التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

وهما يصدان عن ذكر الله ، والله يقول : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد ٢٨].

وكان ختام الآية بقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) على ما فيه من البلاغة والبيان أتم صارف للمسلمين عنهما وصادّ.

وأطيعوا الله ـ تعالى ـ فيما أمركم به ، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم ، واحذروا عاقبة المخالفة وما تجر من الخيبة والندامة (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة النور آية ٦٣].

فإن توليتم بعد هذا فلا تلومنّ إلا أنفسكم ، واعلموا أنما على رسولنا البلاغ فقط ، وعلينا الحساب والجزاء (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ١٩].

ومن مات قبل التحريم فلا شيء عليه إذ هناك قانون عام وهو : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كحمزة الذي استشهد قبل تحريم الخمر وغيره ، ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا ما اتقوا الله وعملوا الصالحات الباقيات التي شرعت في حياتهم كالصلاة والصيام وغيرهما ، ثم اتقوا ما حرم عليهم ، وآمنوا بما نزل فيه وفي غيره ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالحات ، والله يحب المحسنين المتقنين أعمالهم المخلصين فيها.

التداوى بالخمر :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليس بدواء ولكنه داء» ... «وما جعل الله شفاء أمتى فيما حرم عليها» ولقد ناقشت طبيبا من كبار الأطباء في ذلك فقال : ليس هناك مرض يتعين علاجه بالخمر وحدها وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه داء» أكده رأى الطب إذ إن الخمر تولد أمراضا كثيرة يموت بها كل عام عدد لا يحصى من الناس ، وفكرة التداوى بالخمر حيلة شيطانية حتى تتمكن من النفس وتصبح عادة يصعب انتزاعها.

وحكم شارب الخمر الحد أربعين جلدة ، وقيل ثمانين ، فقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلد أربعين ، وفعل أبو بكر مثله ، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن : أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر. والرأى أنه لا يقل عن أربعين ولا يزيد عن ثمانين.

ومثل الميسر كل لعب على مال ، أما الشطرنج والنرد والألعاب الأخرى فإن أورثت العداوة وصدت عن ذكر الله وعن الصلاة فهي كالميسر ، وإلا فإنها مكروهة مطلقا.

٥٦١

ومثل الخمر كل مادة يحصل منها ضرر مالي أو جسمانى أو خطر اجتماعي أو خطر ديني كالحشيش والأفيون.

الصيد في الإحرام وجزاؤه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)

المفردات :

(لَيَبْلُوَنَّكُمُ) : ليعاملنكم معاملة من يختبركم. (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) : يكون في متناول اليد. (حُرُمٌ) : محرمون بحج وعمرة ، أو في مكان الحرم. (عَدْلٍ) : مساو له. (وَبالَ أَمْرِهِ) : عاقبة أمره الثقيلة. (لِلسَّيَّارَةِ) : جمع سيار ، وهو المسافر.

٥٦٢

المناسبة :

أحل الله لنا أكل الطيبات من الرزق واستثنى الخمر وما شاكلها ، وهنا أضاف لها الصيد في الإحرام وبيّن جزاءه.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله : ليبلونكم الله ، وليعاملنكم معاملة من يختبركم بشيء من الصيد ، أى : بعض منه وهو صيد البر لا صيد البحر ، اختبركم بإرساله بحيث يسهل تناول بعضه بالأيدى ، وبعضه بالرماح ، وكيف لا يكون هذا اختبارا وابتلاء؟ والمصيد طعامه لذيذ ، واصطياده حبيب إلى النفس في الأسفار ، فإذا أضيف إلى ذلك كثرته وعدم تأبّيه ، كان هذا اختبارا وأى اختبار؟ يفعل الله هذا ، ليعلم علم ظهور وانكشاف من يخافه بالغيب ، ومن يخافه أمام الناس فقط ، كالمنافقين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم والله عالم بكل شيء ، ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم بالامتثال.

فمن اعتدى منكم بعد ذلك البيان ، فله عذاب شديد في الدنيا والآخرة.

يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، وصدقتم الرسول ، وآمنتم بالقرآن ، لا تقتلوا صيد البر ، وهذا النهى هو الابتلاء المذكور في الآية السابقة ، لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة أو في مكان الحرم وإن لم تحرموا ، وذلك إجلالا للحج وشعائره ، واحتراما للمكان وهيبته ، إذ هو مباءة للناس والطير وأمن لهم ، وهذا في الحرم المكي ، أما الحرم المدني فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة فإن فعل هذا أحد أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعى ، ورد عن رسول الله في الصحيح «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإنى أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة لا يختلى خلاها (الخلى : النبات الرقيق ما دام رطبا ، ويختلى : يقطع) ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها».

ومن قتله منكم عامدا قاصدا له ، فعليه جزاء من النّعم مماثل له في هيئته وصورته ، إن وجد المثل وإلا فقيمته ، وقيل : يقوّم من أول الأمر ، واعلم أن ما يجزى من الصيد شيئان دواب وطير ، فيجزى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ففي النعامة

٥٦٣

بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي الظبى شاة ... إلخ على ما هو مذكور في كتب الفقه ؛ وفي الطير قيمته إلا حمام مكة فإن الحمامة شاة اتباعا للسلف في ذلك.

وقد ورد عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفي الظبى شاة ، وفي الأرنب عناق» (١) والعناق : الأنثى من المعز لم تبلغ سنة.

واعلم أن الآية الكريمة ، أفادت أن القتل العمد فيه الجزاء ، والسنة النبوية أفادت أن الخطأ كذلك ، عن سعيد بن جبير : لا أرى في الخطأ شيئا. أخذا بظاهر الآية والله أعلم بكتابه.

والصيد الذي نهت عنه الآية : كل حيوان وحشي يؤكل لحمه ، فلا شيء في قتل الحمار الأهلى مثلا ، ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع ، والحشرات ، والفواسق كالحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ، وألحق مالك بالكلب الذئب والأسد والنمر.

ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم : يحكم به اثنان ذوا عدل منكم من أهل المعرفة والعدل من المؤمنين ، وإنما احتجنا للتحكيم لأن المماثلة بين النعم والصيد ، ما تخفى على كثير خصوصا في هذه الأيام ، وقد توالدت أشكال وأصناف من الحيوان والطيور ، وما لا مثل له يحكم فيه بالقيمة.

فجزاء مثل ما قتل من النعم هديا بالغ الكعبة ، وأصلا إليها ، يذبح عندها ويفرق على مساكين الحرم.

نعم عليه جزاء مماثل لما قتل أو كفارة هي أن يقوّم الصيد الذي أصابه فينظركم ثمنه من الطعام؟ فيطعم لكل مسكين مدّا أو يصوم مكان كل مد يوما.

وعند أبى حنيفة يقوّم الصيد أوّلا وجد له مثل أولا ؛ والآية لا تمنع هذا. روى ابن جرير عن ابن عباس قال : إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء ، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

أوجبنا هذا ليذوق عاقبة أمره وسوء فعله ، حيث هتك حرمة الإحرام وعفا الله عما سلف قبل نزول الآية.

__________________

(١) أخرجه البيهقي ٥ / ١٨٣.

٥٦٤

ومن عاد بعد هذا فينتقم الله منه أشد الانتقام في الآخرة ، والله عزيز الانتقام ، لا يغلبه عاص أو مذنب.

أيها المسلمون أحل لكم صيد البحر سواء كان حيا أو ميتا ، قذفه البحر أو طفا على وجهه ، أو انحسر عنه الماء فهو الحل ميتته ، الطهور ماؤه ، أحله الله متاعا لكم وللسيارة المسافرين ، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج ، ومن كان مسافرا فعنده السمك المحفوظ ، وحرم عليكم صيد البر من الوحش والطير ما دمتم حرما ، أى : فلا مانع من أكل ما صاده غيركم ، أو صدتموه في غير الإحرام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» (١) واتقوا الله الذي إليه تحشرون.

البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما

جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)

المفردات :

(جَعَلَ) يصح أن تفسر بالجعل التكويني الخلقي أو التشريعي (الْكَعْبَةَ) : البيت المربع ، وقيل : المرتفع ، وقد غلب اسمها على البيت المقدس الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما‌السلام. (قِياماً لِلنَّاسِ) : ما به يقوم أمرهم ويصح شأنهم. (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) تقدم تفسير ذلك أول السورة.

قال الرازي : الله تعالى حرم في هذه الآية المتقدمة الاصطياد على المحرمين ، فكان الطير والوحش آمنا على نفسه وولده ، وفي هذه الآية أفاد أن الحرم سبب لأمن الناس وهدايتهم لحصول الخيرات والسعادة في الدنيا والآخرة لهم.

__________________

(١) أخرجه أحمد ٣ / ٣٦٢ وأبو داود والترمذي وغيرهم.

٥٦٥

المعنى :

جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الذين يسكنونها ، حيث يجلب إليهم الخيرات ، ويرزقهم من الثمرات ويجعل قلوب الناس تهوى إليهم ، وتعطف عليهم وبذلك يقوم أمرهم ، ويصلح شأنهم ، وكذا من حج إليها واعتمر يجدون فيها الخير والسعادة ، والراحة والطمأنينة ، وكل ذلك إجابة لدعاء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [ابراهيم ٣٧].

وجعلها الله قياما للناس في أمر دينهم المهذّب لأخلاقهم المزكّى لأنفسهم ، أليست مكان الحج الذي هو ركن من أركان الدين؟ فيه يعقد المؤتمر العام للمسلمين الذين يهرعون إليه من كل فج عميق كبارهم وزعماؤهم. وأغنياؤهم ، يتباحثون ويقفون على أمور دينهم ، وتنبعث القوة في نفوسهم ، ويتجدد الإسلام في أعماقهم ، وتتأكد الرابطة بينهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١) وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس كذلك فهو مثابة للناس وأمن في الجاهلية والإسلام ، فيه يأمنون على أنفسهم وتجارتهم وأموالهم ، فيه يلقى السلاح ، وتهدأ النفوس ، وتسكن الفتن ، وتخمد نار الحرب المستعرة ، ألست معى في أنه قيام للناس؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (٢) وكان الهدى والقلائد قياما للناس فمن بذلها قوّمت له دينه ، وكفرت عن ذنبه ، وطهرت له نفسه ، وزكّت ماله ، وجعلته آمنا على نفسه وهي عند من يأخذها قوام حياته.

كل ذلك لتعلموا أن هذه الأمور لحكم ، الله يعلمها ، ولا يمكن أن تصدر إلا من عالم بما في السموات وما في الأرض ، وأنه بكل شيء عليم.

والناظر إلى الحج يجده دعامة من أقوى الدعائم للإسلام ، يعرفه الغربيون ويعرفون أثره في نفوس المسلمين ، وما يحصل بسببه من تقوية أواصر الصلات ، وإذكاء روح الدين بين المؤمنين.

__________________

(١) سورة الحجرات آية ١٠.

(٢) سورة العنكبوت آية ٦٧.

٥٦٦

ترغيب وترهيب

اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)

المفردات :

(الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) : الحلال والحرام ، والرديء والجيد. (الْأَلْبابِ) :

العقول.

المعنى :

الله ـ سبحانه ـ عليم بكل شيء ، وعليم بما في السموات وما في الأرض. وهو القاهر فوق عباده ، الرحمن الرحيم ، ومقتضى هذا كله أنه لم يخلقنا عبثا ولم يتركنا هملا ، بل لا بد من جزاء العاصي ، وإثابة المطيع اعلموا أن الله شديد العقاب ، وسريع الحساب ، وقوى العذاب لمن عصى وطغى ، وتجبر وبغى ، وهو رءوف بالعباد غفور للسيئات ، رحيم بمن عمل سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح. وأما من نشأ طائعا ولم يدنس نفسه أبدا فهنيئا له الرضوان ثم هنيئا!.

وإذا كان الأمر كذلك فاعلموا أنه ما على الرسول إلا البلاغ وعلى الله وحده الحساب وإليه المرجع والمآب ، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ، وهو الذي يعلم السر وأخفى ، والغيب والشهادة فاتقوا الله واحذروا حسابه ، قل لهم : يا أيها الرسول

٥٦٧

لا يستوي الخبيث والطيب ، والحلال والحرام ، وهل يستوي الجيد والرديء؟ وكيف يستويان؟!! (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (١) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢)!!! قل لهم : لا يستوي الخبيث والطيب أبدا ، ولو أعجبك كثرة الخبيث من العصاة والكفار وقلة الطيب من المسلمين والأبرار.

تعيرنا أنا قليل عديدنا

فقلت لها إن الكرام قليل

فاتقوا الله يا أولى الألباب وتذكروا فإنما يتذكر أولوا العقول الصحيحة الذين يحكمون أحكاما سليمة موفقة تفرق بين النافع حقيقة وإن شابه تعب ومشقة ، وبين الضار المهلك وإن ازينت له الدنيا وازّخرفت.

السؤال الضار

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)

سبب النزول :

روى مسلم عن أبى هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم. فأنزل الله هذه الآية.

__________________

(١) سورة ص آية ٢٨.

(٢) سورة الجاثية آية ٢١.

٥٦٨

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائقه التي تركت رحمة بكم وإشفاقا عليكم ، وقيل المعنى : لا تكثروا من السؤال عما لا يعنيكم من أحوال الناس ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) [سورة الحجرات آية ١٢].

وليس المراد النهى عن السؤال مطلقا في أمور الدين. لا ، بل قد أقر الشرع سؤالهم عن توضيح أحكام العدة والخمر وغيرهما فلا حرج في مثل هذا ، وإنما الحرج في التشدد في العمل وكثرة التكاليف لأن هذا قد يؤدى للإهمال وقد يؤدى إلى الخروج من الدين كما حصل في الأمم السابقة.

وقد سأل سائل منهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبيه من هو؟ وهل الحج واجب في كل سنة أم لا؟ وغير ذلك من الأسئلة المحرجة التي فيها العنت والمشقة على الناس.

وإن تسألوا عن غير هذه المسائل الشائكة مما تمس الحاجة إليه من تحريم أو تحليل أو حكم جديد تجابون إلى طلبكم فإنه خير ، فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ، وكان في الإجابة عنه مشقة وزيادة كلفة. وقيل : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم ، وعلى هذا خرج حديث ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها».

قد سأل مثلها قوم قبلكم فلما أجيبوا وفرضت عليهم كفروا بها وقالوا : ليست من عند الله ، وما قوم صالح وأصحاب البقرة منكم ببعيد ؛ فاعتبروا يا أولى الأبصار ، ولا تشددوا فيشدد الله عليكم ، فإن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه الدين فسددوا وقاربوا.

٥٦٩

نوع من ضلال الجاهلية

ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)

المفردات :

(بَحِيرَةٍ) : هي الناقة يبحرون أذنها ، أى : يشقونها شقّا واسعا إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى ، وكان يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد. (سائِبَةٍ) السائبة : الناقة التي تسيب لآلهتهم فترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها ولا يجز صوفها ولا يأخذ لبنها إلا ضيف. (وَصِيلَةٍ) الوصيلة : الشاة أو الناقة التي تصل أخاها. فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم ، وإذا ولدت أنثى كانت لهم ، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر إلا لآلهتهم. وقيل في تفسيرها غير ذلك. (حامٍ) الحامى : الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون : حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

أخرج ابن جرير عن أبى هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأكثم بن الجون : رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار (القصب : المعى ، والأقصاب : الأمعاء) فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ، فقال أكثم : أخشى أن يضرّ بي شبهه يا رسول الله ، فقال رسول الله : لا ؛ إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى.

٥٧٠

المعنى :

أيها المسلمون ما جعل الله في الدين الإسلامى من بحيرة ، ولا سيّب سائبة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حاميا ، أى : ما شرع ذلك ولا أمر به ، فما كان يفعله الجاهليون فهو رد عليهم غير مقبول منهم.

ولكن الذين كفروا ـ إذ يفعلون ما يفعلون ـ إنما يفترون على الله الكذب ، حيث قالوا أمرنا الله بهذا ، وقالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شيء!! قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن ، وما تهوى الأنفس ، وقد ثبت في الصحيح كما مر أن أول من سنّ هذا هو عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف ؛ ولكن أكثرهم لا يعلمون.

وإذا قيل لهم : تعالوا أيها الضالون إلى نور القرآن وإلى هدى الرسول وحكّموا عقولكم وانزعوا عنها غطاء التعامي عن آيات الله قالوا غرورا وجهلا وسفها وحمقا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فآباؤنا مصدر التشريع الصحيح!! أيتبعونهم ويتركون الدين الصحيح والتشريع القويم ، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا ولا يهتدون إلى خير أصلا ، ولا غرابة فهم الذين عاشوا في العداوة والبغضاء والحروب والغارات وشرب الخمر ووأد البنات ، وعمل الفحش والمنكرات!! وهل كانت هناك جاهلية جهلاء؟ وضلالة عمياء أسوأ من هذا؟

في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)

المناسبة :

بعد أن بين الله ضلال أهل الشرك وعنادهم ، وتفكيرهم السقيم في اتباع آبائهم ، خفف

٥٧١

الله عن المؤمنين أوزارهم ، وأمر بأن يكملوا أنفسهم بالعمل الطيب ، ولا عليهم شيء بعد هذا.

المعنى :

يا أيها المؤمنون عليكم أنفسكم ، كملوها بالعلم والعمل وأصلحوها بالقرآن والسنن وانظروا فيما يقربها إلى الله حتى تكون في رفقة الأنبياء الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وبعد هذا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.

نعم لا يضركم شيء إذا قمتم بما عليكم من واجبات وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكرات ، فالله يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) ثم إلى الله وحده المرجع والمآب وسيجازى كلا على عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.

روى ابن كثير أن أبا بكر خطب في الناس فقال : «أيها الناس إنكم تقرءون وهذه الآية (عليكم أنفسكم ... الآية) وإنكم تضعونها في غير موضعها وإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب»

وفي حديث أبى ثعلبة الخشني قال : «لقد سألت عنها خبيرا (أى : هذه الآية) سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائك أياما ، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم».

وفي رواية لابن عمر : إن هذه الآية تأويلها في غير زمن النبوة بل في القرون الآتية بعد ، وعن سعيد بن المسيب : إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلا يضركم من ضل إذا اهتديتم.

والخلاصة أن السلف متفقون على أن المسلم يكمل نفسه بالعمل الصالح ، ويكمل غيره بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأن هذا فرض لا يسقط إلا إذا اضمحل الزمان ، وفسد الناس فسادا يؤدى إلى إيذاء الواعظ إيذاء يهلكه.

والرأى ـ والله أعلم ـ أن الله يخاطب الجماعة في مقام الأمر بالمعروف والنهى عن

__________________

(١) سورة الزمر آية ٧.

٥٧٢

المنكر (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (١) وهنا (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) هذه الجماعة لا يضرها أبدا إيذاء ما دامت أمة متحدة مستمسكة بدينها. داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر.

فإن سقط الأمر بالمعروف أو خف عن الفرد في زمن من الأزمان ـ والحمد لله لم يحصل بعد ـ فلن يسقط ولن يخف عن الجماعة.

حقيقة إن الوعظ الفردى قد يكون عسيرا ولكن الوعظ الجماعى مع تقوية السناد بكثرة الأفراد الصالحين هو طريق الإصلاح والخير ، وليس أجدى على الأمة من تكتل الدعاة واجتماع طلاب القرآن وحكمه ففيهم الخير فيما نعلم ، وإليهم تتجه أنظار المسلمين.

الشهادة على الوصية حين الموت وأحكامها

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ

__________________

(١) سورة آل عمران آية ١٠٤.

٥٧٣

أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)

المفردات :

(شَهادَةُ) هي : قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : سافرتم لأن المسافر يضرب الأرض برجليه. (تَحْبِسُونَهُما) : تمسكونهما. (إِنِ ارْتَبْتُمْ) : شككتم في صدقهما فيما يقرّان به. (عُثِرَ) اطّلع ، وأعثر عليه : أعلمه به.

سبب النزول :

كان تميم الداري ، وعدى بن بدّاء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية. ويطيلان الإقامة بها ، فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة ، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما أن يوصلوا متاعه إلى أهله ، فلما مات فتحوا متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به ، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه ، فقالا : هذا الذي قبضنا له ، ودفع إلينا فقالوا لهما : هذا كتابه بيده ، قالا : ما كتمنا له شيئا ، فترافعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية .. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستحلفوهما دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو. ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا ، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب ، فقال أهله : هذا من متاعه ، قالا : نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا ، فترافعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين من أهل بيت الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه.

ثم إن تميما أسلم وبايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء مع صاحبي.

٥٧٤

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن الله ـ تعالى ـ أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصى إذا حضرته مقدمات الموت ، وأصابته مصيبته وهو في سفر فأوصى إلى اثنين عدول في ظنكم فإن لم يكونا فآخران من غيركم ، أى : من الكفار للضرورة أو من غير عشيرتكم وقرابتكم ، أى : من المسلمين الأجانب فأوصيتم إلى اثنين منهما ، ودفعتم إليهما المال وذهبا إلى ورثتكم فارتابوا في أمرهما ، وادعوا عليهما خيانة ، فإن كانا أمينين وصدقوهما بلا يمين فلا شيء.

أما في حالة الشك فالحكم أن تحبسوهما ، وتستوثقوا منهما حتى الفراغ من صلاة العصر كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع تميم وزميله ، ولأن هذا وقت القضاء والفضل في الدعاوى ، وانظر إلى اختيار الزمان والمكان وصيغة القسم ونظامه ، فيقسمان بالله أنهما ما كذبا وما بدلا ، وأن ما شهدا به هو الحق وما كتما من شهادتهما ولا غيّرا ، ويقسمان إنا لا نشتري بيمين الله ثمنا حقيرا من متاع الدنيا الفاني. ولو كان المقسم له من أقاربنا.

إنا إذا كتمنا أو غيرنا وبدلنا لنكونن من الآثمين المستحقين عقاب الله في الدنيا والآخرة.

فإن عثر على أنهما استحقا إثما بكذبهما وخيانتهما بعد ذلك كما حصل في قصة بديل السابقة ، فالواجب حينئذ أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الأقربين منه الأحقين بالإرث ، فيقسمان بالله لشهادتنا ويميننا أحق وأصدق من أيمان اللذين حضرا الوصية ، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة ، إنا إذا حصل منا شيء من هذا ، وتعدينا الحق وجاوزناه ، فحلفنا مبطلين كاذبين لنكونن من الظالمين لأنفسنا بتعريضها لسخط الله وعقابه.

ذلك الذي شرعناه من هذا النظم جميعا أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدى الشهداء الشهادة على وجهها بلا تحريف ولا تبديل ، وأن يخافوا من الفضيحة التي تعقب استحقاق الإثم برد أيمان الورثة بعد أيمانهم فإنها تكون مبطلة لأيمانهم فالواجب أن يخافوا من عقاب الله أو من رد الأيمان والفضيحة.

٥٧٥

واتقوا الله يا عباد الله واسمعوا وأطيعوا ، والله لا يهدى القوم الظالمين الخارجين عن حدود الشرع أبدا.

من مواقف يوم القيامة

يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)

المعنى :

يقول الله ـ تعالى ـ ما معناه : اتقوا الله واذكروا دائما يوم يجمع الله الرسل يوم القيامة ، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم ، كما إذا سأل الموءودة والمراد من وأدها!! يقول لهم : ماذا أجبتم.

والمعنى : أى إجابة أجبتم بها؟ أإجابة إيمان وإقرار أم إجابة كفر واستكبار؟

وليوم القيامة مواقف ، فتارة تشهد الرسل على أممهم ، وتارة يسأل الله الأمم (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ). (١) والله يسأل الرسل فيقولون : لا علم لنا ، أى : بالنسبة إلى علمك فأنت تعلم السر وأخفى ، إنك أنت علام الغيوب ، وقال ابن عباس : المعنى : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا إنك أنت علام الغيوب.

ونقل أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم وفزعه يذهلهم عن الجواب ، إذ ينسون أكثر الأمور. (لا عِلْمَ لَنا) وإذا ما هدأ روعهم ، وسكنت نفوسهم بعض الشيء يشهدون على أممهم ، وإذا كان هذا حال الأنبياء ، فكيف يكون حالنا نحن؟ حقيقة إنه يوم الفزع الأكبر يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ، ومن هنا ظهرت المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها ، فهي تخويف وبيان أن الله عالم فلا تكتموا شيئا.

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٢٧.

٥٧٦

معجزات عيسى عليه‌السلام

إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)

المفردات :

(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبريل ـ عليه‌السلام ـ الذي يؤيد به الله رسله بالتعليم والتثبيت ، وقيل : روح عيسى الطاهرة القوية. (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) : في حالتي الصغر والكبر والضعف والقوة. (الْكِتابَ) المراد : كل ما يكتب. (وَالْحِكْمَةَ) : العلم النافع. (الْأَكْمَهَ) من ولد أعمى. (سِحْرٌ) السحر : هو التمويه والتخييل بالباطل حتى يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته.

بعد أن ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ سؤال الأنبياء جملة وجوابهم ، مع الإشارة إلى ما يفيده السؤال والجواب من الإحراج والتوبيخ ، تعرض لعيسى خاصة ، لعل قومه

٥٧٧

يعرفون موقفه من الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيرجعوا عن عقائدهم الفاسدة ؛ وكل الأمم طعنوا في نبوة أنبيائهم ، أما هؤلاء فتعدى طعنهم إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ حيث نسبوا له الزوجة والولد.

وقد غالوا في المسيح حتى رفعوه عن درجة الأنبياء بسبب سوء فعلهم في معجزاته.

المعنى :

واذكر يا محمد وقت قول الله : يا عيسى ابن مريم : اذكر نعمتي عليك حيث اصطفيتك بالرسالة ، وشرفتك بالنبوة ، وكنت من غير أب ، فكنت آية على قدرة الله ، واذكر نعمتي على والدتك النقية الطاهرة ، مريم البتول التي برأتها مما نسب إليها ، وشرفتها بنسبة عيسى لها.

اذكر يا عيسى ابن مريم نعم الله عليك إذ أيدك بروح القدس جبريل ، علمك وثبتك ، ولقنك الحجة بأمر الله وإذنه ، وأيديك بروح طاهرة قوية ، فصرت بهذا تكلم الناس صبيًّا في المهد ، وتكلمهم كبيرا مكتمل القوى العقلية والرجولة الكاملة ، تدعو الله وتبرئ أمك فكنت مؤيدا في كل وقت (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [سورة مريم الآيات ٢٩ ـ ٣١].

واذكر نعمتي عليك إذا علمتك قراءة الكتاب ، وعلمتك الحكمة والعلم النافع في الدنيا والآخرة. خاصة التوراة والإنجيل.

واذكر نعمتي عليك إذ تخلق من الطين صورة كصورة الطير فتنفخ فيها فتكون طيرا له روح وحركة ، بإذن الله وإرادته ، لا بقدرتك أنت ، ولكنها المعجزة جرت على يدك بأمر الله ، شأنك في هذا شأن جميع الرسل ، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وإذ تخرج الموتى من قبورهم فيحيون بأمر الله وإذنه.

فهذا عيسى وهذه معجزاته كلها بأمر الله وإذنه وفي الإنجيل يقول عيسى : «أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا أعلم أنك في كل حين تسمع لي ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ، ليؤمنوا أنك أرسلتنى».

٥٧٨

واذكر يا عيسى إذ كففت ومنعت عنك بنى إسرائيل وقت أن جئتهم بالبينات الواضحات وقد حاولوا قتلك وصلبك ، ومكروا ومكر الله ، والله خير الماكرين ، قد نجاك الله منهم ، وكفهم عنك ، فما قتلوك وما صلبوك ولكن توفاك ورفعك إليه وطهرك من الذين كفروا ، وكل ما فعلوه قولهم : ما هذا إلا سحر مبين ، وتلك حجة العاجزين.

واذكر إذ أوحيت إلى الحواريين أصحابك وألهمتهم أن يؤمنوا بي وبرسولي عيسى بن مريم ، فآمنوا ، وقالوا : آمنا بالله وبرسوله واشهد بأننا مسلمون ومنقادون لله في السر والعلانية.

وهكذا منّ الله على عيسى وفضّله وكرّمه ، وجعل له أنصارا وأتباعا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.

قصة المائدة

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)

٥٧٩

المفردات :

(الْحَوارِيُّونَ) : الأصحاب الخلّص للمسيح. (مائِدَةً) : هي الخوان الذي عليه الطعام أو الخوان نفسه. (اللهُمَ) : يا الله. (عِيداً) : فرحا وسرورا ، أو يوما يجتمع الناس فيه للعبادة كعيد الفطر مثلا يعود كل سنة.

قصة المائدة عبرة وعظة ، لمن يطلب من الله آيات غير التي أنزلت ، وعاقبة ذلك ، وهي في الجملة تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان لطبائع الناس وسيرتهم مع أنبيائهم.

المعنى :

واذكر وقت قول الحواريين لعيسى بن مريم. والمراد في مثل هذا التركيب ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت.

قال الحواريون وهم المؤمنون الخلص ردّا على عيسى حين قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [ال عمران آية ٥٢] ومع هذا قالوا : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)!! وهذا سؤال لا يليق بهم قطعا!! ولذا خرجه العلماء على وجوه أحسنها أنّ (يستطيع) بمعنى يطيع ، كاستجاب بمعنى أجاب ، أو المعنى : هل تستطيع أمر ربك أى : سؤاله ، وقيل : إنه سؤال عن الاستطاعة على حسب الحكمة الإلهية ، أى : هل ينافي الحكمة إنزال المائدة أم لا؟ فإن ما ينافي الحكمة لا يقع قطعا وإن كان ممكنا.

ولذا قالوا معتذرين عن إيراد السؤال بهذه الصورة : نريد أن نأكل منها فنحن في حاجة إليها ، ونحن إذا أكلنا تطمئن قلوبنا وتهدأ نفوسنا ، ونعلم أن قد صدقتنا في أن الله تعالى أرسلك نبيا ، واختارنا أعوانا لك وقد رضى عنا بإجابة سؤالنا.

ونكون عليها من الشاهدين بالوحدانية ، ولك بالرسالة والنبوة إذ هي كالدليل على ذلك.

قال عيسى ابن مريم : يا ربنا يا مالك أمرنا ، ومتولّى شئوننا : أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء ، وتكون لنا معشر المؤمنين مصدر فرح وسرور ، ويوم نزولها نتخذه عيدا نجتمع فيه للعبادة والشكر ، ويعود علينا كل عام باليمن والإقبال

٥٨٠