التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

المفردات :

(عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أى : على عهد ملكه ، أى : في زمان ملكه. (فِتْنَةٌ) : اختبار وابتلاء. (اشْتَراهُ) : استبدل ما تتلو الشياطين. (خَلاقٍ) : نصيب. المثوبة : الثواب.

روى ابن عباس أن عبد الله بن صوريا قال لرسول الله : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزلت عليك آية فنتبعك لها فنزلت الآية.

المعنى :

والله لقد أنزلنا إليك يا محمد آيات واضحات قد دلت على صدق رسالتك ولا يكفر بها إلا الخارجون عن طاعة الله والمتمردون على آياته وأحكامه ، وهؤلاء أصحاب النار هم فيها خالدون.

أكفروا بالله وكلما عاهدوا عهدا بينهم وبين الله أو بينهم وبين رسول الله (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) (١) تركه فريق كبير منهم ، ولم توف به ، فاليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوه ، بل أكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة لأن فيها نقض المواثيق ، وخلف العهود ذنب لا يغفر.

ولما جاءهم رسول من عند الله ـ هو محمد عليه‌السلام ـ بكتاب مصدق لما معهم إذ هو موافق للتوراة في الأصول الدينية العامة كتوحيد الله وإثبات البعث والحياة الآخرة وصدق الرسل ، ترك فريق من اليهود كتاب الله وهو التوراة وراء ظهورهم لأنهم لم ينفذوا بعض ما فيه ، ولم يؤمنوا به كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة لا يكون مؤمنا بالتوراة وبالقرآن.

ومن قبائح اليهود أنهم نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر والشعوذة في زمن ملك سليمان ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويضمون إليه أكاذيب ثم يلقنونها الكهنة فيعلمونها الناس ، ويقولون : إن هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملك إلا بهذا.

__________________

(١) سورة الأنفال آية رقم ٥٦.

٦١

فيرد الله عليهم هذه الدعوى : إن سليمان ما فعل شيئا من هذا ، وما كفر باعتقاد السحر والعمل به ، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتباع السحر وتديّنه.

هؤلاء اليهود يعلمون الناس السحر بقصد إغوائهم وإضلالهم ، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل ، وهما هاروت وماروت : وهما بشران إلا أنهما كانا صالحين قانتين فأطلق الناس عليهما ملكين من باب الشبه ، وفي قراءة (ملكين) على الشبه أيضا بالملوك في الخلق وسماع الكلمة.

ولكن هذين الملكين ما كان يعلمان أحدا من الناس حتى يقولا له : إنما هذا ابتلاء واختبار من الله فلا تتعلم السحر وتعمل به وتعتقد تأثيره ، وإلا كنت كافرا ، أما إذا تعلمته فلتعرف شيئا تجهله ولا تعمل به ما يضر فلا محذور في ذلك ، فتعلم الناس من الملكين ما كانوا يعتقدون أنه يفرق بين المرء وزوجه ، أو ما هو تمويه من حيلة أو نفث في العقد أو تأثير نفس وغير ذلك مما يحدث عنده التفريق غالبا.

والحقيقة أن السحر لا يؤثر بطبعه ، وما هم بضارين به أحدا من الناس إلا بأمر الله وإرادته ، فهذا كله إن صح فسبب ظاهرى فقط ، وأما من تعلم السحر وعمل به فإنه تعلم ما يضره ولا ينفعه إذ به استحق غضب الله عليه لما ينشأ عنه من إفساد الناس وضررهم ، وتالله لقد علم اليهود لمن ترك كتاب الله واستبدل به كتب السحر ما له في الآخرة إلا العذاب ، وليس له نصيب من الثواب.

ولبئس ما اشتروا به عذابهم وألمهم لو كانوا يعلمون ، نفى عنهم العلم لأنهم لم يعلموا به فكانوا أسوأ من الجهلة.

ولو أن اليهود آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن وتركوا كتب السحر والشعوذة وأخذوا الوقاية من عذاب الله بامتثال أوامره لاستحقوا الثواب من عند الله وهو خير وأعظم أجرا لو كانوا يعلمون ذلك.

ملاحظات :

١ ـ السحر في اللغة : كل ما لطف مأخذه وخفى ، ومنه قيل : عين ساحرة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن من البيان لسحرا) (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر كتاب الطب باب إن من البيان سحرا حديث رقم ٥٧٦٧.

٦٢

٢ ـ السحر كما وصفه القرآن : تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس كائنا أنه كائن (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه آية ٦٦].

٣ ـ وهو إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها الناس ، ممكن أن يكون منه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسى.

٤ ـ حكاية القرآن : (يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ليس دليلا على أن السحر يفعل هذا وإنما هي حكاية لما كان مشهورا ومعروفا عندهم.

٥ ـ السحر لا يؤثر بطبعه وإنما هو سبب ما يحدث عنه من أضرار من قبيل ربط المسببات كما نصت الآية.

أدب وتوجيه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)

المفردات :

(راعِنا) : راقبنا وانتظرنا. (انْظُرْنا) : من نظره : إذا انتظره.

المعنى :

كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ألقى عليهم شيء من العلم : راعنا ، وتأنّ علينا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت الكلمة عند اليهود (راعنا) كلمة سب فكانوا يخاطبون بها النبي ويقصدون معنى السب والشتم فنهى المؤمنون عن هذه الكلمة وأمروا

٦٣

بكلمة تماثلها في المعنى وتختلف في اللفظ ، واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول ، وللكافرين واليهود عذاب مؤلم شديد ، وهذا أدب للمؤمنين وتشنيع على اليهود فما زال الكلام معهم ، لا يود الذين كفروا بالله سواء كانوا من أهل الكتاب أو المشركين أن ينزل الله عليكم خيرا أبدا كالقرآن والرسالة ولكن الله العليم القادر الحكيم يختص بالنبوة والخير من يشاء من عباده (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام آية ١٢٤] عند من يقوم بها ويؤديها خير قيام.

آيات النسخ

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)

المفردات :

(ما ننسخ) النسخ : إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره. (نُنْسِها) : نجعلها تنسى ، من أنساه الشيء : أذهبه من قبله ، أو ننسئها : نؤجلها.

سبب النزول :

روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمره ثم ينهاهم عنه ويقول اليوم ما يرجع عنه غدا؟ فنزلت.

المعنى :

القرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث والظروف وهو تنزيل من حكيم عليم بالخبايا ، فالحكم المستفاد من الآية يدور مع المصلحة للأمة فمتى وجدت المصلحة في

٦٤

الحكم بقي وإلا فلا ، فتارة تبقى الآية كما هي لأن المصلحة في ذلك ، وتارة يذهب لفظها ومعناها أو أحدهما وتؤجل إلى أجل أو تنسى من القلوب ، كل ذلك للمصلحة العامة للأمة ، فالنسخ ضروري في الأحكام خصوصا عند الأمة الناشئة بسبب تطورها سريعا ، فما يصلح علاجا اليوم قد لا يصلح غدا ، شأن المربى والطبيب الماهر مع مريضه.

ولم يكن النسخ لجهل الشارع بالحكم الأخير ، ولكن كان الشارع يتدرج ويعالج تبعا للظروف والأحوال ، انظر إليه حيث عالج الخمر وكيف نسخ الحكم فيها؟ حتى وصل النهاية ، وكذا آيات القتال نجد أن النسخ كان لحكمة عالية من حكيم خبير هو أدرى بخلقه ، حتى استقرت الأحوال واستوت الأمة قائمة لها كيان لم يبق نسخ ، أليس هذا أولى من بقاء الأحكام لا تتغير تبعا للظروف الطارئة فيضطر إلى هجرها وعدم قبولها؟ فالله لم ينسخ آية أو يؤجلها إلا ويأتى بخير منها للعباد أو مثلها على الأقل ، أليس الله على كل شيء قديرا؟ أليس لله ملك السموات والأرض فهو يملك أموركم ويدبرها على حسب المصلحة وليس لكم ولى سواه يتولى أموركم ولا نصير ينصركم غيره ـ سبحانه وتعالى ـ.

هذا رأى بعض العلماء في النسخ والقول به ، وبعضهم يرى أنه لا نسخ أبدا بالمرة وكل آية قيل إن فيها نسخا أوّلوها تأويلا سائغا ببيان أن كل آية في موضوع فلم تنسخ إحداهما الأخرى ، انظر إلى آيات العدة الآتية ، وآيات القتال ، وسنبينها إن شاء الله في موضعها.

بل أتريدون أن تطلبوا من رسولكم كما كانت تطلب آباؤكم اليهود من موسى ـ عليه‌السلام ـ؟ فقد طلبوا منه أن يريهم الله جهرة وغير ذلك مما كانت عاقبته وخيمة عليهم ، ومن يترك الثقة في القرآن ويشك في أحكامه ويطلب غيرها فقد ضل السبيل السوى.

٦٥

موقفهم من المؤمنين

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)

المفردات :

(حسدا) الحسد : تمنى زوال نعمة الغير. (فَاعْفُوا) العفو : ترك العقاب على الذنب. (وَاصْفَحُوا) الصفح : الإعراض عن ذنب بصفحة الوجه ، فيشمل ترك العقاب وترك اللوم.

المعنى :

كان كثير من اليهود بعد كفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود حسدا له ولقومه يودون ويتمنون أن يرتد المسلمون الذين آمنوا بالنبي وأن يعودوا كفارا بعد ما كانوا مؤمنين ، وهذا التمني وتلك الرغبة بسبب الحسد الكامن والداء الباطن في أنفسهم ، لا ميلا مع الحق ولا رغبة ، بل هذا التمني بعد ما ظهر لهم أن الدين الإسلامى هو الدين الصحيح ، فاعفوا عنهم أيها المسلمون ولا تلوموهم على فعالهم ، واصبروا حتى يأذن الله بالقتال ويأتى أمره فيهم وهو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم ، والله على كل شيء قدير.

وأنتم أيها المسلمون أدوا صلاتكم مقومة كاملة ، وأدوا زكاتكم فهي حصن مالكم ، وهما وإن كانا فيهما خير الدنيا وسعادة المجتمع فكذلك في الآخرة إذ ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوا جزاءه عند الله كاملا إن الله بما تعملون بصير.

٦٦

موقف كل من اليهود والنصارى بالنسبة للآخر

وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)

المفردات :

(هُوداً) : جمع هائد ، وهم اليهود. (نَصارى) : أتباع المسيح. (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) : جعل وجهه خالصا لله وانقاد له.

المعنى :

من قبائح أهل الكتاب وغرورهم بدينهم ما بينه القرآن في هذه الآيات حيث يقول ما معناه : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا اليهود فهم شعب الله المختار وغيرهم في الضلال ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى.

تلك أمانيهم الباطلة التي لا تستند على أساس من النقل أو العقل ، وإلا فهاتوا برهانكم أيها اليهود والنصارى إن كنتم صادقين ؛ فليست المسألة دعوى.

يرد الله عليهم : بل يدخل الجنة من أسلم وجهه لله وانقاد له فلم يسع لفرية أو كذبة وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده ، وهؤلاء أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

٦٧

ولم تقف دعواهم عند هذا بل صرح أحبار اليهود مرارا قائلين : ليست النصارى على شيء يذكر ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء يذكر ، والحال أنهم أصحاب كتاب يدعون أنهم يتلونه ويؤمنون به ، فلو أن اليهود تؤمن بالتوراة والنصارى تؤمن بالإنجيل لما قالوا مثل ذلك ؛ لأن كل كتاب نزل من عند الله جاء مصدقا لما سبقه ومبشرا لما يأتى بعده.

إذن هم لا يؤمنون بشيء ، وقد قال مثل مقالتهم هذه المشركون الذين لا يعلمون شيئا إذ ليس عندهم كتاب ، فالله يحكم بينهم يوم القيامة في اختلافهم ويجازيهم عليه أشد الجزاء ، وأما الجنة فهي لمن أسلم وجهه لله وهو محسن.

تخريب المساجد

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)

المفردات :

(خَرابِها) : تخريبها وهدمها وتعطيلها. (خِزْيٌ) أى : ذل. (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أى : هناك جهته التي يرضاها.

سبب النزول :

وهذه الآيات نزلت تشير إلى حوادث وقعت بعد النسخ تتعلق ببيت المقدس وتخريبه ، وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في مشركي العرب حيث منعوا النبي وأصحابه من دخول مكة ، وقيل : إنه إخبار بما سيقع من إغارة الصليبيين على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين وصدهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد ، والكلام على العموم في أهل الكتاب ومن على شاكلتهم.

٦٨

المعنى :

ليس هناك ظلم أكبر من تخريب المساجد ومنع الناس من الصلاة فيها ، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر الله في المساجد بأى طريق من الطرق ، وسعى في تعطيلها عن القيام بوظائفها ، أولئك الذين يفعلون هذا بعيدون جدا عن الله وتوفيقه ، ما كان ينبغي لهم إلا أن يدخلوها خائفين من سطوة الإسلام والمسلمين ، فما بالهم يفعلون هذا؟ وما دام للإسلام والمسلمين السطوة والعزة والتمسك بالقرآن وأحكامه فلا يدخلونها إلا خائفين.

أما إذا فرط المسلمون في دينهم وأقاموا بعض أحكام الدين وأهملوا البعض الآخر حتى أضاعوا كيانهم فللكفار والمشركين أن يدخلوها بل ويخربوها ويتحكموا في أهلها كما هو حاصل الآن.

ولمن منع ذكر الله في المسجد ذل في الدنيا وعذاب في الآخرة.

لله ما في الأرض جميعا مشرقها ومغربها ، ففي أى مكان تصلون فيه وتتوجهون فيه إلى الله فإنه معكم ، إن الله واسع لا يحده مكان ، فيصح أن يتوجه إليه في كل مكان عليم بمن يتوجه إليه أينما كان.

مفتريات أهل الكتاب والمشركين

وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)

٦٩

المفردات :

(سُبْحانَهُ) : تنزيها له عما يصفون. (بَدِيعُ) : مبدع. (قانِتُونَ) :

منقادون.

المعنى :

وقال أهل الكتاب والمشركون من اليهود والنصارى وغيرهم : المسيح ابن الله وعزيز ابن الله والملائكة بنات الله!! سبحانه وتعالى وتنزيها له عما يدّعون ، بل له كل ما في السموات والأرض ومنهم هؤلاء ، الكل قد خلقهم الله ، كل له منقادون إن طوعا وإن كرها ، وهو الذي أبدع السموات والأرض وما فيهن ، وإذا أراد أمرا ـ فلا راد لقضائه ـ كان وتحقق من غير امتناع.

فمن له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا ، ومن له كل ما في الكون كائنا ومنقادا. ومن أبدع السماء والأرض والوجود كله ، ومن إذا أراد أمرا كان ووجد من غير امتناع أو إباء.

من كان هذا شأنه أيحتاج إلى الولد أو الوالد؟ ومن كان هذا شأنه يكون له جنس؟ أم هو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟!

وقال الذين لا يعلمون : هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة وموسى استكبارا منهم وعتوّا ، أو تأتينا آية ؛ استخفافا منهم بهذه الآيات البينات. كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم وأرواحهم ، تنزه الله عن طلبهم.

وبين الآيات أحسن بيان وأتمه ولكن لا يفهمها إلا المنصفون الموقنون.

٧٠

تحذير الرسول من اتباع اليهود والنصارى

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)

المفردات :

(الْجَحِيمِ) : النار المتأججة ، وهي جهنم. (مِلَّتَهُمْ) : دينهم.

(الْخاسِرُونَ) : الهالكون.

المعنى :

أراد الله تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : إنا أرسلناك للناس رسولا تبشر المؤمنين وتنذر الكافرين ، فمهمتك الرسالة ولا عليك شيء بعدها (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) فإنك لا تسأل عن أصحاب النار ، فلا تأس عليهم ولا تحزن.

__________________

(١) سورة الأنعام آية ٥٢

٧١

وهؤلاء اليهود والنصارى الذين قص عليك من أنبائهم ما به عرفتم لن يرضوا عنك مهما فعلت من الخير إلا إذا دخلت في دينهم.

وروى أنهم قالوا : يا محمد مهما فعلت لإرضائنا فلن نرضى حتى تتبع ملتنا ، قالوا هذا لييأس النبي من هدايتهم ، فرد الله عليهم : إن هدى الله ودينه الذي هو الإسلام هو الهدى وحده الواجب اتباعه ، أما غيره فمبنى على الهوى والشهوة ولذلك حذر الله نبيه وكل فرد من أمته بقوله : ولئن اتبعت دينهم فليس لك من دون الله ولى ولا نصير.

ولئلا يحصل اليأس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب جميعا أخبر بأنهم ليسوا كلهم على هذا المنوال بل منهم من يتلو الكتاب ويفهمه حق الفهم ولا يتعصب تعصب الأعمى ولا يبيع آخرته بدنياه ، أولئك يؤمنون به ومن يؤمن به حقا يؤمن بالقرآن والنبي ، ومن يكفر بكتابه منهم فلا يؤمن بك ، وأولئك هم الخاسرون.

بعد أن ذكر ما ذكر من تعداد النعم والقبائح وما جازاهم بهم على كل هذا أراد أن يجدد ثقتهم ونشاطهم فناداهم بهذا لئلا ينفروا مما سبق ، وهو يذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم وعلى آبائهم وليبنى عليها قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وليس فيها تكرير يمجه البلغاء.

إبراهيم عليه‌السلام وبيت الله الحرام

وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ

٧٢

السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)

المفردات :

(ابْتَلى إِبْراهِيمَ) : اختبره ، والمراد : كلفه بتكاليف ليجازيه ، وذلك شأن المختبر. (بِكَلِماتٍ) المراد : أوامر ونواه. (فَأَتَمَّهُنَ) : أدّاهنّ. (مَثابَةً) : مرجعا ومآبا. (مُصَلًّى) : مكان صلاة. (الْعاكِفِينَ) : الملازمين. (الْقَواعِدَ) : جمع قاعدة ، وهي الأساس. (مَناسِكَنا) : النسك في الأصل غاية العبادة ، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. (الْحِكْمَةَ) : ما تكمل به النفوس من أحكام الشرع والمعرفة. (يُزَكِّيهِمْ) : يطهرهم.

شرع الله في تحقيق أن هدى الله هو ما عليه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد والإسلام الذي هو ملة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وبطلان ادعاء أهل الكتاب أنهم يتبعون دين إبراهيم ، وبيان صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو دعوة إبراهيم الخليل ، فالكلام كله متصل مع أهل الكتاب.

٧٣

المعنى :

واذكر لهم يا محمد وقت اختبار الله لإبراهيم بأن كلفه بتكاليف يؤديها فقام بها خير قيام وأداها أحسن أداء ، ولذا كان جزاؤه من الله ـ جل جلاله ـ أن قال له : إنى جاعلك إماما للناس تؤمهم في دينهم وتفصل بينهم في دنياهم ، قال إبراهيم : وجاعل بعض ذريتي كذلك؟ وأجابه المولى : لا ينال عهدي بالإمامة الظالمون الذين ظلموا أنفسهم ؛ لأن الإمام مفروض أن يقوم بحراسة الدين وأهله والقيام على شئون الرعية ومنع الظلم ، فإذا كان ظالما لنفسه فكيف يدفع الظلم عن غيره ، وهذا هو حكم القرآن في الإمام وما شرطه فيه!! واذكر لهم إذ جعلنا البيت الحرام (الكعبة) مثابة للناس وملجأ ، وجعلناه آمنا ، من دخله كان آمنا ويتخطف الناس من حوله ، واتخذوا أيها المسلمون من مكان إقامة إبراهيم مصلى ، أى : فضلوه على غيره في الصلاة لشرفه بقيام إبراهيم فيه ، فالأمر للندب لا للوجوب ، وقد أمرنا إبراهيم وإسماعيل بأن يقوما بتطهير البيت من الأوثان ومن كل دنس ورجس يطهرانه للذين يطوفون به ويقومون عنده ، والذين يركعون فيه ويسجدون ، اذكر لهم يا محمد دعوة أبيهم إبراهيم لهذا البلد وأهله : رب اجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة ، وارزق أهله من الثمرات أطيبها ومن خيرات الأرض أحسنها ارزق يا رب المؤمن منهم. وانظر إلى تكريم المؤمنين وبيان خطر الإيمان وشرفه ، وفي هذا ترغيب لقومه في الإيمان وزجر عن الكفر ، وفي حكاية القرآن هذا ترغيب لقريش وترهيب لها ولغيرها من أهل الكتاب ، فأنت ترى أن إبراهيم خص طلب الرزق للمؤمنين. قال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ ما معناه : والكافر أرزقه وأمتعه زمنا قليلا ثم ألجئه إلى عذاب النار وبئس هذا المصير.

واذكر يا محمد وقت أن رفع إبراهيم أساس البيت للبناء ومعه إسماعيل يعاونه قائلين : ربنا اقبل منا وتقبل إنك أنت السميع لكل دعاء العليم بكل قصد ونية. ربنا واجعلنا منقادين لك ومخلصين ، ثم أخذتهما الشفقة على أولادهما فدعوا الله بأن يجعل من ذريتهما جماعة مخلصة منقادة ، وإنما دعوا للبعض فقط لأنهما يعرفان أن الحكمة الإلهية في وجود الصنفين ولا بد منهما ، وبصرنا يا رب أمور عبادتنا وأسرارها وبخاصة مناسك الحج ، وأقبل توبتنا إنك أنت التواب الرحيم.

ربنا وأرسل في ذريتنا رسولا منهم عرفوا عنه الصدق والأمانة ، ويتلو عليهم آيات

٧٤

دينك ويعلمهم القرآن وما به تكمل نفوسهم من العلوم والمعارف ، ويطهرهم من دنس الرجس والوثنية إنك يا رب أنت العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل صنع. روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا دعوة أبى إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمّى» (١) فذلك تحقيق دعوة إبراهيم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يتحقق فيه هذه الدعوة ، وأهل الكتاب يعرفون ذلك ولكنهم أعرضوا حسدا وبغيا وظلما.

ملة إبراهيم مع المخالفين لها والمهتدين بها

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)

المفردات :

(سَفِهَ نَفْسَهُ) : أذلها واستخف بها. (اصْطَفَيْناهُ) : أخذناه واخترناه.

المعنى :

لا تجد أحدا يعرض عن ملة إبراهيم ودينه إلا شخصا أذل نفسه واستخف بها ، وذلك أن من يرغب في شيء لا يرغب فيه عاقل أصلا فقد بالغ في امتهان نفسه وأذلها وكيف لا ، وقد اصطفيناه في الدنيا وجعلناه أبا الأنبياء وإنه في الآخرة لمن المشهود لهم بالصلاح والاستقامة ، إذ قال له ربه : أسلم لله وكن من المنقادين له ـ سبحانه ـ فما كان منه إلا أن أسرع بالانقياد والامتثال شأن المصطفين الأخيار. قال : أسلمت لله رب العالمين ، ولقد كان إبراهيم متبعا الملة الحنيفية وأرادها لأولاده فوصى بها إبراهيم بنيه

__________________

(١) أخرجه أحمد ١ / ١٢٨.

٧٥

وكذلك يعقوب قائلا : يا بنىّ إن الله اختار لكم هذا الدين (وهو كدين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأصول العامة فاثبتوا على الإسلام ولا تفارقوه) فها هي ذي وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب للأسباط فانظروا أيها اليهود هل أنتم تتبعون آباءكم إبراهيم ويعقوب أم لا؟

لكل ما كسب

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)

المفردات :

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) : أم هنا بمعنى (بل) أكنتم شهداء ، والهمزة بمعنى النفي ،

٧٦

أى : ما كنتم شهداء. (خَلَتْ) : مضت. (هُوداً) : جمع هائد ، أى تائب ، وهم اليهود. (حَنِيفاً) : مائلا عن الباطل إلى الحق. (الْأَسْباطِ) : الأحفاد ، والمراد أبناؤه وذريته.

سبب النزول :

روى أنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية يوم مات فنزلت الآية.

المعنى :

ما كنتم أيها اليهود حاضرين وقت أن احتضر يعقوب وقال لبنيه : أى شيء تعبدونه بعد موتى؟ فأجابوه : نعبد إلهك الله الواحد الفرد الصمد وهو إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إله واحد لا شريك له ، ونحن له مستسلمون ومنقادون لحكمه.

وقد رد الله على اليهود ادعاءهم أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات بقوله : هذه الأمة قد مضت بما لها وما عليها لا ينتفع بعملها أحد ولا يضر (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) فكما أن هؤلاء السابقين لا ينفعهم إلا عملهم كذلك أنتم لا ينفعكم إلا أعمالكم.

وقال بعض أهل الكتاب : كونوا مع اليهود في دينهم تصلوا إلى الطريق السوى ، وقال البعض الآخر (النصارى) : كونوا مع النصارى تصلوا إلى الحق ، قل يا محمد ردا عليهم : بل تعالوا إلى ملة أبيكم إبراهيم الذي تدعون أنكم على دينه فهي الملة الحنيفة القائمة على الجادة بلا انحراف ولا نزاع وما كان إبراهيم من المشركين ، ها أنتم هؤلاء بعيدون عن ملة إبراهيم.

قولوا أيها المؤمنون : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من القرآن والصحف فلا تكن دعوتكم إلى شيء خاص بكم بل ادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع ، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الإسلام لرب العالمين ، لا نعبد إلا الله ولا نفرق بين أحد من رسله وما أوتى موسى وعيسى من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات ، وما أوتى النبيون جميعا لا نفرق بين أحد منهم ، كما تفعل اليهود والنصارى ؛ فالمؤمن حقيقة هو من يؤمن بكل الكتب والأنبياء ولا يؤمن ببعض ويكفر بالبعض الآخر.

__________________

(١) سورة الزمر آية رقم ٧.

٧٧

فإن آمن أهل الكتاب كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم ، وإن تولوا وأعرضوا وفرقوا بين الأنبياء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فإنما هم في شقاق ونزاع ، وإذا كان هذا فثقوا أن الله سيكفيكم شرهم وسيبدد شملهم ، وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير ، والله هو السميع لكل قول ، والعليم بكل فعل.

الله ربنا وربكم

صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)

المفردات :

(صِبْغَةَ اللهِ) الصبغة : الحالة التي عليها الصبغ ، والمراد بصبغة الله الإيمان لكون الإيمان تطهيرا للمؤمنين من أوساخ الشرك ، وهو حلية تزينهم بآثاره الجميلة ، وقد تدخل في قلوب المؤمنين كما يتداخل الصبغ فترى أن الإيمان يشبه الصبغة في التطهير والحلية والتداخل. (أَتُحَاجُّونَنا) : أتجادلوننا. (مُخْلِصُونَ) : لا نبغى بأعمالنا غير وجه الله.

٧٨

المعنى :

قولوا أيها المؤمنون بعد مقالتكم الأولى وهي : إنا نؤمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وكتبه قولوا : صبغنا الله بصبغة الإيمان وتطهير النفوس من أدرانها ، وهل هناك صبغة أحسن من صبغة الإسلام؟ ومن صبغته أحسن من صبغة الله الحكيم الخبير؟ ونحن لله الذي أولانا هذه النعم الجليلة التي منها نعمة الإسلام والهداية عابدون ومخلصون وقانتون ، ثم بعد هذا أمر الله نبيه بأمر خاص به وهو : قل لهم يا محمد : أتجادلوننا في دين الله وتدّعون أن دينه الحق هو اليهودية أو النصرانية؟ وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتارة تقولون : كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ؛ أتجادلوننا في دين الله وهو ربنا وربكم لا فرق بيننا وبينكم في العبودية لله ؛ فهو مالك أمرنا وأمركم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسيئة ، ونحن لله مخلصون في تلك الأعمال لا نقصد بها إلا وجهه وإن أتى منا سوء فبغير قصد ونية فكيف تدعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم؟!! قل لهم يا محمد : أى الطريقين تسلكون؟ إقامة الحجة على ما أنتم عليه وقد ظهر أن لا حجة لكم؟ أم تسلكون طريق التقليد من غير برهان والكذب على الله والأنبياء فتقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط هود ، ويقول الناس : النصارى كانوا نصارى فنحن مقتدون ، والمراد إنكار الطريقين وتوبيخهم على كلا الأمرين ، قل لهم يا محمد : أأنتم أعلم أم الله؟! ولا أحد في الوجود أظلم ممن يكتم شهادة ثابتة عنده من الله وهي شهادته ـ سبحانه وتعالى ـ لإبراهيم ويعقوب بالحنيفية والبراءة من اليهودية والنصرانية ، فلو كتمناها لكنا أظلم الناس كما أنكم تكتمون شهادة عندكم من الله للنبي العربي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس الله غافلا عن أعمالكم فهو محصيها ومجازيكم عليها ، تلك أمة من الأنبياء والرسل قد مضت لها أعمالها الحسنة والسيئة ونحن لا نسأل عنها وهم لا يسألون عن أعمالنا ، كرر هذه للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على الماضي وهذا شأن العاجز الضعيف الذي ينظر إلى الماضي ولا يتجه إلى المستقبل.

فهب أن أباك كان من الأولياء والأصفياء ولم تعمل شيئا تحمد عليه أفينفعك هذا؟ لا. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) والله أعلم.

٧٩

مقومات تحويل القبلة

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)

المفردات :

(السُّفَهاءُ) السفه : الاضطراب في الرأى والفكر والخلق. والسفهاء : هم ضعفاء العقول ، والمراد بهم هنا : المنكرون تغيير القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين. (الْقِبْلَةَ) في الأصل : الجهة ، والمراد قبلة المسلمين في الصلاة. (وَسَطاً) الوسط : اسم لنقطة تستوي نسبة الجوانب إليها كمركز الدائرة ، ثم استعير للخصال المحمودة ؛ إذ كل صفة محمودة كالشجاعة وسط بين طرفين : الإفراط والتفريط ، والمراد : خيار عدول عندهم العلم والعمل. (إِيمانَكُمْ) : صلاتهم فإنها مسببة عن الإيمان. (عَقِبَيْهِ) العقب : مؤخر القدم ، والمراد يرتد عن الإسلام.

المناسبة :

لا يزال القرآن يتعرض في هذه الآيات لما كان عليه اليهود ـ وإن شاركهم فيه غيرهم من المشركين ـ من إنكار تحويل القبلة والنسخ وغيرهما.

٨٠