التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

في قبضته وهو القاهر فوق عباده ، ولا يملك الرسول شيئا ، ثم بين هنا أن ما استعجلوه به ليس فيما يدخل في علم النبي حتى يخبرهم في أى وقت يقع وإنما هو مما استأثر الله بعلمه ، وهو العليم بكل شيء.

المعنى :

عنده وحده ـ سبحانه ـ ما يوصل به إلى الغيب المحجوب عن الكل ، أى : عنده علم الغيب. إذ العلم صفة تنكشف بها لله ـ سبحانه وتعالى ـ معلومات الغيب والشهادة ، وإنما أطلق المفتاح وأراد العلم للإشارة إلى أن الغيب المستور في أماكن بعيدة لا يصل إليها أى مخلوق كالخزائن المغلقة بالأبواب والأغلاق ، ولها مفاتيح محكمة ، وقيل المعنى : وعنده خزائن الغيب ، على أن المراد بالمفاتيح الخزائن. لا يعلمها إلا هو وحده الذي يعلم السر وأخفى ، فهذه الجملة إذن توكيد للجملة السابقة.

وهو يعلم كل ما في البر وكل ما في البحر ، فهو يعلم المشاهدات كما يعلم المغيبات ، والله يعلم ما تسقط من ورقة في أى زمان أو مكان ، فهو يعلم الأحوال كلها المتعلقة بالذوات السابقة إذ سقوط الورق حال من الأحوال ، وذكره إشارة إلى جميع الأحوال.

وليست هناك حبة في ظلمات الأرض السحيقة. وأغوارها البعيدة ، ولا شيء رطب ، ولا شيء يابس ، أى : ولا حي بالمعنى العام ، ولا يابس إلا في مكنون علمه الثابت الذي لا يمحى ، كما أن الشيء المسجل المكتوب كتابة لا يمحى ، وقيل المعنى : كل ذلك في اللوح المحفوظ ، والله أعلم بكتابه.

والخلاصة أنه ـ سبحانه ـ يعلم الغيب والشهادة ، والأحوال الظاهرة والباطنة.

أما أنتم أيها الناس ... فالله يتوفاكم بالليل ، أى : ينيمكم فيه ، ويقبض أرواحكم إليه ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ، ويعلم ما كسبتم في النهار علما سابقا على عملكم ، فهو يعلم أن منكم من يكفر ، ومنكم من يعصى ربه ؛ ثم بعد هذا الموت الأصغر الذي فيه يقبض أرواحكم إليه ويعلم أعمالكم بعد ما يبعثكم في الدنيا نهارا ليعمل كل عمله ، وليقضى أجل مسمى عنده وعمر محدود

٦٢١

لكل منكم ، ثم إليه مرجعكم بالموت الأكبر لا إلى غيره ، ثم ينبئكم ، والمراد : يجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.

وهو القاهر فوق عباده المتسلط عليهم ، المتصرف فيهم ، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة.

وهو يرسل عليكم حفظة من الملائكة يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [سورة الانفطار الآيتان ١٠ و ١٢].

سبحان الله!! ما أعجب شأننا ، علينا رقيب وعتيد ؛ يحصون علينا أعمالنا ، ويكتبون وهم لا يغفلون ، ومع هذا نعصى الله جهرا وسرّا؟!!! سبحانك أنت أرحم الراحمين!!.

ولعل سائلا يقول : ما الحكمة في الحفظة الكتبة والله أعلم بكل شيء؟ والجواب أن المكلف إذا عرف هذا كان أهدى له وأبعد عن الفحشاء والمنكر ، وأقرب إلى عقل بعض الناس (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) [سورة الكهف آية ٤٩].

يرسل الحفظة الكرام البررة يحصون الأعمال مدة الحياة حتى إذا انتهى الأجل وحم القضاء ، وجاءت أسباب الموت ومقدماته ، توفته رسلنا ـ وهم ملك الموت وأعوانه ـ والحال أنهم لا يفرطون ولا يقصرون بزيادة أو نقصان ، ثم ردوا بعد هذا جميعا إلى الله وإلى حكمه ، وما الحكم الحق الذي يعطى بالعدل إلا له ، له الحكم وإليه الأمر ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، وهو أسرع الحاسبين : يحاسب الكل في أقل وقت وأسرعه لا يشغله شأن عن شأن. وفي الحديث : «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة».

من مظاهر القدرة والرحمة

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ

٦٢٢

ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)

المفردات :

(ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : ظلمات الليل والسحب والمطر ، وقيل : المراد ظلمات معنوية. (تَضَرُّعاً) التضرع : المبالغة في الضراعة والتذلل والخضوع. (وَخُفْيَةً) بالضم والكسر : الخفاء والاستتار. (كَرْبٍ) الكرب : الغم الشديد. (يَلْبِسَكُمْ) : من اللبس ، والمراد : يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف ، وأصل التركيب : يلبس عليكم أمركم. (شِيَعاً) : جمع شيعة ، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر واتفقوا فيه. (نُصَرِّفُ) : نحوّلها من نوع إلى آخر من فنون الكلام. (يَفْقَهُونَ) : يفهمون.

المعنى :

يسلك القرآن المسالك المتعددة لغرس شجرة التوحيد في قلوب العرب ببيان مظاهر القدرة والعلم والرحمة ، فقال ما معناه : من ينجيكم من ظلمات البر والبحر؟ ومن ينقذكم من شدائد الأيام وهولها؟ ومن ينير لكم السبيل إذا غم الطريق وأظلم ، ومن يسكن البحر الهائج والبركان الثائر؟ هو الله الرحمن الرحيم القاهر فوق عباده ، القادر على كل شيء ، تدعونه متضرعين متذللين ، مع رفع الصوت والبكاء ، وقد يكون الصوت في السر والخفاء. لئن أنجيتنا من هذه الظلمات لنكونن ممن يوحدك ويشكرك (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ

٦٢٣

وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١) قل لهم : الله ينجيكم من هذه الأهوال ، ومن كل كرب وغم ثم أنتم بعد هذا تشركون بالله غيره ، ومن هنا نفهم أن الإنسان بطبيعته يلجأ إلى الله في الشدة والمكروه ، وفي النجاة ينسى نفسه ويعود إلى جهله.

قل لهؤلاء المشركين : الله هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا لا يعرف كنهه ولا يقف على حقيقته إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ ينزل عليكم من فوقكم كالرجم بالحجارة والآفات أو يصعد إليكم من تحتكم كالزلازل والبراكين والخسف المعهود في الأمم السابقة ، أو يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف ، حتى تكونوا فرقا وشيعا ، وأحزابا وجماعات ، كل فرقة لها اتجاه خاص ، تتقاتلون وتتحاربون ، ويذيق بعضكم بأس بعض ، حتى يقتل بعضكم بعضا.

وعن ابن عباس : المراد بمن فوقكم في الآية : أمراؤكم ، ومن تحت أرجلكم ، أى : عبيدكم وسفلتكم.

انظر يا من يتأتى منه النظر كيف نصرف الآيات ونقلبها على وجوهها المختلفة ، لعلهم بهذا يفقهون الحق ويدركون السر ، ولا شك أن التنويع في الآراء وطرق الأبواب في الحجج ، سبيل إلى الفهم وإدراك الحقائق ، ولكن عند من ينظر النظر البريء الخالي من الحجب الكثيفة الموروثة كالتقليد الأعمى.

وقد كذب بالقرآن قومك ، وهو الذي لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد.

قل لهم : لست عليكم بوكيل. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٢) لكل نبأ مستقر ، تظهر فيه حقيقته ، ولكل أمة أجل ، ولكل أجل كتاب تعلمون به صدق الوعد والوعيد (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣).

__________________

(١) سورة يونس آية ٢٢.

(٢) سورة ق آية ٤٥.

(٣) سورة فصلت آية ٥٣.

٦٢٤

والعذاب في الآية ورد منكّرا فيشمل المجاعة والقحط ، والصيحة والرجفة ، والريح الصرصر والزلازل والحجارة من سجيل والبراكين ، ويشمل ما تلقيه الطائرات وما تقذفه المدافع وما في السفن والغواصات من الطروبيد والألغام التي تنفجر فتبيد الناس ؛ وما القنابل الذرية عنكم ببعيد.

روى عن ابن عباس من طريق أبى بكر بن مردويه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعوت الله أن يرفع عن أمتى أربعا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع اثنتين : دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء ، والخسف من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع عنهم الخسف والرجم ، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين».

وقد تأكد كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فها هي ذي الأمة المحمدية قد وقاها الله من الخسف والرجم ؛ كرمها لأجل نبيها فلم يعذبها بعذاب الاستئصال.

أما الخلافات الحزبية والفرق والشيع ، وقتال بعضنا لبعض فظاهر للعيان ، ولا يزال الشر يأتينا من هذا الباب وأن بعضنا سبب الويل بنفاقه مع المستعمر واتحاده معه واستخدام الأجنبى له ، وما الحوادث التي تترى علينا ونشاهدها ببعيدة!؟

وفي الحديث حديث ثوبان «وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة ، وألا أسلط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا».

أما زال ملك المسلمين بسبب نزاعهم وخلافهم واتصال بعضهم بالأجنبى العدو اللدود؟! تنبهوا يا قوم وارجعوا إلى دينكم وقرآنكم فالخير لا يمكن أن يكون إلا فيه وتذكروا إنما يتذكر أولوا الألباب.

المستهزئون بالقرآن وجزاؤهم

وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)

٦٢٥

وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)

المفردات :

(يَخُوضُونَ) أصل الخوض : الدخول في الماء ، ثم استعمل في غمرات الأشياء ، أى : اتجاهها ؛ تشبيها لها بغمرات الماء ، والمراد : الاندفاع في الحديث والاسترسال فيه والدخول في الباطل مع أهله. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) : انصرف عنهم. (الذِّكْرى) : التذكر. (وَلكِنْ ذِكْرى) المراد : تذكيرا. (تُبْسَلَ نَفْسٌ) البسل : حبس الشيء ومنعه بالقوة ، ومنه أسد باسل ، وشجاع باسل ، أى : يحمى نفسه ويمنعها ، المراد : حبسهم في النار ومنعهم من الثواب.

روى عن سعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت في المشركين المستهزئين بالقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المعنى :

وإذا رأيت يا محمد وكذا كل مسلم الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والاستهزاء فأعرض عنهم ، ولا تجالسهم حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء ومثلهم من يخوضون في القرآن بتأويله تأويلا يوافق أهواءهم واتجاههم ، لا تجالسهم وابتعد عنهم ،

٦٢٦

وقد روى هذا الرأى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ ولعل السر في ذلك أنك إذا أعرضت عنهم ، وقمت من مجلسهم كان أدل على عدم مشاركتهم فيما يقولون وعلى عدم الرضا عما يفعلون! وهذه بلا شك أدعى للكف عن الخوض والاستهزاء غالبا وإذا خاضوا في غير ذلك الحديث فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم.

قال القرطبي : «ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا ، وعرف أنه لا يقبل منه وعظا ولا نصيحة فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه».

وإن أنساك الشيطان قبح مجالستهم والنهى عنها ، ثم تذكرتها فلا تقعد بعدها مع هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.

وهنا بحث بسيط :

هل يجوز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النسيان؟ وإذا جاز فهل في كل شيء أم في شيء خاص؟ والجواب عن الأول يجوز النسيان عليه بغير وسوسة من الشيطان (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) وقد ثبت وقوعه من آدم (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ومن موسى (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) وثبت في الصحيحين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سها في الصلاة وقال : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني».

وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل السلطان عليه والتصرف فيه (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [سورة النحل آية ٩٩].

والجواب عن الثاني : أن الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينسى فيما يبلغه عن ربه (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) وقيل : يجوز أن ينسى والله ينبهه حتما ، وما على الذين يتقون الله ويتركون غيرهم يخوضون في الباطل ويستهزئون بالقرآن من شيء أبدا ، ولكن إذا تركوهم بعد الموعظة وأعرضوا عنهم فهم يذكرونهم بهذا لعلهم يتقون الله فلا يخوضون في غمرات الشرك مرة ثانية حياء ممن يجالسهم أو كراهة إساءتهم.

وقيل المعنى : ولكن عليهم أن يذكروهم فلعلهم يتقون الله.

يا أيها الرسول : دع الذين اتخذوا دينهم الذي كان يجب أن يتبعوه ، ويهتدوا به اتخذوه لعبا ولهوا ، فإنهم لما عملوا هذه الأعمال التي ختم الله بها على قلوبهم ودس بها

٦٢٧

نفوسهم ، ولم يعملوا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد ، وهذا هو اللعب ، وشغلوا أنفسهم عن الجد والعمل المفيد وهذا هو اللهو. وغرتهم الدنيا ، وغرهم بالله الغرور ، يا أيها الرسول أعرض عنهم ، ولا تبال بأمثال هؤلاء ، وذكّر به من يخاف وعيدي خوف أن تبسل نفس في الآخرة بما كسبت ، وترهن بما عملت ، وتحبس بما قدمت (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ليس لكل نفس من دون الله ولى يلي أمرها ، ويدفع عنها شرها ، وليس لها شفيع يشفع لها : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [سورة غافر آية ١٨].

وكيف يكون غير هذا وإن تفد النفس نفسها بكل فدية وعدل يتساوى مع الذنب لا يقبل منها أصلا (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [سورة البقرة آية ٤٨].

أولئك الذين اتخذوا القرآن هزءا وسخرية واتخذوا دينهم لعبا ولهوا قد حرموا الثواب ، وأسلموا أنفسهم للعذاب ، وحبسوا في نير العقاب ، ولهم شراب من حميم وغساق ، جزاء من ربك وفاق ، ولهم عذاب أليم.

الإسلام والشرك

قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ

٦٢٨

فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

المفردات :

(أَعْقابِنا) : جمع عقب ، وهو مؤخر الرجل ، ويقول العرب فيمن أحجم بعد إقدام : رجع على عقبيه ونكص ، وارتد على عقبه ورجع القهقرى ، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم. (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) : ذهبت بعقله وهواه ، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن. (حَيْرانَ) : تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع. (الصُّورِ) : القرن ، وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون!

المعنى :

قل لهم يا محمد : أتدعو من دون الله ما لا ينفعنا إذا دعوناه ، ولا يضرنا إذا تركناه ، وكيف نرد على أعقابنا ، ونترك ديننا بعد إذ أسلمنا لله ربنا؟! أنعود إلى الكفر والشرك والضلال بعد الإسلام والهدى والنور؟ أنعود إلى ملة الكفر بعد إذ هدانا الله ، ووفقنا إلى صراط مستقيم صراط الله العزيز الحكيم! إن هذا لشيء عجيب.

إننا إذا فعلنا ذلك كنا كالذي استهوته الشياطين وذهبت بعقله ، وأطارت صوابه ولبّه ، وأصبح حيران تائها لا يدرى كيف يسير ، والحال أن له أصحابا يدعونه إلى الطريق الحق ويقولون له : ائتنا ، ولكن أين هو منهم؟ فقد ختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله؟

نعم ، من يرتد مشركا والعياذ بالله بعد إيمانه كمن أصبح هائما على وجهه ، لا يلوى على شيء تاركا رفاقه على الطريق الحق وهم ينادونه : الهدى والفلاح والخير والرشاد والطريق الحق هنا. عد إلينا فلا يستجيب لهم لانغماسه فيما يضره ولا ينفعه ، وفيما ظن أنه خير والواقع أنه شر.

٦٢٩

ادعهم أيها الرسول وقل لهم : إن هدى الله هو الهدى ، وطريق الإسلام هو الحق وهو الصراط المستقيم ؛ وقل لهم : إنا أمرنا بأن نسلم لرب العالمين فأسلمنا وجوهنا له ؛ وانقدنا لأمره إذ فيه الخير في الدنيا والآخرة ، وأمرنا بأن نقيم الصلاة وأن نتقي الله في السر والعلن ، فهو الذي إليه تحشرون وإليه وحده المرجع والمآب ، وهو الذي خلق السموات والأرض خلقا متلبسا بالحق الذي لا شك فيه خلقا للسنن الكونية المشتملة على الحكم البالغة (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ؛ (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) واذكر يوم يقول للشيء أيا كان : (كُنْ فَيَكُونُ) ومن كان أمره التكويني (كن) مطاعا وحاصلا (فيكون) كان أمره التكليفي كذلك (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وله الملك وحده ، يوم ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض ، ويهلك ، حتى الملك الذي نفخ فيه ، ثم ينفخ مرة أخرى ، فإذا الكل قيام ينتظرون ماذا يفعل الله بهم وهو عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير.

فالله الموصوف بهذا ، أندعو من دونه ما لا ينفع ولا يضر (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

كيف ترك إبراهيم الشرك؟

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ

٦٣٠

الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)

المفردات :

(إِبْراهِيمُ) : خليل الرحمن ، وأب إسماعيل ، وجد العرب ، وأبو الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ جميعا. (آزَرَ) : أبو إبراهيم أو عمه ، وقيل غير ذلك. (مَلَكُوتَ) : ملك الله وسلطانه فيهما. (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) : ستره بظلمته. (كَوْكَباً) : نجما مضيئا. (أَفَلَ) الأفول : غيبوبة الشيء بعد ظهوره. (بازِغاً) البزوغ : ابتداء الطلوع. (فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق. (حَنِيفاً) : مائلا عن الشرك والضلال.

كان العرب يدينون لإبراهيم الخليل ، ويعترفون به ، ويدعون أنهم على ملته ، وها هو ذا إبراهيم يجادل قومه ويراجعهم في عبادة الأوثان المرة بعد المرة ، فهل من معتبر؟ ولقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يذكر هذا الوقت ، والمراد ما حصل فيه ؛ لعل العرب يرجعون عن غيهم ويدركون خطأهم في عبادة الأوثان.

المعنى :

واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما وأوثانا تعبدهم من دون الله؟ إنى أراك وقومك في ضلال مبين واضح ، وأى ضلال أوضح وأكثر من عبادتكم صنما تتخذونه من حجر أو شجر أو معدن؟ تنحتونه بأيديكم ، وتعبدونه ، إن هذا لضلال مبين.

أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون فأنتم أرفع من الصنم شأنا ، وأعلى مكانا ، ثم تتخذونهم آلهة معبودة مقدسة.

٦٣١

وكما أرينا إبراهيم الحق في شأن أبيه وقومه ، وأنهم على ضلال مبين أريناه المرة بعد المرة ملكوت السموات والأرض ، فاطلع على أسرار الخلق وخفايا الكون ، وهل يعرف ملكوته إلا هو ، وهل وقف العلماء بمراصدهم ومكبراتهم وآلاتهم الحديثة إلا على ما يوازى حبة في صحراء بالنسبة إلى ملكوت الله؟

أرينا إبراهيم الملكوت وما فيه من أسرار العظمة ، وبديع النظام ، وقوة التدبير ، وعظمة الخلق (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ليعرف إبراهيم نواحي العظمة وسنن الله في خلقه ، وحكمه في تدبير خلقه ، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين ، وليكون في خاصة نفسه من الراسخين والموقنين بالتوحيد الخالص.

وهكذا أنار الله بصيرته ، وأراه ملكوته ، ولما جن عليه الليل ، وستره بلباسه رأى كوكبا ممتازا عن الكواكب أنار الوجود وأفاض على العالم ضوءا خافتا ، قال إبراهيم حينئذ في مقام المناظرة والمحاجة : هذا ربي تمهيدا لإقامة الحجة على قومه ، فلما أفل وغاب وأسدل الليل عليه ستاره قال إبراهيم : ما هذا إله أبدا ... يظهر ثم يختفى؟ أنا لا أحب الآفلين ، ولا أثق بهم فضلا عن كوني أعتقد فيهم الربوبية ، وكيف يفيد ما يغيب ويستتر؟ (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) وأراد إبراهيم أن يسلك طريقا آخر ، فلما رأى القمر بازغا قد عم ضوؤه الكون ، وهو أقوى من الكوكب ، قال : هذا ربي ، وهو أحق من الكوكب السابق ، فلما أفل القمر وغاب كذلك ، قال إبراهيم : ما هذا؟ تالله لئن لم يهدني ربي خالق الأكوان ، والكواكب والأقمار لأكونن من القوم الضالين ، وهذا تعريض بأن عبدة الكواكب والأصنام في ضلال مبين.

فلما رأى الشمس بازغة وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا ، إذ هي مصدر الحياة والدفء ومبعث النور والحركة قال إبراهيم : نعم هذا ربي. هذا أكبر من القمر والكوكب نفعا وضوءا وجرما ، وفي هذا مجاراة لقومه في أفكارهم واستدراج لهم حتى يسمعوا حجته.

فلما أفلت واحتجبت ولفها الليل بأستاره بعد ما أدركها الاصفرار والذبول ، وملأت الأفق بدم الشفق ، وجاء الليل بجحافله قال : ما هذا يا قوم؟ إنى برىء مما تشركون بالله ، فهذا حال الشمس والقمر والكوكب ، وفيهن شيء من النفع ظاهر

٦٣٢

فكيف حال الصنم من شجر أو مدر أو معدن أو طعام؟ ولعلكم يا كفار مكة تتعظون.

قال إبراهيم بعد هذا : إنى أسلمت وجهى مخلصا لله متوجها لذاته الكريمة بالعبادة والتقديس إذ هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، خالق الأكوان صاحب الملك والملكوت فاطر السماء والأرض ، فالق الإصباح والنور ، خالق الليل والنهار ، رب الشمس والقمر.

ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، وإسلام الوجه : هو توجه الذات والقلب لله ، وعبر به لأن الوجه أشرف عضو في الجسم وهو الشرفة التي تطل منها الروح.

وانظر في قصة إبراهيم حيث حاور وتلطف في القول ، وهكذا الحكمة مع الخصم العنيد ، فقال : لا أحب الآفلين ، ثم قال ثانيا : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ، وثالثا صرح بالبراءة من الشرك ومن المشركين (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) (١) ثم ذكر عقيدته بعد ما هدم أساس الشرك بالدليل حيث قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

محاجة إبراهيم لقومه

وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) سورة الممتحنة آية ٤.

٦٣٣

سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)

المفردات :

(حاجَّهُ) المحاجة تطلق على محاولة الخصم في إثبات الدعوى ، وعلى رد دعوى الخصم ، وهي بهذا حجة دامغة أو شبهة واهية. (بِظُلْمٍ) المراد به : الشرك ؛ لأنه الظلم الأكبر.

المعنى :

ها هو ذا إبراهيم قد جاء قومه بالحق ، وأورد البينات من الحجج الدامغة والأدلة القاطعة ، حيث تمشى معهم ونزل إلى مستواهم ، وفي النهاية أثبت أن الذي فطر السموات والأرض هو المعبود بحق لا إله إلا هو.

وحاجة قومه بأوهى الحجج ، وأتوا بشبهات هزيلة ، لا تنهض دليلا إلا عند من ختم الله على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة.

فقد قالوا : إنا نتخذهم آلهة تقربنا إلى الله ، وتشفع عنده ونحن قد وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ، وإياك يا إبراهيم والآلهة ، احذرهم فإنا نخاف عليك منهم.

قال إبراهيم : أتحاجّونّي في الله؟! إن هذا لشيء عجيب ، كيف ذلك؟ والله خلق السموات والأرض وله ملكوت لا يحيط به إلا هو ، وهو القادر على كل شيء ، وهذه الأصنام لا تضر ولا تنفع ، ولا تسمع ولا ترى ، بل هي مخلوقة لكم وإن يسلبها الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.

٦٣٤

أتحاجوني في الله وقد هداني إلى سواء السبيل ، ولا أخاف هذه الأصنام أبدا فهي لا تنفع نفسها ولا غيرها ولا تضر ، وكيف أخاف ما تشركون به ؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله وأنا لا أخافهم في وقت من الأوقات إلا أن يشاء الله ربي وربكم لي شيئا من الضر فينزل بي ما يشاء كأن يقع علىّ صنم فيصيبني ؛ أو ينزل شهاب من السماء فيحرقنى ، كل ذلك بمشيئة الله وحده! أما أن لهذه الأصنام شيئا في أنفسها أو في غيرها فهذا شيء لا يدور بخلد عاقل ، ولا ينطق به إنسان كامل.

أعميتم فلا تتذكرون شيئا أصلا ، حتى تسووا بين الخالق والمخلوق ، وبين الإله واهب الوجود وبين الحجر أو الكوكب المخلوق.

عجبا لكم!! كيف أخاف آلهتكم التي ينادى العقل الحر بأنها لا تنفع ولا تضر ، ولا تخافون إشراككم بالله غيره وقد قامت الحجج العقلية والنقلية على أنه الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد.

وإذا كان هذا هو الواقع ، فأينا أهدى سبيلا ، وأحسن رأيا ، وأقوم قيلا؟! وأحق بالأمن وعدم الخوف؟ إن كنتم من أهل العلم والعقل والفكر الحر فالذين آمنوا أحق الناس بالأمن والطمأنينة ، لأنهم آمنوا بالله ورسله وسلكوا طريق العقل والحكمة ولم يخلطوا إيمانهم بظلم كالشرك ، أولئك لهم الأمن الكامل التام في الدنيا والآخرة ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة (١) ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وقالوا : أيّنا لم يظلم؟ فقرئ (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢).

وتلك حجتنا القوية آتيناها إبراهيم حجة له على قومه ، ولا غرابة في ذلك فالله يرفع من يشاء من عباده درجات بعضها فوق بعض ، فهذه درجة الإيمان وأخرى درجة العلم وثالثة درجة الحكمة والتوفيق ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء إن ربك عليم بخلقه.

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب ظلم دون ظلم حديث رقم ٣٢.

(٢) سورة لقمان آية ١٣.

٦٣٥

إبراهيم أبو الأنبياء ومكانتهم

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)

المفردات :

(اجْتَبَيْناهُمْ) : اخترناهم واصطفيناهم. (لَحَبِطَ) : بطل عنهم عملهم. (الْحُكْمَ) : العلم النافع والفقه في الدين ، وقيل : القضاء بين الناس.

٦٣٦

المعنى :

كان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أمّة ، وكان من القانتين ، وهو من أولى العزم وهو أبو الأنبياء ، فما من نبي بعد إلا وهو من سلالته (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [سورة الحديد آية ٢٦].

ووهبنا له على كبر منه ، وعقم امرأته ويأس ، إسحاق (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) جزاء إيمانه الكامل ، وإحسانه الشامل ، ونجاحه في ابتلاء الله له بذبح ولده إسماعيل.

فإبراهيم من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء فهو من سلالة نوح (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) وهدينا من ذريته داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، فهي ذرية طيبة (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) وإبراهيم واسطة العقد جده نوح وأولاده الأنبياء ، وكذلك نجزى المحسنين.

وهدينا من ذريته كذلك زكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس وكل من الصالحين ، وهدينا من ذريته إسماعيل ابنه لصلبه وجد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على عالمي زمانهم.

وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

ولقد اجتبيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة ، وهديناهم صراطا مستقيما ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، والله واسع عليم ، ولو أشركوا بالله شيئا لكان جزاؤهم أن تحبط أعمالهم ؛ إذ توحيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو المزكى للنفوس ، والمطهر للأرواح. وهو أساس الثواب ، ومناط الأجر فإذا انهار الأساس فلا يبقى معه ثواب للعمل أصلا (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر آية ٦٥].

أولئك المذكورون جميعا ينهلون من معين واحد ، ولهم رسالة واحدة هي إرساء

٦٣٧

قواعد التوحيد في الدنيا لله ـ سبحانه وتعالى ـ وإن اختلفت في الشكل وطرق الأداء والمعجزات ، تبعا لظروف كل زمن وأمة ، أولئك الذين آتيناهم الكتاب كصحف إبراهيم وتوراة موسى ، وزبور داود وإنجيل عيسى ، وآتيناهم الحكم والعلم والفهم الصادق ، والنبوة ولا شك أن كل نبي كذلك إذا أساس النبوة العلم ، والفقه ، والفهم والفطانة ، فالنبوة قيادة وزعامة في الدين والدنيا وهل تتم بدون هذا؟

أما الحكم بمعنى فصل القضاء والحكم بين الناس فلم يعط لكل نبي ، وهذه مراتب الفضل فيهم ، فكلهم أوتى الحكم والنبوة ؛ إذ كل من أوتى النبوة أوتى الحكم وليس كل من أوتى النبوة أوتى الكتاب.

فإن يكفر كفار قريش بالكتاب والحكم والنبوة التي أوتيت كلها لك يا محمد فقد وكلنا بعنايتها ، والعمل على خدمتها ، والدعوة إليها قوما كراما ، ليسوا بكافرين بها ، والمراد بهؤلاء القوم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم. ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين.

أولئك الذين هداهم الله ، ووفقهم : أئمة الدين وأعلام الهدى فبهداهم هذا اقتد ، وقد جمع نبينا خصالهم في الخير فكان خاتم النبيين وإمام المرسلين.

قل لهم : لا أسألكم على القرآن أجرا ولا منفعة خاصة ، وما هو إلا ذكرى للعالمين ، وهدى للمتقين.

إثبات رسالة الرسل وأثرها

وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ

٦٣٨

أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)

المفردات :

(وَما قَدَرُوا اللهَ) يقال : قدرت الشيء : عرفت مقداره ، والمراد ما عرفوا الله حق المعرفة. (قَراطِيسَ) : جمع قرطاس ، وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره. (مباركا) : كثير البركة. (أُمَّ الْقُرى) المراد بها : مكة المكرمة.

المعنى :

من عرف الله حقيقة ، وأدرك ما يجب في حقه ، وما يستحيل ، وما يجوز ، لا يسعه إلا أن يعترف بالرسالة والسفارة بين الخلق والخالق ـ جل جلاله ـ فالله لا يحده مكان ، وليس له زمان وهو مخالف للحوادث يستحيل عليه أن يخاطب البشر مباشرة : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ثم يفضى الرسول إلى الخلق بالتعليمات الإلهية ، فمن أنكر الرسالة ما قدر الله حق قدره ولا عظّمه حق تعظيمه ، بل ما عرفه أصلا.

والله العالم بكل شيء القادر لا يعجزه شيء ، الذي وسعت رحمته كل شيء يعلم أن الخلق لا يمكن أن تصل إلى الغرض المقصود إلا بالهداة والمرشدين من الأنبياء والمرسلين ، فمن ينكر رسالتهم ما عرف الله حق المعرفة ، ولا قدره حق قدره.

قل لهؤلاء يا محمد : من أنزل الكتاب على موسى؟ وأنتم تعترفون بالتوراة إذا قلتم : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) وقد أرسلتم الوفد تسألونهم عن محمد ودينه فكيف تقولون : ما أنزل الله على بشر من شيء!!! وقيل في الآية معنى آخر ... من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس وقد كانت التوراة كذلك حتى غيروها وحرفوها ونسوا حظا كثيرا منها ، وجعلوها قراطيس مقطعة ، وورقات مفرقة ، ليتمكنوا مما راموا من التحريف والتبديل ، وقد كان الحبر يفتي بالتوراة ويظهرها ، وإذا

٦٣٩

أراد كتمان الحكم أخفاها ، وقد كتموا وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم البشارة ، وحكم الزنا!!! فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود خصوصا فيما يتعلق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم أشد أعدائه.

وهذا المعنى ظاهر على قراءة من قرأ يجعلونه أما على قراءة (تَجْعَلُونَهُ) بالتاء فيكون الله قد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم.

وعلمتم أيها المؤمنون من العرب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم منه شيئا ، فبالإسلام أصبح للعرب دولة ، وبحث وفن وكيان علمي معترف به ، بعد جهالة جهلاء وضلالة عمياء.

قل لهم : الله أرسل الرسل ومعهم الكتب أرسل مع محمد القرآن ومع موسى التوراة ، ثم ذرهم واتركهم في خوضهم يلعبون.

وهذا القرآن كتاب أنزلناه يهدى إلى الحق وإلى سواء السبيل ، كتاب كثير البركة والخير ، مصدق لما تقدمه من الكتب ، ومهيمن عليهم ، أنزلناه للبركة ، ولتصديق الكتب السابقة ولإنذار أم القرى مكة ومن حولها ، والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها يؤمنون به ويصدقونه ، وهم على صلاتهم يحافظون ، وإلى كل ما أمروا به يسارعون ...

الكذب على الله وعاقبته

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى

٦٤٠