التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (١) فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم الحقيقي ، والتقديس والدعاء والإجلال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء آية ٤٤].

٢ ـ وبالوالدين إحسانا : أى أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا ، بإخلاص لله سبحانه ، فما بالكم بالإساءة مهما قلت؟! وأما العقوق فكبيرة من الكبائر ، والقرآن الكريم قرن الأمر بعبادة الله بالإحسان للوالدين ، (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٢). (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (٣) ولقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى العمل أفضل؟ قال : «الصلاة لوقتها». قلت : ثم أى؟ قال : «بر الوالدين» قلت : ثم أى؟ قال : «الجهاد في سبيل الله». وهذا دليل على عظم العناية بحقوقهما وعلى أن مكانتهما تستحق ذلك ، فهما قد خلقا الجسم في الظاهر ، والله سبحانه هو الخالق حقيقة وفي الواقع ... والمراد بالإحسان إليهما معاملتهما معاملة كريمة ، معاملة مبنية على العطف والمحبة ، لا الخوف والرهبة ، فبرهما سلف لك ودين ، فقد ورد في الحديث «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم». وأنت في شبابك قد لا تحتاج إلى الغير. ولكن في كبرك محتاج إلى من يعينك ، ويقوم بأمورك ، ومحبة الوالد لولده غريزة من الغرائز ، فلم يوص عليها الشرع ، ومحبة الولد لوالديه جزاء ومكافأة لهما ، ولذا نبه القرآن عليهما وشدد ، على أن عقوق الوالدين يفسد الأبناء وتكوينهم وينشئهم على الغلظة وعدم الشفقة ، وعلى الوالدين حسن الرعاية والعناية والعطف عليهم ، وعدم التحكم في المسائل الشخصية الخاصة إلا بقدر محدود.

٣ ـ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم : أليس وأد البنات ، وقتل الذكور سبة وعارا؟ أليس دليلا على الجاهلية والقسوة بل ومنتهى الغلظة؟ التي تخالف غرائز الإنسان وطبائعه؟ ولم تقتلون؟ ألفقر حاصل؟ أم لفقر متوقع؟ أم لعار سيلحق؟ فالله يرزقكم وإياهم ، فلا تخافوا الفقر الحاصل ؛ والله يرزقهم وإياكم ، فلا تخشوا الفقر المتوقع ، وأما العار خوف الفضيحة ، فيرجع إلى البيئة وحسن التنشئة.

٤ ـ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن : نعم لا تأتوا الفواحش وما عظم جرمه وإثمه ، بل ولا تأخذوا بأسبابه ، ولا تقربوا من مقدماته ، ومن هنا كان النظر إلى

__________________

(١) سورة مريم آية ٩٣.

(٢) سورة الإسراء آية ٢٣.

(٣) سورة لقمان آية ١٤.

٦٨١

الأجنبية والاختلاط بها حراما ، لأنه مقدمة للزنا والباب إليه ، ونحن منهيون عن القرب من الفواحش ـ كالزنا وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ـ سواء ما ظهر منها ، وما بطن ، وكانوا في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنا سرا ، أما في العلانية فكانوا يعدونه قبيحا ، فحرم الله النوعين ، وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحد أغير من الله ، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن».

٥ ـ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ، فالقتل جريمة كبرى ، واعتداء شنيع على صنع الخالق الذي أتقن كل شيء خلقه ، ومن هنا كان من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله ـ سبحانه وتعالى ـ وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» ، وفي الحديث : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاثة أمور : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق» فكل نفس مسلمة قتلها حرام إلا إن ارتكبت إحدى ثلاث ، الزنا مع الإحصان ، والقتل عمدا ، والردة عن الإسلام ، وأما الكافر والمعاهد المقيم بيننا فله حرمة ، فلا يقتل ما دام لم تكن منه إساءة للدين من قرب أو بعد ، أو إساءة للوطن كذلك ، ذلكم وصاكم به الله ، وأرشدكم ، لتعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، إذ هو مما تدركه العقول ، وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه لا يعقل له معنى ، ولا تظهر له فائدة عند ذوى العقول الراجحة.

٦ ـ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ولا تأكلوا من ماله إذا تعاملتم معه إلا على الصورة التي هي أحسن في حفظ ماله وتثميره ، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ، وما به يصلح معاشه ، والنهى عن القرب عن الشيء أبلغ من النهى عن الشيء نفسه ، لا تقربوه حتى يبلغ أشده. أى : حتى يبلغ مبلغ الرجال. ويصير ذا حنكة وتجربة تمكنه من إدارة ماله. على وجه حسن. ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة. (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [سورة النساء آية ٦].

٧ ، ٨ ـ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، نعم أوفوا الكيل إذا كلتم ، أى : إذا بعتم أو اشتريتم ، وكذلك زنوا بالقسطاس المستقيم في البيع والشراء ، فالتطفيف في الكيل والزيادة في الوزن والنقص فيهما كل ذلك من الكبائر ، لما يترتب عليه من هضم

٦٨٢

للحقوق وضياع للأموال ، واعتداء على الغير بوجه غير مشروع : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). لا نكلف نفسا إلا وسعها وجهدها وطاقتها ، فهذه الوصايا كلها في مقدور المؤمن العادي ، وأما خصوص الكيل والميزان ، فالمأمور به ما يدخل تحت وسعه وإمكانه ، وما عداه فمعفو عنه.

٩ ـ وإذا قلتم فاعدلوا ، ولو كان ذا قربى ، أى : فاعدلوا في القول ولا تتجاوزوا فيه الحد المقبول شرعا ، ولو كان الذي تقولون فيه من ذوى القربى. إذ بالعدل تبنى أسس الدولة ، وتصلح شئون الأمم والأفراد. فهو ركن العمران ، وأساس النجاح : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [سورة المائدة آية ٨].

١٠ ـ وبعهد الله أوفوا : أى وأوفوا بعهد الله إذا تعاهدتم ، سواء أكان عهدا بين الله والناس على ألسنة الرسل في الكتب المنزلة ، أو بين الناس وبعضهم : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا). (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) ذلكم وصاكم الله بهذا لعلكم تذكرون وتتعظون ، أى : رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به.

وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، نعم هذا هو القرآن الذي أدعوكم إليه. صراط الله المستقيم ، الذي لا عوج فيه ، بل فيه سعادة الدنيا والآخرة وهو حبل الله المتين ، من تمسك به نجا ، ومن اعتصم به هدى ، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) ولا تتبعوا السبل فتضلوا عن طريق الحق والخير : «ولقد خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطا بيده ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما ، ثم خط خطوطا أخرى عن يمين ذلك الخط وعن شماله ، ثم قال : وهذه السبل ، ليس فيها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

نعم الحق واحد ، والنور واحد ، والإله واحد ، والباطل متعدد الألوان والأشكال ، والظلمات كثيرة الأنواع : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ). (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ولا تتبعوا

٦٨٣

الطرق المختلفة في الدين أو غيره فتفرقكم أيدى سبأ ، وتصبحوا نهبا للخلافات والأحزاب ، التي تمزقكم شر ممزق : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تتقون الله وتخشونه في كل أوامره وفعلها ، ونبذ النواهي وتركها ، ولقد كرر التوجيه على سبيل التوكيد ، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع لنواحى الدين في تكاليفه ، ختم ذلك بالتقوى التي هي السبيل الأقوى ، واتخاذ الوقاية من النار ، إذ من اتبع صراطه المستقيم نجا النجاة الأبدية ؛ وحصل على السعادة السرمدية.

روى عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء الآيات : (قُلْ تَعالَوْا ..) إلى قوله تعالى : (تَتَّقُونَ) وروى عن الربيع بن خيثم : «أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخاتمه؟ قلت : نعم. فقرأ هذه الآيات من آخر سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ..) إلى قوله : (تَتَّقُونَ).

القرآن مع من يؤمن به ويكفر

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)

٦٨٤

المفردات :

(طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) : هم اليهود والنصارى. (دِراسَتِهِمْ) : قراءتهم وعملهم. (بَيِّنَةٌ) البينة والبيان : ما به يظهر الحق. (وَصَدَفَ عَنْها) : ومنع الناس عنها.

المعنى :

لقد تكلم القرآن الكريم على أسس الدين وأصوله ، ووصاياه ، ثم قفّى ذلك بالحديث عن القرآن وأثره ، ورد بعض شبه المعاندين ، وافتتح ذلك بالكلام على التوراة ، فهي أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور ، لاشتمالها على الأحكام كثيرا. (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) وهو : كذا وكذا ، إلى آخر الوصايا العشر السابقة ، ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب من قبل تماما للنعمة والكرامة والخير والهداية على المؤمن المحسن.

نعم كان تماما على من أحسن ، ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ : (تماما على الذين أحسنوا) ، أى : في اتباعه والنظر فيه ، والاهتداء بهديه (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء ، من أحكام الشريعة : عبادتها ومعاملتها ، وهدى لمن اهتدى به ، ورحمة لمن تمسك به ، ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله ، والفوز في دار الكرامة ودار السلام.

أرأيت إلى القرآن وهو يصف التوراة بهذا؟

وهذا القرآن الذي تليت عليكم آياته البينات بأسلوبه العربي المعجز ، هو الكتاب لا ريب فيه وأنزلناه كثير البركات عظيم الشأن ، كثير الخير ، في الدين والدنيا ، قد جاء بأكثر مما جاءت به التوراة ، فاتبعوا ما هداكم إليه واجتنبوا ما نهاكم عنه ، فهو حبل الله المتين ، ونوره اليقين ، جمع طريق الفلاح في الدنيا والآخرة ، فاعملوا به لعلكم ترحمون في حياتكم ومماتكم.

أنزلنا إليكم هذا الكتاب المرشد إلى توحيد الله ، والهادي إلى سبيله ، والموصل إلى تزكية النفوس وتطهيرها من أدران الشرك والفسوق والعصيان ، لئلا تقولوا أيها العرب

٦٨٥

يوم الحساب : إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى من قبلنا ، وإن كنا عن دراستهم وقراءة كتبهم وتفهمها لغافلين ، لا ندري ما هي؟ لأنها بلسان غير عربي. ولأنا مشغولون. بغيرها ولم ندع إليها.

ولئلا تقولوا كذلك : لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى سواء السبيل لكنا أهدى منهم ، وأحسن حالا لصفاء نفوسنا ، وقوة عزائمنا ، وذكاء عقولنا وإرهاف إحساسنا (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) فرد الله عليهم بقوله تبكيتا لهم وتأنيبا : إن صدقتم فيما تقولون ، فقد جاءكم كتاب بيّن الحق واضح الحجج ، قوى البرهان ، تام الأصول والفروع والأحكام ، فهو البينة الفاصلة ، والحجة الكاملة ، وهو هاد لمن تدبره واتعظ به ، ورحمة عامة للناس ، لما فيه من الدعوة إلى المثل العليا زيادة عن الدعوة إلى الدين الحق ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله؟. نعم لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله! التي على هذا الوصف ومنع الناس عنها ، وعن النظر فيها والإيمان بها (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) سنجزى الذين يمنعون الناس عن الإيمان بآياتنا العذاب السيئ الشديد ، إذ هم يحملون أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ).

تهديد وإنذار

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)

المفردات :

(يَنْظُرُونَ) : ينتظرون.

٦٨٦

المعنى :

بعد ما وصف الله القرآن وأثره ، وأنذر من يكذبه بصارم العقاب ، أتبع هذا بحقيقة المشركين وما ينتظرون ، هل ينتظر هؤلاء إلا أن تأتيهم الملائكة كما اقترحوا؟ أو يأتى ربك كما طلبوا وقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) ، أو تأتيهم بعض آيات ربك التي اقترحوها بكفرهم كقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) .. ونحو ذلك ، فهم في الحقيقة لا ينتظرون إلا مجيء الملائكة ، أو مجيء ربك ، أو مجيء بعض آيات ربك ، فهم متمادون في التكذيب ، ولا أمل فيهم أبدا ، ولا خير فيهم أصلا ، وقيل : هم لا ينتظرون إلا ملائكة الموت أو أمر الله ، أى : وعده ووعيده. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة النحل آية ٢٣]

يوم يأتى بعض آيات ربك : الآيات الدالة على قرب قيام الساعة ، أو بعض الآيات الموجبة للإيمان الاضطراري ، لا ينفع هذا الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ، فإن الإيمان تكليف وعمل واختيار ، وليس في هذا الوقت واحد منها ، ولا ينفع هذا الإيمان نفسا آمنت من قبل ، ولم تعمل عملا صالحا. إذ ليس الإيمان وحده كافيا في سقوط العذاب عن الشخص ، بل لا بد من إيمان وعمل ، ولذلك كان القرآن دائما يقرن الإيمان بالعمل : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

وقد ورد في الحديث أن بعض الآيات هي طلوع الشمس من المغرب ، واضطراب هذا الكون ... أخرج أحمد ، والترمذي عن أبى هريرة : «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض».

قل لهم يا محمد : انتظروا ما تتوقعون من إماتة الدعوة ، وقتل الرسول ، وهلاك الدين ، إنا منتظرون أمر ربنا ووعده الصادق لنا ، ووعيده المتحقق لأعدائنا (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ). (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ).

٦٨٧

وهذا تهديد ووعيد شديد ، إذ هم ينتظرون أمرا قد قضى الله فيه ، إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

عاقبة الاختلاف والجزاء على العمل

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)

روى أبو داود والترمذي عن معاوية قال ما معناه : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة (ملة) وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار ، وفرقة واحدة في الجنة ، وهي الجماعة».

وعلى هذا تكون الآية الكريمة شاملة لأهل الكتاب ، ولغيرهم من فرق المسلمين ، وهي مسوقة للتحذير من الاختلاف واتباع الآراء والبدع والمتشابهات ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على شرع أنبيائهم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) [سورة آل عمران آية ١٠٥] وقد ورد : اللهم إيمانا كإيمان العوام ، إيمان بعيد عن الشبه والخلافات الضارة.

إن الذين فرقوا دينهم واختلفوا فيه ، وأقروا ببعض وكفروا ببعض ، وأوّلوا نصوصه على حسب أهوائهم ونزعاتهم ، وكانوا شيعا كل شيعة تدين برأى إمامهم ، وتتعصب له ، لست أنت يا رسول الله من قتالهم وسؤالهم وعقابهم في شيء ، وإنما عليك تبليغ الرسالة ، وإظهار شعائر الدين الحق الذي أمرت بالدعوة إليه ، أنت يا محمد برىء منهم وهم منك براء ، إنما أمرهم وحسابهم على الله وحده ، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم أحسن الجزاء بما كانوا يفعلون.

٦٨٨

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه قال : «إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات فمن همّ بحسنة ولم يفعلها كتبت له عند الله حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».

من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة ، والفعلة الطيبة ، جازاه الله عليها عشر حسنات والمضاعفة بعد ذلك إلى سبعمائة أو ما شاء بعد ذلك من زيادة فالله أعلم بها ، تختلف على حسب مشيئته تعالى وعلمه بأحوال المحسنين ، إذ من يبذل درهما ونفسه غير راضية لا يكون كمن ينفقه طيبة به نفسه ، مسرورة بعملها.

ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط ، وهم لا يظلمون ، أى : لا ينقصون من أعمالهم شيئا : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٤٧].

التوحيد والإخلاص في العقيدة

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)

٦٨٩

المفردات :

(دِيناً قِيَماً) : يقوم به أمر الناس ونظامهم في الدنيا والآخرة ، أو قائما مستقيما لا عوج فيه. (حَنِيفاً) : مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة ، والمراد : مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام. (وَنُسُكِي) : عبادتي من حج وغيره. (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) المراد : ما آتيه في حياتي وموتى. (وازِرَةٌ) الوزر : الحمل الثقيل ، والمراد النفس الآثمة المذنبة.

المعنى :

هذا ختام سورة جامعة لأصول التوحيد ، شارحة للعقيدة الإسلامية وبخاصة أحوال البعث والجزاء ، وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك ، ولهذا كان ختامها خلاصة لما تقدم.

قل يا محمد : إننى هداني ربي ، ووفقني إلى صراط مستقيم لا عوج فيه ، هو الدين القيم الموصل إلى سعادة الدارين ، الذي يقوم به أمر الناس في معاشهم ومعادهم ، وبه يصلحون ، هذا الدين هو ملة أبيكم إبراهيم الخليل ، فالتزموه حال كونه حنيفا مائلا عن جميع وسائل الشرك والباطل إلى الدين الحق الذي من دعائه في كل صلاة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، وما كان إبراهيم من المشركين أبدا ، فأما من يتخذ الأصنام آلهة ويعتقد أن الملائكة بنات الله ، أو عزير أو المسيح ابن الله ، فهؤلاء هم المشركون ، وليسوا على ملة إبراهيم : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١) هذا الدين هو دين الإخلاص والعمل لله ، هو الذي ارتضاه لأنبيائه ورسله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢). (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) هذا هو التوحيد الخالص في العقيدة.

قل لهم يا محمد : إن صلاتي ودعائي ، ونسكي وعبادتي وما آتيه في حياتي كلها! بل وحياتي وموتى ، كل ذلك خالص لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال أمر الله.

__________________

(١) سورة النساء آية ١٢٥.

(٢) سورة آل عمران آية ١٩.

(٣) سورة آل عمران آية ٨٥.

٦٩٠

والآية الشريفة جامعة لكل أعمال المسلم ، فيجب عليه أن يوطد العزم ، ويعقد النية على صلاته وعبادته ، وحياته وما يأتيه فيها ، وموته وما يلاقي فيه ، كل ذلك لله لا لشيء آخر ، فإن عاش فلله ، له الحكم ، وله الأمر.

ولست أبالى حين أقتل مسلما

على أى جنب كان في الله مصرعي

فالمسلم لا يحرص على الحياة ، ولا يرهب الموت ، بل يكون الموت في سبيل الله أسمى أمانيه ، لا يقعد عن الجهاد ، ولا يتوانى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهكذا كان جند الرحمن ، الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قل لهم يا محمد : أغير الله أبغى رباّ؟ وأشركه في العبادة وأتوجه إليه في الدعاء ، والله سبحانه رب كل شيء ، وخالق كل شيء. فالقرآن صريح جدّا في أن كل قربى أو عبادة أو دعاء لا يكون إلا لله وحده ، وهذا هو الدين الخالص.

ولا تكسب كل نفس إثما أو ذنبا إلا كان عليها جزاؤه ووزره ، ولا تزر نفس وزر غيرها أبدا ، بل كل نفس بما كسبت رهينة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، فهذا هو الدين. دين العمل والجد لا دين الأمانى والغرور الكاذب.

وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح للمجتمع البشرى ، ومن أعلى مزايا الدين الإسلامى ، ومن أقوى معاول الهدم للوثنية في أى صورة من صورها.

ثم إلى ربكم مرجعكم لا إلى غيره ، ثم هو وحده ينبئكم ويجازيكم على أعمالكم التي كنتم فيها تختلفون.

سنة الله في الخلق

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

٦٩١

المعنى :

هذا هو الدواء ليس غير ، وهذا هو العلاج فحسب ، به تهدأ النفوس وتطمئن القلوب.

فنحن خلائف من تقدمنا ، فليس لنا بقاء ، وكما وصلت إليها ستخرج منها ، ونحن خلائف فلا ملك لنا ولا تصريف في الواقع : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (١) إذا كان هذا فلم هذا التناحر ، والتهالك ، والتباغض ، والتكالب؟ ولما ذا تبخلون بما جعلكم مستخلفين فيه؟

والله ـ سبحانه ـ رفع بعضكم فوق بعض درجات في العلم ، والعمل ، والغنى والفقر ، ليبلوكم جميعا ، كل بما عنده ، فيختبر الغنى. هل يؤدى زكاة ماله؟ هل يتصدق بالفضل من ماله؟ هل يعطف على الفقير والمحتاج والمسكين أم هو نهم جشع ، صلد ، صلب كالحجر؟ نعم ويبلو الفقير هل يصبر ويرضى أم يشكو ويكفر؟

وإذا كان الله ـ سبحانه ـ قد رفع بعضنا فوق بعض ، فما علينا إلا العمل والجد والصبر والرضا بقضاء الله وقدره ، واعتقاد أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٢).

وعلى الجملة فهذا علاج نفسي لسل السخائم والتحاسد ، والعلاج الاقتصادى معروف تشير إليه الآية أيضا وهو الاشتراكية الإسلامية الممثلة في الزكاة المطلقة والمقيدة والنظم المالية المعروفة في الفقه الإسلامى فقط والذي يوحى به مجتمعنا الإسلامى العربي.

إن ربك سريع العقاب ، شديد العذاب ، لا يهمل وإن أمهل ، يمكّن للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. يخلق في الضعيف المسكين قوة يحار لها الملك الجبار ، فاعتبروا بما مر بنا في هذه الأيام : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣). وإنه لغفور لكل تائب رحيم بكل محسن.

__________________

(١) سورة الحديد آية ٧.

(٢) سورة الحديد آية ٢٤.

(٣) سورة الشورى آية ٣٠.

٦٩٢

سورة الأعراف

عدد آياتها خمس ومائتان ، وهي مكية ، قال القرطبي : كلها مكية إلا ثمان آيات وهو قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ).

نزلت بعد سورة (ص) وهي كالأنعام بينت أصول العقائد وأسس الدين ، وفيها قصص الرسل. وأحوال قومهم بالتفصيل ، مع بعض الآيات والحكم القرآنية.

القرآن وعاقبة المكذبين في الدنيا والآخرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)

٦٩٣

المفردات :

(المص) : هذه حروف تكتب كأنها كلمة ، وعند القراءة تقرأ هكذا : ألف. لام. ميم. صاد ، وهي كغيرها مما افتتح به ، كسورة البقرة وآل عمران. (حَرَجٌ) : ضيق وألم. (وَذِكْرى) : تذكر نافع وموعظة حسنة. كم : كلمة وضعت للتكثير. (قَرْيَةٍ) : هي مكان اجتماع الناس ، وقيل تطلق على الناس أنفسهم. (بَياتاً) : ليلا ، والمراد الإغارة على العدو ليلا ، والإيقاع به على غرة. (بَأْسُنا) : عذابنا وهلاكنا. (قائِلُونَ) : من القيلولة ، وهي : استراحة وسط النهار ، والمراد : نائمون في الظهيرة. (دَعْواهُمْ) : دعاؤهم وقولهم. (فَلَنَقُصَّنَ) القص : تتبع الأثر بالعمل أو القول.

المعنى :

هكذا يبدأ الله ـ سبحانه وتعالى ـ السور التي فيها إثبات الوحدانية والبعث ، والنبوة والوحى ، بهذا البدء العجيب لمعنى ، الله أعلم به ، وهو سر بين الله ورسوله أشبه شيء بالشفرة في العصر الحديث.

هذا كتاب عظيم الشأن ، جليل الخطر ، أنزل إليك يا محمد من عند ربك ، فيه ما فيه من الخير والهداية ، لتبشر به وتنذر ، ولكن ستلقى إيذاء وشدة ، ومقاومة وطعنا ، وإعراضا وصدّا ، وتلك أمور يضيق لها الصدر ، وتحتاج إلى أعلى نوع في الصبر ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكن في صدرك حرج من الإنذار به ومن تبليغه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) وعليك بالصبر والمثابرة : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) والمراد بهذا النهى الاجتهاد : في مقاومة الشدائد ، والتسلي عنها بوعد الله ، والتأسى بالرسل أولى العزم السابقين.

كتاب أنزل إليك لتنذر به الناس أجمعين ، وتذكر به القوم الذين قدر لهم أن يكونوا مؤمنين ، تذكرهم ذكرى نافعة مؤثرة.

قل لهم يا أيها الرسول : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم ، ومتولى شئونكم بالعناية والرعاية ، فإنه لا ينزل عليكم إلا الخير والسداد ، والهدى والرشاد ، ولا تتبعوا

٦٩٤

من دون الله أولياء من أنفسكم وشياطينكم ، الذين يوسوسون لكم بكل ضرر وخطر وضلال في العقيدة ، وبدع في الدين ، ويوهمونكم أن الأصنام شفعاء لله وشركاء ، وما هي إلا أحجار لا تضر ولا تنفع ، إنكم قليلا ما تتذكرون الواجب عليكم نحو الله سبحانه وتعالى.

كثير من القرى التي أرسلنا إليها رسلنا مبشرين ومنذرين ، فعصوا رسلهم وخالفوا أمرهم ، أردنا إهلاكهم ، فجاءهم بأسنا وهلاكنا وهم في الليل آمنون ، أو هم قائلون في القيلولة ، أتاهم العذاب على غرة منهم ، وهم آمنون مكر الله ، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

فما كان دعاؤهم وقولهم حين جاءهم البأس والهلاك ، إلا إقرارهم بالذنب وقولهم : إنا كنا ظالمين ، ولكن هل ينفع الندم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [سورة غافر آية ٥٢].

وفي هذه الآية عبرة وعظة لمن يعتبر.

عقاب الأفراد المذنبين قد يؤجله الله إلى أجل مسمى عنده ، بمعنى أنه يمهل ولا يهمل حتى يكون انتقامه مرة واحدة ، هذا إذا تمادى الشخص وأمعن في السوء والعصيان ، وبالغ في الفسوق والخروج عن حدود الدين ، والشخص قلما يعتبر بالحوادث وبما يصيبه من مصائب فيرعوى عن غيه ويدرك حقيقة نفسه ، ويتوب إلى ربه.

وأما الأمم التي تفسد فعقابها سريع ، وجزاؤها قريب ورادع ، ولنا في عرش الملك السابق عبرة وعظة!! ولنا في العروش التي تلت والأمم التي أبيدت وأذلت أكبر شاهد ودليل.

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد ١١]. (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء ١٦].

فاعتبروا يا أولى الأبصار ، فإنما يتذكر أولوا الألباب!!

إن ليوم القيامة مواقف تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، منها أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يسأل الذين أرسل إليهم الرسل ويقول لهم : (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص ٦٥]؟. (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

٦٩٥

يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)؟. [سورة الأنعام آية ١٣٠] (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الحجر الآيتان ٩٢ و ٩٣].

ومنها موقف لا يسأل فيه أحد عن ذنبه : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [سورة الرحمن آية ٣٩].

والله ـ سبحانه وتعالى ـ كما يسأل الناس يسأل الأنبياء والمرسلين : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) يسألهم عن تبليغهم الدعوة وعن إجابة أقوامهم لهم.

فلنقصن عليهم جميعا كل ما وقع وحصل للرسل منهم ، وما حصل من الناس لهم ، فلنقصن عليهم بعلم وإحاطة ، إذ لا يعزب عنه مثقال ذرة ، وإن تكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) وما كان الحق ـ جل شأنه ـ غائبا في وقت من الأوقات ، وفي هذا إشارة إلى أن السؤال لم يكن عن جهل أو خفاء ، بل عن علم وبينة وحضور ، ولكنه للتوبيخ والتأنيب.

والوزن الحق والقسطاس العدل يومئذ ، يوم تعرف الحقائق وتكشف الستائر ويحصّل ما في الصدور ، وتبرز الأعمال كالغرض للسهام ، فمن ثقلت موازينه وكثرت حسناته عن سيئاته فأولئك هم أصحاب الجنة وأولئك هم المفلحون.

ومن خفت موازينه وكثرت سيئاته عن حسناته فأولئك هم أصحاب النار ، الذين خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى وأحبوا العمى والكفر ، عن الرشاد والخير.

والخلاصة : أن المؤمن وإن عصى يدخل الجنة بعد ما يأخذ عذابه على سيئاته ، والكافر الذي كذب بالآيات والرسل مهما فعل مأواه جهنم وبئس القرار.

وهل هناك ميزان حقيقة؟ ورد بذلك آثار كثيرة ، أو هذا كناية عن تمام العلم والعدل والإحاطة والقدرة.

والأولى عند الإخبار بالمغيبات أن نؤمن بها كما جاء الكتاب أو الحديث الصحيح ، ثم نكل أمرها وشكلها إلى الله ، والله أعلم بذلك كله ، على أن العلم الحديث جعل موازين لكل شيء في الكون ، أفيكون كثيرا أن يضع الله ميزانا للأعمال والنوايا؟ وهو القادر على كل شيء.

٦٩٦

نعم الله على بنى آدم ، وتكريمه

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)

المفردات :

(مَكَّنَّاكُمْ) : من التمكين ، أى : التمليك ، وقيل : جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها ، وتتمكنون من الإقامة بها. (مَعايِشَ) : جمع معيشة ، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب. (خَلَقْناكُمْ) : أوجدنا أباكم بتقدير موافق للحكمة. (فَاهْبِطْ) الهبوط : الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ، وهو إما حسّىّ أو معنوي. (أَنْ تَتَكَبَّرَ) : أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه.

٦٩٧

(الصَّاغِرِينَ) الصغار : الذلة والهوان. (أَنْظِرْنِي) : أمهلنى. (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) : فبما أوقعتنى في الغواية وهي ضد الرشاد. (مَذْؤُماً) : معيبا أو مطرودا ، من : ذأم الشيء : عابه. (مَدْحُوراً) : مطرودا مبعدا.

بعد أن أبان الله حقيقة الدين وكتابه ، وأنه واجب الاتباع دون غيره من الأولياء والشركاء والأهواء ، مع ذكر عقاب الدنيا والآخرة.

أردف ذلك بذكر نعم الله على بنى آدم الموجبة للشكر ترغيبا في الامتثال ، وبيانا لمكانة الإنسان.

ذكرهم ربهم بنعمه العظيمة على آدم وذريته وهذه نعم أخرى تبين مكانتهم بالنسبة لغيرهم ، وخاصة الملائكة ، وهي موجبة لعبادة الله وشكره.

المعنى :

يقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لقد مكن لكم في الأرض ، وخلق لكم ما فيها جميعا ، إذ جعل أمكنة تقرون عليها وتستقرون بها في الدنيا ، وجعل فيها المعايش التي تقوم عليها حياتكم من نبات وزرع ، وفاكهة وثمر ، وماء وسمك وجواهر ، وحيوان ، بل كل ما في الأرض وما عليها مذلل لكم ، وهذه المخترعات التي مكنت لكم في الأرض حتى تغلبتم على كل ما فيها ، فلم يعد هناك حاجز من بحار وجبال وصحارى وسهول ، بل طار الإنسان حتى كاد يصل إلى القمر والكواكب.

كل ذلك يقتضى الشكر ، ولكن الشكر من العباد قليل (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) ولذا اختتمت الآية بهذا المعنى.

وشكر النعم يكون بمعرفة الله معرفة تامة ، وحمده ، والثناء عليه بما هو أهله ، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت له ، بهذا يتحقق الخير ، وتتحقق السعادة في الدارين.

ولقد خلقنا أباكم آدم من الصلصال والحمأ المسنون ، أى : من الماء والطين اللازب ، ثم جعلنا من تلك المادة بشرا مستويا على أتم صورة ، وللعلماء آراء في تخريج الآية ؛ والأحسن كما قال القرطبي : إن آدم خلق من طين ، ثم صور وأكرم بالسجود ، وذريته صوروا في الأرحام بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء.

٦٩٨

ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال وتكريم لآدم وذريته حتى يعرفوا نعم الله عليهم ، فيقابلوها بالشكران وليقفوا على ما فعله إبليس قديما ليكونوا على حذر منه.

فسجدوا جميعا إلا إبليس اللعين أبى واستكبر ، ولم يكن من الساجدين ، وكان إبليس من الجن ففسق عن أمر ربه ، وعلى ذلك قيل : إنه ليس من جنس الملائكة ، وخوطب معهم لأنه مخالطهم ، وقيل : هو من الملائكة ، كما هو ظاهر الآيات.

(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)؟ وفي سورة (ص) آية ٧٥ (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) فدل هذا على أن (لا) في هذه الآية صلة (زائدة) للتأكيد ، وقيل : المعنى ما حملك ودعاك إلى عدم السجود؟.

قال إبليس معتذرا متعللا : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين ، والنار عند إبليس خير من الطين لعلوها وخفتها وصعودها ونورها.

والذي هو خير لا يسجد لمن هو أقل منه وإن خالف أمر ربه : هذا قياس إبليس ، وهو أول قياس ، لكنه باطل ، إذ كيف يستدل على الخيرية بمواد الأشياء؟! الخيرية إنما تكون بالمعاني والخصائص لا بالجنس والمادة : إذ أصل المسك دم الغزال وأصل العسل براز النحل ، وأصل الماس كربون ، وكيف يجهل إبليس ما حبا الله آدم به من العلوم والمعارف وتكريم الله له؟!

ويرى بعض العلماء أن هذه القصة تبين غرائز البشر ، وطبائع الملائكة ، وموقف الجن منا ، ولم يكن سؤال هناك ولا جواب ، ولكن هذا يخالف ظاهر الكتاب ، على أن ذلك أمر غيبي يجب الإيمان به ، وندع معرفة الحقيقة لله وحده ، ولا نشغل أنفسنا بأمور لا تدخل تحت طاقتنا ، وليس فيها جدوى.

قال تعالى : إذا كان الأمر كذلك فاهبط يا إبليس من الجنة ، فهي مكان المخلصين المتواضعين ، فما يكون لك ، ولا ينبغي منك أن تتكبر فيها ، إذ هي المعدة للكرامة والتعظيم لا للتكبر والعصيان.

فاخرج إنك من الصاغرين الذليلين المهانين ، وجاء في بعض الآثار : «إن الله تعالى

٦٩٩

يحشر المتكبرين في أحقر الصور إذ يطؤهم الناس بأرجلهم ، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو وفي أنفسهم».

قال إبليس : يا رب أمهلنى وذريتي إلى يوم يبعث آدم وذريته ، فأشهد حياتهم وانقراضهم وبعثهم لأجد الفسحة الطويلة لإغوائهم ، فأجابه الله إلى طلبه حيث قال : إنك من المنظرين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق.

قال إبليس : فبسبب إغوائك إياى من أجل آدم وذريته أقسم لأقعدن لهم على صراطك المستقيم ، فأصدّنّهم عنه وأقطعنّه عليهم ، بأن أزين لهم طرقا أخرى كلها ضلال واعوجاج ، ثم لأغوينهم ولآتينهم من الجهات الأربع مترصدا لهم كما يقعد قطاع الطريق للسابلة.

ولا تجد أكثرهم شاكرين (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ... [سورة سبأ آية ٢٠] قال : اخرج من الجنة مذموما مهينا مطرودا مبعدا.

أقسم لمن يتبعك منهم ليكونن معك في جهنم : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة ص آية ٨٥].

قصة سكنى آدم الجنة وخروجه منها

وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما

٧٠٠