التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

أما الذين بدلوا ما أمرناهم به ، وما امتثلوا أمر الله ، بل قالوا حبة في شعرة ، أى : حنطة في زكائب من شعر ، ودخلوا زاحفين على أستاههم غير خاضعين لله فإن جزاءهم أن الله أنزل عليهم عذابا شديدا من السماء ؛ وذلك بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله (قيل : هلك منهم سبعون ألفا).

١٠ ـ واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن طلب موسى ـ عليه‌السلام ـ السقيا لآبائكم وقت أن عطشوا في التيه واحتاجوا للماء فقال الله : يا موسى اضرب بعصاك الحجر المعهود فانفجر منه بأمر الله العيون ، لكل جماعة منهم عين يشربون منها ، وقيل لهم : كلوا واشربوا من عطاء الله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.

بعض قبائح اليهود وما لحقهم

وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)

٤١

المفردات :

(البقل) : كل ما اخضرت به الأرض من البقول والخضروات. القثّاء : هو الخيار. (فُومِها) : حنطتها أو ثومها. (أَدْنى) أى : أقل مرتبة ، (مِصْراً) : بلدا عظيما ، والمراد في الآية أى بلد زراعي (الذِّلَّةُ) أى : الذل. (الْمَسْكَنَةُ) : الفقر والحاجة. (الَّذِينَ هادُوا) : تهودوا ، من هاد : إذا دخل في اليهودية ، وهم اليهود. (النَّصارى) : أتباع عيسى. (الصَّابِئِينَ) : من خرج عن دينه مطلقا ، وقيل : قوم عبدوا الملائكة.

المعنى :

خاطب الله اليهود المعاصرين مع أن الجناية من آبائهم ؛ لأنهم أبناؤهم وهم يعتزون بنسبتهم إليهم ولا ينكرون عليهم أفعالهم ، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة.

واذكروا ـ أيها اليهود المعاصرون ـ إذ قال آباؤكم : يا موسى لا يمكننا أن نستمر على طعام واحد مثل المن والسلوى.

فاطلب لنا من ربك آن يطعمنا مما تنبت الأرض من خضروات وبقول كالحنطة والعدس والبصل والقثاء ، فقال موسى تعجبا واستنكارا : أتستبدلون هذا الطعام بالمن والسلوى وهما خير وأهنأ؟ وإذا طلبتم الأقل نفعا وخيرا عوضا عما هو خير لكم فاهبطوا أى بلد زراعي فإن لكم فيه ما طلبتم.

وبما جنوا من كفر وقتل للأنبياء بغير حق كما قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم لهذا جعلت الذلة والمسكنة محيطة بهم مضروبة عليهم ، كما تضرب الخيمة على من فيها ، ورجعوا بالخسران والبعد من رحمة الله ؛ وهذا بسبب عصيانهم لأوامر ربهم عصيانا متكررا واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء ، فقد قتلوهم معتقدين أن قتلهم بغير حق!! ضربت عليهم الذلة والمسكنة : هما الذل والفقر والحاجة ، ولا شك أنهم كذلك وإن كانوا ذوى مال ، فاليهود قد ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل وبيع الشرف لأجل المال ؛ فهم في فقر دائم وذل مستمر ، ما داموا يعبدون المادة ويتألّهون المال. المال.

غنى النفس ما استغنيت عنه

وفقر النفس ما عمرت شقاء

٤٢

ولقد فهم بعض العلماء قديما أن هذه الآية تشير إلى أنهم لا تقوم لهم دولة أبدا ، ونحن معهم في هذا ؛ إذ قيام دولة كهذه يوما أو يومين لا يهدم رأيهم ، فقديما استولى الصليبيون على بيت المقدس ردحا من الزمن ، ثم علت كلمة الله ورفعت راية الإسلام ، وقريبا بأمر الله ترفع راية الإسلام.

وقيام دولتهم هذه بمثابة تنبيه شديد من الله لنا علّنا نتعظ ونثوب إلى رشدنا وديننا (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١) فارجعوا إلى رشدكم حتى لا تضرب عليكم الذلة والمسكنة بكل معانيها القريبة والبعيدة.

وبعد أن ذكّرهم بما فعلوا قديما ، وبيّن عاقبة أمرهم بأوضح بيان ليعتبر المعاصرون ويتعظوا ، أتى بقانون عام شامل لا يفرق بين أحد فقال ما معناه :

كل من آمن يا لله واليوم الآخر إيمانا قلبيا وعمل صالحا فله من الله الأجر والمثوبة ، وأنه لا يخاف أبدا ولا يحزن في الدنيا والآخرة ، سواء كان من الذين آمنوا أو من اليهود أو النصارى أو من الذين رجعوا عن دينهم مطلقا (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) (٢). وهذا أروع مثل لمبدأ المساواة في الإسلام.

من جنايات اليهود

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)

__________________

(١) سورة الرعد آية رقم ١١.

(٢) سورة الأنفال آية رقم ٣٨.

٤٣

المفردات :

(مِيثاقَكُمْ) الميثاق : العهد المؤكد. (الطُّورَ) : جبل معروف بطور سينا. (بِقُوَّةٍ) : بجد ونشاط. (تَوَلَّيْتُمْ) : أعرضتم (السَّبْتِ) : اليوم المعروف. (خاسِئِينَ) : بعيدين عن رحمة الله. (نَكالاً) : عبرة تنكل من اعتبر بها ، أى : تمنعه.

المعنى :

واذكروا وقت أن أخذنا العهد المؤكد على آبائكم بأن يؤمنوا بما في التوراة ولم يقبلوا حتى رفعنا فوقهم الطور إرهابا وتخويفا ، وأمرناهم أن يقبلوا ما آتيناهم ويأخذوه بجد ونشاط ؛ لأن فيه الخير لهم ، وليذكروا ما فيه ويعملوا به كي يكونوا من المتقين.

فقبلوه إلى حين ثم أعرضوا من بعد ذلك عنه!! فلولا رحمة الله بهم وقبوله توبتهم لكانوا من الخاسرين المعتدين.

وبالله لقد علمتم شأن الذين اعتدوا من آبائكم بصيد السمك يوم السبت وكان محرما فيه لقصره على العبادة ، وقد ابتلاهم الله بأن كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة قريبة من الساحل ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، كذلك نبلوهم ، وكان جزاؤهم على ارتكاب خطيئة الصيد يوم السبت وانشغالهم به عن العبادة أن حكم الله عليهم أن يكونوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس ؛ لأنهم نزلوا إلى مرتبة الحيوان ، وهكذا كل فاسق خارج عن طاعة الله ، وقيل : إن الله حكم عليهم بأن يكونوا في صورة القردة بعيدين عن رحمة الله ، فجعل الله عقوبتهم هذه عبرة لمن لمن شاهدها ولمن يأتى بعدهم ؛ إذ نكل بهم تنكيلا يتناسب مع جرمهم ، وجعلها عظة للمتقين لأنهم لا يتعدون حدود الله ، فأولى بكم ـ أيها اليهود المعاصرون ـ أن تعتبروا وتتعظوا بما حل بأسلافهم.

٤٤

قصة ذبح البقرة

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)

المفردات :

(لا فارِضٌ) الفارض : المسنّة. (وَلا بِكْرٌ) البكر : الصغير. (عَوانٌ) : نصف بين الصغيرة والكبيرة. (فاقِعٌ لَوْنُها) يقال : أصفر فاقع ، أى : شديد

٤٥

الصفرة. (لا ذَلُولٌ) : ليست مذللة بالعمل. (تُثِيرُ الْأَرْضَ) : تنشر الغبار وتهيجه ، والمراد : تحرث الأرض. (مُسَلَّمَةٌ) : سليمة من العيوب. (لا شِيَةَ فِيها) : لا لون غير لونها. (فَادَّارَأْتُمْ) : تدارأتم بمعنى : تخاصمتم وتدافعتم.

سبب النزول :

كان في بنى إسرائيل شيخ موسر وله ابن فقتله أبناء عمه ليرثوا أباه ، ثم جاءوا يطالبون بديته ودمه ، وتخاصموا في ذلك ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة. ويضربوا القتيل ببعض أجزائها فيحيا ثم يخبر عن القاتل ، وقد ذبحت البقرة وضربوا القتيل فأحياه الله وأخبر عن القتلة وكانوا أبناء عمه. أفرأيتم ما تفعل اليهود قديما وحديثا؟!

المعنى :

واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين هم أسلافكم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ـ أى بقرة كانت ـ فلم يسرعوا إلى الامتثال ، ولكن شدّدوا فشدد الله عليهم ، وقالوا : أتهزأ بنا يا موسى؟ قال : معاذ الله أن أكون من الذين يهزئون في موضع الجد ، فلما رأوه جادّا قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما سنها؟ فقال لهم. إنها بقرة ليست صغيرة ولا كبيرة ، بل وسط بين هذا وذاك فافعلوا ما تؤمرون به ، ولا تشددوا فيشدد الله عليكم ، ولكنهم اليهود قالوا : ادع لنا ما لونها : إنها صفراء شديدة الصفرة تجلب السرور لمن يشاهدها ، فلم يكتفوا بذلك ، بل طالبوا بأوصاف تميزها أكثر ، ولكنهم أحسوا بأنهم تشددوا وجاوزوا الحد المعقول فقالوا معتذرين : إن البقر كثير متشابه علينا ، وهذه الأوصاف السابقة تنطبق على كثير ، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى المطلوب.

فأجابهم الله أن البقرة المطلوبة لم يسبق لها عمل في حرث الأرض ولا سقيها ، سليمة من العيوب ليس فيها لون مخالف ، قالوا : الآن جئت بالبيان الواضح فطلبوها فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بارّ بأمه ، فساوموه ، فاشتط حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا ، وما كان امتثالهم قريب الحصول.

واذكروا إذ قتلتم ـ والخطاب لليهود المعاصرين ، لأنهم أبناء السابقين ومعتزون بنسبهم وراضون عن فعلهم ـ واذكروا وقت قتل آبائكم نفسا حرم الله قتلها ، ثم تخاصموا وتجادلوا وأنكروا على الله فعلهم كما ينكرون اليوم ما عندهم من أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله مظهر ما تكتمونه.

٤٦

فقلنا : اضربوه ببعضها فضربوه فأحياه الله وأخبر عن القتلة (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) يوم القيامة فيأخذ كلّ جزاء عمله ، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدالة على صدق القرآن والنبي ؛ حيث يخبر بالمغيبات كي تعقلوا فتؤمنوا بالنبي وتصدقوا بالقرآن.

يريد الله أن يسجل عليهم ذنبين :

الأول : وقوفهم موقف المستهزئ المعاند المجادل المتشدد المنكر الحق الصريح ، وجزاءه على كل هذا لعلهم يتعظون.

الثاني : قتل النفس البريئة والإنكار ، وإنما أخره لأن الأول ديدنهم وطبيعتهم التي لا يتخلفون عنها.

وفي القصة عبرة للمتشددين وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسجيل على اليهود بعض قبائحهم وخاصة قلبهم للحقائق.

قسوة قلوبهم واستبعاد الإيمان منهم

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ

٤٧

اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)

المفردات :

(يَتَفَجَّرُ) : يخرج بكثرة. (يَشَّقَّقُ) : ينفتح شقوقا بالطول أو العرض. (خَشْيَةِ اللهِ) : انقيادا لله وحده. (يُحَرِّفُونَهُ) : يغيرونه. (عَقَلُوهُ) : فهموه وعرفوه. (لِيُحَاجُّوكُمْ) : ليجادلوكم ويخاصموكم. (أُمِّيُّونَ) : عوام (أَمانِيَ) : أكاذيب لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي.

المعنى :

من بعد ذكر ما يلين القلوب الجامدة من المواعظ والآيات والحجج البينات قست قلوبكم قسوة قاسية ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة منها ، إذ قلوبكم لم تتأثر بالآيات ، فكأنها خرجت عن دائرة الحيوان إلى دائرة الجماد ، بل نزلت عن درجة الجماد أيضا ، فها هي ذي الحجارة تتأثر بالماء تارة فيتفجر منها بكثرة فيتكون النهر ، وتارة تتشقق شقوقا يخرج منها الماء ولو بسيطا ، والحجارة قد تأثرت بالمؤثرات الخارجية فتسقط منقادة لله وحده ، وقلوبكم لم تتأثر بالمؤثرات والمواعظ فكانت أقسى من الحجارة ، بل أشد قسوة منها ، وما الله بغافل أبدا سيجازيكم عليه أوفى جزاء ، وانظر إلى قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ) فإن لفظ ثم في الأساليب العربية يفيد الترتيب ولكن مع التراخي والتباعد بين ما قبلها وما بعدها فكأن قسوة قلوب هؤلاء مرتبة أوغلت في البعد عن الوضع السليم.

هذا خطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وسط الخطاب الموجه إلى اليهود إذ الكلام كله في بيان سوءاتهم.

٤٨

أنسيتم أفعالهم وأعمالهم فتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء اليهود؟ كان منهم جماعة يسمعون كلام الله ثم يغيرونه ويبدلونه حسب هواهم ، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة ، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال؟.

ونقيصة أخرى من نقائصهم وهي أن منافقيهم إذا تقابلوا مع المؤمنين قالوا : نحن مؤمنون بالله والنبي إذ هو المبشر به عندنا فنحن معكم ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا وهم يأخذون كلامكم حجة عليكم فيخاصموكم عند ربكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم أفلا تعقلون أن هذا خطأ وضرر؟ فيرد الله عليهم : أيحسبون أن هذا سر لا يطلع عليه أحد؟ ولا يعلمون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة ، فسواء قلتم أم لم تقولوا فإنه يعلم ما تضمرون وما تعلنون وسيجازيكم على ذلك كله.

هذا شأن من عرف الكتاب منهم وهو علماؤهم وأحبارهم ، وأما الأميون منهم فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها «أنهم شعب الله المختار ، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما قليلة» وما هم في كل ذلك إلا واهمون.

والمعنى : لا تطمع يا محمد في إيمانهم ولا تأس على أمثالهم ، فإن من كان كذلك فلا خير فيه ، ولا أسف عليه.

كذب أخبار اليهود وافتراؤهم على الله

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ

٤٩

أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)

المفردات :

(وَيْلٌ) الويل : العذاب الشديد والهلاك. (سَيِّئَةً) السيئة : الكفر والشرك والنفاق (أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) الخطيئة : الكبيرة من الذنوب ، والمراد بالإحاطة أنه لم يبق فيه جانب من قلب أو لسان أو جارحة إلا اشتملت عليه في تحصيلها.

المعنى :

العذاب الشديد لهؤلاء الذين ينسخون التوراة بأيديهم فيغيرون فيها ما يشاءون أو شاءت لهم أهواؤهم!! روى أن أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت مكتوبة عندهم في التوراة فغيروها وكتبوا بدلها ، فإذا سئلوا من العوام عن وصفه ذكروا ما كتبوه هم فيكذب العوام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع هذا تبلغ بهم الجرأة والقحة إلى أن ينسبوا مفترياتهم إلى الله ـ سبحانه ـ ليأخذوا بهذا الكذب الشائن ثمنا دنيويا تافها من مال أو رئاسة أو جاه فويل لهم مما كسبوه!!

ومن سوءاتهم الشنيعة التي اقترفوها أنهم يدعون أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل ، هذه دعوى فما دليلها؟ ولأى شيء لا تصيبكم النار مهما فعلتم؟ أأخذتم على الله عهدا بذلك؟ وإن كان هناك عهد فلن يخلف الله عهده!! لا : لم تأخذوا عهدا بل تقولون على الله ما لا علم لكم به ، والذي دفعكم إلى هذا غروركم ومركب النقص فيكم.

بلى ـ أيها اليهود ـ ستخلدون في النار حسب ما جنيتم من المعاصي كالكفر وقتل الأنبياء بغير حق وعصيان الله ومخالفة أمره ، وكيف لا يكون ذلك؟ وقد سن الله قانونا عاما شاملا لكل الخلائق من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو :

٥٠

من اجترح سيئة أو اقترف خطيئة اقترافا اشترك فيه قلبه ولسانه وجوارحه حتى كأن الخطيئة سور حوله فأولئك البعيدون في الضلال أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون ، ومنهم أنتم بل أنتم أولى من غيركم بالعذاب.

ومن آمن وعمل صالحا من كل جنس ولون فأولئك الذين مس الدين شغاف قلوبهم وهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، وهذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ليظهر الفرق جليا.

ميثاق بنى إسرائيل

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ

٥١

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)

المفردات :

(مِيثاقَ) الميثاق : العهد المؤكد الذي أخذ عليهم في التوراة. (إِحْساناً) : تحسنون إلى الوالدين إحسانا. (ذِي الْقُرْبى) : صاحب القربى من جهة الرحم أو العصب. (تَوَلَّيْتُمْ) : أعرضتم. (تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) : تقتلون الأنفس بغير حق. (تَظاهَرُونَ) : تتعاونون. (بِالْإِثْمِ) : الذنب. (الْعُدْوانِ) : الاعتداء. (أُسارى) : أسرى (خِزْيٌ) : ذل وهوان. (اشْتَرَوُا) : استبدلوا.

المعنى :

يبين الله ـ سبحانه ـ مدى مخالفة اليهود للتوراة وأنهم كاذبون كذبا صريحا في ادعائهم أنهم مؤمنون بها ، إذ قد أخذ الله عليهم فيها العهود المؤكدة أنهم لا يعبدون إلا الله ـ سبحانه ـ وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا ، وأمروا بالعطف على الأقارب واليتامى والمساكين كل بما يناسبه ويقدر عليه من غير تعب ولا مشقة ، وأمروا بالقول الحسن الذي لا إثم فيه ولا شر ، وأن يؤدوا صلاتهم مقومة تامة وزكاتهم كاملة ، ولكنهم أعرضوا عن هذا كله مع أن هذه الأوامر تكفل سعادة المجتمع وحياته حياة هادئة هنيئة ، ولكنهم اليهود جبلوا على لؤم الطبع وحب المادة ، فلن نرى منهم إحسانا ولا عطفا ولا خيرا ، اللهم إلا نفر قليل منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه ، وإذا كان هذا شأنهم مع كتابهم فلا تأس عليهم يا محمد ولا تحزن.

ميثاق آخر لهم بشأن حقوق الغير خاصة الأقارب والمواطنين ، ومن هذا حالهم فهل يكون لهم إلا الخزي والعار؟ ولا أمل فيهم أصل!!

٥٢

واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذنا عليهم في التوراة العهود المؤكدة بألا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يسفك دمه بغير حق شرعي ، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه.

وفي تعبير القرآن الكريم بقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) (الآية) إشارة إلى أن دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر بعينه ، حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسا أو انتحر بيده (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ) (الآية : ٣٢ من سورة المائدة). ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على آبائكم واعترفتم به واعتقدتموه بقلوبكم ولم تنكروه بلسانكم فالحجة قائمة عليكم.

ثم بعد أن سجل الله عليهم اعترافهم بالميثاق واعتقادهم له استبعد منهم أن يأتوا بما يخالفه بأن يقتل بعضهم بعضا ، ويخرج بعضهم بعضا من ديارهم مع أنهم إخوانهم في الدين واللغة والنسب متعاونين مع الغير بالذنب والعدوان ومعصية الرسول ، وأن أخذوا أسرى حرب تنقذونهم بالمال ، والإخراج والقتل محرم عليكم في التوراة فكيف تفعلونه؟ وبأى حق تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون لآية مفاداة الأسرى وتكفرون بالآيات الناطقة بتحريم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء فتفعلون ذلك.

وإذا حصل منكم أنكم آمنتم ببعض التوراة وكفرتم بالبعض الآخر فليس لكم جزاء على هذا الفعل الشنيع إلا ذل وهوان في الدنيا وعذاب أليم دائم في الآخرة ، وما الله بغافل عن أعمالكم أبدا ، بل سيجازيكم عليها حتما.

أولئك اليهود الذين يفعلون هذا آثروا الحياة الدنيا كالرياسة الكاذبة والمال على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم للمؤمنين ، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم وبئس ما باعوا وهم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة.

وهكذا كل أمة لها دين تؤدى بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج ولا تؤدى بعض أحكامه الأخرى كما إذا شاع فيها الربا والزنى والرشوة والسرقة ولم تتعاون على الخير ولم تؤد الزكاة ، وبخل أغنياؤها على فقرائها ... إلخ!! وأخوف ما أخاف أن يطبق علينا هذا الوعيد.

وقد كان يهود المدينة شعبين : بنو قريظة والنضير ، فحالفت قريظة الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه ، ويخرب ديارهم ويخرجهم منها ، فإذا أسروا فدوهم ، وإذا سئلوا في ذلك يقولون أمرنا بالفداء في التوراة (آمنوا

٥٣

بهذه الآية) ولم تقتلونهم أليس محرما عليكم هذا؟ قالوا : نعم ولكنا نستحي أن تذل حلفاؤنا.

مواقفهم من الرسل والكتب

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)

٥٤

المفردات :

(وَقَفَّيْنا) : أتبعناهم رسولا إثر رسول. (الْبَيِّناتِ) : المعجزات الواضحة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) : ـ جبريل عليه‌السلام ـ. (غُلْفٌ) : مغشاة بأغلفة كالغطاء ، والمراد : لا تعى. (لَعَنَهُمُ اللهُ) : أبعدهم عن رحمته وطردهم. (يَسْتَفْتِحُونَ) : يطلبون الفتح ويستنصرون به. (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) : باعوها ، وكل من ترك شيئا وأخذ غيره فقد اشتراه. (فَباؤُ) : رجعوا. (بِغَضَبٍ) الغضب : أشد من اللعن.

المعنى :

تلك جناية أخرى سيقت مقسم عليها من الله لأهمّيّتها :

والله لقد آتينا موسى التوراة وأتبعناه برسل يتبع بعضهم بعضا (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) (١) وهم : يوشع وداود وسليمان وعزيز وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى ـ عليهم‌السلام ـ وآتينا عيسى ابن مريم البتول المعجزات الواضحة دليلا على صدقه وقويناه بجبريل ، وقيل بالإنجيل ، وخص عيسى بتأييد روح القدس لكرامته. ولقد آتينا ـ يا بنى إسرائيل ـ أنبياءكم ما آتيناهم ، أفكلما جاءكم رسول بما لا تميل إليه نفوسكم إذ هي لا تميل إلى الخير أصلا كفرتم واستكبرتم؟! والخطاب لجميع اليهود لأنهم فعلوا ذلك قديما ورضى عنهم أولادهم ، فالجميع مشتركون ، فهم كذّبوا ببعض الأنبياء وقتلوا البعض الآخر.

ومن سوءاتهم الشنيعة قولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء منهم : قلوبنا في غطاء فلا تعى ما تقوله ، ولا تفهم لكلامك معنى ، فيرد الله عليهم : لستم كذلك ولكن الله طردكم من رحمته ، وأبعدكم عن توفيقه بسبب كفركم وعصيانكم ، فإيمانكم قليل جدا أو أنكم لا تؤمنون أصلا.

وقد كان اليهود وعندهم في التوراة وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان زمانه يمنّون أنفسهم بالنصر على المشركين وكانوا يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة.

فلما جاءهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يمينه القرآن مصدقا لما عندهم في التوراة ومؤيدا بوصفه

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية رقم ٤٤.

٥٥

المعروف عندهم كفروا واستكبروا ، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة فلعنة الله عليهم أجمعين.

اليهود والمعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفون حقّا أنه النبي المبشر به في التوراة (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا ، فقد باعوا حظهم الحقيقي ـ وهو الإيمان بالله ورسوله ـ وأخذوا بدله كفرهم بما أنزل الله ، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغي ، فهم قد رجعوا بغضب من الله جديد ، لكفرهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الله أنزل عليه الكتاب من فضله ، وكانوا لجهلهم يدعون أنهم أحق ، وباءوا بغضب على غضب سابق لكفرهم بالأنبياء قديما ولهم عذاب مهين.

وإذا قيل لهم : آمنوا بالقرآن قالوا : لا نؤمن به إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة ونكفر بغيره ، فيرد الله عليهم : إن القرآن هو الحق من عند الله المصدق للتوراة التي معكم لأنهما من عند الله فكيف تكفرون ببعض الكتب وتؤمنون ببعضها؟ والكل من عند الله ، على أنكم لم تؤمنوا بالتوراة ففيها القتل محرم ، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟ فالحق أنكم لم تؤمنوا بأى كتاب أنزل فلا طمع في إيمانكم بالقرآن.

كذبهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة

وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)

المفردات :

(بِالْبَيِّناتِ) : المعجزات كالعصا وفلق البحر. (أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) : خالط حب العجل قلوبهم وصب فيها كما يخالط الصبغ الثوب والشراب الجسد.

٥٦

المعنى :

توبيخ لهم وتبكيت وتفنيد لقولهم : آمنا بالتوراة وكفرنا بغيرها ، فقيل لهم : لم تؤمنوا بها بدليل قتلكم الأنبياء وهو محرم عليكم فيها ، وعبادتكم العجل وجعله إلها مع أن موسى جاءكم بالمعجزات وأنزلت عليه التوراة ، ولقد فعلتم هذه الموبقات بعد هذا ، واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذ عليهم الميثاق المؤكد بأن يعملوا بما في التوراة ، ورفعنا فوقهم الطور إذ ذاك إرهابا لهم وقد قال لهم الله : خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واسمعوا ما فيها سماع قبول ، فما كان من آبائكم إلا أن قالوا : سمعنا وعصينا ، وقد عبدوا العجل ، وخالط حبه قلوبهم ، وتدخل فيها كما تدخل الكهرباء الجسم ، قل يا محمد : إن كان إيمانكم بالتوراة يدعوكم إلى هذا فبئس شيئا يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ، فإن كان إيمانكم كما وصف القرآن فبئس هذا الإيمان.

ولم تتكرر القصة بل سبق أن ذكرت على أنها من نعم الله عليهم حيث عفا عنهم وقبل توبتهم لما تابوا عن عبادة العجل ، وهنا بيان لخيانتهم وتسجيل لسوءاتهم.

اليهود وحرصهم على الحياة

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)

المفردات :

(خالِصَةً) : خاصة بكم. (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) الحرص : الطلب بشره. (بِمُزَحْزِحِهِ) : مبعده.

٥٧

المعنى :

من أمانى اليهود الكاذبة وغرورهم وشعورهم بالنقص الديني اعتقادهم أن الجنة لهم ولا يدخلها إلا اليهود (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً).

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة خالصة لكم من دون الناس فاطلبوا الموت وتمنوه فإنه يكون حبيبا إلى نفوسكم ؛ إذ لا شك أن من يوقن بالحياة الآخرة وأن فيها له نصيبا يتمنى أن يصل إليها ، ولكن لن يتمنى أحد منهم أبدا بسبب ما قدم من الكفر والفسوق والعصيان وقتل الأبرياء خصوصا الأنبياء ، والله عليم بهم ومجازيهم على أعمالهم القديمة والحديثة.

تالله لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة ، بل وأحرص من الذين أشركوا بالله ولم يؤمنوا بالآخرة ، فهؤلاء المشركون كان يجب أن يكونوا أحرص الناس على الحياة إذ هي الأولى والأخير عندهم ، فإذا كان اليهود هم أهل كتاب ورسالة أحرص منهم أفلا يكون هذا من داعي العجب الذي لا ينتهى؟! ولكنهم اليهود الماديون الحريصون على الدنيا ، يود الواحد منهم لو يعمر ألف سنة يجمع ذهب العالم ، وما مكثه في الدنيا وإن طال بمبعده عن أمر الله وحكمه عليه بالعذاب الأليم ، وكيف لا يكون هذا والله بصير بما يعملون فمجازيهم عليه؟

يا شباب الإسلام ورجاله : هذه أوصاف اليهود يقولها خالقهم والعالم بهم فهبوا انفضوا الغبار عنكم حتى نراهم في حرب فلسطين أحرص على الحياة ونراكم أحرص الناس على الموت : (احرص على الموت توهب لك الحياة).

موقفهم من الملائكة الأطهار

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)

٥٨

سبب النزول :

روى أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جبريل ، فقال : ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا به ، وقد عادانا جبريل مرارا ومن عداوته أن الله أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وميكال يجيء بالخصب والسلام. وفي رواية أن عمر قال لهم بعد ما قالوا له كلاما شبيها بهذا : من كان عدوا لجبريل كان عدوا لميكائيل ومن كان عدوا لهم كان عدوا لله فنزلت الآية.

المعنى :

قل لهم يا محمد : من كان عدوا لجبريل فهو عدو لله فإنه نزله بالوحي والقرآن على من قبلك بإذن الله وأمره ، فهو إذن رسول الله إليك يا محمد ، ومن عادى الرسول فقد عادى المرسل ـ سبحانه وتعالى ـ ومن عادى جبريل فلا وجه له لأنه نزل بالقرآن عليك يا محمد بأمر الله ، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل على أنه مع ذلك هداية وبشرى للمؤمنين فكيف تجعلون سبب المحبة سببا للبغض؟ هداكم الله إلى الحق.

من كان عدوا لله وملائكته وكتبه ورسله خصوصا جبريل وميكائيل فإن الله عدو له ومجازيه على ذلك لأن تلك العداوة كفر وأى كفر!!

٥٩

من قبائحهم أيضا

وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)

٦٠