التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)

المفردات :

(مُهَيْمِناً) : رقيبا حافظا لما تقدّمه من الكتب وشاهدا عليه. (شِرْعَةً) الشرعة في اللغة : الطريق الذي يتوصل به إلى الماء. والطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة ، وفي لسان الشرع : ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه. (وَمِنْهاجاً) : طريقا مستمرا واضحا. (فَاسْتَبِقُوا) : تسابقوا وسارعوا إلى الطاعات. (أَنْ يَفْتِنُوكَ) : أن يميلوا بك من الحق إلى الباطل.

المناسبة :

فيما مضى تكلم القرآن عن التوراة والإنجيل وما فيهما من نور وهدى وموعظة للمتقين ، أما القرآن الكريم والدستور المبين الذي نزل على الرسول الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين فها هو ذا.

المعنى :

وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الكامل ، الذي يحق أن يطلق عليه اسم الكتاب فقط ،

٥٢١

ذلك الكتاب ، لا ريب فيه ، هدى للمتقين ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. أنزلناه عليك ملتبسا بالحق داعيا إليه ، مؤيدا به مشتملا عليه ، مقرا له ، مصدقا لما بين يديه من الكتب كالتوراة والإنجيل. إذ قال : هما من عند الله ، وإن موسى وعيسى رسولان من عنده ، لم يفتريا على الله كذبا وبهتانا ، وإنما حرفتم أنتم وآباؤكم ، وكتمتم ونسيتم كثيرا مما أوتيتم. حالة كونه مهيمنا على جنس الكتاب المنزل على الرسل السابقين رقيبا عليه. حيث بين حقيقة هذه الكتب وشهد لها بالصحة وبين عمل أصحابها فيها من نسيان وتحريف ، فها هو ذا قد حفظها وهيمن عليها وأظهر حقيقتها للناس.

وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته. فاحكم يا محمد وكذا كل حاكم. احكم بينهم بما أنزل الله ، فهو واحد لم يتغير في القرآن والإنجيل والتوراة. على أن ما في القرآن كان ناسخا للكل متمما شاملا وما قبله كان كالمقدمة.

ولذلك قال : احكم بينهم بما أنزل الله ، فإنه الحق الذي لا محيص عنه. والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تصلح للعالم إلى يوم القيامة.

ولا تتبع أهواءهم فيما حرفوا وبدلوا. من حكم الرجم والقصاص في القتل ، والمعنى : لا تعدل عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) قال الآلوسي ما معناه : وهذا استئناف مسوق لحمل أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الانقياد لحكمه. واتباع شرعه. ذلك أنهم كلفوا بالعمل بالقرآن دون غيره من الكتب ، لكل أمة منكم أيها الناس ـ الشاملون للموجودين أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسابقين لهم أيام موسى وعيسى ـ وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد تتخطاهما ، فالأمة من بنى إسرائيل التي كانت موجودة من مبعث موسى إلى مبعث عيسى شرعتها التوراة ، وهم من مبعث عيسى إلى مبعث محمد شرعتهم الإنجيل ، والأمة من الناس أجمعين من مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة شرعتها ومنهاجها القرآن ؛ لأن محمدا خاتم الأنبياء ، وأرسل للناس جميعا إلى يوم القيامة ودستوره أتم دستور وكتابه أكمل كتاب ، وليست هذه دعوة ، وإنما الواقع يؤيد ذلك.

ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة ، لها دين واحد وكتاب واحد ورسول واحد

٥٢٢

لجعلكم كذلك ، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء غيره. ليعاملكم ـ سبحانه وتعالى ـ معاملة من يبتليكم فيما آتاكم من الشرائع لحكم إلهية يقتضيها كل عصر.

إذا كان الأمر كذلك فسارعوا إلى مغفرة من ربكم وتسابقوا في عمل الطاعات ، واعلموا أن المرجع إلى الله وحده وإليه المصير! فينبئكم بما كنتم تختلفون ، وسيجازيكم على ذلك كله.

وأنزلنا إليك الكتاب : وأنزلنا أن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، وقد كرر الأمر بالحكم بالقرآن لأن الاحتكام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في حادثة الرجم وحادثة القصاص في القتلى.

أخرج ابن جرير عن ابن عباس : قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاش بن قيس من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرفهم وسادتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قوم خصومة ، فنخاصمهم إليك ، فتقضى لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل الله ـ عزوجل ـ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك ... الآية. فكانت إقرارا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما فعل ، وأمرا بالثبات على الحق وعدم الانخداع بأقوال هؤلاء وأمثالهم.

فإن تولوا وأعرضوا ، فلا يهمنك أمرهم ولا تبال بهم ، واعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وهو التولي والإعراض. أما بقية ذنوبهم وما أكثرها فلهم عذاب أليم ، والله أعلم به ، وإن كثيرا منهم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والدين والمروءة.

عجبا لهؤلاء! أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله وهو الحكم العدل والرأى الوسط الرشيد. فيبغون حكم الجاهلية؟ لعجب وأى عجب هذا؟! أهناك من يترك دستور الرحمن وهدى القرآن لرأى الجاهلية الحمقاء؟ وما كانوا عليه من التفاصيل وضياع الحقوق.

ولعمري نحن الآن وقد تركنا ديننا ونبذنا دستورنا ، لأنّا أشدّ من هؤلاء! إذ هم خارجون عن الإسلام لا يعترفون به كدين إلهى أو على الأقل لا يعرف حقيقته إلا أحبارهم ، أما نحن فندعى الإسلام ، ونأمل في الجنة وثواب الله ، ومع هذا تركنا حكم

٥٢٣

القرآن إلى رأى هو كرأى الجاهلية بل أشد ميوعة ومحاباة ، فالقانون الوضعي يحمى الجرائم والمجرمين! هذا الخطاب في الآية وهذا الاستفهام والتعجب والإنكار إنما هو لقوم يوقنون أنه لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه ..!

موالاة اليهود والنصارى وعاقبتها

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)

المفردات :

(مَرَضٌ) : شك ونفاق. (دائِرَةٌ) : ما يدور به الزمان من المصائب والإحن التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها. (حَبِطَتْ) : بطلت أعمالهم.

سبب النزول :

روى الرواة أنه جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم ، وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبى : إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من

٥٢٤

موالاة موالي. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن أبى : «يا أبا الحباب : أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه» قال : إذن أقبل ، فنزلت هذه الآية.

المعنى :

يا من اتصفتم بهذا الوصف وهو الإيمان بالله ورسوله ، سواء كان هذا باللسان فقط ولا إخلاص معه. أو كان إيمانا صادقا ومعه الإخلاص. لا يليق بكم أن تفعلوا ما نهاكم الله عنه من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وتسرون إليهم بما أخفيتم وما أعلنتم ، وتتحابون إليهم وتصادقونهم ، إذ بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ، والكل متفق على كلمة واحدة هي بغضكم بغضا شديدا.

ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، أى : من جملتهم ، وحكمه حكمهم. وهذا تشديد على المنافقين الذين يتخذون صداقات ، ويربطون صلات باليهود والنصارى وأعداء الدين. إن الله لا يهدى الظالمين أنفسهم بموالاة الكفار أيا كان السبب.

فترى يا محمد وكذا كل من تصح منه الرؤية. ترى الذين في قلوبهم مرض : الشك والنفاق كعبد الله بن أبى وأضرابه ، يسارعون في موالاتهم ، ويرغبون فيها رغبة أكيدة خاصة للشيطان ، وانظر إلى تعبير القرآن (يسارعون فيهم) بدل (يسرعون إلى موالاتهم) للإشارة إلى أنهم منتقلون من بعض مراتبها إلى بعض فهم مستقرون فيها. يقولون متعللين : نخشى أن تصيبنا دائرة تدور علينا من دوائر الدهر. ودولة من دولة ، بأن ينقلب الأمر للكفار واليهود وتدول الدولة على المسلمين فنحتاج إليهم فلا يسعفوننا بالميرة والطعام ـ أرأيت كيف لا يثق المنافقون بوعد الله؟ وأن حزب الله هم المفلحون.

وعسى الله أن يأتى بالفتح ، و (عسى) في القرآن وعد محتوم ؛ فإن الكريم متى أطمع أطعم ، وإذا وعد حقق ، فما ظنك بأكرم الأكرمين؟ وهو على كل شيء قدير. والمراد بالفتح : فتح مكة ، أو فتح من عنده شامل لتأسيس الدولة ، وانتظام شؤونها

٥٢٥

واستقرارها في الوجود ، أو أمر من عنده يفضح حال المنافقين ، ويهتك سترهم ، ويرد كيدهم في نحورهم وقد صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده فيصبح أولئك المنافقون نادمين على ما أسروا وكتموا!!

ويقول الذين آمنوا تعجبا وتعريضا وشماتة بهم مخاطبين اليهود ، ومشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ، وقد بدت الأمور على غير ما كانوا يرجون :

أهؤلاء (المنافقون) الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم أيها اليهود؟ حبطت أعمالهم التي كانوا ينافقون بها من صلاة وصوم ... إلخ. فأصبحوا خاسرين دنيا وأخرى.

وهذا مرض خطير ينتشر في الأمم الضعيفة المستعبدة ، ترى الكثير من أبنائها الذين في قلوبهم ضعف وفي نفوسهم مرض يلجئون إلى الأعداء من الأجانب يتخذون عندهم يدا لأنهم ليسوا مؤمنين بالنصر وأن الدولة لهم.

يا قوم : اسمعوا وعوا واعتبروا. فإنما يتذكر أولوا الألباب!!

المرتدون والمحاربون لهم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)

٥٢٦

المفردات :

(يَرْتَدَّ) الارتداد : الخروج من الإسلام والدخول في الكفر مطلقا ، أو بسبب ترك ركن كالزكاة جهارا وعنادا. (يُحِبُّهُمْ) : يجازيهم على أعمالهم أحسن الجزاء وأتمه. (وَيُحِبُّونَهُ) : يخلصون له في العمل ، يطيعونه في كل أمر ونهى. (أَذِلَّةٍ) : جمع ذليل ، بمعنى عاطفين عليهم. (أَعِزَّةٍ) : جمع عزيز ، بمعنى أنهم متعالون عليهم. (راكِعُونَ) : خاشعون وخاضعون. (حِزْبَ اللهِ) : الجماعة المجتمعة التي حزبها أمر من الأمور وألمّ بها اتجاه خاص.

روى أنه ارتد عن الدين إحدى عشرة قبيلة : ثلاث أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسبع أيام أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ وجبلة بن الأيهم أيام عمر ـ رضى الله عنه ـ فالذين ارتدوا أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(أ) بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي تنبأ باليمن ، وكان كاهنا وأهلكه الله على يد فيروز الديلمي.

(ب) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، الذي تنبأ وأرسل كتابا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : أنه شريك وأن الأرض قسمان ، فكتب له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، والسلام على من اتبع الهدى. أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، وقاتله أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ والذي قتله وحشي قاتل حمزة.

(ج) بنو أسد وزعيمهم طلحة بن خويلد ارتد أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاتله أبو بكر في خلافته ، ففر إلى الشام وأسلم وحسن إسلامه.

المرتدون أيام أبى بكر :

(١) غطفان وزعيمهم قرة بن سلمة.

(٢) فزارة قوم عيينة بن حصن.

(٣) بنو سليم قوم الفجاءة عبد ياليل.

(٤) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.

٥٢٧

(٥) بعض بنى تميم وزعيمتهم سجاح بنت المنذر الكاهنة.

(٦) كندة قوم الأشعث بن قيس.

(٧) بنو بكر بن وائل.

وقد ارتد أيام عمر جبلة بن الأيهم من الغسانيين تنصر ولحق بالشام ، وله في ذلك شعر وحوادث ، وسبب ارتداده أنه كان بمكة يطوف فوطئ إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه ، فاستعدى الفزاري عليه عمر ـ رضى الله عنه ـ فحكم إما بالعفو أو القصاص ، فقال جبلة : أتقتص منى وأنا ملك وهو سوقة؟ ... إلخ ما هو مذكور في كتب التاريخ.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه في المستقبل ـ والعياذ بالله ـ كالقبائل التي ذكرناها ، فسوف يأتى الله بقوم هو أعلم بهم ، قيل : هم من اليمن أو فارس ، والظاهر أنهم أبو بكر والصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وقد وصفهم القرآن بصفات :

أنهم يحبون الله باتباع أمره واجتناب نهيه ، ويحبهم الله بعطفه وتوفيقه ورضوانه ومجازاتهم أحسن الجزاء.

وهم أذلة عاطفون على المؤمنين ، مكانتهم عالية ولكنهم متواضعون يرأفون بالمؤمنين ويخفضون لهم جناح الذل من الرحمة ، وعلى الكافرين أعزة ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، غلاظ شداد عليهم إذا حاربوهم ، لا يقبلون الدنية في دينهم.

يجاهدون في سبيل الله وفي سبيل نصرة الحق والفضيلة والدين وإعلاء كلمته وفي سبيل خدمة الوطن وأهله ، يجاهدون ببذل النفس والنفيس ولا يخافون في الحق وإظهاره لومة لائم. ولا يرجون ثوابا من أحد ، ولا يخافون عذابا من أحد ، بل تصدر أعمالهم بإخلاص لله ورسوله.

وفي هذا تعريض بالمنافقين في كل عصر وزمان.

وذلك فضل الله وتوفيقه وهدايته وإرشاده يؤتيه من يشاء من عباده الذين فيهم الاستعداد للخير والميل بطبعهم وفطرتهم.

٥٢٨

وأحسن ما قيل في مثل هذا الموضوع أن القوى النفسية والبدنية التي في العبد من الله قطعا ، والاتجاه بها إلى الخير أو الشر من العبد ، وهذا مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.

وهب أنك تقود سيارة لشخص وقد حذرك مرارا من المخالفات وأمرك بطاعة أوامر الحكومة ، وعلى كل طريق لافتة واضحة تعلن الثواب والعقاب ، فقدتها مرة في الطريق السهل وحافظت على الأوامر فلم يهلك حرثا ولا نسلا ، ومرة خالفت الأوامر فأهلكت الحرث والنسل ، أمن العدل أن تترك في الحالتين؟ أمن العدل أن تحاسب صاحب السيارة أم قائدها؟؟ المعقول أننا نحاسب القائد ونجازيه في الحالتين ، وهكذا نحن في الدنيا!! والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ، والله ذو الفضل العظيم.

وإنما وليكم الواجب الاتجاه إليه هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة كاملة تامة ويؤتون الزكاة في ركوع وخشوع وخضوع ، بلا نفاق وبلا رياء.

ومن يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه هو الناجي الفائز ، لأن حزب الله وجماعته هم الغالبون (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (١).

النهى عن موالاة الكفار والسبب في ذلك

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ

__________________

(١) سورة محمد آية ٧.

٥٢٩

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)

المفردات :

(هُزُواً) سخريا. (وَلَعِباً) اللعب : ضد الجد. (نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : دعوتهم لها بالأذان والإقامة. (تَنْقِمُونَ) نقم ينقم : أنكر وعاب عليه قولا أو عملا. (مَثُوبَةً) : جزاء وثوابا ، من ثاب إليه : إذا رجع ، ولا شك أن الجزاء يرجع إلى صاحبه. (الطَّاغُوتَ) : كل ما عبد من دون الله ، وعبادته مجاز عن طاعته.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وكذا المشركين. لا تتخذوهم أولياء أبدا فإنهم يودون عنتكم ومشقتكم ، وقد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفى صدورهم أكبر ، بعضهم أولياء بعض ، مع أن موالاتهم تغضب الله ورسوله.

٥٣٠

وهم الذين اتخذوا دينكم ومشاعره هزؤا وسخرية ، ومظهرا من مظاهر اللعب والضحك ولا شيء أشق على النفس من استهزاء المعاند له وسخريته به وبرأيه وشعاره ، واتقوا الله أيها الناس واخشوا عذابه ووعيده على الموالاة إن كنتم مؤمنين.

كرر الله نهى المؤمنين عن موالاة أعدائهم من الكفار تنفيرا لهم عنها ، وتسجيلا على الكفار فعلهم.

وبعد أن أثبت الله استهزاءهم بالدين على وجه العموم (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١) سجل عليهم استهزاءهم بنوع خاص هو عماد الدين وأساسه : هو الصلاة.

وإذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة اتخذوا هذه المناداة والصلاة هزؤا ولعبا ، ما ذلك الاستهجان القبيح إلا لأنهم قوم لا عقل لهم يرشدهم ولا رأى يهديهم بل هم في ضلالهم يعمهون.

إذا ما أروع هذا النداء الذي يهز القلوب ويجلوها ، ويطهر النفوس ويزكيها ، يا سبحان الله!! أهذا النداء يضحك؟

الله أكبر. الله أكبر. نعم ، الله أكبر من كل شيء في الوجود ، استفتاح يا له من استفتاح! وانظر إلى إتباعه بالشهادتين لله ورسوله وهما ركنا الإيمان ودعامته! وما أروع قول المؤذن : حي على الصلاة! أقبلوا عليها بجد ونشاط ونفس راضية مطمئنة ، حي على الفلاح : وهل هناك فلاح أكثر من هذا وأعلى؟! (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [سورة الشمس الآيتان ٧ و ٨] الله أكبر ، لا إله إلا الله!

روى ابن جرير عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من اليهود : أبو ياسر ابن أخطب ، ورافع بن أبى رافع في جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٢) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به ، وروى أنهم قالوا : لا نعلم شرا من دينكم ، فنزلت الآيات الآتية :

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٤.

(٢) سورة البقرة آية ١٣٦.

٥٣١

قل يا أهل الكتاب ما تنقمون منا ، وما تعيبون علينا إلا إيماننا بالله ورسله إيمانا صادقا خالصا ، مع وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص ، وكذا الرسل جميعا ـ عليهم‌السلام ـ لا نفرق بين أحد منهم مع وصفهم بما يليق بهم شرعا ، وكذا ما أنزل عليهم من الكتب.

وإن أكثركم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والرأى والدين الصحيح ، يا عجبا كل العجب! أيكون مناط المدح عنوان الذم؟ ولله در الشاعر العربي حيث يقول :

ما نقموا من بنى أمية إلا

أنهم يحلمون إن غضبوا

قل يا محمد لهم : من أنبئكم أيها المستهزئون بديننا القائلون : لا نعلم شرا من دينكم ـ بما هو شر من ذلك الدين الذين تنقمون به علينا؟ دين من لعنه الله وغضب عليه بسبب سوء فعله ، وهذا تبكيت لهم شديد بذكر جرائم آبائهم ، وجزائهم عليها ؛ إذ اللعن والغضب نهاية العقاب والمؤاخذة من الله لهم.

ودين من جعل منهم القردة والخنازير (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [سورة البقرة آية ٦٥].

أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ، وكان التعبير ب (شر) مع أن هذا الدين خير محض مجاراة لهم في اعتقادهم ومشاكلة للفظهم.

وهاك سيئة أخرى تقتضي وحدها عدم الموالاة.

وإذا جاءوكم وحضروا مجالسكم وخاصة مجلس الرسول قالوا : آمنا باللسان فقط ، والحال أنهم دخلوا متلبسين بالكفر مؤتزرين به لا يفارقهم ، وهم قد خرجوا به والله أعلم بما يكتمون ـ حين الدخول ـ من النفاق وعند الخروج من العزم والكيد والمكر ، وما ملئت به قلوبهم من الحسد والبغضاء لكم. فاحذروهم ولا توالوهم. وترى كثيرا منهم يسارعون في ارتكاب الإثم والعدوان ويقبلون عليهما راغبين فيهما بجد ونشاط ، ويقبلون على أكل السحت والدنىء من المحرم ، تالله لبئس العمل عملهم.

ويا ضلال هؤلاء أما وجدوا من يرشدهم؟ أما وجدوا من ينكر عليهم؟ لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم والكذب والبهتان في أمور الدين ، وأكلهم السحت؟ تالله لبئس ما كان يصنع هؤلاء الأحبار.

٥٣٢

ولعل سائلا يقول : لم يقال في جانب الشعب لبئس ما كانوا يعملون وفي جانب الأحبار والعلماء لبئس ما كانوا يصنعون؟

والجواب : أن الفعل ما يصدر عن الإنسان مطلقا ، فإن قصد كان عملا ، وإن صاحبه دوام ومرونة كان صنعة ، وكان صاحبه صانعا.

على أن فاعل المعصية من الناس تدفعه شهوته ونفسه إليها ، وأما الذي ينهاه من الأحبار والعلماء بالطبع لا شهوة معه تدفعه إلى العمل ولا إلى عدم الإنكار ، أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل نفسه.

روى عن ابن عباس : (ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية) يريد أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد!!

من سيئات اليهود وطريق السعادة في الدارين

وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)

٥٣٣

المفردات :

اليد تطلق على الجارحة وتطلق مجازا على النعمة وعلى العطاء. (مَغْلُولَةٌ) : ممسكة عن الإنفاق. (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) : أمسكت عن الإنفاق والخير. (مَبْسُوطَتانِ) المراد : كثيرة العطاء. (أَقامُوا التَّوْراةَ) : عملوا بما فيها على أتم وجه وأكمله ، وكذا الإنجيل. (مُقْتَصِدَةٌ) : معتدلة.

سبب النزول :

روى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود ـ قيل : هو النباش بن قيس ، وقيل هو فنحاص كبير بنى قينقاع ـ قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله هذه الآية.

المعنى :

بعد أن عدد من سيئاتهم ، وسجل عليهم بعض أعمالهم الموروثة ، يذكر سيئة من أفظع سيئاتهم ألا وهي وصف الله ـ سبحانه ـ بما لا يتفق أبدا مع العقل ، ولا يقول به رجل من أهل الكتاب.

وقالت اليهود ـ أى بعضهم ـ : يد الله مغلولة. وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [سورة الإسراء آية ٢٩] وقول النبي : «أطولكن يدا أسر عكن لحوقا بي يوم القيامة».

والمراد بطول اليد : الجود والكرم.

قال بعضهم : هذا لما أصابتهم أزمة مالية.

غلت أيديهم ، وأمسكت عن الجود والخير ، فهم القوم البخلاء الأنانيون لعنهم الله بما قالوا ، فهو الكريم ويحب كل كريم ، ويداه مبسوطتان للعطاء ، ينفق كيف يشاء ، على وفق الحكمة الإلهية فهو يعطى ويمنع ، ويقبض ويبسط لحكم هو أعلم بها (اللهُ

٥٣٤

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [سورة الرعد آية ٢٦] ، (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [سورة الشورى آية ٢٧].

وتالله ليزيدن الذي ينزل عليك من الآيات البينات التي تكشف سترهم وتطلعك على أعمالهم ونواياهم ، ليزيدنهم ذلك طغيانا وظلما وجحودا وبطرا ، يا سبحان الله! إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ما كان سببا في الخير يكون عندهم سببا في الشر!

ولقد حكم عليهم بأن ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، فلا يهمنك أمرهم ، ولا تغتر باتفاقهم في فلسطين المنكودة ، فهي سحابة صيف لهم ، وتنبيه من الله لنا علّنا نثوب إلى رشدنا ونرجع إلى ديننا.

وكلما أوقدوا نارا للحرب في الخارج أو الداخل كإثارة الفتن وتشتيت الكلمة وتأليب العدو ، كلما فعلوا هذا أطفأ الله نارهم ، وأبطل عملهم ، وهم دائما يسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين وسيجازيهم على ذلك بأقسى أنواع العقاب.

وفي كتب التاريخ القديم والحديث ما يشهد على هذا!

ثم بعد هذا وسعت رحمته كل شيء وفتح باب كرمه للتائبين الذين يقبلون عليه ولو كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم.

ولو أن أهل الكتاب آمنوا بكتبهم وبالقرآن ولم يحرفوا ولم يركبوا رءوسهم واتقوا الله في كل أعمالهم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ومحونا عنهم أوزارها ولأدخلناهم جنات النعيم.

ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل المنزلين من عند الله بنور التوحيد والهداية ولم يسمعوا لأحبارهم ومفترياتهم ، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم : لا سيما القرآن الكريم ، وعملوا بما فيها على خير وجه وأتمه لبسط الله الرزق لهم وأنزل عليهم الخير والتوفيق وأكلوا من كل جهة وجانب.

وفي هذا إشارة إلى أن العمل الصالح من الإيمان الكامل مدعاة لرضا الرب وسعة الرزق ، والسعادة في الدنيا والآخرة مع سلوك الطرق المعروفة والنظم المألوفة في عالم الاقتصاد!

٥٣٥

من أهل الكتاب وكذا كل أمة في الوجود جماعة قليلة معتدلة في الرأى ، والكثير الغالب منهم فاسقون وخارجون عن أصول الدين والعقل ، وصدق رسول الله : «الناس كإبل لا تجد فيها راحلة».

تبليغ الرسول للدين

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)

المفردات :

(يَعْصِمُكَ) : يحفظك ، مأخوذ من عصام القربة ، وهو ما يربط به فمها من خيط أو سير جلد. (الصَّابِئُونَ) الخارجون من الأديان كلها ، وقيل : هم قوم عبدوا الملائكة وصلّوا إلى غير القبلة.

روى ابن مردويه عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال : كنت بمنى أيام الموسم ، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فنزل علىّ جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (الآية).

٥٣٦

فقلت : أيها الناس : من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجوا ولكم الجنة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علىّ بالتراب والحجارة ويقولون : كذاب صابئ» فجاء عمه العباس فأنقذه منهم وطردهم عنه.

المعنى :

نادى الله ـ سبحانه وتعالى ـ حبيبه بوصف الرسول ، التي تقتضي التبليغ التام الكامل ، أيها الرسول : بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك ولا تخش أحدا ، ولا يهمك شيء أبدا ، فإنك إن لم تبلغ الكل فما بلغت رسالته ، فكأن كتمان شيء من الرسالة ، ولو إلى أجل هو كتمان للكل تفظيعا لجرم الكتمان ، وكيف يكتم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من الرسالة خوفا أو خشية؟ والله يعصمك من الناس أجمعين. ويعصمك من القتل والفناء ، أما العذاب والشدائد والآلام والحروب والإحن فهي الحوادث التي تخلق الرجال ، والبوتقة التي صهرت الناس فظهر المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ، كما بينا ذلك في العزوات.

وكيف يكون رسول الله والله لا يعصمه؟ وهو المعصوم من كل سوء!!

انظر كيف يضل المسيحيون حين يعتقدون صلب المسيح وقتله؟ ولعل الحكمة في هذه الآية ، أن يعرف الجميع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول رب العالمين ، بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه لم يكتم شيئا ، ولم يخص أحدا بشيء (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام آية ١٥٣] إن الله لا يهدى القوم الكافرين الذين يؤذونك ويعاندوك.

قل لهم : يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى لستم على شيء يعتد به من أمر الدين ، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، وإقامتها العمل بكل ما فيها من التوحيد الخالص والبشارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ، وحتى تقيموا ما أنزل إليكم من ربكم على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن المصدق لما تقدمه من الكتب والمكمل للرسالات السابقة ، ونحن أيها المسلمون لسنا على شيء أبدا حتى نقيم القرآن ونعمل بأحكامه. ونهتدي بهديه في كل أمورنا.

٥٣٧

وأقسم الله ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك وهو القرآن طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم وذلك بسبب حسدهم الكامن (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) من ربّهم. (١)

أما القليل منهم الذين يؤمنون بالله وبكتبه فلا يزيدهم القرآن إلا هدى ورشادا وخيرا وإسعادا.

وإذا كان هذا شأن القرآن ، فلا يهمنك أمرهم ، ولا تأس على القوم الكافرين.

وهاك قانونا عاما وحكما شاملا للجميع على اختلاف أشكالهم وألوانهم ، ولا غرابة فهي الرسالة العامة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (٢) إن الذين آمنوا باللسان كالمنافقين ، والذين هادوا من أتباع موسى ـ عليه‌السلام ـ والذين صبئوا وخرجوا عن حدود الأديان ، والنصارى من أتباع المسيح ـ عليه‌السلام ـ من آمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا صادقا ، وعمل عملا صالحا ، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب يوم القيامة. ولا هم يحزنون أبدا بل هم في جنات النعيم ، وعلى الأرائك ينظرون.

من قبائح اليهود أيضا

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٠٩.

(٢) سورة سبأ آية ٢٨.

٥٣٨

المعنى :

لا يزال الكلام في أهل الكتاب وتعداد سوءاتهم وقبائحهم وخاصة اليهود.

تالله لقد أخذنا العهد الموثق على بنى إسرائيل ليؤمنن بالله ورسله ولا يكتمونه أبدا ، وأرسلنا إليهم رسلا ، يؤكدون هذا العهد ، ويحددون هذا الميثاق ، حتى يكونوا على ذكر منه أبدا ولكنهم اليهود ، كلما جاءهم رسول من عند الله بما لا تهواه أنفسهم لأنهم لا يهوون إلا الشر ، ناصبوه العداء ، وساموه سوء العذاب ، وكأن سائلا سأل وقال : ماذا كانوا يفعلون؟ فأجيب : فريقا منهم كذبوا وفريقا منهم كانوا يقتلون الأنبياء من غير ذنب ولا جريرة إلا أنهم كانوا يقولون : ربنا الله ..

لعنهم الله!! قد ظنوا ظنا يكاد يكون كاليقين أنهم لا تكون لهم فتنة أبدا ، ولا يختبرون بالشدائد أصلا ، وكيف يكون هذا وهم (كما يعتقدون) أبناء الله وأحباؤه وهم من نسل الرسل الكرام فلا يعذبون بذنوبهم أبدا.

فعموا لهذا وصموا عن آيات الله التي أنزلها في كتبه وعموا عما يحصل لهم من الإنذارات والشدائد فلم يتعظوا بشيء أبدا ، وصموا عن سماع القوارع من الحجج والآيات البينات.

ثم تابوا بعد عبادتهم العجل وقبل الله توبتهم ، ثم عموا وصموا مرة ثانية حيث طلبوا رؤية الله وقتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى ابن مريم وخالفوا أوامر الله ورسله.

وقوله تعالى : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) يفيد أن أكثرهم العصاة وأقلهم المؤمنون الصالحون.

وأما نحن ـ أيها المسلمون ـ حذار حذار من ادعائنا وغرورنا بدون العمل ، حذار حذار ألا نلتفت إلى التنبيهات والقوارع التي تصيبنا ، حذار من أن ينطبق علينا هذا الكلام!!

٥٣٩

الإله عند المسيحيين

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)

المعنى :

بعد أن عدد قبائح اليهود أخذ يذكر شيئا من عقيدة النصارى في الإله! تالله لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وكيف لا يكفرون وقد

٥٤٠