التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

وجودا وآخرنا كذلك ، وتكون آية منك ، ودلالة وحجة ترشد القوم إلى صحة دعوتي ، وصدق رسالتي ، وارزقنا ما به نقيم أودنا ، ونغذي أجسامنا وعقولنا فأنت خير الرازقين ، ترزق من تشاء بغير حساب.

قال الله تعالى : إنى منزلها عليكم وقد نزلت ؛ إذ وعده الحق وقوله الصدق.

فمن يكفر بعد نزول الآية المقترحة فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب هذا العذاب لأحد من العالمين ، إذ اقتراح آية بعد الآيات الكثيرة التي نزلت كهذه المائدة آية يشترك في إدراكها جميع الحواس ، ثم بعد هذا يكفر بها ويستهزأ ، فإنه يستحق من الله عذابا دونه عذاب الكفار جميعا.

وورد في قصة المائدة روايات كثيرة عن شكلها ولونها وطعمها. والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه كان لخيال الإسرائيليين فيها نصيب ، ونحن نلتزم حدود القرآن والسنة الصحيحة وفقنا الله إلى الصواب.

تخلص عيسى مما ادعته النصارى

وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ

٥٨١

يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)

المفردات :

(ما فِي نَفْسِي) المراد : تعلم سرى ولا أعلم سرك. (شَهِيداً) : حفيظا بما أمرتهم. (الرَّقِيبَ) : من المراقبة ، وهي المراعاة ، والمراد الحافظ لهم والعالم بهم.

هذا سؤال من الله ـ عزوجل ـ لعيسى خاصة ؛ حتى يجيب فتكون إجابته توبيخا لمن ادعى غير إجابته ، ودليلا على أن قومه غيروا بعده وبدلوا وادعوا عليه كذبا وبهتانا لم يقله ، وإنكاره بعد سؤاله أشد في التوبيخ وأبلغ في التكذيب.

المعنى :

واذكر يا محمد وقت قول الله لعيسى بن مريم : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة والتقديس؟!

فالله يسأل للإنكار والتوبيخ ، أقالوا هذا القول وافتروا هذه الفرية بأمر منك أم هو افتراء واختلاق من عند أنفسهم؟

واتخاذ الآلهة من دون الله يكون بعبادتهم ، أو إشراكهم في العبادة ، على معنى أن لهم تصريفا أو أنهم يقربون إلى الله زلفى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١).

وقد نعى الله ـ سبحانه وتعالى ـ على المسيحيين اتخاذهم المسيح إلها وكذا أمه ، وعبادته وأمه معروفة في الكنائس الشرقية والغربية. نعم قد أنكرت فرقة البروتستانت عبادة أمه.

وما العقيدة الجديدة التي أثبتها بابا روما في هذه السنين ورد عليه بعض العلماء ببعيدة.

__________________

(١) سورة الزمر آية ٣.

٥٨٢

ولا أدرى أظل الدين ناقصا حتى كمل في القرن العشرين؟؟

أم أن رجال الدين عند المسيحيين لهم حق المحو والإثبات في العقائد! الله أعلم بذلك ، قال عيسى : سبحانك يا رب! وتنزيها لك وتقديسا!

ما يكون لي ، ولا ينبغي لي أن أقول ما ليس بحق أصلا وكيف يصدر هذا منى؟ وقد عصمتني وأيدتنى بروح من عندك. إن كنت قلته فقد علمته فأنت تعلم الغيب والشهادة ، وتعلم سرى وضميري ، وأنا لا أعلم شيئا مما استأثرت به من بحار علمك إنك أنت علام الغيوب.

يا رب ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به من التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية : أن اعبدوا الله ربي وربكم فأنا عبد مثلكم إلا أنه قد خصنى الله بالرسالة إليكم.

وكنت يا رب قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون فأقر الحق وأقاوم الباطل ، وقد كانت هذه العقائد الخطيرة غير موجودة في حياتي ، فلما توفيتني ورفعتني كنت يا رب الحفيظ عليهم دوني ، ولا يخفى عليك شيء.

وقد تقدم ما يثبت أن عيسى برىء من التثليث والحلول والإشراك كما وضحنا في الجزء السادس وهذا عيسى في الإنجيل يقول : «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته».

وقد فوض أمر هذه الأمة لله فقال : وإن تعذبهم بمعصيتهم التي لم يتوبوا عنها فهم عبادك.

وإن تغفر لهم سيئاتهم بعد توبتهم وصلاح أمرهم فهم عبادك وأنت العزيز الحكيم في كل صنع.

قال الله : هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم ، لهم في الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ، ورضوانه أكبر من كل نعمة وفضل ، ورضوا عنه ، ذلك هو الفوز العظيم.

وكيف لا يكون هذا؟ ولله ملك السماوات والأرض وما فيهن من عوالم ، والله أعلم بها وهو على كل شيء قدير ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.

٥٨٣

سورة الأنعام

آياتها ١٦٥

آية وهي سورة مكية إلا بعض آيات قلائل ، وهي سورة جامعة لأصول التوحيد شارحة للعقيدة الإسلامية وخاصة أحوال البعث وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك.

وقد تضافرت الروايات على أنها نزلت جملة واحدة ، فقد روى نافع عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت علىّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد» ولا مانع في أن يكون بعض آياتها مدنيا ثم وضعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موضعه من السورة.

وقال القرطبي : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعة ومن كذب بالبعث والنشور ، وهذا يؤيد نزولها جملة واحدة.

أما مناسبتها : ففي المائدة محاجة أهل الكتاب وفي هذه محاجة المشركين ، والمائدة ذكرت المحرمات بالتفصيل لأنها من آخر القرآن نزولا ، والأنعام ذكرت ذلك جملة.

دلائل الوحدانية والبعث مع شمول العلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)

٥٨٤

المفردات :

(الْحَمْدُ) : هو الثناء الحسن والذكر الجميل. (خَلَقَ) الخلق في اللغة : التقدير ، أى : جعل الشيء بمقدار معين على حسب علمه ، وفي أبى السعود : الجعل الإنشاء والإبداع كالخلق ، غير أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والإبداع ، والجعل عام للإنشاء كما في قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ). وللتشريع والتقنين كما مر في قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء. (يَعْدِلُونَ) : يجعلون له عدلا مساويا وشريكا له منافسا. (أَجَلاً) الأجل : المدة المضروبة للشيء ، وقضى أجلا بمعنى حكم به وضربه. (تَمْتَرُونَ) : تشكّون في دلائل البعث والتوحيد.

المعنى :

أثنى الله ـ سبحانه وتعالى ـ على نفسه ، مما علّم به عباده الثناء عليه ، فالحمد لله ، وكل ثناء ثابت له ، إذ هو متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، وثابت له الخلق والإيجاد ، والإنشاء والإبداع.

وقد وصف ـ سبحانه وتعالى ـ هنا بصفتين من موجبات الحمد والثناء ، وهما خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور.

أما خلق السموات والأرض ، وما فيهما من العوالم والنظام ، والتقدير والإحكام فشيء يعترف به المشركون والمؤمنون على السواء (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) فهذه السموات وما فيها من نجوم وأفلاك وشموس وكواكب ، كل له مدار ، وله شروق وأفول ، وهذا الهواء المحيط بالأرض ، وهذا الأثير الذي ينقل الصوت ، أليس هذا كله يدل على الوحدة والكمال!

الحمد لله الذي خلق السموات وما فيها وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى!! أما الأرض وما أدراك ما هي ، كوكب سيار وفلك دوار ، كانتا رتقا ففتقناهما وهي معلقة في الفضاء ، وتدور حول الشمس ، وعليها الجبال الرواسي وفيها الأنهار والبحار وعليها نسير وفيها نعيش وهي كروية ، ولا يقع الماء من جوانبها ،

__________________

(١) سورة لقمان آية ٢٥ ؛ والزمر ٣٨.

٥٨٥

ولا يتدفق عند قطبيها ، من الذي خلق هذا وقدره؟؟ إنه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد.

الحمد لله قد جعل الظلمات والنور!! وهل الظلمات والنور في المحسوسات أم هما في المعقولات ، أم اللفظ عام للجميع؟.

والقرآن الكريم جرى على جمع الظلمات وإفراد النور لأن ظلمات الشرك والكفر أسبابها وأشكالها وألوانها مختلفة وكثيرة ، أما نور الحق والهدى فطريقهما واحد ، وللظلمات الحسية أسباب لأن الظلمة تحصل بحجب النور بالجسم والأجسام مختلفة وكثيرة ، وللنور مصدر واحد وإن اختلف قوة وضعفا ، وشكلا وصورة.

ثم الذين كفروا بعد هذا كله يعدلون بالوحدانية إلى الشرك ، ويجعلون لمن خلق وأوجد وأنشأ وأبدع شريكا مساويا له ؛ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ، أبعد هذا يكون شك في وحدانية الله وكماله؟!!

ثم استأنف القرآن كلاما خاطب به المشركين والمعاندين مذكّرا لهم بما هو ألصق بهم ، وهو خلقهم من طين أو من ماء مهين ، فهذا أبونا آدم خلق من طين وها نحن أولاء نتكون من منىّ وبويضة ، وهما من دم الذكر والأنثى ، والدم من الغذاء ، والغذاء من الحيوان والنبات وهما يرجعان إلى الأرض ، وقيل : المعنى : خلق أباكم آدم من طين. ثم ضرب لنا أجلا نعيش به في الدنيا إلى وقت محدود (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١) وهناك أجل آخر مسمى عنده هو أجل الدنيا وانتهاؤها ، ومصيرها إلى الحياة الآخرة لا يعلم به إلا هو ، ولم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [سورة الأعراف آية ١٨٧].

ثم أنتم بعد هذا تمترون وتشكّون في خلقكم مرة ثانية ، أى : في البعث؟ فالذي خلق الجنين في بطن أمه من ماء مهين وجعله يتنفس ولو تنفس بالهواء العادي لمات ، وجعله يتغذى بالدم القذر القاتل ، أليست هذه حياة عجيبة؟!!!

حقا إنها لعجيبة ، والذي أحيانا على هذا الوضع قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٣٤ ؛ والنحل ٦١].

٥٨٦

وهو الله في السموات والأرض ، نعم هو الله الموصوف بكل كمال ، وخالق السماء والأرض وما فيهما ، هذه حقائق معروفة ، وأمر شهد به الخلق جميعا ، وفي ابن كثير : معنى هذه الآية : المدعو الله في السموات والأرض ، أى : يعبده ويوحده ويقر له بالألوهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر ، وهذه الآية كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أى : هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا فقوله تعالى : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) خبر بعد خبر وصفة أخرى ، وقيل : المعنى : هو الله يعلم سركم وجهركم في السموات والأرض ويعلم ما تكسبون ، فهو سبحانه العليم الخبير.

سبب كفرهم وشبهاتهم والرد عليها

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)

٥٨٧

المفردات :

(مُعْرِضِينَ) الإعراض : التولي عن الشيء. (بِالْحَقِ) أى : بالأمر الثابت المتحقق في نفسه ، والمراد به هنا الدين. (أَنْباءُ) جمع نبأ : وهو الخبر المهم. (مِنْ قَرْنٍ) القرن من الناس : القوم المقترنون في زمن واحد ، ومدته من الزمن مائة سنة ، وقيل غير ذلك. (السَّماءَ) المراد : المطر. (مِدْراراً) : مبالغا فيه في الكثرة والغزارة. (كِتاباً) : صحيفة مكتوبة. (قِرْطاسٍ) : الورق الذي يكتب فيه. (وَلَلَبَسْنا) اللبس : الستر والتغطية ، والمراد : جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه.

ما تقدم من الآيات كان في إثبات الوحدانية ، وكمال الربوبية لله ـ سبحانه وتعالى ـ وإثبات البعث ، وأن الله الذي يعترفون له بخلق السموات والأرض هو الإله المعبود بحق ، المحيط علما بكل شيء لا إله إلا هو!!! ولكنهم أشركوا بالله وكذبوا رسله ، ولم يؤمنوا بهذه الآيات الكونية ولا الآيات القرآنية التي تناديهم ليصدقوا بها ويصدقوا برسولها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه الآيات تشير إلى سبب التكذيب والكفر!!

المعنى :

وما تأتيهم أية آية من آيات ربهم الذي رباهم ، وتعهدهم في حالتي الضعف والقوة ، وكفل لهم الرزق ، وآتاهم من كل شيء ، وكفل لهم جميع ما في الأرض ، ما تأتيهم آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [سورة الأنبياء آية ٢].

فهم لم ينظروا نظرة اعتبار وتأمل ، ولم يجردوا أنفسهم من قيد التقليد ، وحمى العصبية ، وحماقة الجاهلية ، فهم إذا أتتهم آية أعرضوا وقالوا : سحر مستمر (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ). [سورة الأعراف آية ١٣٢].

فبسبب هذا قد كذبوا بالحق والدين الصدق ، الذي دعا إليه القرآن الكريم وجاء به النبي الأمين : من الدعوة إلى العقائد الصحيحة ، والآداب الكريمة ، والمثل العليا ، ولكون الإعراض طبيعة فيهم وغريزة كذبوا بسرعة فائقة عقب الدعوة مباشرة ، وكانت

٥٨٨

عاقبة أمرهم خسرا ، وسوف يأتيهم أخبار وأحوال الذين كذبوا به وهو القرآن ، سيأتيهم نبأ هذا التكذيب وعاقبته (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١) وقد أتى حيث هزموا بغزوة بدر ، وجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا ، هذا في الدنيا!!

وقال الرازي في تفسيره : كان حال هؤلاء في كفرهم على ثلاث مراتب : إعراض عن التأمل ، ثم تكذيب ، وثالثة الأثافى استهزاء بآيات الله وكلامه.

عجبا لهؤلاء!! ألم يعلموا نبأ من كان قبلهم ، وكيف كان مآلهم؟! .. كم أهلكنا من قبلكم من قوم أعطيناهم ما لم نعط لكم ومكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ، أفكان هذا كله مانعا لنا من إنزال العقوبة الصارمة بهم لما أعرضوا وكذبوا واستهزءوا؟؟ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٢) لا هذا ولا ذاك!!

ألم تروا قوم عاد وثمود ، وقوم فرعون وإخوان لوط؟!! (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (٣) والمسلمون اليوم أخوف ما أخاف عليهم هذا الإعراض عن آيات الله والتكذيب لها عمليا ، أخاف عليهم أن يحيق بهم عاقبة أمرهم فتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضيق ذرعا بقومه من جراء تكذيبهم وعنادهم (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) (٤) وكانوا يكثرون في طلب الآيات الخاصة ، فرد الله عليهم بما ألزمهم.

ولو نزلنا عليك يا محمد كتابا مكتوبا من السماء في قرطاس وفيه دعوتهم إلى الدين بالحجة لما آمنوا به ولما صدقوك في ذلك بل ولقالوا : ما هذا إلا سحر وخيال ظاهر ليس فيه حقيقة ، وانظر إلى تعبير القرآن الكريم : (نَزَّلْنا) بالتشديد ، وقوله (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) والكتاب لا يكون إلا فيه ، ثم قوله : فلمسوه بأيديهم ، وقلبوا فيه وبالغوا في

__________________

(١) سورة هود آية ٨.

(٢) سورة القمر آية ٤٣.

(٣) سورة البروج الآيات ١٢ ـ ١٤.

(٤) سورة هود آية ١٢.

٥٨٩

ذلك ، كل هذه أساليب تفيد المبالغة وتأكيد النزول وتأكدهم منه ، ومع هذا يقولون : إن هذا إلا سحر مبين.

وكان الكفار قد اقترحوا اقتراحين ، أولهما : أن ينزل على الرسول ملك من السماء يرونه ويكون معه نذيرا ومؤيدا له ونصيرا ، وذلك أنهم يفهمون أن الرسول بشر والرسالة تتنافى مع البشرية (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (١). (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [سورة الفرقان آية ٧].

وقد حكى الله عنهم هذا كثيرا في سورة هود وإبراهيم وغيرهما.

وقد رد الله اقتراحهم هذا بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر وهلكوا ثم لا ينظرون ولا يمهلون إذ جرت سنة الله في خلقه ، إذا تعصب قوم وطلبوا آية غير التي أنزلت إليهم ، وأجيبوا إلى طلبهم ، ثم لم يؤمنوا ، يهلكهم الله بعذابه ويقضى عليهم.

وهؤلاء من أمة الدعوة المحمدية ، وقد قضى الله ألا يهلكهم بعذاب الاستئصال تكريما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعسى أن يأتى من نسلهم من يعبد الله حقا ، وقد كان هذا.

الاقتراح الثاني : هلا نزّلت الملائكة علينا بالرسالة ، وكان الرسول ملكا لا بشرا (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) (٢) فأنت ترى أن اقتراحهم الثاني مبنى على الغرور الكاذب والجهل الفاضح وأن هذا النبي الأمين الصادق الكريم لا يستحق هذه الرسالة فإن كان ولا بد من إرسال بشر فنحن أولى منه (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٣).

فيرد الله عليهم : لو جعلنا الرسول ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه والأنس به ومخاطبته ، ولو جعلناه بشرا لعاد الأمر كما كان وللبسنا عليهم واختلط الأمر عندهم ، فإن هذا الرجل سيقول لهم : إنى رسول الله كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما اختصاص محمد دون غيره بالرسالة وتشريفه بالنبوة فالله أعلم حيث يجعل رسالته.

__________________

(١) سورة المؤمنون آية ٣٣.

(٢) سورة المؤمنون آية ٢٤.

(٣) سورة الزخرف آية ٣١ ـ ٣٢.

٥٩٠

تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

المفردات :

(اسْتُهْزِئَ) الاستهزاء : السخرية والاستخفاف والاحتقار ، ويتبع ذلك غالبا الضحك. (فَحاقَ) : أحاط بهم فلم يكن لهم منه مخرج.

المعنى :

يخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيه الكريم بصيغة القسم ، أن الكفار قد استهزءوا قديما برسل كثير عددهم ، عظيم شأنهم ، رسل من قبلك ، فليس استهزاؤهم بك بدعا ، بل أنت مسبوق في ذلك ، فلا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق مما يفعلون ، فهذا شأن الكفار قديما وحديثا.

واعلم أنه قد أحاط بهم ؛ فلم يكن لهم منه مخرج ، وليس لهم مفر ؛ ولن يفلتوا من عاقبة فعلهم أبدا.

فالآية إرشاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان سنة الله في الخلق وأن العاقبة للمتقين ، وأن العذاب والخزي للكافرين والمستهزئين (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ). [سورة الحجر آية ٩٥].

وإن ارتاب المشركون في ذلك فقل لهم : سيروا في الأرض ، وتنقلوا فيها لتقفوا بأنفسكم على تاريخ من سبقكم من عاد وثمود ؛ وطسم وجديس وقوم فرعون وإخوان لوط (فما راء كمن سمعا) سيروا في الأرض ثم انظروا واعتبروا ، كيف كان عاقبة المكذبين؟؟

٥٩١

أسلوب آخر في إثبات الوحدانية والبعث

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)

المفردات :

(كَتَبَ) : فرض وأوجب على نفسه. (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) المراد : ليحشرنكم. (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) المراد بالخسارة هنا : ترك ما يقتضيه العقل والعلم. (ما سَكَنَ) من السكون أو السكنى ، والمراد : عدم الحركة. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. (يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) : يبعد عنه. (رَحِمَهُ) : أنجاه من الهول الأكبر.

ها هو ذا القرآن الكريم يعود إلى إثبات الوحدانية لله والكمال له. وإثبات البعث والجزاء بأسلوب آخر ، ونمط عال في الأداء ، طرقا للسمع من جميع الأنحاء حتى لا يمل السامع مع زيادة التكرير والتثبيت فهذا هو المقصود المهم والهدف المرجو للقرآن الكريم.

٥٩٢

المعنى :

قل لهم يا محمد : لمن ما في السموات والأرض؟ ولمن هذا الكون وما فيه؟ ولمن هذا الوجود وما يحويه؟ لمن هذه السماء وقد ازينت! وهذه الكواكب وقد انتثرت!! ولمن هذه الأرض وقد مدت ؛ وفيها الأنهار الجواري والجبال الرواسي والعوالم التي لا يحيط بها إلا خالقها!!

قل لهم : هذا كله لله واهب الوجود ، الكبير المعبود. مالك الملكوت ، ذو الرحمة والجبروت ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.

وهذا سؤال ، وجوابه قد أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن لأنه هو الجواب المتعيّن ، ولا يمكن لمنصف أن ينكر هذا أبدا (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) فهم معترفون بهذا ولكن لسوء تفكيرهم يقولون في الأصنام : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢) فبئس ما يصنعون ، على أن السؤال وجوابه كان تبكيتا لهم وتوبيخا ، وقد بنى عليه شيء آخر من لوازمه ، وقد يجهله المسئولون أو ينكرونه لعنادهم وحماقتهم.

فالله الذي برأ السموات والأرض ، وله كل ما فيهما مما لا نعلم عنه إلا قليلا ، وكالذرة بالنسبة للجبال الشم ، وقد أوجب على نفسه ، وقوله (عَلى نَفْسِهِ) لتأكيد الوعد وتحقيقه. أوجب الرحمة على عباده ؛ إذ هو الرحمن الرحيم ، ليجمعنكم ليوم القيامة جمعا لا شك فيه ولا ريب ، أو أنه ليجمعنكم ليوم لا ريب فيه ولا شك ، نعم يجمعنا ويحشرنا لنأخذ الجزاء على أعمالنا (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣) ، (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٤) والثواب والعقاب على الأعمال من مظاهر الرحمة بالخلق ، حتى يعرف الخلق ذلك ، ومتى علم هذا كف باغي الشر عن شره ، وأسرع باغي الخير في عمله ، مع أنه ليس من العدل والرحمة ألا يجازى المحسن على إحسانه وألا يعاقب المسيء على إساءته. وكذلك من مظاهر الرحمة هدايتنا إلى معرفته ونصب الأدلة على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض.

__________________

(١) سورة لقمان آية ٢٥.

(٢) سورة الزمر آية ٣.

(٣) سورة الزلزلة الآيتان ٧ و ٨.

(٤) سورة النجم آية ٣١.

٥٩٣

وقد سبقت رحمته غضبه وزادت عليه فهو يجازى الحسنة بعشر أمثالها وقد تضاعف أضعافا لمن يشاء ، والسيئة بمثلها فقط (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [سورة الأنعام آية ١٦٠].

وأخص هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ممن يجتمعون ليوم القيامة ، وهم من فسدت فطرتهم ، وساءت نفوسهم فلم يهتدوا بنور الدين ، وحرموا أنفسهم من النظر والتفكير في هذا الكون وآياته. بعين العقل والحكمة ، وإنما أعماهم التقليد وسوء الرأى وحمى العصبية وداء الحسد عن النظر الصحيح والفهم السليم ، ولم تكن لهم عزيمة صادقة وإرادة حازمة ، تجعلهم يتركون ما كان عليه الآباء إلى ما وافق العلم والعقل والرأى ، نعم هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ، فهم لا يؤمنون أبدا بالبعث والثواب والعقاب.

لله ما في السموات وما في الأرض ، وله ما سكن في الليل والنهار ولم يتحرك ، وله ما تحرك ولم يسكن ، فهو المتصرف تصرفا كاملا في كل شيء خاصة ما سكن وخفى في الليل ومن باب أولى ما تحرك وظهر في النهار.

فأنت معى أن القرآن الكريم تعرض لجميع الأمكنة في السموات والأرض ولكل الأزمنة في الليل والنهار وهذه إشارة إلى كما إحاطته وتمام تصرفه ، وهو السميع لكل قول ودعاء العليم بكل فعل ونية.

وهذا يقتضى عدم اتخاذ الأولياء من دون الله.

قل لهم يا محمد : أغير الله أتخذ وليّا ينصرني؟ أو يدفع ضررا عنى ، أو يجلب خيرا لي؟ والاستفهام لإنكار اتخاذ غير الله وليّا من الأصنام والشفعاء ، أما اتخاذ الأصحاب والأصدقاء من المؤمنين فلا شيء ما دام في حدود كسبه وتصرفه الذي منحه الله لبنى جنسه.

قل لهم : أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون؟ أغير الله فاطر السموات والأرض ومبدعهما لا على مثال سابق ، أغير الله أتخذه وليّا يلي أمورى؟ فإن من فطر السماء والأرض وأبدعهما من غير تأثير ولا شفيع يجب أن يخص بالعبادة وحده (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) والله ـ سبحانه وتعالى ـ يطعم ويرزق الناس وليس في حاجة إلى أحد (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات ٥٧] وفي هذا تعريض بمن يتخذون من

٥٩٤

العبادة آلهة وهم محتاجون إلى الطعام وما يتبعه من الحاجة إلى الخلاء ، أما من يعبد غير الإنسان فعبادته ضرب من الخبل والجنون ، أما وقد ظهرت هذه الحقائق بادية للعيان ، فقل لهم يا محمد : إنى أمرت أن أكون أول من أسلم وجهه لله وانقاد ، حيث ثبت أن له ما سكن وما تحرك ، وهو السميع البصير ، فاطر السموات والأرض واهب الرزق والحياة ، غير محتاج لأحد ، ليس كمثله شيء ، ولهذا أمرت أن أكون أول من أسلم ، ونهيت عن الشرك بالله ، وإنى أخاف إن عصيت ربي عذابا عظيما يوم القيامة يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله.

وإذا كان هذا حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر المعصوم خاتم الأنبياء والمرسلين.

فما بالنا نحن وما بالك يا بن آدم؟ إنك لمسكين مغرور حيث تتعلق بالأوهام والالتجاء لغير الله.

من يدفع عنه يومئذ ذلك العذاب فقد رحمه‌الله ونجا (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [سورة آل عمران آية ١٨٥] وذلك الفوز هو الواضح العظيم.

من مظاهر القدرة وشهادة الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)

٥٩٥

المفردات :

الضر : ضد النفع ، هو ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله. (بِخَيْرٍ) : هو ما يرغب فيه الكل وتطمع إليه النفس كالعقل والعلم والعدل. وضده الشر. (الْقاهِرُ) القهر : الغلبة والإذلال معا. (شَهادَةً) : هي إخبار عن علم ومعرفة واعتقاد مبنى على المشاهد بالبصر أو البصيرة.

المعنى :

يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ ما معناه : وإن يمسسك الله بضر من ألم أو فقر أو مرض أو أى مصيبة تحصل للإنسان فلا كاشف له ولا مزيل إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ إذ هو القادر على كل شيء ، فيجب على المسلم ألا يتوجه لغيره إذ بيده وحده إزالة الضر وجلب النفع ، والضر يزيله الله بتوفيق عبده لسلوك الطرق المنتجة المعروفة ، وقد يزيله بلا عمل من الإنسان أصلا ، وهو الحكيم الخبير بخلقه ، وإن يمسسك بخير من غنى أو صحة أو مال ، فهو من عنده وحده إذ لا يقدر على ذلك إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ وهو على كل شيء قدير ، وفي مقابلة الخير بالضر إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان في الدنيا ليس شرّا بل قد يكون فيه نفع .. وبعد أن أثبت الله لنفسه كمال القدرة وعظيم التصرف أثبت له كمال السلطان وتمام القهر والغلبة لعباده حتى يلجأ إليه الكل ويدعونه رغبا ورهبا فقال : وهو القاهر فوق عباده ، والفوقية هنا فوقية استعلاء بالقهر والغلبة لا فوقية مكان ، كما تقول : السلطان فوق رعيته ، والمراد فوقهم بالأمر والغلبة ، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو منع غيره من بلوغ المراد إلا بأمره وهو الحكيم في أمره الخبير بخلقه ـ سبحانه وتعالى ـ.

وكان المشركون يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية وأمر رسول الله أن يسألهم أى شيء أكبر شهادة وأعظمها وأصدقها؟

ثم أمره بالإجابة فقال : أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله ـ تعالى ـ الشهيد بيني وبينكم ، وأوحى إلىّ هذا القرآن من لدن الله لأنذركم به عقاب تكذيبي فيما جئت به. وأنذر من بلغه هذا القرآن في أى

٥٩٦

مكان أو زمان حتى تقوم الساعة ، ولهذا كانت رسالته عامة ، وشهادة الله للرسول كانت بإخباره بها في كتابه بنحو قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) وبتأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن فهو المعجزة الخالدة الدالة على صدق النبي فيما يبلغه عن ربه ، وكذا شهادة الكتب السابقة للنبي وبشارتها له ، ولا تزال هذه البشارة في كتب اليهود والنصارى ، والخلاصة أن شهادة الله ـ تعالى ـ هي شهادة آياته في القرآن وآياته في الأكوان ودلالة العقل والوجدان اللذين أو دعا في الإنسان.

ثم أمره بالشهادة له بالوحدانية والتبرؤ من الشرك والوثنية.

أإنكم لتشهدون وتقرون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل لهم : لا أشهد بهذا أبدا ، قل لهم : إنما إله واحد. وإننى برىء ممّا تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما!!

كتمان الشهادة والافتراء على الله

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)

المفردات :

(فِتْنَتُهُمْ) الفتنة : الاختبار ، والمراد عاقبة الشرك.

٥٩٧

روى أن كفار قريش سألوا أهل الكتاب عن رأيهم في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي دينه. فقالوا : ليس في التوراة والإنجيل شيء يدل على نبوته ، وقد شهدوا له بالرسالة والصدق قبل أن يثبت كذب أهل الكتاب في شهادتهم ومن هنا كانت المناسبة.

وقد روى أن عمر بن الخطاب لما قدم المدينة سأل عبد الله بن سلام عن هذه المعرفة فقال : يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني .. وأشهد أنه حق من عند الله. واستطرد الكلام إلى بعض مواقف المشركين.

المعنى :

الذين آتيناهم الكتاب قديما وهم اليهود والنصارى يعرفون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين كما يعرفون أبناءهم أو أشد ، يعرفونه بما عندهم من نعته ، وما ثبت من صدقه ، وبالدلائل التي ظهرت معه. ولكنهم أنكروا كما أنكر المشركون والسبب أنهم خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى ، لم تكن عندهم عزيمة صادقة تدفعهم إلى الإيمان وترك العصبية الجاهلية ولذلك فهم لا يؤمنون أبدا بالقرآن وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعنادهم وحسدهم لا لجهلهم به ، ولا أحد أظلم من شخص افترى على الله كذبا ، واختلق بهتانا حيث قال : إن لله شريكا وله ولد ، والملائكة بنات الله ، وحرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكذب بالقرآن ، وآياته البينات ، وكذب بالآيات الكونية التي تدل على وحدانية الصانع وأن الدنيا لم تخلق عبثا ، أما جزاء هؤلاء فإنه لا يفلح الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.

وذكّرهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا لا فرق بين ملة وملة إذ الكفر ملة واحدة ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم؟! الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لله ، وتدعونهم كما تدعون الله ، وتلجئون إليهم كما تلجئون إلى الله.

والسؤال للتبكيت والتأنيب!! ثم لم تكن عاقبة الشرك ونتيجته التي رأوها ماثلة للعيان يوم القيامة ؛ إلا قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين أبدا. نعم وصلت حالهم إلى الإنكار والكذب بعد ما كانوا معتزين بالشرك وبدين الآباء والأجداد.

٥٩٨

عجبا لهؤلاء! أيكذبون على ربهم يوم القيامة؟ أم هي الدهشة والحيرة والخزي والوبال؟ فتارة يكذبون وتارة يصدقون ولا يكتمون الله حديثا.

انظر كيف كذبوا على أنفسهم؟ يا له من كذب وخزي وعار! بعد الافتخار والاعتداد بدين الشرك والأوثان ، تعجب كيف كذبوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويختلقونه؟

بعض أعمال المشركين

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)

المفردات :

(أَكِنَّةً) الأكنّة : جمع كنان ، وهو الغطاء والستر. (وَقْراً) : صمما وثقلا في السمع. (آيَةٍ) : علامة دالة على صدق الرسول. (أَساطِيرُ) : جمع أسطورة ، وهي الخرافة. (وَيَنْأَوْنَ) : يبعدون عنه ويعرضون.

سبب النزول :

روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعقبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم ، يسمعون تلاوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن فقالوا للنضر ـ وكان صاحب أخبار ـ : يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟! فقال النضر : والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم به عن القرون الماضية ، فقال أبو سفيان :

٥٩٩

إنى لأراه حقا ، فقال أبو جهل : كلا ، فنزلت ... ولكنا قلنا فيما مضى : إن الصحيح أن سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة ... ولعلهم يذكرون حوادث وقعت تتفق مع الآيات.

المعنى :

ومن هؤلاء الكفار فريق يستمع إليك وأنت تقرأ القرآن المحكم الآيات البين المعجزات ، والحال أنا جعلنا على قلوبهم أغطية وستائر تحول دون فهم القرآن الكريم وتدبر معانيه ؛ وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا آياته سماع قبول وتدبر.

وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن والنبي حيث قالوا : أساطير الأولين ، وسحر وشعر ؛ والنبي ساحر كذاب ، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (١) إذ حالهم وما نشئوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة والجاه وحسدهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذلك كان بمثابة غطاء وحجاب يمنع القلب والسمع من أن يتقبل كلام الله وكلام رسوله بقلب فاهم وسمع واع.

ولذلك يقول القرآن فيهم : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) فهم كفروا بكل آية ومعجزة وذلك لصرف الله قلوبهم عن الخير لما أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفهم السليم. وهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ، حتى إذا جاءوك مجادلين يقول الذين كفروا منهم وكذبوا : ما هذا إلا خرافات وترهات فهم لم يكتفوا بالتكذيب بل وصفوه بأحط الأوصاف حيث قالوا : أساطير الأولين.

وهم ينهون الناس عن القرآن حتى لا يسمعه أحد ، ويصدون عن سبيل الله. وهم ينأون عنه ويبتعدون بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه وتأكيدا لنهيهم عنه ، وما يهلكون إلا أنفسهم فقط وما يشعرون.

__________________

(١) سورة الكهف آية ٥.

٦٠٠