التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

سنة الله في الخلق ودينه الحق

فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)

المفردات :

(يَشْرَحْ صَدْرَهُ) يقال : شرح الله صدره فانشرح ، أى : وسّعه لقبول الإيمان والخير ، وقيل : الشرح : الفتح والبيان ، وقيل : هو نور يقذفه الله ـ تعالى ـ في القلب. (ضَيِّقاً) الضيق : ضد الواسع. (حَرَجاً) : هو أضيق الضيق. (الرِّجْسَ) : العذاب ، وقيل : الشيطان. (دارُ السَّلامِ) : دار السلامة وهي الجنة.

المعنى :

ما تقدم كان جزاء للمشركين وعنادهم وغرورهم. وأما أنت يا رسول الله

٦٦١

فلا يهمنك أمرهم ولا تحزن عليهم ، فالأمر كله لله. فمن يرد الله أن يهديه للحق ويوفقه للخير يشرح صدره للقرآن ، ويوسع قلبه للإيمان ، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه ويتسع صدره للقرآن ، وقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شرح الصدر فقال ـ : «هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».

وهذا يكون عند من حسنت فطرته وطهرت نفسه وكان فيها استعداد للخير وميل إلى اتباع الحق.

ومن فسدت فطرته ، وساءت نفسه ، إذا طلب إليه أن ينظر إلى الدين ويدخل فيه لما استحوذ وامتلأ قلبه من باطل التقاليد والاستكبار ، والعناد والحسد والغرور ، إذا طلب إليه أن ينظر في الدين ويدخل فيه ، يجد في صدره ضيقا ـ وأى ضيق؟ ـ (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) وهذا الصنف تكون إجابة الداعي عنده ثقيلة على نفسه جدّا ، فيشعر بضيق شديد ، وحرج كثير ، كأنه كلف من الأعمال ما لا يطيق ، أو أمر بصعود السماء ، وأصبح حالهم كحال الصاعد في طبقات الجو ، والمرتفع في السماء كلما ارتفع وخف الضغط عنه شعر بضيق في النفس وحرج في القلب.

سبحانك ربي هذه نظرية علمية لم يقف عليها الناس إلا قريبا. وقد أخبر بها القرآن من أربعة عشر قرنا.

وهذا الإسلام الذي شرح الله صدر بعض عباده له ، هو صراط ربك المستقيم ، صراط الله العزيز الحميد الذي يعلم خلقه وما هم عليه ، فهو العلاج الوحيد ، والدواء المفيد الناجع لكل داء ، فعليكم به أيها المسلمون إن أردتم النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.

قد فصلنا الآيات ، وبيناها على أتم وجه ، لقوم يتذكرون ويتعظون ، لهؤلاء السالكين طرق الهداية ، المنتفعين بنور القرآن وآياته ، لهؤلاء دار السلامة والسلام ، والأمان والنعيم وهي دار الجنة ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ وليهم ومتولى أمرهم ، وهو حسبهم من كل ما يعنيهم وذلك بسبب ما كانوا يعملون من صالح الأعمال في الدنيا.

٦٦٢

واذكر يوم يحشر ربك المخلوقات جميعا إنسهم وجنهم ، ويقول لهم : يا معشر الجن قد أكثرتم من إغوائكم للإنس حتى حشروا معكم ، وقال أولياؤهم وأتباعهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، فاستمتع الإنس بالجن حيث دلوهم على المعاصي وإرضاء الشهوات النفسية ، واستمتع الجن بالإنس حيث كانوا قادة لهم ورؤساء فامتثلوا أمرهم ، وسرّ الجن بذلك ، وقالوا متحسرين : قد بلغنا أجلنا الذي أجلته لنا وحددته لنا ، وهو يوم القيامة. قال الله لهم عند ذلك : النار مأواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ، إن ربك حكيم عليم.

من سنن الله في الكون مع ذكر بعض مواقف الآخرة

وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)

المفردات :

(نُوَلِّي) : من الولاية والإمارة ، أو : نجعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض. (يَقُصُّونَ) : يتلونها مع التوضيح والتبيين ، وفي المصباح : قصصت الخبر قصّا من باب رد : حدثته على وجهه. (دَرَجاتٌ) : مراتب من أعمالهم وجزائها.

٦٦٣

المعنى :

ومثل الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لأنهم متشابهون ومتحدون في الاتجاه والعمل ، نولي بعض الظالمين بعضا بسبب ما كانوا يكسبون من أعمال الظلم المشتركة بينهم.

نولي بعضهم بعضا ، ونجعلهم أنصارا وأولياء لبعض وأصدقاء. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض ، والكافرون بعضهم أولياء بعض ، وكل يقع على شاكلته ، إذ الأرواح جنود مجندة.

وأما ولاية المشركين لبعض فبمقتضى السنن الكونية ، إذ ولايتهم لبعض مترتبة على اتفاقهم في الخلق والعقيدة والمنفعة والتحزب ، مع أن الله لم يأمرهم بشيء من ذلك.

وفي المأثور قيل : سمعتهم يقولون : إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم ، وكما تكونون يولى عليكم. وعن ابن عباس «إذا رضى الله على قوم ولى أمرهم خيارهم ، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم» فيكون الحاكم وبطانته مثلا في السوء يقلدهم غيرهم فيعم الفساد البلد ، والمعنى : إنا نكل بعض الظالمين إلى بعض ، ونسلطهم على أنفسهم ، وهذا تهديد عام شامل لكل ظالم في الحكم أو غيره ، وقال فضيل بن عياض : «إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجبا».

يا معشر الجن والإنس اقرّوا واعترفوا بإرسال الرسل لكم ، وقد قاموا بمهمة الرسالة خير قيام ، يقصون عليكم الآيات ، ويوضحون الحجج والبينات ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ، ويبشرون من آمن بالله وعمل صالحا بالثواب العظيم ، وينذرون من خالف وعصى بهذا اليوم الشديد وقعه ، البالغ أثره ، وهذه الرسل منكم ، أى : من جنسكم في الخلق والتكليف والمخاطبة ، أى : من مجموعكم.

وهنا بحث : هل للجن رسل من أنفسهم كما للإنس؟ أم الرسل من الإنس فقط؟ وقوله منكم من باب التغليب ، كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وهما يخرجان من الماء الملح فقط ، أو المراد برسل الجن من كان يستمع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ينذر قومه بما سمع : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) والثابت عن ابن عباس : كانت الرسل تبعث إلى الإنس ، وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الجن والإنس ، فقد قال الجن : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [سورة الأحقاف آية ٣٠].

٦٦٤

فماذا قالوا عند ما قيل لهم : ألم يأتكم رسل منكم في الدنيا؟!

قالوا : نعم ... أتتنا الرسل وقصت علينا أحسن القصص ، وبشرتنا وأنذرتنا ببليغ الكلم ، يا عجبا لهم شهدوا على أنفسهم بهذا ، وقد كانوا في الدنيا مخدوعين بها ، مغرورين بمالها وجاهها وبريقها!!! فهم قد شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين.

وللقيامة مواقف ، فتارة يعترفون بإرسال الرسل إليهم ، وتارة لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، وتارة تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما كانوا يعملون وتارة يكذبون ويقولون : ما كنا مشركين.

ذلك الذي ذكر من إرسال الرسل للخلق ، تقص الآيات ، وتتلوا البينات ، لإصلاح حال الأفراد والجماعات ، في شئونهم الدنيوية والأخروية ، كل ذلك بسبب أن الله لم يكن من سنته أن يهلك الأمم ظالما وهم غافلون عما يجب عليهم ، بل لا بد من إرسال الرسل لتنير الطريق ، وتهدى السبيل فمن عصى بعد ذلك استحق العقاب ، ومن آمن وعمل صالحا استحق الثواب : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فالله لا يظلم أحدا من خلقه ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، فاعتبروا أيها المسلمون ، واعلموا أن ما نزل بكم إنما هو نتيجة لترك الدين وما فيه ، واعلموا أن لكل عامل درجات ومراتب مما عمل ، وجزاء عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، وما ربك بغافل عما تعملون.

تهديد وإنذار

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)

٦٦٥

المفردات :

(يُذْهِبْكُمْ) : يهلككم. (مِنْ ذُرِّيَّةِ) : من نسل قوم آخرين. (مَكانَتِكُمْ) : حالكم التي أنتم عليها.

المعنى :

وربك الغنى عن خلقه وعن عبادتهم ، والكل فقير إلى رحمته وعفوه ، (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١) وهو ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته ، رحمته وسعت كل شيء ، إذ كل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه.

إن يشأ يذهبكم يا أهل مكة ويأت بخلق غيركم أفضل منكم وأطوع ، وإن يشأ يستخلف من بعدكم من يشاء من الأقوام فإنه هو الغنى القادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم ، يكونون أسمى منكم روحا وأصفى منكم نفسا ، وقد صدق الله وعده ، فأذهب المستكبرين المعاندين الجاحدين من زعماء الشرك ، واستخلف من بعدهم قوما آخرين هم الصحابة والسابقون من الأنصار والمهاجرين ، وبعد هذا الإنذار في الدنيا ، إنذار في الآخرة ، وهو : إن ما توعدون من جزاء وثواب آت لا شك فيه ، وما أنتم بمعجزين الله بهرب ولا بمنع ، وهو القاهر فوق عباده.

قل لهم يا محمد : يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها ، إنى عامل على طريقتي ومكانتى التي هداني إليها ربي ، ورباني عليها ، ولسوف تعلمون من تكون له العاقبة الحسنة والنهاية العظمى. قال الزمخشري في تفسيره «الكشاف» : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) تحتمل وجهين : اعملوا على تمكنكم وأقصى استطاعتكم. وإمكانكم ؛ واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، والمراد اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإنى ثابت على الإسلام ، فسوف تعلمون الذي تكون له العقبى يوم القيامة ، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) وهذا إنذار لطيف المسلك دقيق المآخذ ، مع التوجيه إلى النظر والفكر وحسن الأدب وبيان السبب في الحكم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا يفلح الظالمون لأنفسهم بالكفر.

__________________

(١) سورة فاطر آية ١٥.

(٢) سورة سبأ آية ٢٤.

٦٦٦

صور من جاهلية العرب

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)

٦٦٧

المفردات :

(ذَرَأَ) أى : خلق وأبدع. (أَوْلادِهِمْ) الولد : يطلق على الذكر والأنثى. (لِيُرْدُوهُمْ) : ليهلكوهم بالإغواء. (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) : يخلطوا عليهم دينهم. (حِجْرٌ) الحجر : أصله المنع ، ومنه سمى العقل حجرا لمنعه صاحبه ، والمراد الحرام. (وَصْفَهُمْ) أى : جزاء وصفهم.

المعنى :

أثر من آثار وسوسة الشيطان للإنسان وعمل من أعمال إبليس ، وصورة من صور الجاهلية الجهلاء ، التي كان عليها العرب قبل الإسلام.

وجعلوا لله مما خلق من الحرث والأنعام نصيبا مفروضا وقدرا محدودا ، وجعلوا كذلك نصيبا لمن أشركوهم مع الله من الأوثان والأصنام ، فقالوا : هذا لله بزعمهم وبقولهم الذي لا بينة معه ولا حجة فيه. وهذا لشركائنا ومعبوداتنا ، نتقرب به إليها.

والمروي أنهم كانوا يجعلون في مالهم نصيبا لله ينفقونه لإطعام الفقراء والمساكين وإكرام الضيفان والصبيان ، ونصيبا للآلهة يعطى لسدنتهم وخدمهم ، وما ينفق على معابدهم ، وما كان لشركائهم خاصة لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله ، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان ، وما كان لله فهو واصل إلى شركائهم ، ألا ساء الحكم حكمهم وبئس ما يصنعون!؟؟

إذ هم اعتدوا على الله بالتشريع الفاسد ، وأشركوا به غيره ، وفضلوه عليه. والحال أن الله هو الذي خلق كل شيء ، وما عملوه لا سند له من عقل أو شرع ، أليست هذه جاهلية جهلاء وضلالة عمياء؟؟

ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله والآلهة زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. وكان مظهر التزين أنهم خوفوهم الفقر في الحاضر والمستقبل (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (١) وخوفوهم العار ، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير الكفء.

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٣١.

٦٦٨

وثالثة الأثافى أنهم كانوا يمنّونهم بأن قتلهم أولادهم قربى إلى الآلهة ؛ كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد الله.

وقد سمى الله المزينين لهم من شياطين الإنس كالسدنة ، أو شياطين الجن سماهم الله شركاء ، لأنهم أطاعوهم طاعة الله مع التبجيل والاحترام ، كما فعل أهل الكتاب مع رجال الدين : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (١) ، زين هؤلاء قتل الأولاد ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء. وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم. والواقع أنه ليس فيه شيء من هذا ، ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا ، ولكن مشيئة الله للناس جميعا أن يكونوا واختيارهم وما جبلوا عليه من اختيار أى الطريقين بدون جبر ولا قهر.

أما أنت يا رسول الله فذرهم ولا يهمنك أمرهم ؛ ودعهم وما يفترون في حقك وحقنا. فعلى الله حسابهم.

ثم ذكر صورة ثالثة من صور الجاهلية المشوهة.

أنهم قسموا أموالهم وأقواتهم إلى ثلاثة أقسام :

(أ) فتارة أنعام وأقوات تكون محبوسة على معبوداتهم وأوثانهم ، ويقولون هي محجوزة للآلهة لا يطعمها إلا من نشاء من رجال ونساء ، وقولهم هذا بزعمهم وادعائهم الخالي من الحجة والبرهان.

(ب) أنعام حرمت ظهورها ، فلا تركب ولا يحمل عليها ، وهي البحيرة والسائبة والحامى.

(ج) أنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح بل يهلون بآلهتهم وحدها عند الذبح ، وقد قسموا هذا التقسيم مفترين على الله كاذبين عليه ، والله من ذلك برىء (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٢)؟ والله سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون.

__________________

(١) سورة التوبة آية ٣١.

(٢) سورة يونس آية ٥٩.

٦٦٩

وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، والمراد بها البحائر المشقوقة الآذان والسوائب ، وخالصة خلوصا مبالغا فيه لذكورنا فقط ومحرم على نسائنا ، وكانت السوائب إذا ولدت ذكرا جعلوه للذكور خاصة ، وإذا ولدت أنثى جعلت للنتاج ، وإن كان ما في بطنها ميتا جعل شركة بين الذكر والأنثى ، سيجزيهم الله جزاء وصفهم ، إنه حكيم عليم.

ولقد نعى الله ـ سبحانه وتعالى ـ على مشركي العرب أمرين عظيمين : هما قتل الأولاد ، ووأد البنات ، وتحريم ما رزقهم الله من الطيبات ، وحكم عليهم بالخسران والسفه ، وعدم العلم والافتراء على الله ، والضلال وعدم الاهتداء ، إذ كيف تقتل ابنتك أو ابنك خشية الفقر أو العار ، وتحرم طيبات أحلت لك؟

فأما الخسران فالولد نعمة من الله وزينة في الدنيا ، فإذا سعى لإزالتها استحق الغضب من الله لاعتدائه ، وقال الناس : إنه قتل ابنه خوف أن يأكل طعامه ، وخسر عاطفة الأبوة ، التي هي مصدر الرحمة والحنان. وجعلها مصدر الاعتداء والفناء ... وأما السفه فهل هناك سفه أكثر من قتله ابنه وفلذة كبده خوف الفقر أو خوف العار؟ وربما كان الولد مصدر الخير لأهله ، وهل من يفعل هذا لا يعد في مصاف الجهلاء؟ أعوذ بالله من عادات الجاهلية.

وأما الافتراء على الله ، والكذب عليه ، فقد جعلوه دينا وهم كاذبون ، وأما ضلالهم فهم لم يرشدوا إلى الخير أصلا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولم يسيروا وراء عقل ولا شرع.

أخرجه البخاري : «إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام».

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) .. إلى قوله .. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

٦٧٠

قدرة الله ونعمه والرد على المشركين

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)

٦٧١

المفردات :

(أَنْشَأَ) : خلق وأوجد بالتدريج. (جَنَّاتٍ) : بساتين الكروم والأشجار الملتفة الأغصان. سميت كذلك لأنها تجن الأرض ، أى : تسترها. (مَعْرُوشاتٍ) : محمولات على العرائش والدعائم التي توضع عليها كالسقف مثلا. (حَمُولَةً) : ما أطاق الحمل والعمل من الإبل والبقر وغيرها. (وَفَرْشاً) : ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل وغيرها ، أو ما يتخذ صوفه للفرش. (حَصادِهِ) : قطافه. (الضَّأْنِ) : ذوات الصوف من الغنم. (الْمَعْزِ) : وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار من الغنم.

المناسبة :

لما افترى الكفار على الله الكذب ، وأحلوا وحرموا ، وأشركوا معه غيره ، دلهم على وحدانيته تعالى ، ومظاهر قدرته ، وأنه مصدر التشريع والتحريم لأنه هو الخالق وحده ، المبدع لهذه الكائنات ، وصاحب هذه النعم الجليلة.

المعنى :

وربكم القادر الرحيم بكم ، الرحمن ، هو الذي أنشأ تلك الجنان ، وأبدع هذه البساتين ، سواء منها المعروش القائم على العمد والسقف كبستان العنب ، وغير المعروش كبقية الفواكه والأشجار ، حتى العنب نفسه فيه المعروش وغير المعروش ، وأنشأ النخل ، وخص بالذكر لكثرته عند العرب ، وشيوعه في بلادهم وانتفاعهم بكل ما فيه ، حتى ضربوه مثلا للمؤمن ينتفع بكل أجزائه ، وأنشأ الزرع الشامل لكل ما يزرع ويحرث مما هو أساس القوت وغيره كالقمح والشعير وغيرهما ، وهذا النخل والزرع مع أنه يسقى بماء واحد ، وفي تربة واحدة متشابهة في المنظر العام ، إلا أنه يختلف في الأكل ، فهذا الجيد ، وذاك المتوسط أو الرديء ، وهذا الحلو ، وذلك المر ... إلخ. فسبحانك يا رب!! أنت القادر الحكيم.

وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر العام ، وغير متشابه في الطعم والأكل.

٦٧٢

يا سبحان الله!! هذه التغيرات خلقت بطبعها أم لا بد لها من مغير؟ وهل هو الله سبحانه أو غيره من الشركاء والأصنام؟ أليس هو الله الرحمن الرحيم؟ ولو شاء لخلقنا ولم ينعم علينا بغذاء جميل المنظر ، لذيذ الطعم ، سهل التناول.

أليس هذا من مظاهر القدرة الكاملة والحكمة التامة والوحدانية الشاملة للذات والصفات والأفعال؟ فهذا الماء ذو الكثافة من رفعه في العود الأخضر إلى أعلى؟ حتى انتهى إلى ورق أخضر ، ولون أزهر وجنى جديد ، وطعم لذيذ ، وشكل جميل ، وهذا غذاء النحل يصير عسلا ، وغذاء الظبى يصير مسكا ، وغذاء الحيوان يصير روثا!!

أين من يقولون خلق الكون بالطبع؟ أين من يكفرون بالرحمن؟! أين من يعصون الله في أرضه وتحت سمائه؟!!

كلوا أيها الناس من ثمر هذا الزرع والجنات إذا أثمر ، واشكروا نعمه عليكم ، بأن تؤتوا حقه الذي فرض عليكم يوم حصاده وقطافه ، قبل أن تشح به نفوسكم. ففيه حق معلوم للسائل والمحروم ، وهذه هي الزكاة المطلقة التي وجبت في صدر الإسلام ، ثم كانت الزكاة المقيدة المحددة الواجبة في الآيات المدنية ، وها هي الأيام تثبت أن نظرية القرآن في وجوب الزكاة على الأغنياء كانت لمصلحة الأغنياء قبل الفقراء.

ولا تسرفوا ؛ فالإسراف خطأ مطلقا ولو في الشيء الحلال ، ولا تسرفوا في الأكل ، ولا تسرفوا في التصدق ، وقد قيل : لا سرف في الخير ولا خير في السرف ، والرأى هو التوسط.

وأنشأ من الأنعام كبارا تصلح للحمل والعمل ، وصغارا كالفصلان والغنم والمعز مثلا ، تفرش على الأرض للذبح ، ويتخذ من شعرها ووبرها فرشا ولباسا.

كلوا مما رزقكم الله ، وانتفعوا بلحمها ولبنها ووبرها وشعرها ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، فتحرموا ما أحل الله أو تحلوا ما حرم الله ، فإن الشيطان عدوكم اللدود. (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) وهذه الأنعام ثمانية أزواج ، فهي إبل وبقر وغنم ومعز ، وكل منها ذكر وأنثى ، وقد أنشأ الله من الضأن

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٦٩.

٦٧٣

اثنين : الكبش والنعجة ، ومن المعز اثنين : التيس والعنزة ، ومن الإبل اثنتين : الجمل والناقة ، ومن البقر اثنتين : الثور والبقرة ، قل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا : أحرّم الله الذكرين من الكبش والتيس؟ أم حرم الأنثيين من النعجة والعنزة؟ نبئونى بعلم إن كنتم صادقين!! أم الله حرم الذكرين من الجمل والثور؟ أم حرم الأنثيين من الناقة والبقرة؟!! أم حرم الله ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وقد كان المشركون في الجاهلية يحرمون بعض الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، فاحتج ـ سبحانه وتعالى ـ عليهم بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى ، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما ، وإن كان حرم ـ جل شأنه ـ الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما ، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، وجب تحريم الأولاد كلها.

والله ـ تعالى ـ ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع ، وإنهم لكاذبون في دعوى التحريم ، وقد فصل الله ذلك أتم تفصيل ، مبالغة في الرد عليهم ، ثم زاد في الإنكار فقال : بل أكنتم حضورا؟ أو قد وصاكم الله بهذا؟ كلا ما حصل هذا ولا ذاك ، وإنما أنتم تفترون على الله الكذب ، وتقولون على الله ما لا تعلمون ، وبعد أن نفى طريق العلم. وهو التلقي من الرسل ، أو من الله ، أثبت أنه لا أحد أظلم ممن ثبت أنه افترى على الله الكذب ، فيضل الناس بغير علم.

أما جزاؤكم : فإن الله لا يهدى القوم الظالمين ، ولا يوفقهم إلى الخير أصلا.

ما حرمه القرآن وما حرمته التوراة من المأكولات

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ

٦٧٤

رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)

المفردات :

(مُحَرَّماً) : محظورا أو ممنوعا. (طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) : آكل يأكله. (مَسْفُوحاً) : مصبوبا سائلا يجرى من المذبوح. (رِجْسٌ) قذر قبيح. (شُحُومَهُما) : المراد الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش ، وكذا الشحم الذي يكون على الكلية. (الْحَوايا) : مجتمع الأمعاء في البطن. (بَأْسُهُ) : عذابه.

المعنى :

قل يا محمد : لا أجد فيما أوحى إلى محرما إلا هذه الأشياء ، لا ما تحرمونه أنتم بشهوتكم ، ووسوسة الشياطين لكم ، والآية مكية ، وقد أشارت إلى المحرمات بالجملة ، ثم فصلت المحرمات في آية المائدة رقم (٣) وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة «أكل كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير» على ما هو مفضل في كتاب الصيد والذبائح من كتب الفقه.

لا أجد في الذي أوحى إلى شيئا محرما على طاعم وآكل يأكله إلا هذه الأربعة ، والمحرم في لسان الشرع : هو المحظور الممنوع ، وفي اللغة عام يشمل المكروه ، ولهذا اختلف العلماء فيما حرمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٧٥

إنما حرم عليكم الميتة وهي ما ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي ، وذلك يشمل المخنوقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ونحوها ، والدم المسفوح السائل يجرى من المذبوح ، أما الجامد كالكبد والطحال فحلال ، وفي الحديث : «أحل لنا ميتتان : السمك والجراد ، ودمان : الكبد والطحال» ولحم الخنزير وما يشبهه كالكلب فإن هذا كله رجس وقذارة ، تعافها النفوس الطيبة وهو ضار بالبدن ، وحرم كذلك ما أهل لغير الله به ، وما ذبح على النصب والأزلام.

والمعنى :

إلا أن يكون ميتة ... أو فسقا أهل لغير الله به : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ... ومن أصابته ضرورة ملحة إلى أكل المحرم فهو حلال له بشرط ألا يكون باغيا له وقاصده لذاته ، وبشرط ألا يكون معتديا ومتجاوزا حد الضرورة ، فإن ربك غفور للذنوب رحيم بالعباد ، فلا يؤاخذ شخصا يأكل ما يسد به مخمصته ، أو يدفع ضرر هلاكه.

هذا ما حرم في شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإجمال ، وما حرمه الله على اليهود خاصة كان تحريما مؤقتا ، عقوبة لهم لا لذاته : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) [سورة النساء آية ١٦٠].

وعلى الذين هادوا ـ خاصة ـ حرمنا عليهم كل ذي ظفر ، أى : ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط ، كما ورد ، وحرمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومها الزائدة التي تنتزع بسهولة ، وهو ما على الكرش والكلى ، أما الشحوم التي على الظهر وفي الذيل أو ما اختلط بعظم فحلال ، بدليل قوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) وإلا ما حملته الأمعاء ، فتلخص أن المحرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى فقط.

وإنما حرم الله عليهم ذلك عقوبة لهم في قتلهم الأنبياء بغير حق ، وصدهم عن سبيل الله ، وأخذهم الربا ، واستحلالهم أموال الناس بالباطل.

وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم : إن الله لم يحرم علينا شيئا ، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه.

٦٧٦

ولما كان هذا إخبارا عن شيء جرى قديما لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا لأحد من قومه علم به قال : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ومن أصدق من الله حديثا؟ فإن كذبوك بعد هذا ، وقالوا : إن الله رحيم واسع الرحمة ، كريم ، فكيف يحرم ما أحله؟ قل لهم : نعم ربكم ذو رحمة واسعة ، ولكن من عصى وبغى لا بد من عقابه ، فإنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين في حق أنفسهم وحق الله.

شبهة واهية

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)

المفردات :

(تَخْرُصُونَ) الخرص : الحزر والتخمين ، والمراد : تكذبون. (الْحُجَّةُ) : الدلالة المبينة للدين الحق. (هَلُمَ) أى : أحضروا. (يَعْدِلُونَ) : يتخذون له عدلا مساويا.

٦٧٧

المعنى :

بعد أن ألزمهم بالحجة ، أخبر الله عنهم أنهم سيتمسكون بحجة أوهى من بيت العنكبوت ، فقال : سيقولون ... ولما قالوا بالفعل حكى عنهم في آية أخرى : وقالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا).

لو شاء الله ألا نشرك نحن ولا آباؤنا من قبل وألا نحرم شيئا من البحيرة والسائبة والحام ، لما أشركنا ولما أشرك آباؤنا من قبل ، ولما حرموا شيئا ، ولكن شاء أن نشرك به غيره من الأولياء والشفعاء ليقربونا إلى الله زلفى ، بدليل وقوعه بالفعل ، وكذلك تحريمنا بعض الأنعام والحرث ، والله عالم بكل ما يحصل ، قادر على تغييره بما يشاء وإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى ، وعلى رضاه وأمره بها : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..) [سورة النحل آية ٣٥].

مثل ذلك التكذيب الذي صدر من المشركين العرب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من الوحدانية لله ، وقصر التشريع عليه ـ سبحانه وتعالى ـ كذب الذين من قبلهم رسلهم تكذيبا غير مبنى على حجة من العلم والعقل ، إذ لو كانت مشيئة الله ـ تعالى ـ معناها رضاه عن عملهم ، لما عاقبهم على أعمالهم حتى ذاقوا بأسه ، وقال فيهم : أخذناهم بذنوبهم.

قل : هل عندكم من علم وحجة تحتجون بها وتعتمدون عليها ، فتخرجوها لنا حتى تقرع الحجة بالحجة ، وحتى يعرف الراجح بدليله وحجته من غيره الذي لم يعتمد على حجة وبرهان؟ الواقع أنكم ما تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، فلا يقين معكم ولا حجة عندكم ، إن أنتم إلا تخرصون وتكذبون ، قل لهم يا محمد : فلله الحجة البالغة ، بما بيّن من الآيات ، وأيد الرسل بالمعجزات ، وألزم أمره كل مكلف ، فأما إرادته وعلمه وكلامه فغيب لم يطلع عليه أحد.

ألم تر أن العبد لو أراد أن يفعل الخير لفعل ، ولا مانع يمنعه ، مع العلم بأن هناك لافتات بالخط الواضح العريض كتب عليها : «يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر

٦٧٨

أقصر» كان ، وللخير ثواب عظيم وللشر عقاب وعذاب أليم يوم القيامة ، ذلك هو أساس التكليف ومناط الثواب والعقاب.

ولقد ذم الله هؤلاء المشركين لتعنتهم بالباطل ، والحجج الواهية ، لأنهم قالوا هذا عن هزؤ وسخرية ، ولم يجتهدوا وينظروا نظر عقل وتدبر ، ولو شاء الله لهداكم ، وجعلكم من عباده المتقين ، ولكن أراد أن يخلقكم ويترككم واختياركم فلا سلطان ولا قهر فيما كلفكم به ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، قل لهم : أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم أن الله حرم هذا ؛ وإن شهدوا على سبيل الفرض ؛ فلا تشهد معهم ، فهم الكاذبون ؛ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة وأحوالها ، وما فيها من حساب أمام الله ـ سبحانه ـ وهم بربهم يعدلون ..

أصول المحرمات والفضائل في الإسلام

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)

٦٧٩

وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)

المفردات :

(تَعالَوْا) : أقبلوا ، والأصل أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم كثر واتسع فيه حتى عم. (أَتْلُ) : أقرأ. (إِمْلاقٍ) : فقر. (الْفَواحِشَ) : ما عظم جرمه وذنبه ، كالكبائر أو الخطيئة التي بلغت الغاية في الفحش. (أَشُدَّهُ) : كمال رجولته ، وتمام حنكته ومعرفته.

المعنى :

لما بيّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فساد رأى المشركين فيما أحلوا وحرموا ، وبين المحرمات شرعا ـ بالإجمال ـ في الطعام ، أخذ في هذه الآية يبين أصول الفضائل ، وأنواع البر ، وأصول المحرمات والكبائر ، ليعلم الناس أسس هذا الدين؟ وكيف دعا إلى الخير والبر ، من أربعة عشر قرنا؟ في وقت سادت فيه الجاهلية الجهلاء ، والضلالة العمياء!! أليست هذه الآيات من دلائل الإعجاز وعلامات صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قل لهم : أقبلوا علىّ واحضروا ، أقرأ عليكم الذي حرمه ربكم لتجتنبوه وتتمسكوا بضده ، أقبلوا على أيها القوم. لتروا ما حرّم عليكم من ربكم ، الذي له وحده حق التشريع والتحليل والتحريم ، وأنا رسوله ومبلغ عنه فقط ، تقدموا واقرءوا حقا يقينا لا شك فيه ، كما أوحى إلىّ ربي ، لا ظنّا ولا كذبا ـ كما زعمتم ـ وها هي ذي الوصايا العشر : خمس بصيغة النهى ، وخمس بصيغة الأمر.

١ ـ الإيمان بالله وعدم الإشراك به أساس الإسلام ولبه ، ودعامته وروحه ، ولذا بدأ به : ألا تشركوا بالله شيئا من مخلوقاته ، وإن عظم في الخلق والشكل كالشمس والقمر ، أو في المكانة كالملائكة والنبيين ، فالكل ـ مهما كان ـ مخلوق مسخر له تعالى : (إِنْ

٦٨٠