إنه يراكم هو وجماعته وبنو جنسه ؛ وأنتم لا ترونه ، ولا شك أن العدو المباغت الذي لا يرى أشد من العدو المبارز الظاهر.

والوقاية منه تكون بتقوية الروح والصلة بالله ، وبمعالجة الوساوس بعد طروئها ، والاستعاذة بالله منه.

احذروه لأن الله جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) [سورة الحجر آية ٤٢] وهذا تحذير شديد.

٧٠٤

شبهات المشركين وأعذارهم الواهية

وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)

المفردات :

(فاحِشَةً) : هي الفعلة المتناهية في القبح ، والمراد بها طوافهم بالبيت عرايا ، أو شركهم. (بِالْقِسْطِ) : بالعدل والتوسط. (وُجُوهَكُمْ) : جمع وجه ، وهو العضو المعروف ، أو هو كناية عن توجه القلب وصحة القصد.

المعنى :

هذا أثر من آثار ولاية الشيطان للذين لا يؤمنون.

وإذا فعلوا فعلة قبيحة ينكرها الشرع ، ويأباها العقل والطبع السليم ، كطوافهم عرايا بالبيت ، قالوا معتذرين عن ذلك العمل : إنا وجدنا آباءنا هكذا يفعلون ، وإنا على آثارهم مقتدون ، وإن الله أمرنا بها.

عجبا لكم وأى عجب!! قل لهم : إن الله لا يأمر بالفحشاء أصلا ، وإنما الذي

٧٠٥

يأمركم بهذا هو الشيطان ، ويدعوكم إليه : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [سورة البقرة آية ٢٦٨].

وكيف تعتذرون باتباعكم آباءكم؟ وهل آباؤكم حجة في التشريع؟ وهل عملوا بوحي من الله وإرشاد؟ أم كانت أعمالهم بوسوسة الشيطان وزخرفته؟!! أم أنتم تقولون على الله ما لا تعلمون؟

أما تشريع الله فلا يكون إلا بوحي منه إلى رسوله.

فإذا : هم فعلوا بوحي الشيطان فقط ، وافتروا الكذب على الله.

قل لهم : أمر ربي بالقسط والعدل وعدم تجاوز الحد. ومن هنا كان الإسلام وسطا بين الإفراط والتفريط : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [سورة النحل آية ٩٠].

وأقيموا وجوهكم ، وأحسنوا وجهتكم : وأخلصوا عملكم لله عند كل مسجد تدخلونه للصلاة ، أو الذكر أو الطواف ؛ والمعنى : اجعلوا توجهكم وقصدكم لله فقط. وهذا يظهر في الوجه ، إذ هو المرآة التي تطل منها الروح ، وادعوه دعاء أو عبادة مخلصين له الدين.

واذكروا دائما أنكم كما بدأكم وخلقكم أول مرة ستعودون إليه يوم الجزاء والحساب وأنتم بين فريقين : فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإخلاص ، وفريق حقت عليه كلمة العذاب ، لاتباعه الشيطان وتركه القرآن ، وكل فريق سيموت على ما عاش عليه ، وسيبعث على ما مات عليه.

ولا غرابة في ضلال الفريق الثاني ، لأنهم اتخذوا الشياطين قادة وأولياء من دون الله ، وهم الأخسرون أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ومن خطل الرأى وضعف العقل أن ينغمس الشخص في الضلال ، ثم لا يلبث بغروره وحماقته أن يدّعى أنه على حق وأنه في عداد المهديين.

٧٠٦

توجيهات في الملبس والمطعم

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)

المفردات :

(زِينَتَكُمْ) : والمراد هنا الثياب الحسنة ، وأخذها : التزين بها. (مَسْجِدٍ) : مكان السجود ، والمراد به الصلاة أو نفس السجود.

سبب النزول :

كانت العرب تطوف ليلا بالبيت عراة إلا الخمس (وهم قريش وما ولدت) ويقولون : لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها ، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على فرجها وقالت :

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما بدا منه فلا أحله

وكانت بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون : فإنا أحق أن نفعل ذلك ، فنزلت الآيات.

المعنى :

يا بنى آدم خذوا زينتكم ، والبسوا ثيابكم إذا صليتم أو طفتم ، وأقل هذه الزينة ما به يستر المرء عورته ، وهل العورة ما بين السرة والركبة ، أو هي القبل والدبر؟ أقوال عند

٧٠٧

الفقهاء منصوصة ، وستر العورة واجب في الصلاة والطواف ، وما بعد العورة فستره سنة لا واجب.

وعلى العموم فالزينة تختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والعمل ، وهذا الحكم من محاسن الدين الإسلامى التي بها نقل كثيرا من القبائل المتوحشة العريانة إلى حظيرة المدنية والحضارة ، على أنه سبب في تقدم الصناعة والتجارة والزراعة.

وكلوا واشربوا ما لذ وطاب من أنواع المآكل والمشارب ولا تسرفوا ، بل عليكم بالعدل والتوسط ؛ فلا تقتير ولا إسراف ، والإسراف يشمل الزيادة في البخل ، والزيادة في الإنفاق ، وتجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب ؛ إن الله لا يحب المسرفين.

روى أحمد والنسائي وابن ماجة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ، فالزينة لا بأس بها بشرط عدم الإسراف وعدم المخيلة.

والإسراف في الأكل والشرب إلى ما فوق الطاقة الجسمية ضرر ، وإلى ما فوق الطاقة الاقتصادية خطر ، وإلى ما فوق الحدود الشرعية حرام وهلاك .. قل لهم : من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده؟! فالله قد خلق موادها ، وهدى إلى تعليمها وطرق صنعها ، وغرز حب الزينة والتمتع بالطيب في نفوس البشر.

ألست معى في أن الدين الإسلامى يدعوا إلى الكمال الروحي ، والسمو الخلقي ، مع العناية بالجسم وبالنفس وما تميل إليه ما دام في حدود الحلال؟

لم يجعل التقشف ولا الزهد المبالغ فيه أساسا له ، وها هو ذا القرآن ينكر على من يحرم على نفسه الزينة ، ويقول : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولغيرهم من الناس وإن كانوا هم الأصل : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [سورة البقرة آية ١٢٩] وفي الآخرة هي خالصة للذين آمنوا.

مثل هذا التفصيل الدقيق الكامل في مسائل تخص الأفراد والأمم في حياتهما الاجتماعية نفصل الآيات الدالة على كمال ديننا وصدق رسولنا وتمام شريعتنا ولكن لقوم يعلمون لا لقوم يجهلون.

٧٠٨

ما حرّمه الله على عباده

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)

المفردات :

(الْفَواحِشَ) : الأعمال المفرطة في القبح. (وَالْإِثْمَ) : اسم لجميع المعاصي.

(الْبَغْيَ) : الظلم وتجاوز الحقوق. (أَجَلٌ) : وقت مضروب الله أعلم به.

(ساعَةً) : أقل وقت يمكن فيه قضاء عمل من الأعمال.

المعنى :

لما لبس المسلمون الثياب ، وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون بذلك فقال الله : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرموا ما أحل الله من الطيبات والرزق واللباس : ما حرم ربي هذا!! وإنما حرم الفواحش ، وما قبح جرمها ؛ كالزنا ما ظهر منه وما بطن ، وإذاعة السوء ، وخيانة الوطن ، والخروج على الجماعة. وهكذا كل ذنب يكون خطره جسيما ، وكذا حرم الإثم الذي يوجب الذنب ، وحرم البغي وتجاوز الحقوق ، وقيد البغي بغير الحق لأن التجاوز إذا كان لمصلحة ومع التراضي فلا شيء فيه.

وحرم الإشراك بالله غيره من صنم أو وثن لم ينزل به سلطانا وحجة : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [سورة المؤمنون آية ١١٧].

وحرم كذلك أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ، أى : بغير علم ولا حجة ، والقول على الله وعلى دينه يكون بتحليل حلال أو تحريم حرام ، بلا سند ولا حجة ، وهو القول

٧٠٩

بالرأى ، وهذا منشأ تحريف الأديان ، واتباع الهوى والشيطان ، كما فعل أهل الكتاب. (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) (١) بل علينا ألا نتخطى أصول الدين ، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس ، وهذه الأصول لم تترك شيئا.

بعد ما ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ جماع المحرمات والمفاسد التي تقضى على المجتمع وتبيد الأمم ذكر هنا حال الأمم الممتثلة وغيرها.

فبين أن لكل أمة أجلا محدودا ، ووقتا مضروبا يعلمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتنتهي عنده ؛ كما أن لكل شيء في الوجود أجلا ، كذلك فلكل أمة زمان معلوم تكون فيه سعيدة عزيزة ، أو شقية ذليلة.

وعزة الأمم وسعادتها تكون بامتثال الشرع وذيوع الفضيلة ، والتمسك بأهداب الدين والمثل العليا ، ولها في ذلك أجل محدود.

وشقاء الأمم وذلها يكون ببعدها عن الفضيلة ، وذيوع الرذيلة ، وشيوع الغش والرشوة والفساد ، والإسراف والظلم ، والإثم والبغي ، ولها في ذلك أجل محدود.

أما فناء الأمم وهلاكها بالإبادة لمخالفتها الشرع فانتهى ببعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٢).

وقد جرت سنته ـ تعالى ـ بذلك مع جميع الأمم فنرى في أمم الغرب أمة قوية عزيزة لأنها تتمسك بالفضيلة والاعتدال وعدم الإسراف ولها أجل محدود ما دامت متمسكة بالحق ، وبجانبها أمة ذليلة مهينة لأنها تتمسك بالرذيلة والإسراف.

والأمة الإسلامية أولى بالتمسك بالمثل العليا وعدم الإسراف ومجاوزة الحد في شيء ، خاصة وأن دينها يأمرها بهذا.

والله ـ سبحانه وتعالى ـ إذا قضى على أمة بالفناء في ساعة فإنها لا تتقدم ولا تتأخر أصلا ، فهذا تهديد ووعيد لمن يخالف الأمر ، ويسير على غير هدى.

__________________

(١) سورة النحل آية ١١٦.

(٢) سورة الأنبياء آية ١٠٧.

٧١٠

مهمة الرسل وعاقبة العمل

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)

المعنى :

يا بنى آدم إن تأتكم رسل منكم تعرفونهم ، ويمكنكم الحكم على أعمالهم يقصون عليكم آياتي ويتابعونها آية بعد آية ، مبشرين ومنذرين داعين إلى الفضيلة ناهين عن الرذيلة فاستجيبوا لهم ، وهذه هي مهمة الرسل قديما وحديثا ، فمن اتقى وأصلح نفسه بالعمل والنية الصادقة فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين كذبوا بآياتنا ورفضوا كبرا وعنادا واستكبارا عن الحق وعتوا كما فعل زعماء قريش ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

عاقبة الكذب على الله مع ذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها

٧١١

جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)

المفردات :

(ادَّارَكُوا) : تلاحقوا ، وادّارك بعضهم بعضا : اجتمعوا. (ضِعْفاً) : هو المثل الزائد على مثله مرة أو مرات.

المعنى :

لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، واختلق زورا وبهتانا بأن حرم حلالا أو حلل حراما ، أو نسب إليه ولدا أو شريكا ، أو كذب بآياته ، واستكبر عنها واستهزأ بها ، أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب المكتوب ، والقدر المقدور في الرزق والعمر والمتاع والحظ في الدنيا ، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت متوفين لهم ، قابضين لأرواحهم. قالوا لهم تأنيبا وتوبيخا : أين ما كنتم تدعونهم من دون الله من الشركاء والشفعاء؟ قالوا : ضلوا عنا وغابوا ، ولا ندري مكانهم ، ولا نرى أثرهم ، فنحن لا نرجو منهم خيرا ولا نفعا ، وشهدوا على أنفسهم ، واعترفوا عليها بأنهم كانوا بعبادتهم ودعائهم لهم كافرين.

وهذا تحذير للكافرين الموجودين من عواقب الكفر والضلال.

ويقول الله ـ تعالى ـ يوم القيامة لأولئك الظالمين المكذبين بآيات الله وهم كفار العرب : ادخلوا مع أمم قد سبقتكم في الكفر وفي دخول النار ، وهم أولياؤكم من الجن والإنس.

كلما دخلت جماعة ورأت ما حل بها من الخزي والنكال لعنت أختها في الدين

٧١٢

والملة ؛ إذ هي قد ضلت باتباعها ، والاقتداء بكفرها حتى إذا تداركوا في النار جميعا واجتمعوا ، قالت أخراهم في الدخول ـ وهم الأتباع والسفلة ـ لأولاهم ، أى : في شأنهم وحقهم وهم السادة والزعماء قالوا مخاطبين الله : ربنا هؤلاء ـ أى السادة ـ أضلونا وأثروا علينا فآتهم ضعفنا من عذاب النار لإضلالهم لنا ، زيادة على عذاب ضلالهم في أنفسهم.

قال الله لهم : لكل منكم ضعف من العذاب ـ بإضلاله ـ فوق العذاب على ضلاله ولكنكم لا تعلمون عذابهم.

وقالت أولاهم لأخراهم : إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا من أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا ، فيقول الله لهم : ذوقوا جميعا العذاب كاملا بما كنتم تكسبون.

جزاء الكافرين

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)

المفردات :

(الْجَمَلُ) : البعير الذي طلع نابه. (سَمِّ الْخِياطِ) : ثقب الإبرة.

(الْمُجْرِمِينَ) أجرم : قطع الثمرة من الشجر ، ثم استعمل في كل إفساد.

(مِهادٌ) : فراش. (غَواشٍ) : جمع غاشية ، وهي ما يغشى الشيء ، أى : يغطيه كاللحاف.

٧١٣

المعنى :

إن الذين كذبوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والبعث ، وعلى صدق الرسول مع بيانها للأحكام ولأصول الدين ، إن الذين كذبوا بها واستكبروا عنها لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ولا تصعد إليها أعمالهم ، فإنها هباء منثور لا خير فيه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ولا يدخلون الجنة أبدا فهم مطرودون من رحمة الله ، ومثل ذلك الجزاء يجزى به كل من أجرم في حق الله وفي حق نفسه ، وفي حق إخوانه من المسلمين.

لهؤلاء من نار جهنم فراش يفترشونه ، ولحاف يلتحفون به ، فهم ـ والعياذ بالله ـ بين طبقات جهنم ماكثون ، وهي محيطة بهم ، والله محيط بأعمالهم ، وبئس المصير مصيرهم ، لا غرابة في ذلك فكذلك نجزى الظالمين.

جزاء المؤمنين

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)

المفردات :

(وُسْعَها) : طاقتها وما تقدر عليه حال السعة والسهولة. (نَزَعْنا) : قلعنا.

(غِلٍ) : حقد وحسد. (أُورِثْتُمُوها) : صارت إليكم كما يصير الميراث إلى صاحبه.

٧١٤

المعنى :

هذا وعد ربك للمؤمنين بالجنة بعد ما أوعد الكافرين بنار جهنم ، وهكذا نظام القرآن : وعد ووعيد ليتميز الحق من الباطل والمؤمن من الكافر.

والذين آمنوا بالله ورسله ، وعملوا العمل الصالح الذي ارتضاه ربهم لهم ، أولئك الموصوفون بما ذكر من معاني الكمال والصدق ، المشار إليهم ، المتميزون لعلو درجتهم ، هم أصحاب الجنة الملازمون لها ، وهم فيها خالدون ، وقد جاء قوله تعالى : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) بين العمل وجزائه على سبيل الاعتراض ، للإشارة إلى أن هذا العمل الصالح الذي يستحق صاحبه دخول الجنة ليس شاقا ولا فوق طاقة البشر ، بل هو عمل سهل في متناول اليد متى حل في قلب الإنسان نور الإيمان وهدى القرآن.

هم في الجنة خالدون ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، ولا يكدرهم كدر ، ولا يؤلمهم ألم ، وليس بينهم شر ، لأن الله نزع ما في صدورهم من حسد وعداوة ، وغل وحقد.

وهكذا نعيم الجنة : أكلها دائم وظلها كذلك ، وفيها الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها تفيض بالماء وهم في غرفاتهم آمنون ، فيزدادون حبورا وسرورا.

وقالوا شاكرين نعمه : الحمد لله الذي هدانا لهذا العمل حتى أخذنا ذلك الثواب ، وما كان من شأننا ولا من مقتضى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله ووفقنا لاتباع الرسل.

وقالوا لما رأوا كل شيء يجرى على حسب ما أخبر به الرسل : لقد جاءت الرسل بالحق وصدقنا الله وعده في الدنيا ، وهذه الملائكة تناديهم : سلام عليكم طبتم ، فادخلوها خالدين ، فهذه هي الجنة التي أورثتموها وصارت لكم كما يصير الميراث لأصحابه ، جزاء أعمالكم.

وفي الآية دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله ، وفي الحديث : «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» والمخرج من هذا أن عمل الإنسان مهما كان لا يستحق به ذلك النعيم الواسع العريض لولا رحمة الله وفضله ، ومن ثم قيل في الحديث : «فسددوا وقاربوا» أى : لا تبالغوا. والله أعلم.

٧١٥

حوار بين أهل الجنة والنار وأصحاب الأعراف

وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)

المفردات :

(فَأَذَّنَ) الأذان والتأذين : رفع الصوت بالإعلام. (لَعْنَةُ اللهِ) اللعن : الطرد من الرحمة مع الإهانة. (عِوَجاً) : ذات عوج ، أى : غير مستقيمة ولا مستوية. (حِجابٌ) : سور بين الجنة والنار. (الْأَعْرافِ) : جمع عرف ، مأخوذة من (عرف الديك والفرس) ويطلق على أعلى الشيء وكل مرتفع. (بِسِيماهُمْ) السيما والسيمياء : العلامة. (صُرِفَتْ) : حولت.

المعنى :

هذا فريق في الجنة وهذا فريق في النار ، وقد حصل بينهما حوار حكاه القرآن إظهارا للحق ، وإعلانا عن خطر الكفر والإيمان وبيانا لعاقبة كل.

وما نراه الآن من مخترعات يغنينا عن الكلام في كيفية سماع الكلام ورؤية الأشخاص مع البعد في المكان ، فالله على كل شيء قدير.

٧١٦

ونادى أصحاب الجنة قائلين : يا أصحاب النار يا أهل الكفر والفسوق والعصيان والضلال والبهتان ، إن الحال والشأن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ولقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وصدق الله وعده. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العذاب والألم؟ هل وجدتموه حقا؟ قالوا : نعم وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر ، فهذه هي النار تتميز غيظا وتقول : هل من مزيد؟

فأذّن مؤذن بينهم بحيث سمع صوته أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أذن قائلا : ألا لعنة الله على الظالمين ، الذين ظلموا أنفسهم بعد الإيمان ، وهم الذين يصدون عن سبيل الله بغيا وعدوانا ، ويطلبونها معوجة غير مستقيمة ، حتى ينفر الناس منها ، ويبتعدون عنها وهم بالآخرة كافرون.

وبين أهل الجنة وأهل النار سور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار ، ويعرفون كلا بعلامته : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [سورة عبس الآيات ٣٨ ـ ٤٢] هؤلاء الذين على الأعراف رجال موحدون قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم.

ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة : أن سلام عليكم طبتم فنعم أجر العاملين ، وهم لم يدخلوا الجنة ولكنهم يطمعون فيها فهم بين الخوف والرجاء.

وإذا صرفت أعين أصحاب الأعراف من النظر إلى أهل الجنة إلى النظر إلى أهل النار من غير قصد قالوا : ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين!

حوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار

وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)

٧١٧

المعنى :

ذلك منظر آخر فيه سؤال وتوبيخ وتأنيب للكفار المغرورين بما أوتوا في الدنيا.

ونادى بعض أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة ، وعلاماتهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وقالوا لهم : أى شيء أغناه عنكم جمعكم للمال ، واستكباركم على المستضعفين والفقراء من المسلمين ، لم يمنع عنكم عقابا ، ولا أفادكم شيئا من ثواب ، وقالوا لهم ، مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين المضطهدين في الدنيا كصهيب وبلال وآل ياسر :

أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته أبدا إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم فلو كانوا على خير لأعطاهم؟! أشاروا لهم وهم يتمتعون في الجنة والكفار يتلظون في السعير.

وقيل لأهل الأعراف : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون بعد هذا ، وهذا حوار له مغزى عميق ، وهذه الآية تشير إلى أن كل إنسان يستحق جزاء عمله بالضبط لا زيادة ولا نقصان فالسابق ليس كالمقصر ولا كالمتوسط ، ولذا رأينا أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وأصحاب الأعراف كل له مكان.

من مناظر يوم القيامة

وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)

٧١٨

المفردات :

(أَفِيضُوا عَلَيْنا) أفاض الماء : صبه ، ثم استعمل في الشيء الكثير ، وقيل : أعطاه غيضا من فيض ، أى : قليلا من كثير.

روى أن أهل النار لما رأوا دخول أهل الأعراف الجنة طمعوا في الفرج عنهم ، وروى أنهم يستغيثون بأقاربهم من أهل الجنة فيقول الواحد منهم : يا أخى أغثنى فإنى قد احترقت فأفض علىّ من الماء ، فيقال : أجبه ، فيقول : إن الله حرمهما على الكافرين.

وقد طلبوا هذا الطلب مع يقينهم بأنهم لا يجابون أبدا ، للإشارة إلى الحاجة القصوى للماء والشراب ، وهكذا يفعل المضطر المحتاج.

وهؤلاء الكفار قد حرم الله عليهم نعيم الجنة ورزقها ، كما حرم عليهم دخولها ، لأنهم اتخذوا دينهم الذي ساروا عليه في الدنيا أعمالا لا تزكى نفسا ، بل تدنسها ، فهم بين عمل لهو يشغل الإنسان عن العمل النافع ، وبين عمل لعب لا يفيد فائدة صحيحة كلعب الأطفال ، وقد غرتهم الحياة الدنيا ، وشغلتهم بزخارفها عن الآخرة ، أما أهل الجنة فقد شغلوا أنفسهم بالعمل النافع المجدي الذي يزكى النفوس ويطهرها ، أولئك سعوا لها سعيا ، وكان سعيهم مشكورا.

فاليوم نعامل هؤلاء الكفار معاملة من ينساهم ، ولا يجيب دعاءهم ، والمراد يتركهم في العذاب وينساهم فيه ، وذلك لأنهم نسوا لقاءنا ولم يعملوا له ، وكانوا بآياتنا يجحدون ، ولها منكرين.

الكفار وما يلاقونه وأمانيهم

وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)

٧١٩

المفردات :

(بِكِتابٍ) : المراد القرآن. (فَصَّلْناهُ) : بيناه أتم بيان. (تَأْوِيلَهُ) : ما يئول إليه أمره ، أى : عاقبته.

المعنى :

تالله لقد جئنا أهل مكة بكتاب لا يحتاج إلى تعريف ولا بيان. هو الكامل في كل شيء ، ذلك الكتاب فصلنا آياته تفصيلا بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ).

ألم يوضح القرآن أصول الدين وأسس الأحكام؟ ألم يرسم الخطوط العريضة للأمة الإسلامية في جميع النواحي : سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية!! ألم يحث على النظر ويذم التقليد؟!

فهو بحق الكتاب الكامل الذي فصله رب العالمين على علم ومعرفة بأسرار الكون والخلق وطبائعهم ، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون ، أما غيرهم فلا ينتفعون منه بشيء.

هل ينظر هؤلاء الكفار إلى عاقبة أمره ، وما يئول إليه من صدق وعده ووعيده وظهور آياته ، روى عن ابن الربيع أنه قال : لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ. (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [سورة فصلت آية ٥٣].

أما هؤلاء الكفار الذين نسوه ولم يهتدوا بهديه ، فيقولون يوم القيامة عند ما يظهر صدقه وصدق كل ما جاء به : نعم قد جاءت رسل ربنا بالحق وصدقوا في كل ما قالوا وهم يتمنون أحد أمرين : إما شفاعة الشافعين ، وإما أن يردوا إلى الدنيا فيعملوا غير ما كانوا يعملون ، نعم يتمنون الخلاص ولات حين مناص!! وهل لهم شفعاء كما كانوا يفهمون؟ (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [سورة الشعراء الآيتان ١٠٠ و ١٠١]

٧٢٠