التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

ضلوا ضلالا بعيدا جدا ، عن العقل والدين ؛ إذ هم يقولون : إن الله مركب من ثلاثة أقانيم ، أى : أصول : الأب ، والابن ، وروح القدس.

وقد حل الأب والابن واتحد وكون روح القدس ، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخر ، والثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

على أن خلاصة أقوالهم أن الله هو المسيح والمسيح هو الله.

ولقد رد القرآن عليهم : كيف تقولون هذا البهتان وقد قال المسيح ابن مريم : يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، فقد أمرهم بعبادة الله وحده معترفا بأنه ربه وربهم ودعاهم إلى التوحيد الخالص من كل شرك.

وهذا هو عيسى يحذرهم عاقبة الشرك والوثنية : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين لأنفسهم باتخاذ الشركاء والآلهة من نصير ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم وينقذهم (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة ٢٥٥]

لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، أى : واحد من ثلاثة التي هي الأقانيم الثلاثة.

وما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد ، فرد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، سبحانه وتعالى عما يشركون!.

وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم.

أعموا فلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ويرجعون إليه؟ والله كتب على نفسه الرحمة وهو الغفور الرحيم.

أما حقيقة المسيح عيسى بن مريم ، فهو رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الخوارق للعادة كالنبيين السابقين ، وكما أيد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزة الباقية الخالدة : القرآن. (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). [سورة النساء آية ١٧١].

٥٤١

وأما أمه فهي الصديقة الطاهرة نفخ الله فيها من روحه وصدقت بكلمات ربها فكانت من القانتين.

وأما حقيقتها الشخصية والنوعية فمساوية لسائر البشر ؛ بدليل أنهما يأكلان الطعام ليقيما به أودهما ، ومرت بهما ظروف خاصة وعامة كغيرهما ، وهما يذهبان إلى الخلاء ليقضيا حاجتهما فهل يكون أمثال هذين آلهة تعبد؟!!

انظر يا من يتأتى منك النظر! كيف نبين لهم الآيات ، ثم بعد هذا يغالون في البعد عن المنطق السليم ، وكيف يصرفون عن استبانة الحق كأن عقولهم فقدت ـ بسبب التقاليد ـ وظيفتها؟!!

خلاصة نظرية القرآن في المسيح

تعرض القرآن الكريم إلى المسيح عيسى ابن مريم وقد غالى فيه أهل الكتاب ، فاليهود ينكرون نبوته ويفترون عليه الكذب ، ويقولون عليه وعلى أمه البهتان.

والمسيحيون يغالون في رفع عيسى عن البشر ، فتارة يجعلونه إلها ، أو الآلهة ثلاثة والمسيح بن مريم واحد منهم ، وتارة يقولون : هو ابن الله.

فقال القرآن القول الحق ، والرأى الوسط في عيسى ابن مريم ذلك في الآيات ٧١ ، ١٧٢ من سورة النساء وقد مر تفسيرهما ، وفي آية ١٧ من سورة المائدة والآيات ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ من السورة نفسها (هذه الآيات كلها مفسرة في هذا الجزء).

وخلاصته أن المسيح عيسى ابن مريم نبي من الأنبياء ورسول الله إلى بنى إسرائيل ، وقد خلق بكلمة الله التكوينية ، ومؤيد بروح منه تعالى ، وهو عبد الله وخاضع له ولن يستنكف من هذا بل ظل يدعو إليه كما في الإنجيل.

وعيسى رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الموافقة لعصره كأى نبي أرسل ، والله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.

ولا غرابة في شأن ولادته فهذا آدم وهذه حواء ، وهذه أصول الحيوانات جميعا!!! والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الدائم الباقي القوى القادر ، لا راد لقضائه ولا معقب

٥٤٢

لحكمه ، إذا أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ، فهل يمنعه مانع!

والمسيح نفسه يقول : يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، ثم يحذرهم الشرك وعاقبته ، ويبين القرآن أن التثليث خطأ ، وما من إله إلا إله واحد ، لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يشركون (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة ١١٧].

على أن المسيح وأمه بشر كبقية البشر إلا أن عيسى رسول من الله وأمه صديقة طاهرة كانا يأكلان الطعام ويذهبان إلى الخلاء ، ولهما كل عوارض البشر وصفاتهم ، وهما لا يملكان لأنفسهما نفعا ولا ضرا فكيف يعبدان!!

هذه هي خلاصة لما في هذه الآيات القرآنية بالنسبة لعيسى ابن مريم. ولقد قرأنا الكثير من الأناجيل فوجدنا فيها آيات متشابهة جعلت النصارى يقولون بالتثليث تارة ، وبأن الله هو المسيح مرة أخرى ، أما الآيات المحكمة في الإنجيل فلإثبات الوحدانية لله تعالى ، ولبيان حقيقة المسيح وهي كما في القرآن مع فارق بسيط جدا (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) وكان للوثنية عند اليونان والرومان والمصريين أثر كبير في انحراف النصارى عن تعاليم المسيح المحكمة ، ففي إنجيل مرقص الإصحاح السابع الآية ٧ ، ٨ (وباطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس. لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس).

المتشابه في الإنجيل :

في إنجيل يوحنا الإصحاح الأول العدد ١ (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والكلمة الله) وعندهم أن الكلمة هي المسيح ، ينتج أن الله هو المسيح كما وصفهم القرآن وكما جاء في الرسالة الأولى ليوحنا الرسول بالإصحاح الخامس والعدد ٧ ، ٨ (فإن الذين يشهدون في السماء هم الأب والكلمة والروح القدس ، وهؤلاء الثلاثة هم واحد ، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم الواحد) هذا صريح في عقيدة التثليث.

٥٤٣

فيم يشهد الثالوث الأول والثالوث الثاني؟ وما هذا الثالوث الثاني ، وما الفرق بين الاثنين؟ بأيهما نؤمن وكيف نستسيغ أن الأب والابن وروح القدس والماء والدم يشهدون؟ وما معنى أن الثلاثة هم واحد أو في الواحد أو بالعكس؟ إن هذا لشيء عجاب ، ويمكننا أن نرد على دعواهم ألوهية المسيح من الإنجيل نفسه وهي الآيات المحكمة فيه.

١ ـ في إنجيل متى الرابع والعدد ١٠ : (لما جاء الشيطان للمسيح وهو يجربه وقال له : إن خررت وسجدت لي أعطيك هذه الممالك جميعا ، حينئذ قال يسوع : اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد).

وهذه شهادة المسيح بأن الله هو بارئ السموات والأرض وله وحده السجود والعبادة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة).

٢ ـ في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر العدد ٣ يقرر المسيح بأنه رسول الله وأنه رسول الإله الحقيقي (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك ، إنك الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته).

وفي الآية الرابعة من الإصحاح نفسه يقول المسيح : (أنا مجدتك على الأرض ، العمل الذي أعطيتنى لأعمل قد أكملته) إذا هو عبد خاضع لله قدم له العبادة والتمجيد (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) [سورة النساء آية ١٧٢].

٣ ـ والمسيح رسول قد خلت من قبله الرسل له رسالة خاصة ومهمة خاصة إذا أتمها انتهى ، يقول بولس الرسول في الرسالة الأولى لأهل كورنثوس الإصحاح الخامس عشر العدد ٢٨ : (ومتى أخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل).

٤ ـ المسيح وأمه كانا يأكلان الطعام ، ويذهبان إلى الخلاء ولهما أعراض البشر ، وهذا هو المسيح عند إحيائه العازر بعد موته بأربعة أيام وقد ذهب إلى القرية التي مات فيها وتقابل مع أختيه مريم ومرثا ورأى مريم تبكى (فلما رآها يسوع تبكى واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال : أين وضعتموه؟ قالوا له : يا سيد تعال وانظر ، بكى يسوع).

٥٤٤

فهل يتصور إنسان يدرك أن الإله يضطرب وينزعج ، وكان يجهل الموضع الذي فيه دفن الميت ، ويبكى ويضعف ، وهذه كلها علامات البشرية ولا يتصور أن فيه لاهوتا وناسوتا زيادة على ما في البشر ثم يحصل منه هذا.

وفي الآية ٤٢ نرى أن المسيح يصلى إلى الله : (أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي ، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا : إنك أرسلتنى) نرى أن منتهى الأمل الذي كان يرجوه أن يعرفوا أنه الرسول فقط.

وبعد : فهذا شيء يحار له كل إنسان عاقل!!! إذ كيف يقبل هذا ويدين به أناس يعتقدون هذه العقائد؟؟

وأختتم كلمتي بقرار اللجنة الخاصة لوضع التسابيح والتراتيل للكنائس الإنجيلية البروتستانتية فقد وضعت إحدى الترنيمات وهذا مطلعها :

للواحد الرحمن الخالق الأكوان

تسبيحنا

للأب بارينا ـ والابن فادينا ـ والروح محيينا

نهدي الثنا

السبب في استشراء الفساد فيهم

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ

٥٤٥

ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)

المفردات :

(لا تَغْلُوا) الغلو : الإفراط وتجاوز الحد. (أَهْواءَ) : آراء قوم دعت إليها الشهوة دون الحجة والبرهان. (لُعِنَ) اللعن : الطرد من الرحمة.

المعنى :

يا أيها الرسول قل لهؤلاء النصارى : أتعبدون عيسى متجاوزين الله ، وعيسى وكذا كل معبود من دون الله لا يملك ضرا ولا نفعا لأعدائه وأوليائه على السواء ، فهذا عيسى مع أعدائه اليهود هل أمكنه أن يصيبهم بضر ، لا. بل حاولوا قتله وصلبه ، والصلب أحقر أنواع القتل وأشده وملعون صاحبه ، هل فعل شيئا ، وهل دفع عن نفسه ضرا؟ هل أوقع عذابا على أعدائه؟ كل الذي فعله التجأ إلى الله وفوض أمره إليه.

وهذا عيسى كذلك مع أنصاره وأتباعه وقد كانوا مطرودين معذبين ، هل أوصل نفعا لهم؟

والله هو السميع لكل صوت بل لكل همس في القلوب ، العليم بكل شيء فهو الذي يستحق العبادة وحده دون سواه.

قل لهم يا محمد : لا تغلوا يا أهل الكتاب ولا تتجاوزوا الحدود في عيسى بين إفراط

٥٤٦

وتفريط ، فاليهود يبالغون في إهانته هو وأمه ، والنصارى يرفعونه إلى مقام الألوهية بل يعبدونه.

فالوسط الوسط. والحق الحق ، في المسيح وأمه الذي ذكر في القرآن!! يا أهل الكتاب لا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم المدفوعة بالشهوة لا بالحجة والبرهان ، هؤلاء القوم ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيرا من غيرهم ، وهذا خطاب لأهل الكتاب المعاصرين.

وبعد أن بيّن الله أنهم ضلوا وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن السبيل الوسط والرأى المعتدل ، بين سبب ذلك فقال :

لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل في الزبور على لسان داود ، وفي الإنجيل على لسان عيسى بن مريم. وذلك اللعن بسبب عصيانهم ، فقد لعن داود من اعتدى منهم يوم السبت وكذلك عيسى ، وما كان هذا إلا بسبب تماديهم في العصيان والمخالفة : فاحذروا أيها المعاصرون ذلك.

وقد بين الله سبب استمرارهم في المعاصي بقوله :

كان من دأبهم ألا ينهى أحد منهم أحدا عن منكر ارتكبه ، وذنب اقترفه ، بل العاصي منهم لا يجد من يأخذ على يديه ، والظالم لا يجد من يمنعه فانتشرت الفوضى وعم سوء الخلق ، وهذا نذير الفناء ودليل الهلاك ، تالله لبئس الفعل فعلهم وما كانوا يعملونه.

والمنكر إذا فشا في قوم ولم يجد من ينكره. ورأى العامة ذلك زالت الهيبة من النفوس والحياة من الضمائر. وصار عادة للناس ، وبالطبع زال سلطان الدين من القلوب.

والنهى عن المنكر هو حفاظ الدين وسياجه ، وتركه جريمة خصوصا من رجال الدين وأهله ، وفي هذا الوقت العصيب لا يدفع السوء الذي استشرى وبلغ الغاية إلا تكتل القوى ، وتضافر الأفراد والجماعات حتى تستأصل شأفة الفساد.

وإنى نذير لقومي أن يطبق عليهم هذا الجزاء الطبعي لكل جماعة يموت بينهم التناهى عن المنكر والأمر بالمعروف ، ولعل هذا هو السبب في سياق هذه الآيات تحذيرا وإنذارا لنا.

روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول

٥٤٧

ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض ، ثم تلا قوله : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله (فاسِقُونَ) ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرا ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما يلعنهم» (١).

والأحاديث في خطر ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة.

وإلى متى يا قوم؟ إلى متى نعرض عن ديننا ولا نرعوى عن غينا؟ ... هذه هي أحوال أسلافهم أما المعاصرون منهم فهاك حديثا عنهم : ترى كثيرا من أهل الكتاب خصوصا اليهود منهم يتولون الذين كفروا من مشركي مكة ويتحالفون معهم بل ويؤلبونهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إنه لعجب وأى عجب يتحالف أهل الكتاب مع من لا كتاب له ولا رسول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه!!!

وقد روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع هذا لم يتم لهم ما أرادوا.

لبئس شيئا قدموه لأنفسهم في الآخرة وهو الأعمال التي أوجبت سخط الله وغضبه عليهم ، ولعنه لهم وهم في العذاب خالدون.

ولو كانوا ، أى : اليهود يؤمنون بالله والنبي موسى كما يدعون ، ويؤمنون بما أنزل إلى موسى من التوراة ما اتخذوا المشركين من قريش وغيرهم أولياء وحلفاء ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولكن كثيرا منهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين ويريدون رئاسة كاذبة وعرضا زائلا.

وفقنا الله للخير ، والاهتداء بهدى القرآن والسنة المطهرة إنه سميع الدعاء.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهى ٤ / ٥٠٨ رقم ٤٣٣٦ والترمذي وابن ماجة.

٥٤٨

اليهود والنصارى وعلاقتهم بالمؤمنين

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)

المفردات :

(عَداوَةً) العداوة والمحبة : صفتان من صفات النفس ، يظهر أثرهما في القول والعمل. (قِسِّيسِينَ) واحده : قسّ وقسيس ، وهو رئيس من رؤساء النصارى ، والأصل فيه أن يكون عالما بدينهم وكتبهم. (وَرُهْباناً) واحده : راهب ، وهو العابد المنقطع للعبادة. (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) : تفيض دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته. (فَأَثابَهُمُ) : جازاهم.

٥٤٩

سبب النزول :

اختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في قوم من النصارى ، صفتهم كما ذكر القرآن ، أما كونهم من الحبشة أو من نجران ، وكون عددهم كذا أو كذا فالله ورسوله أعلم بذلك ، والغرض المهم ما تشير إليه الآيات.

المناسبة :

بعد أن تعرض القرآن الكريم لليهود وأعمالهم ، وللنصارى وعقائدهم ، ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم ومحبتهم للمؤمنين ، وتعرض للمشركين كذا بالتبع.

المعنى :

تالله لتجدن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود ، وما ذلك إلا أنهم أهل عناد وجحود ، وغمط للحقوق يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، خاصة أهل العلم ورجال الدين ، ولذا نراهم قتلوا الأنبياء بغير حق ، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس ، ووقفوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مواقفهم المشهورة. فقد هموا بقتله ، وحاولوا ذلك مرارا فسمّوه ، وسحروه ، وألّبوا عليه القبائل ، وكانوا مصدر النفاق والشغب ، هذا شأنهم دائما ، فهم أهل مكر وخيانة ، غلبت عليهم الأنانية وحب المادة ، ولؤم الطبع وسوء الصنع ، ويقاربهم في هذا أهل الشرك وعبّاد الأوثان ، فهم مشتركون معهم في أخص الصفات وإن فاقهم اليهود. وأشد ما لاقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها ، ومن مشركي العرب ولا سيما أهل مكة وما قرب منها.

والتاريخ قديما وحديثا ملئ بالشواهد على ذلك ، وإن مالأ اليهود المسلمين في بعض الظروف فلأمور سياسية عارضة دفعهم إليها حب المادة وعدل المسلمين.

ولتجدن ـ أيها الرسول ـ أقرب الناس مودة وأكثرهم محبة للذين آمنوا بك وصدقوك ، الذين قالوا : إنا نصارى وهم أتباع المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، لما

٥٥٠

غرست تعاليمه فيهم من الرقة والرأفة والبعد عن التعصب الديني نوعا ما بالنسبة إلى اليهود (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (١) وفي تعاليمهم : «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر». ولقد أشار القرآن الكريم إلى سبب المودة فقال : ذلك بأن منهم قسيسين يقومون بالتعليم وتهذيب الخلق ، وتربية الفضائل وغرس المثل العليا ، ومنهم رهبانا يعبدون الله رهبة منه وخوفا ، وطمعا وأملا في ثوابه ، فهم بعلمهم هذا يعوّدون الناس الزهد والتقشف والبعد عن الدنيا وغرورها ، وبأنهم متواضعون لا يستكبرون.

وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من القرآن ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من كل جانب ، فيضانا مما عرفوا من الحق الذي نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو مصدق لما معهم من الكتاب ، ومطابق لما وصف عندهم ، ولم يمنعهم عن ذلك عتوّ وعناد متأصل فيهم.

هذا حالهم ، أما مقالهم فيقولون : ربنا آمنا بك وبرسلك خاصة محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاكتبنا مع الشاهدين ، الذين يشهدون يوم القيامة للأنبياء والرسل وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢).

أىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو؟ ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان ذلك الرسول المبشّر به في كتابنا إذ هو روح الحق ، وإنا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت نفوسهم ، وطهرت أرواحهم بالعقائد الصحيحة والمثل العليا وهم أتباع هذا النبي الكريم.

والمعنى : لا مانع من الإيمان بعد أن ظهرت الحجة ووضح الطريق ، ونحن نطمع في أن نكون في عداد الأبرار والأخيار من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأثابهم الله وجازاهم بما قالوا عن عقيدة راسخة ونفس مطمئنة راضية ، وآتاهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ، هؤلاء هم المسيحيون الأحرار الذين نظروا في تعاليم المسيح الحقيقية فوقفوا على سرها وتكشفت لهم جنباتها ،

__________________

(١) سورة الحديد آية ٢٧.

(٢) سورة البقرة آية ١٤٣.

٥٥١

ورزقوا فكرا حرّا وعقلا رشيدا وروحا طيبة بعيدة عن التعصب تدين بمبدأ (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أى وعاء خرجت).

أما السواد الأعظم من المسيحيين الذين غرقوا في بحار التعصب ، ولم ينظروا ولم يكفروا وقالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، أو من عرفوا الحق وأعرضوا عنه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (١) فهؤلاء وهؤلاء يقول الله فيهم : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا الدالة على صدق نبينا أولئك هم أصحاب الجحيم الملازمون لها.

التشدد في الدّين

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)

المفردات :

(طَيِّباتِ) الطيب : ما تستلذه النفس ويميل إليه القلب. (لا تَعْتَدُوا) : لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم. (طَيِّباً) : غير مستقذر حسّا أو معنى.

سبب النزول :

روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف القيامة يوما لأصحابه فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار ، فرق فريق من الصحابة ، واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون ـ وكان منهم على بن أبى طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالم مولى أبى حذيفة ، وقدامة ـ واتفقوا على أن يظلوا صائمين قائمين وألا يناموا على الفراش ، وألا يأكلوا

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٤٦ ؛ والأنعام ٢٠.

٥٥٢

اللحم وألا يقربوا النساء وأن يرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا على قيام الليل وصيام النهار. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم :

«إنى لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وقوموا وأفطروا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم ، وآتى النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى» فنزلت الآية.

وعن ابن مسعود أن رجلا قال : إنى حرمت الفراش ، فتلا هذه الآية وقال : نم على فراشك وكفر عن يمينك.

كان وصف النصارى بالرهبنة ربما يفيد أنها خير ، فكانت هذه الآية القول الفصل والحكم العدل.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما طاب ولذ من الحلال ؛ فإنه مما تستلذه النفس ويميل إليه القلب ، ولا تمنعوا أنفسكم من الطيبات منع تحريم ، أو لا تقولوا : حرمنا على أنفسنا كذا وكذا مما هو حلال لكم ومباح.

لا تفعلوا هذا تنسكا وتقربا إلى الله ، فإن الله لا يرضى عن ذلك بل ينهى عنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١) ولا تجاوزوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم فقد حرم عليكم الخبائث وحرم عليكم الإسراف والتقتير ، وجعلكم أمة وسطا فلا إفراط ولا تفريط : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٢) وكلوا مما رزقكم الله حالة كونه حلالا لا إثم فيه كالربا والرشوة والسحت ؛ فإنها إثم وفسوق ، وكلوا الطيب الذي ليس مستقذرا في نفسه كالمحرمات العشر السابقة في أول السورة ، أو لطارئ كالفساد والتغير بطول المكث.

إن الله لا يحب المعتدين المتجاوزين حدود الشرع ، على أن الأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب والأكل.

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٧٢.

(٢) سورة الأعراف آية ٣١.

٥٥٣

واتقوا الله في الأكل واللباس والنساء وغيرها فلا تحرموا ما أحل الله ، ولا تحلوا ما حرم الله ظنا منكم أن هذا خير ، لا بل هو تشديد في الدين لا يرضى الله ورسوله ، وكذلك لا تسرفوا في التمتع ، فمن جعل شهوة بطنه وفرجه أكبر همه فهو من المسرفين إخوان الشياطين ، ومن أنفق أكثر من طاقته واستدان ولم يقتصد فهو من المبذرين ، ومن قتّر على نفسه وبخل عليها وقد بسط الله له الرزق فهو من المعتدين المذمومين.

والناظر إلى هذه الآية الكريمة يمكنه أن يدرك أن الدين الإسلامى ينظر إلى الروح والجسد نظرة اعتبار واعتدال ، «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ؛ فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» ، وبذا كنا أمة وسطا عدولا ، وخير الأمور أوسطها ، على أن تحريم الطيبات وتعذيب النفس ، وإيلام الجسد عبادة مأثورة عن قدماء الهنود واليونان ، قلدهم فيها أهل الكتاب خاصة النصارى. والمعروف أن سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يأكل ما وجد ، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج ، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدوة للغنى والفقير ، والصحابة والخلفاء منهم الغنى والفقير فكل ينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [سورة الطلاق آية ٧].

الأيمان وكفارتها

لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)

٥٥٤

المفردات :

(بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اليمين اللغو : هو ما لا قصد فيه للحلف. (عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) عقد الأيمان : توكيدها بالقصد ، وتعقيدها : المبالغة في توكيدها. (فَكَفَّارَتُهُ) الكفارة : من الكفر وهو الستر ، وهي أعمال تكفر بعض الذنوب ، أى : تغطيها وتسترها. (مِنْ أَوْسَطِ) : المراد الوسط في الطعام بلا مبالغة في التقتير أو الإسراف. (أَوْ تَحْرِيرُ) عتق رقبة.

المناسبة :

روى ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا : يا رسول الله : كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المعنى :

لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم التي لا يتعلق بها حكم شرعي ، كلا والله وبلى والله ، أى : التي تلقى بلا قصد ولكن لتأكيد الكلام ، فهذه لا مؤاخذة فيها ، وهذا رأى الشافعى ، وعن مجاهد : هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، ولكن قوله تعالى : (عَقَّدْتُمُ) يؤيد رأى الشافعى.

ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وأكدتموها بالقصد وصممتم عليها إذا حنثتم فيها ، وكانت بالله أو بصفة من صفاته ، أما غير ذلك فليس بيمين : «سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر ـ رضى الله عنه ـ يحلف بأبيه فقال : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».

أما الحلف بغير الله من مخلوق كنبي أو ولى فليس بيمين بل إنه حرام.

ويحرم الحنث في اليمين إذا حلفت على فعل واجب ، وإذا حلفت على فعل مندوب أو مباح يندب الوفاء ويكره الحنث ، وإذا حلفت على محرم وجب الحنث في اليمين والكفارة. فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».

٥٥٥

أما كفارة اليمين إذا حنثت فيه :

فكفارته : إطعام عشرة مساكين طعاما وسطا بلا إسراف ولا تقتير ، كما تطعم أهلك في الظروف المعتدلة ، ومن زاد في الخير فلا بأس به ، وقدر بنصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين ، والصاع بالكيل المصرى قدحان وثلث. أو تغديهم وتعشيهم بخبز ولحم أو لبن ، أو خضار ، أو زيت ، كل على قدر طاقته.

فإن لم يكن طعام لعشرة فكسوتهم لكل فقير (جلابية) متوسطة الثمن أو قميص أو سروال أو طاقية ، أو تحرير رقبة مؤمنة ، فهو مخير بين الإطعام والكسوة والعتق ، فمن لم يجد ذلك ولم يستطع إطعام أو كسوة أو عتقا ، فعليه صيام ثلاثة أيام متتالية على الصحيح ، وقد فسروا الاستطاعة بأن يكون عنده ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة.

فإن عجز عن ذلك كله استقر الحق في ذمته حتى يستطيع ، ذلك المذكور كفارة أيمانكم ، إذا حلفتم حلفا شرعيّا وحنثتم ، واحفظوا أيمانكم ، فلا تبذلوها لأتفه الأسباب ، ولا تجعلوها عرضة ، وإن حنثتم فاحفظوها بالكفارة ، وإن حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه ، ولا تحشوا إلا لضرورة ، ويكون الحنث فيها أفضل من السير مع اليمين الكاذبة. مثل هذا البيان الشافي الواضح يبيّن الله لكم آياته وأحكامه ليعدّكم ويؤهلكم لشكره على نعمه جل شأنه.

واليمين الغموس : التي يضيع بها حق المسلم ، أو يقصد بها غش أو خيانة ، فلا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام ، بل لا بد فيها من توبة ورجوع إلى الله مع أداء الحقوق لأربابها ، قال رسول الله : «من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان» (رواه البخاري ومسلم) ، ويقول الله : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة النحل آية ٩٤].

٥٥٦

الخمر والميسر وخطرهما

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)

المفردات :

(الْخَمْرُ) : كل شراب مسكر. (الْمَيْسِرُ) في أصل اللغة : القمار بالقداح في كل شيء ، ثم غلب في كل مقامرة ، وقد مضى الكلام عليه في آية البقرة ٢١٩. (الْأَنْصابُ) : حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها. (الْأَزْلامُ) : قطع رقيقة من الخشب كالسهم كانوا يستقسمون بها ، وقد مر أول هذه السورة في آية (٣) تفصيلها. (رِجْسٌ) : مستقذر حسا ومعنى. (طَعِمُوا) طعم الشيء يطعمه : ذاق طعمه عن طريق الأكل أو الشراب.

المناسبة :

بعد أن نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن تحريم الطيبات من الرزق ، وأمر بأكل

٥٥٧

الحلال الطيب بلا إسراف ولا تقتير ، وكانوا يستطيبون الخمر والميسر ناسب أن يتعرض القرآن لبيان حقيقتهما.

روى أن عمر كان يدعو الله تعالى قائلا : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فلما نزلت آية البقرة ظل على دعائه ، ولما نزلت آية النساء ظل كذلك على دعائه ، فلما نزلت آية المائدة ، وسمع قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال : انتهينا! وكانت هذه الآية هي الفاصلة القاضية.

روى أن عمر قال حين سمع (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا!!! وتركها الناس وأراقوها في الطرقات.

وروى عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا ، وثملوا ، واعتدى بعضهم على بعض ، فلما صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه ولحيته ، فيقول : صنع بي أخى فلان هذا ، ولو كان رءوفا بي ورحيما ما صنع هذا!!! وقد وقعت بينهم ضغائن فأنزل الله هذه الآية (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) فقال ناس : هي رجس وهي في بطن فلان كحمزة مثلا وقد قتل يوم أحد ، وفي بطن فلان وقد قتل يوم بدر ، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) الآية.

ولعلك تسأل ما الحكمة من تحريم الخمر تدريجياّ؟؟ وما علمت أنها الحكمة العالية والدواء الناجع لهذا الداء المتأصل ، الذي أدمنت العرب على شربه ، فلو حرمت الخمر دفعة واحدة لكان ذلك أدعى لتنفير الناس من الدين كله.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله : اعلموا أن هذا الوصف يوجب عليكم الامتثال لأمر الله والتزام حدود الشرع ، واعلموا أنما الخمر وهي : ما خامر العقل ، أى : ستره فأسكره رجس من عمل الشيطان وصنعه ، وهو عدوكم اللدود ، الذي لا يعمل إلا للشر ولا يزيّن إلا للهلاك!!!

ولقد خطب عمر بن الخطاب يوما على منبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قد نزل تحريم

٥٥٨

الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر : ما خامر العقل» ، وهذا أبين بيان في حقيقة الخمر ، يخطب عمر بالمدينة على مرأى ومسمع من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم أهل اللسان والبيان ، وأعلم الناس بلغة القرآن ، فلا ينكر أحد عليه ولا يستفسر أحد عن نوع دون نوع!!! ولا تنس قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» فإن كل مادة مغيبة للعقل مهلكة للصحة فهي خمر وإن تعددت الأسماء ، وإذا ثبت هذا بطل رأى القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا.

والنبيذ قديما : عبارة عن تمر أو زبيب ينقع في ماء حتى يحلو الماء فيشرب ، وهذا حلال حيث لم يختمر ولم يسكر ، وأقرب الأشياء به ما يسمى بالخشاف في مصر ، أما النبيذ المستعمل الآن فخمر وحرام ومسكر ... وفي آية ٢١٩ من سورة البقرة بيان واضح متمم لما هنا.

إنما الخمر والميسر والأنصاب المنصوبة من حجارة حول الكعبة وكانوا يعظمونها والأزلام وكانوا يستقسمون بها إنما ذلك رجس وقذارة!! وأى رجس أكبر من هذا؟ فالخمر والميسر مستقذران حسا ومعنى ، من ناحية الشرع والعقل ، وهما من عمل الشيطان وصنعه ، فاجتنبوا هذا الرجس واتركوه ، واجعلوه في جانب وأنتم في جانب ، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم إذ هما من أخطر الأمراض اجتماعيا ودينياّ واقتصادياّ.

أما الخطر الاجتماعى فالشيطان يريد لكم ـ بشرب الخمر ولعب الميسر ـ أن تقع بينكم العداوة والبغضاء فيقضى على جماعتكم ، ويشتت شملكم ويهدم كيانكم ، والإسلام حريص جدّا على أخوتكم واتحادكم وتضامنكم وإزالة أسباب الشقاق والنزاع فيما بينكم.

والشواهد على هذا كثيرة واضحة ، ولا غرابة فالخمر تذهب العقل الواعي وتستره ، وهو الذي يدرك قواعد العرف والدين التي تمنعنا عن الشر والوقوع فيه ، فإذا ضاع واستتر ، ظهر الإنسان بشهواته وطبيعته الحيوانية يأتى الدنية ، ويقوم بأحط الأعمال وأقذرها!!

٥٥٩

والميسر وما فيه من ربح وخسارة ، بلا عمل وتجارة ، مثار العداوة والبغضاء في نفوس اللاعبين.

أما ضياع الشخصية وفناء الشباب وهلاك الصحة ، والانغماس في تيار الرذيلة فشيء لا ينكره عاقل ، ولا يحتاج إلى نص.

وأما الناحية المالية فحدث عنها ولا حرج ، فكم من بيوت هدمت وكم من أموال بددت ، على الموائد الخضراء والحمراء في الليل والنهار؟؟

وأما الخطر الديني وما أدراك ما هو؟!! فهما يصدان عن ذكر الله ، الذي يجلو القلوب ويزكيها ، ويطهر النفوس ويهديها ، وهما يمنعان من الصلاة التي هي عماد الدين ؛ إذ السكران لا عقل له ولا قلب فكيف يهتدى إلى الخير وإلى الصلاة؟؟ ولاعب الميسر يجلس الساعة والساعات بل يواصل ليله ونهاره ولا يدرى ما حوله ولا يشعر بنفسه ، قد نسى بيته وأهله وولده ، وإنه ليقضى الوقت بين الأوراق والنار تشتعل في بيته فلا يغيث أهله مع الناس فكيف يفكر في الصلاة؟ على أنه إذا صلّى بلا روح وبلا قلب.

فهل أنتم يا من اتصفتم بوصف الإيمان وتحليتم به منتهون بعد هذا البيان اللاذع والقول الفاضح؟!

وهذا أمر بالانتهاء جاء على أسلوب بليغ جدّا يدركه من يقف على أسرار بلاغة القرآن.

وكيف لا يكون هذا شأن الخمر والميسر؟ وقد نفر الله منهما ، وأكد تحريمهما بوجوه من التأكيد أهمها.

سماهما رجسا من عمل الشيطان (الخمر أم الخبائث) بل قصرهما على الرجس لا يتعديانه إلى غيره ، وقرنهما بالأنصاب والأزلام ، وأنت تعرف أنهما من أعمال الشرك وخرافات الوثنية (مدمن الخمر كعابد الوثن).

وعلق الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة على اجتنابهما.

وجعلهما مثار العداوة والبغضاء ، ومبعث الشقاق والشحناء.

٥٦٠