التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

المفردات :

(افْتَرى) : اختلق الكذب. (غَمَراتِ الْمَوْتِ) : واحدها غمرة ، وهي الشدة ، وغمرات الموت : سكراته. (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) بسط اليد سبق شرحه في الجزء السادس آية ٢٨. (الْهُونِ) : الهوان والذل ، والهون : اللين والرفق (خَوَّلْناكُمْ) : أعطيناكم ومنحناكم ، والخول : الخدم والحشم. (بَيْنَكُمْ) هو بمعنى الصلة ، أو هو ظرف ، والاتصال مفهوم من الكلام. (ضَلَ) أى : غاب.

المعنى :

شهادة ضمنية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق حيث بين عاقبة الكذب على الله ؛ لا أحد في الوجود أظلم ممن كذب على الله ، وادعى أنه ما أنزل على بشر شيئا ، إذ أثبت له الشريك والولد ، أو قال : أوحى إلىّ ولم يوح إليه شيء ، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي ، أو قال : سأنزل مثل ما أنزل الله على رسله (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [سورة الأنفال آية ٣١].

يا للعجب لهؤلاء ... ولو تراهم في غمرات الموت وشدائده والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها لهم لتخرج أنفسهم من أجسادهم بمنتهى الشدة والعنف (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (١) وتقول لهم الملائكة تأنيبا وتعنيفا : أخرجوا أنفسكم مما هي فيه وخلصوها إن أمكنكم ذلك ، وقيل : المعنى : أخرجوها كرها وقد قيل : إن روح المؤمن تخرج بسهولة وروح غيره تنتزع انتزاعا شديدا.

وقال الكشاف : هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الكفرة.

__________________

(١) سورة الحديد آية ٢٧.

٦٤١

وتقول الملائكة لهم : اليوم تجزون عذاب الهون والخزي ، وتلقونه على أفظع صورة بسبب ما كنتم تقولون على الله غير الحق كما مر.

ويقول الله لهم : لقد جئتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء ، والأولياء والشفعاء ، كما خلقناكم أولا ، وها أنتم أولاء تركتم كل ما خولناكم وأعطيناكم من نعم وحشم ، وخدم وولد ، تركتموه ولم ينفعكم في شيء أصلا ، وما نرى معكم شفعاءكم ـ كما كنتم تدعونهم ـ الذين زعمتم أنهم فيكم وفي عبادتكم شركاء لله.

تبّا لكم وسحقا. لقد تقطع وصلكم بينكم ، وبعد ما كان بينكم من صلات وصداقات ، ضل عنكم ما كنتم تزعمون ولم تنفعكم شفاعة الشافعين (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [سورة الانفطار آية ١٩].

من مظاهر القدرة والعلم الحكمة والرحمة

إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها

٦٤٢

قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)

المفردات :

(فالِقُ) الفلق والفتق : الشق في الشيء مع إبانة بعضه عن بعض. (الْحَبِ) : الثمر يكون في الأكمام والسنبل. (وَالنَّوى) : جمع نواة : ما تكون في التمر والزبيب وما شاكله. (تُؤْفَكُونَ) : تصرفون. (سَكَناً) : ما يسكن فيه الإنسان مكانا كالبيت وزمانا كالليل وهو المراد. (حُسْباناً) : بالحساب والعدد. (يَفْقَهُونَ) الفقه : الفهم مع العمق في التفكير. (مُتَراكِباً) : يتراكم بعضه فوق بعض. (طَلْعِها) الطلع : أول ما يبدو ويظهر من الزهر قبل أن ينشق عنه الغلاف. (قِنْوانٌ) : هو العذق ، كالعنقود. (وَيَنْعِهِ) : نضجه واكتماله.

بعد إقرار مبدأ التوحيد والنبوة ، وبعض مواقف البعث ذكر هنا مظاهر كمال قدرته وعلمه وآياته الكونية التي تشهد له بكل ذلك.

المعنى :

إن الإله الذي يستحق العبادة والتقديس هو الذي يتصف بهذا ، ويعمل هذه الأعمال التي يعجز عن أقلها الأوثان والشركاء والأصنام بل والخلق مجتمعين متكتلين ـ سبحانه وتعالى جل جلاله ـ ..؟؟

إن الله فالق الحب والنوى يخرج الزرع كالنجم والشجر من الحب والنوى ، والحياة هنا بمعنى قبول النمو والتغذية ، ولا شك أن الحب والنوى ميت بهذا المعنى ، وبعضهم يتوسع في الحياة ، ويقول إن الحب والنوى فيهما حياة بدليل أنه لو عقما لما أنبتا ولكن

٦٤٣

اللغة لا تساعدهم وكانوا يمثلون قديما بإخراج الحيوان من النطفة أو البيضة ، ولكن العلم الحديث أثبت أن في النطفة حياة وكذا في البيضة ، وقيل : إن الرأى الصحيح أن الحيوان يخرج بمعنى يتكون من الغذاء ، وهو ميت ويخرج من الحيوان لبنه وفضلاته وهي ميتة وكون خلايا الجسم الحي تتكون من غذاء كاللبن والنبات مع عدم الحياة في الغذاء دليل على كمال القدرة.

والله مخرج الميت من الحي فيخرج الحب والنوى من النبات الحي ، ويخرج اللبن والفضلات من الحيوان الحي ، سبحانه وتعالى من قادر حكيم عليم ، فكيف تؤفكون وتصرفون عن طريق الهدى والفلاح؟ والله فالق الإصباح ، قد فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح عند طلوع الفجر ، وجعل الليل سكنا للحيوان الحي ، يستريح فيه من التعب ، ويسكن جسمه من الألم وأعصابه من التفكير والنصب ، والليل وقت سكون وراحة ، والنهار وقت عمل ونشاط ، وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وتقدير ، وترتيب ونظام محكم لا يختل أبدا لتعلموا بهما عدد السنين والحساب.

فانظر ـ وفقك الله للخير ـ للآيات الكونية الثلاث : شق الإصباح ، وسكون الليل ، ونظام الشمس والقمر وحسبانهما (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر ٤٩].

وهو الذي جعل لكم النجوم والمراد بها ما عدا الشمس والقمر مما لا يعلمه إلا هو جعلها علامات للسارى ، بها يهتدى للوقت من الليل أو من السنة ، ويعرف المسالك والطرق والجهات ، جعلها لتهتدوا بها في ظلمات الليل والماء ، أو المراد ظلمة الخطأ والضلال.

ولما في عالم السماء من صنع وإحكام ، وتقدير ونظام قد فصل الله الآيات القرآنية والآيات التكوينية وهما يدلان على حكم الله وتمام علمه ، ولا يستخرج كل هذا ولا يهتدى به إلا أهل العلم والنظر (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (١) ولذا اختتمت الآية بقوله تعالى : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

هذه آيات الله الكونية في الأرض والسماء ، وها هي ذي آياته في أنفسنا (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) (٢)

__________________

(١) سورة الحشر آية ٢.

(٢) سورة النساء آية ١.

٦٤٤

قد خلقكم من ذكر وأنثى وجعلكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، وفي هذا إرشاد إلى التّوادّ والمحبة ، والتعاطف بين الخلق جميعا ، وإشارة إلى كمال القدرة وتمام العلم والحكمة ، خلقكم من نفس واحدة ، لكلّ مستقر في الأصلاب ، ومستودع في الأرحام ، والاستقرار : مكث غير محدود بزمن ولا وقت وهو أقرب إلى الثبات ، والاستيداع : مكث موقوت معرض للرد والرجوع ، ولهذا كان الاستقرار في الأصلاب والاستيداع في الأرحام. وبعضهم عكس ، وبعضهم قال غير ذلك ، والله أعلم .. قد فصلنا الآيات ووضحناها لقوم يفقهون ويقفون على الأسرار الخفية بذكائهم وعمق تفكيرهم ، ولا شك أن النظر في الخلق والتكوين الإنسانى يحتاج إلى دقة ونظر وفهم.

وها هي ذي آياته التكوينية في النبات.

وهو الذي أنزل من السحاب الذي في السماء ماء فجعل منه كل شيء حي ، فأخرج به المولى ـ جل شأنه ـ نبات كل صنف من الأصناف فالتربة واحدة والماء واحد ولكن الشكل والطعم مختلف سبحانك يا رب أنت القوى القادر (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (١) في الشجرة الواحدة تمر حسن وآخر رديء ، ثمر ناضج ، وثمر نيئ ، ثمر طعمه جميل وأخر قبيح ، سبحان الله أليس هذا من دلائل الوحدانية والقدرة ، فأخرج الله من النبات شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات ، وذلك كورق النجم ، وغصن الشجر ، ويخرج من هذا الأخضر حبا جافّا صلبا متراكبا بعضه فوق بعض في السنبل.

أما الشجر فهذا النخل عنوانه يخرج من طلعها قنوان دانية القطوف سهلة التناول ويخرج من النبات الأخضر جنات من أعناب وغيره من الفواكه والثمار كالزيتون والرمان مشتبها في الشكل والورق والثمر ، وغير مشتبه في لون الثمر وطعمه فمنها الحلو والحامض والمزّ ، بل منها ما هي كاليوسفى والبرتقال أو كالنارنج ، انظر إلى ثمر ما ذكر نظرة اعتبار وفحص إذا أثمر النبات وكيف يصير هذا الثمر من درجة إلى درجة حتى يصل إلى كمال نضجه وتمام منفعته ، وكيف يكون الثمر أجوف فارغا ثم يمتلئ بالخير والبركة ، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون بالله أو فيهم الاستعداد لذلك.

__________________

(١) سورة الرعد آية ٤.

٦٤٥

من كذبهم على الله والرد عليهم

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)

المفردات :

(خَرَقُوا) خلق ، وخرق ، واخترق ، كلها بمعنى واحد ، قال الراغب : الخلق : فعل الشيء بتدبير ورفق ، والخرق : قطع الشيء على سبيل الفساد. (بَدِيعُ) : مبدع على غير مثال سابق ، ومنه البدعة ، لأنه لا نظير لها. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الإدراك : اللحاق والوصول إلى الشيء.

المعنى :

أشرك الناس بالله شركاء من دونه ، وأقسم إبليس : لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين ، وقد عبدوا الملائكة وقالوا : إنها بنات الله ، وأطاعوا الشياطين في أمور الشرك بالله ، وقال المجوس : إن للخير إلها وللشر إلها هو إبليس وذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) والله وحده خلقهم وما يعبدون. فكيف يعبد سواه ، واختلق بعض الناس بجهلهم وحماقتهم لله بنين ، وبنات ، سبحانه وتعالى عما

٦٤٦

يشركون!! فقد قالت اليهود : عزيز ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، وقال المشركون من العرب : الملائكة بنات الله.

كيف يكون ذلك! والله مبدع السموات والأرض وما فيهن ، فهو الخالق البارئ المصور كيف يكون له ولد؟ ولم تكن له صاحبة ، والولد لا بد فيه من تزاوج وتناكح ، وهل يعقل أن تكون له صاحبة تجانسه وتشاكله ، وهو المنزه عن المثيل والشريك : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١). وكيف يكون له ولد! وقد أقر الكل بأنه خلق السموات والأرض ، أفيكون في حاجة إلى ولد؟ وله كل شيء!!؟ سبحانه وتعالى ذلكم الله ربكم ، لا إله إلا هو ، خالق كل شيء ، فاعبدوه وحده ، فهو الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، الخالق البارئ فاطر السموات والأرض ومبدعها وهو على كل شيء قدير.

والله سبحانه لا تدركه الأبصار ، ولا تراه رؤية إحاطة وشمول حتى تعرف كنهه وتحيط به : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) (٢).

والآية الكريمة لا تنفى الرؤية التي وردت بها الأحاديث الصحيحة.

والله يدرك الأبصار ، يراها ويدركها ويقف على حقيقتها وكنهها ، وإلى هنا لم يعرف أحد حقيقة الضوء أو حقيقة البصر ولما ذا لم تر الأذن؟ ولم تسمع العين ولما ذا كان عصب العين ينقل إشارة الرؤية وعصب السمع ينقل إشارة السمع ولكن الله وحده هو الذي يدرك الأبصار ويعلمها وهو اللطيف بذاته الخبير بدقائق خلقه وخفاياهم.

حقائق تتعلق بالرسالة

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ

__________________

(١) سورة الشورى آية ١١.

(٢) سورة البقرة آية ٢٥٥.

٦٤٧

الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)

المفردات :

(بَصائِرُ) : جمع بصيرة ، وتطلق على العقيدة القلبية ، وعلى المعرفة الثابتة والحجة البينة ، ويقابلها البصر الذي يدرك به الأشياء الحسية. (دَرَسْتَ) أى : قرأت ، وفي الحديث : «كان يدارسه القرآن» ومنه الدرس والمدرسة وهي تشير إلى التذليل بكثرة القراءة.

المعنى :

قد جاءكم كما يجيء الغائب المنتظر تلكم البصائر من الحجج والبراهين والآيات الكونية ، والأدلة العقلية ، التي تنير البصائر وتكشف الحجب والستائر ، جاءتكم من ربكم الذي تعهدكم في الصغر والكبر والضعف والقوة فمن أبصر فلنفسه ومن أساء فعليها : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (١) وما أنا عليكم بحفيظ ، ولا برقيب ، كل نفس بما كسبت رهينة ، وما علىّ إلا البلاغ وعلى الله الحساب.

مثل ذلك البيان الشافي نصرف الآيات في القرآن لإثبات أصول الدين ، ونفصلها ليهتدى بها المستعدون للاهتداء على اختلاف عقولهم وألوانهم ، وليقول الجاحدون المعاندون : إنما درست هذا وقرأته على غيرك وليس وحيا من عند الله ، ولقد رموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه علّمه قين (حداد) كان بمكة وهو أعجمى وليس بعربي (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٢) وكيف يصدر هذا القرآن الكامل في كل شيء عن بيئة جاهلية؟ (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٣) ولنظهر هذا القرآن لقوم عندهم عقل وعلم.

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٧.

(٢) سورة النحل آية ١٠٣.

(٣) سورة النجم آية ٤.

٦٤٨

اتبع يا محمد ما يوحى إليك ، وبلغه فالله معك ، الذي لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ، ولا يهمّنك أمرهم ، واعلم أنه إلى الله المرجع والمآب ، ولو شاء ما أشركوا أبدا ولكنه شاء ما وقع لحكم هو يعلمها وما جعلك عليهم حفيظا ورقيبا ، ولست عليهم بوكيل.

النهى عن سب الذين يدعون من دون الله

وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

روى أن زعماء قريش ذهبوا إلى أبى طالب وقالوا له : أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه ، وقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك. فنزلت الآية.

المعنى :

ولا تسبوا أيها المسلمون آلهتهم التي يدعونها من دون الله إذ ربما نشأ عن ذلك أنهم يسبون الله ـ عزوجل ـ عدوانا وتجاوزا للحد في السباب ليغيظوا بذلك المؤمنين ،

٦٤٩

وهم أجهل الناس بقدر الله ، ومن هنا نعلم أن الطاعة إن جرّت إلى معصية تترك. مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من الكفار سوء أعمالهم ، وهكذا سنة الله في خلقه ، يستحسنون ما جرت عليه نفوسهم ، وما تعودته عن تقليد أو جهل ، أو عن معرفة وعناد والله يتركهم وشأنهم ، وهو القادر على كل شيء ، فالتزين أثر لأعمالهم بدون جبر أو إكراه ، وإلا كان الثواب والعقاب وإرسال الرسل عملا لا يصح أن يكون.

وأقسموا ليؤمننّ إذا جاءتهم الآيات التي طلبوها ... كذبوا ، قل لهم : الآيات عند الله ، وهم لا يؤمنون أبدا.

الجزء الثامن

الرد على طلب المشركين الشهادة

على الرسالة

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)

٦٥٠

المفردات :

(وَحَشَرْنا) : جمعنا. (قُبُلاً) : جمع قبيل ، كرغيف ورغف ، أى : ضمناء وكفلاء ، وقيل : قبلا ، أى : مواجهة ومقابلة ، ومنه قيل : قبل الرجل ودبره ، وقرئ قبلا ، أى : عيانا ومواجهة. (شَياطِينَ) قال ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. (يُوحِي) الإيحاء : الإعلام مع الخفاء والسرعة كالإيماء ، والمراد ما توسوس به الشياطين من الجن والإنس. (زُخْرُفَ) الزخرف : الزينة ، ومنه سمى الذهب زخرفا ، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه. (غُرُوراً) : خداعا باطلا. (وَلِتَصْغى) صغى إليه : مال ، وصغى فلان ، وصغوه معك : ميله وهواه. (وَلِيَقْتَرِفُوا) اقترف المال : اكتسبه ، والذنب : اجترحه.

روى عن ابن عباس أنه أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله ، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم : أحقّ ما تقول أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، فنزلت الآية.

وهذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) مع تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر طبائع الناس وما يلاقيه الأنبياء في دعوتهم.

المعنى :

ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة ، كما قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) (٢) ولو كلمهم الموتى بأن نحييهم لهم فيخبروهم بما رأوا من ثواب أو عقاب كما قالوا : (فَأْتُوا بِآبائِنا) (٣) ولو أننا حشرنا عليهم ، وجمعنا لهم من كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على صدق دعواك ، أو جمعنا عليهم كل شيء ضمناء وكفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا.

لو حصل كل هذا لما كان من شأنهم الإيمان ، ولا كان استعدادهم يقتضى ذلك ، لأنهم ينظرون إلى الآيات نظرة تعنت وعداوة ، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ،

__________________

(١) سورة الانعام آية ١٠٩.

(٢) سورة الفرقان آية ٢١.

(٣) سورة الدخان آية ٣٦.

٦٥١

فلم ينظروا نظرا بريئا للهداية والعبرة حتى يتعظوا ويؤمنوا : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (١) لكن لو شاء الله إيمانهم لآمنوا ، ولكنه يتركهم وفطرتهم التي تتنافى مع سلوك طريق الخير والانتفاع بهدى القرآن : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢) مع تبصرتهم وهدايتهم إلى طريق الخير والشر : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٣).

ولكن أكثر المشركين يجهلون ذلك ، فيقسمون بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية مما اقترحوا ليؤمننّ بها ، وما يشعرون بقلوبهم وما انطوت عليه ، وبما ختم عليها حتى صارت كأنها في أكنة ، وقيل : ولكن أكثر المسلمين يجهلون نفوس الكفار وما هي فيه ، فيميلون إلى إنزال الآيات المقترحة علّهم يؤمنون.

وهكذا سنة الله في الخلق. منهم مهتد وكثير منهم فاسقون.

وهكذا سنته مع أنبيائه ، جعل لكل منهم أعداء من الجن والإنس ـ خاصة أولى العزم منهم ـ ليحظوا بدرجات الصبر والعمل ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى الخير جاهدا ، والمشركون يدعون إلى ما يعتقدون جهدهم ، فمن باب تنازع البقاء لا بد من حصول العداوة والبغضاء ، والعاقبة للمتقين (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤).

كما جعلنا هؤلاء أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك أعداء ، هم شياطين الإنس والجن ، روى أبو ذر ـ رضى الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عقب صلاة : يا أبا ذر : هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال : قلت يا رسول الله : هل للإنس شياطين؟ قال : نعم (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) (٥).

__________________

(١) سورة الأنعام آية ٢٥.

(٢) سورة البقرة آية ٢٥٦.

(٣) سورة البلد آية ١٠.

(٤) سورة غافر آية ٥١.

(٥) سورة البقرة آية ١٤.

٦٥٢

وقال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ، أما مظهر عداوة هؤلاء للنبي والمسلمين فإنه يوحى بعض شياطين الجن إلى بعض شياطين الإنس وكذلك يوحى بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وعن مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد علىّ من شيطان الجن ، إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عنى ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرنى إلى المعاصي عيانا.

يوحى بعضهم إلى بعض بالقول المزخرف المزين ، وبالوسوسة والإغراء بالمعاصي ، والتمويه والخداع بالباطل ، ولو شاء ربك ما فعلوه أبدا فذرهم وما يفترون ، يفعلون هذا ليغروهم بالفساد ، لأنه الموافق لأهوائهم ، وليترتب على ذلك أن يرضوه ويطمئنوا إليه ، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون.

الشهادة للنبي بالصدق وللقرآن بالحق

أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)

المفردات :

(حَكَماً) : الحاكم : من يتحاكم إليه الناس ، ويحكم بينهم بالحق أو بغيره ، والحكم : من يحكم بالحق فقط كما قال القرطبي. (مُفَصَّلاً) : مبيّنا فيه الحق والباطل ، والحلال والحرام. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) قال الراغب : تمام الشيء انتهاؤه

٦٥٣

إلى حد لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه ، والمراد هنا أن كلمة الله وافية في الإعجاز والدلالة على صدق الرسول. (لا مُبَدِّلَ) : لا مغيّر.

المعنى :

ما لكم تطلبون آيات دالة على صدقى ، وتحكمون بها على أنى رسول الله؟ وتقسمون أنها لو نزلت لآمنتم.

عجبا! أضللت فأبتغى غير الله حكما بيننا؟! وليس لي أن أتعدى حكم الله ، ولا أن أتجاوزه ، إذ هو الحكم العدل ، وهو الذي أنزل إليكم القرآن كتابا مفصلا فيه كل شيء ، مبينا لكل حكم ، جامعا لكل خير ، فيه الهدى والنور ، والعلم والعرفان ، وهو المعجزة الباقية الدالة على صدق رسالتي لما فيه من الآيات ، ولما أعجز جهابذة البلاغة وأرباب البيان ، مع التحدي الصارخ لهم ... شهد لي بالصدق ، وعليكم بالكذب البهتان!!

والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى ، يعلمون أنه الحق المنزل من عند الله مشتملا على النور والهدى ، ومتلبسا بالحق والعلم إذ هو من جنس الوحى الذي نزل عليهم ، وقد جاء في كتبهم البشارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ؛ فهم أدرى الناس به : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١) وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرته منهم واهتدى.

والخلاصة أنكم تتحكمون في طلب المعجزات والآيات الدالة على صدق الرسول. وقد حصل ذلك بوجهين :

(أ) القرآن وهو المعجزة الباقية القائمة مقام قوله تعالى : «صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى».

(ب) معرفة أهل الكتاب وشهاداتهم للنبي محمد بالصدق.

وإذا كان هذا حاصلا فلا تكونن من الشاكّين ، وهذا لون من ألوان التهييج والإلهاب كقوله : فلا تكونن من المشركين.

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٤٦.

٦٥٤

وتمت كلمة ربك ، وقرئ : «كلمات ربك» ، نعم تم كلام الله فلا يحتاج إلى شيء آخر ، وأصبح كافيا وافيا في الإعجاز ، والدلالة على الصدق ، وقيل : تمت كلمة ربك فيما وعدك به من النصر على الأعداء ، وأوعد به المستهزئين والكافرين من الخذلان والهلاك : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١).

نعم تمت كلمة ربك صدقا فيما أخبر به ، وعدلا فيما حكم به ، ومن أصدق من الله قيلا؟ من أعدل من الله حكما؟

ثم كان كل ما أخبر به ـ جل شأنه ـ من أمر ونهى ، ووعد ووعيد ، وقصص وخبر ، صادقا عادلا ، لا مبدل لكلماته ، ولا راد لقضائه ، فهو القادر على كل شيء ، الحكيم في كل صنع ، السميع لكل قول ، العليم بكل حال ووضع ، سبحانه وتعالى عما يشركون!!

عقائد المشركين وذبائحهم

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ

__________________

(١) سورة الصافات الآيات ١٧١ ـ ١٧٣.

٦٥٥

لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)

المفردات :

(يَخْرُصُونَ) : يحدسون ويقدّرون ، والخرص : الحدس والتخمين ، والخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين معه. (فَصَّلَ) : بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرمات. (الْإِثْمِ) : القبيح ، وفي لسان الشرع : ما حرمه الله. (لَفِسْقٌ) : معصية وخروج عن دائرة الدين.

المعنى :

لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الضالون والمشركون ، فإنهم يسلكون سبل الضلال والإضلال ويتبعون الظنون الفاسدة ، وإن تطع أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين ، إن تطعهم في أمور الدين ، وتخالف ما أنزل الله عليك ، يضلوك عن سبيل الله ، سبيل الحق والعدل والصراط المستقيم ، إذ هم لا يتبعون فيما يصدر عنهم إلا الهوى والظن ، ويتجافون عن الحجج العقلية والبراهين الإلهية ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يحدسون كالخارص في ثمر النخل ، فاعتقادهم مبنى على الحدس والتخمين ، لا على الحجة واليقين ، وصدق الله : فكل النظريات المخالفة ليس مع أصحابها حجة ولا يقين وإنما كله ظن وتخمين.

٦٥٦

أليس هذا من أخبار السماء الصادقة؟ فها نحن أولاء بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم من أخبار الأمم وأحوالها إلا النزر اليسير.

لا تطعهم أبدا ، إن ربك هو أعلم منك ومن غيرك بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.

وإذا كان الأمر كذلك ، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقت الذبح. إن كنتم بآياته مؤمنين.

وقد كان المشركون من العرب يجعلون الذبائح من أمور العبادات ، فيتعبدون بالذبح للآلهة والأصنام ، ويقولون : كيف تعبدون الله ، وما قتله الله لا تأكلونه؟ أى : ما مات حتف أنفه بلا ذبح. وما قتلتموه بأيديكم تأكلونه على أنه حلال.

أىّ مانع لكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه عند الذبح ، والحال أنه قد فصل لكم ، وبين ما أحل وما حرم : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً) [الأنعام ١٤٥] .. فقد حرم الله هذه المحرمات ، وذكرها في سورة المائدة بالتفصيل ، آية ٣ .. إلا في حال الاضطرار والضرورة فحينئذ يزول التحريم بقدر الضرورة (فالضرورات تبيح المحظورات) وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم الزائفة ، وشهواتهم الفاسدة ، من غير علم منهم بصحة ما يقولون ، يضلون غيرهم ، ويصدونهم عن سبيل الله ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين.

وذروا الإثم واتركوه ، سواء منه ما ظهر للناس واكتسبته الجوارح ، أو ما خفى عن الناس وكان من عمل القلب ، فالله يعلم الغيب والشهادة ، إن الذين يكسبون الإثم ، ويجترحون الذنب سيجزون بما كانوا يقترفون. أما من يعمل السوء بجهالة ويتوب إلى الله من قريب فأولئك يتوب الله عليهم ، فرحمته وسعت كل شيء.

ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، بأن ذبح للصنم ، أو ذكر عليه غير اسم الله ، أو مات حتف أنفه ولم يذكر عليه شيء ، وإنه ـ أى : الأكل من هذا ـ لفسق ومعصية وخروج عن الدين وحدوده.

وقال مالك : كل ما لم يذكر اسم الله عليه بأن ترك سهوا أو عمدا فهو حرام ، أخذا

٦٥٧

بظاهر الآية ، وقال الأحناف : إن ترك الذكر عمدا فهو حرام. وقال الشافعى : إذا كان الذابح مسلما فهو حلال ترك سهوا أو عمدا.

وإن الشياطين من الإنس والجن ليوحون إلى أوليائهم من الإنس والجن ويوسوسون لهم بالقول المزخرف ، والغرور الباطل ، ليجادلوكم على أساس باطل خال من الحكمة والعقل ، مثلا يقولون للمسلمين : كيف تحرمون ما قتله الله وتحلون ما قتلتم بعد هذا تدعون عبادة الله؟!!

وإن أطعتموهم مطلقا في أى شيء وبخاصة فيما نحن فيه من استحلال الميتة ، إنكم لمشركون معهم ، وفيه دليل على أن من أحل حراما أو من حرم حلالا فهو كافر ومشرك ، لأنه أثبت مشرعا سوى الله ، وهذا هو الشرك بعينه.

مثل المؤمن والكافر

أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)

المفردات :

(أَكابِرَ) أكابر القوم : رؤساؤهم. (مُجْرِمِيها) الإجرام : ما فيه الفساد والضرر من الأعمال ، والمجرمون : الفاعلون لهذه الأعمال. (قَرْيَةٍ) : البلد الذي يجمع الناس كالعاصمة مثلا ، وقد تطلق على الشعب والأمة. (لِيَمْكُرُوا) المكر : صرف الغير عما يقصده بحيلة.

٦٥٨

المعنى :

بعد أن أبان الله أن من الناس المهتدى ، وكثير منهم الفاسقون ، ضرب مثلا للمؤمن وآخر للكافر ، فبين فيه أن المؤمن المهتدى بعد الضلالة ، الموفق إلى الخير والهدى ، المميز بين الحق والباطل : كمن كان ميتا فأحياه الله ، وجعل له نور القرآن والحكمة يمشى به في الناس : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١) له نور يستضئ به في ظلمات الحياة ، فيميز بين الخير والشر ، وأما الكافر الذي بقي على الضلالة يتخبط في ظلمات الكفر والفساد فكمن استقر في الظلمات الحسية لا ينفك عنها ، وليس بخارج منها ، فهو لا يهتدى إلى سواء السبيل ولا يسير على الطريق المستقيم.

أيستوى المؤمن والكافر؟ نعم لا يستويان أبدا ، وهل يستوي الظلمات والنور؟

مثل هذا التزيين السابق ، للمؤمن إيمانه وللكافر كفره ، قد زين للكافرين ما كانوا يعملون ، والذي زين هذا هو الشيطان الذي أقسم لأغوينهم أجمعين ، أو هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ نظرا إلى قوله : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [سورة النمل آية ٤].

وكما جعلنا في مكة صناديدها وأشرافها ليمكروا ويصدوا عن سبيل الله فيها ، كذلك جعلنا في كل قرية مجرميها وفساقها ، أكابرها وأشرافها ، لأنهم أقدر على المكر والخداع وترويج الباطل بين الناس لرئاستهم وسيادتهم. وهكذا سنة الله مع أنبيائه ، يتبعهم الضعفاء ويكفر بهم الأشراف ، ومع هذا فالعاقبة للمتقين ، وما يمكر هؤلاء إلا بأنفسهم ، لأن عاقبة مكرهم عليهم ، وما يشعرون.

غرور المشركين وعاقبته

وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)

__________________

(١) سورة الحديد آية ١٢.

٦٥٩

المفردات :

(صَغارٌ) الصغار والصغر : الذل والهوان ، والصغر : القلة في المحسوسات. (أَجْرَمُوا) : ارتكبوا ما فيه جرم.

كان الوليد بن المغيرة يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك ، لأنى أكبر منك سنّا ، وأكثر منك مالا ، فأنزل الله هذه الآية ، وقيل : نزلت في شأن أبى جهل.

المعنى :

أراد أكابر قريش أن تكون لهم النبوة والرسالة ، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١)!! وذلك حسدا منهم وغرورا ، وظنّا منهم أن الرسالة مركز دنيوى ، فكما بسط الله الرزق لهم وآتاهم مالا ممدودا ـ أى : كثيرا ـ وبنين شهودا ـ أى : حضورا للمجالس ـ وكبارا في القوم. يؤتيهم النبوة ، ويمنحهم الرسالة.

ولهذا إذا جاءتهم آية دالة على صدق محمد ، وأنه رسول الله ، قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله من الآيات والمعجزات : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (٢). (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) (٣) أهم يقيسون الرسالة على مظاهر الدنيا الكاذبة؟ وما علموا أن الله يعلم أهل رسالته ومكان نبوته ، ومن هو أهل لأداء الرسالة والقيام بالأمانة على الوجه الذي يرضاه ، على أن الرسالة فضل من الله يمنحها لمن يشاء من عباده ، لا ينالها أحد بكسبه ، والله لا يعطيها إلا لمن هو أهل لها لسلامة فطرته ، وطهارة قلبه ، وقوة روحه ، ومناعة نفسه ، حتى يمكنه القيام بأعبائها ، أما من يطلبها ويرغب فيها فليست له ، ولا هو يصلح لها ، ولا هي تصلح له.

وها هي ذي عاقبة هؤلاء الذين أجرموا في حق الله ، وطمعوا فيما لا طمع فيه سيصيبهم صغار وذلة ، وعذاب ومهانة من عند الله ، جزاء بما كانوا يمكرون ، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.

__________________

(١) سورة الزخرف آية ٣١.

(٢) سورة المدثر آية ٥٢.

(٣) سورة الزخرف آية ٣٢.

٦٦٠