التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

وعبادتها. (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) : ترجعوا عما أمرتم به. (جَبَّارِينَ) : جمع جبار ، وهو الطويل القوى المتكبر العاتي ، مأخوذ من قولهم : نخلة طويلة لا ينال ثمرها. (يَتِيهُونَ) التيه : الحيرة ، ومنه صحراء تيهاء : إذا تحير سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها.

المناسبة :

بعد أن أقام القرآن الدليل على صحة نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعرض لأهل الكتاب في ذلك ، ساق قصة لليهود تثبت عنادهم وكفرهم مع أنبيائهم لتكون تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسجيلا عليهم.

وقد ذكرنا هذه القصة عند الكلام على الميثاق والنقباء في آية (١٢) من هذه السورة.

المعنى :

واذكر يا محمد لبنى إسرائيل ولسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك وقت قول موسى لقومه : تذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها ، فقد جعل فيكم أنبياء كثيرة إذ غالب الأنبياء من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ولم يكن من ولد إسماعيل إلا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنو إسرائيل من نسل يعقوب.

وجعلكم ملوكا أحرارا عندكم ما يكفيكم ويقيكم ذل السؤال من زوجة وخادم ودار كما ورد في ذلك الآثار.

وآتاكم ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانكم ، فالمن والسلوى. وتظليلكم بالغمام ، وفرق البحر ، وإنجاؤكم وغرق عدوكم ... إلخ ، ما هو مذكور في الجزء الأول.

يا قوم : ادخلوا الأرض الطاهرة من عبادة الأوثان لكثرة الأنبياء فيها ، واختلف المفسرون فيها هل هي فلسطين أم غيرها. والظاهر أنها فلسطين المنكودة ، التي كتب الله لكم فيها حق السكنى ووعد بها إبراهيم وبنيه ففي سفر التكوين من التوراة : (لنسلك أعطى هذه الأرض) على أنها لا تكون ملكا لا يزاحم فيها أحد بل لهم السكنى

٥٠١

فقط. فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنهم لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح ، ولعل ما هم فيه من الضيق والشدة يؤذن بضياع ملكهم الذي أسسه الانجليز والأمريكان لأمور سياسية!! وقال موسى : يا قوم : لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل الإلهى ، إلى الوثنية والفساد في الأرض ، وقيل : لا تراجعوا عما أمرتم به مطلقا من الدخول في الأرض المقدسة وغيره فتنقلبوا خاسرين.

قال النقباء الذين أرسلوا للتجسس لموسى : إن فيها قوما طوالا جبارين ، أولى بأس وقوة ، وإنا لا ندخلها أبدا ما داموا فيها. وكان يسكنها في هذا الوقت بنو عناق من الكنعانيين. وقد بالغ اليهود في وصفهم بما لا يصدقه عقل ولا منطق.

ولا غرابة في إحجامهم عن الدخول فيها وقتالهم الجبارين ؛ فكل قوم تربوا في أحضان الذل والاستعمار يألفونه ولا يألفون الحرية والكرامة ، ولذلك قالوا معتذرين : لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون!!

قال رجلان من الذين يخافون الله وقد أنعم عليهما بالتوفيق والسداد : ادخلوا يا قوم عليهم الباب فإنكم إذا دخلتموه كان الله معكم وناصركم عليهم ، وعلى الله وحده فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.

قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ؛ فإنهم أولو قوة وبأس. وعلى ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرنا أن نخرج من مصر ونأتى إلى هنا فقاتلا ، إنا ها هنا قاعدون ومتخلفون عن الحرب.

قال موسى وقد عرف قومه وإباءهم ، وخشي أن يفتنوا الرجلين الصالحين قال : رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى هارون الذي عرفت فيه الامتثال والطاعة ، يا رب فافصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين ، قال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ : إذا كان الأمر كذلك فإن هذه الأرض محرمة عليهم أربعين سنة وهم في هذه المدة يتيهون في البيداء لا يعرفون لهم قرارا ، وهكذا ينزل عذاب الله على كل من يخالف أمره ، فهؤلاء هم اليهود وهذه أعمالهم من قديم مع أنبيائهم ؛ فلا تأس يا محمد عليهم ولا تحزن!.

٥٠٢

قصة أول قتيل في الوجود

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)

٥٠٣

المفردات :

(وَاتْلُ) : التلاوة القراءة. (نَبَأَ) : هو الخبر المهم. (قُرْباناً) : ما يتقرب به إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ من الذبائح وغيرها. (بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) : مددتها لتعتدى علىّ. (تَبُوءَ) : ترجع بعقاب يعادل الإثم ويساويه. (يا وَيْلَتى) : يا فضيحتي احضرى ، والويل : الشر ، والويلة : الفضيحة والبلية.

يسوق الله هذه القصة ليبين طبائع النفوس الموروثة وما يفعله الحسد الكامن والداء الباطن ، الذي يقضى على أقوى سبب وأمتن رابطة وهي الأخوة ، وكيف كان السبب في أول قتيل في الأرض؟؟

فإذا لا تيأس يا محمد ، ولا تعجب من فعل اليهود (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [سورة المائدة آية ١١] فهم قوم يحسدون الناس على ما آتاهم ربهم من فضله ، على أن هذا طبع متأصل في أبناء آدم.

واتل يا محمد على قومك وعلى كل من تبلغه دعوتك ، اتل عليهم نبأ هاما وخبرا متلبسا بالحق والصدق ، لا مبالغة فيه ولا كذب كما يفعل اليهود في أخبارهم وكتبهم من التحريف والتبديل.

اتل خبر ابني آدم لصلبه ـ على الأصح ـ قيل : هما قابيل القاتل ، وهابيل القتيل ، وكانت عادتهم أن يتزوج ذكر البطن الأولى أنثى البطن الثانية ، وبالعكس ، فصادف أن قابيل معه توأم جميلة ، ومع هابيل توأم دميمة رغب عنها قابيل ، وطلب توأمه وحسد هابيل عليها ، فلما احتكما إلى أبيهما آدم قال : كل منكم يقرب قربانا ، والذي يقبله الله منه بالحريق يأخذ الجميلة ، فقدم قابيل وكان زارعا قليلا من سنبل القمح ، وقدم هابيل وكان راعيا للغنم كبشا سمينا ، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل ، فحنق عليه أكثر ، وقال : لأقتلنك ، قال هابيل : ولم يا أخى؟ وما ذنبي في أن الله لم يتقبل منك؟ فأصلح نفسك ، وقدم مخلصا لوجه الله ، فإنما يتقبل الله من المتقين. يا أخى : لئن مددت إلىّ يدك بالسوء ، أن تقتلني ظلما وعدوانا ، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أبدا.

٥٠٤

وذلك لأنى أخاف الله رب العالمين ، الذي تعهدنا بالعناية والرعاية ، وخلقنا على أتم خلق وأكمله ، فمن يتعدى على هذا الخلق السوى فقد استحق العقاب الشديد!!

يا أخى : إنى لا أريد مقابلة الجريمة بالجريمة أصلا ، فإنك إن فعلتها تبوء بإثم قتلى وإثمك الخاص بك الذي كان من شأنه عدم قبول قربانك ، فارجع عما أنت مقدم عليه!

وكيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه. والجواب أنه أراد ذلك حينما بسط إليه يده بالقتل فعلا (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١).

إنك يا أخى إن فعلت هذا الجرم فستكون من أصحاب النار الملازمين لها ، وذلك جزاء الظالمين!!!

ترى أنه نفره من القتل بثلاث : الخوف من الله ، أن يبوء بإثمه وإثم نفسه ، كونه من أصحاب النار ... ومن الظالمين.

والقاتل مهما كانت نفسه ملوثة بحب الانتقام والقتل يرى في الإقدام على هذا العمل جرما وفظاعة فيتردد ، ولا يزال كذلك حتى تشجعه نفسه الأمارة بالسوء (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) وهدم ما بناه الله وأتقنه فأصبح من الخاسرين ، وأى خسارة أكبر من هذه الخسارة في الدنيا والآخرة؟!

روى أنه لما قتله ، ولم يعرف كيف يوارى جثته ، وتحير في ذلك ، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض منقبا في غذائه ، فحفر حفرة ، فرآه قابيل ففطن إلى مثل عمله ، ففعل لأخيه مثلها وواراه فيها ، وقال : يا ويلتى احضرى ؛ فقد حان وقتك ، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟ والندم الذي حصل لم يكن على القتل بل على عجزه عن مواراة أخيه.

بسبب هذا الجرم التشنيع والفعلة القبيحة ، التي فعلها أبناء آدم كتبنا على بنى إسرائيل وإنما خصهم القرآن بالذكر ، وإن كان القتل محرما قبلهم في الأمم السابقة ، لأن التوراة أول كتاب حرم فيه القتل كتابة بسبب طغيانهم وسفكهم الدماء وقتلهم الأنبياء بسبب الحسد الكامن في نفوسهم ...

__________________

(١) سورة الشورى آية ٤٠.

٥٠٥

كتبنا على بنى إسرائيل ومن بعدهم : أنه من قتل نفسا بغير نفس ، أى : بدون قصاص أو بدون فساد في الأرض يزلزل الأمن والطمأنينة ، ويهلك الحرث والنسل ، وذلك مثل قطع الطريق ، من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا ، واعتدى على المجتمع البشرى كله!!

أفلا يكون هذا الجرم فظيعا؟ إنه لقطيع ، ولذلك كان من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية من سورة النساء. آية ٩٣.

ومن هنا تعلم أن نفس القتيل ليست ملكه ، بل هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه ، فمن اعتدى على نفس ولو كانت نفسه (بالانتحار) استحق عقاب الله الشديد يوم القيامة ... ومن أحيا نفسا بأى سبب كان ، فكأنما أحيا الناس جميعا ؛ إذ كل نفس عضو في المجتمع.

ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات الواضحات كالشمس أو أشد. ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون بعد هذا البيان الرائع.

وهذه الآية الكريمة تقرر بوضوح مبدأ تكافل الأمة الواحدة وتضامنها كوحدة خاصة.

حكم قطاع الطرق

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)

٥٠٦

المفردات :

(يُحارِبُونَ) الحرب : ضد السلم والأمن على النفس والمال. (فَساداً) الفساد : ضد الصلاح ، وكل من أخرج شيئا عن وضعه الصالح له يقال : إنه أفسده. (يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) : ينقلوا من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره ، وقيل : المراد يسجنوا.

سبب النزول :

روى البخاري ومسلم عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكلموا بالإسلام ، فاستوخموا المدينة ـ وجدوها رديئة المناخ ـ فأمر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزود من الإبل ـ الزود من ثلاثة إلى تسعة ـ وراع وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء فيشربوا من «أبوالها وألبانها» فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلام ، وقتلوا الرعي ، وفي رواية ، مثّلوا به ، واستاقوا الزود من الإبل. فبلغ ذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث في طلبهم فأتوا بهم فسملوا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركوا حتى ماتوا ، فنزلت الآية.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن هذه الآية عامة لكل من يفعل هذا العمل الشنيع في دار الإسلام سواء كان مسلما أو غيره.

والله تعالى أنزل هذه الآية بهذا التشديد في العقاب لسد ذريعة هذه المفسدة ، وهي إزالة الأمن من بين ربوع الدولة ، واضطراب الناس فيها ، ومع هذا حرم المثلة وتشويه الأعضاء.

المعنى :

لا جزاء للذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا ، إلا ما ذكره الله من التقتيل أو الصلب أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض.

ومحاربة الله ورسوله تكون بالاعتداء على شرعة الأمان والسلم والحق والعدل

٥٠٧

والطمأنينة بين الناس ، كما أنها تكون بالاعتداء على الحقوق الشرعية ، كمنع الزكاة مثلا ، كما حصل لأبى بكر فقد حارب المانعين لها بكل قواه.

هذا كله يلزمه الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل :

وقد وضع الله للقتل والسرقة والاعتداء على المال حدودا خفيفة ، فمثلا في القتل القصاص إلا إذا عفى له عن شيء ، وفي السرقة قطع اليد والاعتداءات على المال بالضمان مثلا لأنها اعتداءات فردية.

أما هنا في هذه الآية فتلك حدود قطاع الطريق المجاهرين بالمعصية المجتمعين للاعتداء. لذلك شرط بعضهم شروطا ثلاثة للمحاربين :

١ ـ أن يكون معهم سلاح يعتمدون عليه.

٢ ـ أن يكون ذلك في صحراء أو في مكان لا تنفع فيه الاستغاثة.

٣ ـ أن يأتوا مجاهرين معتمدين على القوة والغلب ، لا على الخفية واللصوصية.

أما جزاؤهم فأخذهم بلا رحمة ولا هوادة ، وإن كانوا جماعة. يشير إلى هذا قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا).

وعند الجمهور أن القتل في الآية للقاتل ، والصلب مع القتل لمن أخذ المال وقتل ، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لمن أخذ المال وأخاف.

والنفي لمن أخذ المال فقط ، وليس للولي العفو في حد من هذه الحدود ، فمثلا في القتل العادي يجوز للولي العفو وترك القصاص. وهنا لا بد من القصاص وإن عفا ، وهذا معنى التشديد الذي يشير إليه لفظ (يقتّلوا).

ذلك لهم خزي وأى خزي بعد هذا العقاب الصارم؟ ، ولهم في الآخرة بعد ذلك عذاب عظيم جدا.

إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ولم يكن للإمام عليهم من سبيل فاعلموا أن حد الله يسقط عنهم ، ويؤخذون بحقوق الآدميين ، أى : يقتص منهم عن النفس والجراح ، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم ، ويجوز لولى الدم العفو كسائر الجنايات

٥٠٨

من غير المحاربين ، يشير إلى هذا قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن توبتهم قبل القدرة دليل على أنها توبة خالصة لوجه الله.

واعلموا أن هؤلاء المحاربين لله ولرسوله بالعصيان والفساد ، واجب على الإمام قتالهم ، وعلى المسلمين المعونة له وكفهم عن فعلهم.

أساس الفلاح في الآخرة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)

المفردات :

(الْوَسِيلَةَ) : ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود وهي القربة ، وتطلق على أعلى منزلة في الجنة.

المعنى :

يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، خذوا لنفسكم الوقاية من عذاب الله بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وتقربوا إليه بالطاعات والعمل بما يرضيه ، فإن هذه هي الوسيلة إليه (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (١) ... وجاهدوا أنفسكم بكفها عن

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٥٧.

٥٠٩

المحرم ، والتزامها الصراط المستقيم ، وجاهدوا أعداء الإسلام حتى يكون الدين كله لله ، وجاهدوا في سبيل الحق والحرية والخير للأمة والوطن. فكل هذا جهاد في سبيل الله.

واتقوا الله وابتغوا إليه القربى بالطاعة واجتناب المنهيات ، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيل الله ، كل ذلك رجاء الفوز والفلاح في المعاش والمعاد. واعلم أن لفظ التوسل جاء بثلاث معان : القربى إلى الله بالطاعة كما مر ، دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشفاعته كما ثبت عن عمر ـ رضى الله عنه ـ : «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» فكان يدعو العباس وهم يؤمّنون عليه ، ترى أنها الدعاء والشفاعة ، وكانت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما بعد موته فبدعاء أقرب الناس إليه كعمه العباس ، ويوم القيامة تكون بشفاعته.

أما المعنى الثالث فهو : الوسيلة ، أى : التوسل بالإقسام على الله بالصالحين والأولياء المقربين ، وهذا لم يرد به نص صحيح ، بل قال أبو حنيفة وأصحابه : إنه لا يجوز.

والتوسل بهذا المعنى ينكره العقل ، ويأباه الشرع ولا دليل عليه في هذه الآية ولا في غيرها.

إن الذين كفروا بالله ، وجحدوا آياته ، وكذبوا رسله لو فرض أن لهم ملء ما في الأرض ذهبا بل وضعفه ليفتدوا به أنفسهم من عقاب الله وعذابه ، على كفرهم وعنادهم ، فافتدوا به ما تقبل الله منهم ذلك ، فداء وعوضا ، بل هم معذبون عذابا دائما وهذا تمثيل لحالهم يوم القيامة.

يود الواحد منهم لو يفتدى نفسه من عذاب يومئذ ببنيه ، ولكن هيهات له ذلك! يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ، ولهم عذاب مقيم دائم. فانظر يا أخى في أساس الفلاح في الإسلام ، وأنه محصور في التقوى والطاعة لا في شفاعة ولا في غيرها.

٥١٠

السارق وجزاؤه

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)

المفردات :

(السَّارِقُ) : من يأخذ المال خفية من حرز مثله. (نَكالاً) : مأخوذ من النكل ، وهو القيد ، ولا شك أن هذه عقوبة تمنع الناس من ارتكاب السرقة.

المعنى :

بعد أن تعرض القرآن الكريم للمحاربين الذين يسعون في الأرض فسادا وبين جزاءهم ، ثم أمر الناس بعدها بالتقوى واللجوء إلى الله وحده ، بين هنا جزاء من يعتدى على الناس ويسرق أموالهم خفية.

مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة ، فمن يسرق منكم ذكرا كان أو أنثى. فاقطعوا أيديهما جزاء لهما على ارتكاب فعلهما ، وانتهاك حرمة الغير بأخذ ماله ، ولأن السرقة قد تجر إلى الدفاع عن المال وإلى القتل .. ولا بد أن يكون المسروق موضوعا في مكان يحفظ فيه أمثاله (وهو حرز المثل) وهل تقطع اليد في كل سرقة ولو در هما؟ أو لا بد أن يكون المسروق ربع دينار أو ثلاثة دراهم لقول عائشة ـ رضى الله عنها ـ :

٥١١

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع في دينار فصاعدا ، وعند الأحناف لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا.

وتثبت السرقة بالإقرار أو الشهود ، ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام ، وأما المال المسروق فلا بد من رده إلى صاحبه بعينه أو قيمته.

حدّ الله هذا الحد ، جزاء للسارق ، ونكالا للغير ومنعا له ، حتى لا يقع غيره في مثل ما وقع ، فإن قطع اليد ميسم الذل والعار الذي لا يمحى أبدا ، والله عزيز لا يغالب ، حكيم في كل ما سنّه لنا من قوانين أما القوانين الوضعية فإنها تجعل من السجن مدرسة يتعلم فيها اللص أنواع الإجرام ، ولذا نرى معها تعدد السرقات.

فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة وأصلح نفسه فإن الله يتوب عليه إنه هو الغفور الرحيم.

ألم تعلم أيها المؤمن : أن الله ملك السموات والأرض يتصرف فيهما بحكمته ، وعدله وعلمه الواسع وفضله العميم ؛ فمن حكمته وعدله وضع حد للسرقة ، حتى يشيع الأمن في ربوع الدولة وتطمئن النفوس لتنصرف إلى أعمالها ، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وهو على كل شيء قدير.

يرى البعض أن في هذا القطع لليد شدة وغلظة وأن هذه شريعة الغاب والقفار ، لا شريعة الحضارة والمدنية.

ولقد كذبوا ؛ فها هي ذي قوانينهم تحمى الرذيلة في كل ميادينها ، وتساعد على ارتكابها والمفروض أن الحدود موانع وزواجر ، ولا مانع أحكم وأعدل من حدود الله ، أما ترى الدول التي تحكم بكتاب الله كيف استتب فيها الأمن واختفت منها السرقات ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!

٥١٢

اليهود ومواقفهم من أحكام التوراة

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)

٥١٣

المفردات :

(لا يَحْزُنْكَ) : لا يؤلمك هؤلاء. (يُسارِعُونَ) أى : يقعون في الكفر بسرعة ورغبة ، والمراد أنهم ينتقلون مسرعين من بعض فنون الكفر إلى بعض آخر. (فِتْنَتَهُ) : اختباره حتى يظهر ما تنطوى عليه نفسه. (لِلسُّحْتِ) : الخبيث من المكاسب ، وهو في اللغة : الهلاك والشدة ، وسمى المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات والبركات ، أى يذهبها.

سبب النزول :

روى أبو داود أنه زنى رجل وامرأة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيفات ، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، وقلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم : ما ترى في رجل وامرأة زنيا ، فلم يكلمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتى بيت مدارسهم ، أى : مدارسهم فقام على الباب فقال : «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ فقالوا : يحمم وجهه ، أى : يوضع عليه السواد ، ويجبه ـ يحمل الزانيان على حمار مع تقابل أقفيتهما ويطاف بهما ـ ويجلدان ، قال : وسكت شاب منهم يقال له ابن صوريا ، فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألظ به النشدة ـ ألح في سؤاله ـ فقال ابن صوريا : اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال الرسول : فإنى أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما ـ انتهى كما في القرطبي.

ورويت روايات أخرى كلها تدور حول إنكارهم الحكم ، وعبثهم بالشريعة والتوراة.

المعنى :

يرشدنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى أدب الخطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : يا أيها الرسول ، حتى لا نناديه ، كما كان يفعل بعض الأعراب ، ولقد كان نداء أفاضل الصحابة ،

٥١٤

يا رسول الله ، وانظر إلى تكريم الله له فإنه ينادى الأنبياء بأسمائهم وما ناداه باسمه قط.

يا أيها الرسول : لا يهمنك أمر الذين يسرعون بالوقوع في الكفر ، ولا تأس عليهم فالله بهم محيط ، وهو ناصرك عليهم حتما ، مهما أظهروا من عداوة ، وتعاونوا مع المشركين وألبوهم عليك.

والمراد من النهى عن الحزن النهى عن لوازمه التي يفعلها الشخص مختارا كتذكر المصائب وتعظيم شأنها.

ومن هم المسارعون بالوقوع في الكفر ، والتنقل في أساليبه وألوانه؟ هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، وبعض اليهود الذين يبلغون في سماع الكذب من أحبارهم الذين يلقون إليهم الأخبار الكاذبة في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : سماعون للأخبار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ينقلونها إلى الأحبار فيحيكون الأكاذيب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موافقة لبعض ما يصدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون عملهم التجسس على النبي.

سماعون الكذب للأخبار ، وسماعون لقوم آخرين لهم رأى خاص واتجاه آخر ، موصوفون بأنهم لم يأتوك من شدة الكراهة لك ، والحسد عليك ، وقد كان بعض زعماء اليهود ، يأبون على أنفسهم أن يجلسوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم!! وهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه بنقل كلمة مكان أخرى ، أو إخفائها وكتمانها ، أو بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له.

وهم يقولون لأتباعهم ـ كما ورد في سبب النزول ـ إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها ، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبوله ، وما لك تحزن عليهم؟ والحال أنه من يرد الله أن يختبره في دينه ، ويظهر أمره ويكشف سره ، فلن تملك له من الله شيئا يمنع ذلك ، وهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهرت فتنة الله لهم مقدار فسادهم ، فهم الذين وضعوا أنفسهم للكذب ونقله وتحريف الكلم وكتمانه اتباعا لأهوائهم ، ومرضاة لرؤسائهم وذوى الجاه فيهم ، فلا تحزن عليهم ولا تطمع فيهم أبدا.

أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، ويزكى نفوسهم ، لأن سنة الله في خلقه

٥١٥

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١) وأن النفس إذا مرنت على السوء والشر لم يعد لها طريق للخير ، ولا سبيل للنور!!

لهم في الدنيا خزي بفضيحتهم وهتك سترهم ، وظهور الإسلام والقضاء عليهم ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هوله شديد وقعه.

ولا غرابة في ذلك فهم قوم سماعون للكذب ، مروجون له ، أكالون للسحت آخذون الرشوة ، سباقون للمحرم ، وهكذا كل أمة في طور انحلالها ينتشر فيها الخلق الرديء خاصة الكذب والبهتان والرشوة والسحت ... فإن جاءوك فاحكم بينهم بما ترى ، أو أعرض عنهم ، قيل : هذا الحكم نسخ بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٢) وقيل : هذا في غير أهل الذمة ، أما هم فقانون الإسلام قانونهم.

وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أبدا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل الذي لا شك فيه وهو قانون القرآن. وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ظاهر واضح ، ثم هم يتولون ويعرضون من بعد ذلك. وما أولئك بالمؤمنين أبدا ، ذلك أن أمرهم عجب. كيف يدّعون الإيمان بالتوراة ، ولا يحكمون بها ويطلبون الحكم من غيرها؟؟ والأعجب من هذا أنهم تركوا التوراة لأنها لم توافق أهواءهم ، وجاءوا يحكمون القرآن ثم تولوا وأعرضوا لأنه لم يوافق أهواءهم فهذا حالهم وديدنهم ، وما أولئك بالمؤمنين أبدا.

أما نحن المسلمين فأخشى ما أخشى ـ وقد تركنا حكم القرآن ، وجئنا نحكم أهواءنا بل وأحكام من ليسوا على ديننا وشاكلتنا ـ أن ينطبق علينا قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٣) الظالمون الفاسقون!

__________________

(١) سورة الأحزاب آية ٦٢ ؛ والفتح آية ٢٣.

(٢) سورة المائدة آية ٤٩.

(٣) سورة المائدة آية ٤٤.

٥١٦

في التوراة حكم الله وقد أعرض عنها اليهود

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)

٥١٧

المفردات :

(التَّوْراةَ) : اسم للكتاب الذي أنزل على موسى. (الرَّبَّانِيُّونَ) : مفردة رباني ، نسبة إلى الرب ، وهو الذي يسوس الناس بالعلم ويربيهم. (وَالْأَحْبارُ) : جمع حبر ، هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه. (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) : بما طلب إليهم حفظه منهم. (شُهَداءَ) : رقباء وحفاظا. (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) : جعلنا عيسى يقفو أثرهم ويتبعهم.

المناسبة :

بعد أن نعى الله على اليهود عدم رضائهم بحكم التوراة وطلب حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن وافق هواهم ثم إعراضهم عن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر هنا التوراة وما فيها من الهدى والنور والحكم والقانون مسجلا عليهم جرمهم.

المعنى :

إنا أنزلنا التوراة على موسى الكليم ، فيها هدى يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام والحق ، وفيها نور يستضاء به ويكشف ما تشابه عليهم وأظلم ، هذا في التوراة المنزلة من عند الله لا في صحفهم المبدلة المحرفة التي سموها توراة.

هذه التوراة قانون يحكم بها النبيون الذين نزلوا بعد موسى حتى عيسى ابن مريم ، وأسلموا وجوههم لله قانتين مخلصين ، حكموا بها بين اليهود ، فهي شريعتهم الخاصة بهم ، حتى نزل عيسى ابن مريم ، وكان آخر نبي نزل على بنى إسرائيل ، وقد نقل عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ في الإنجيل : (ما جئت لأنقض الناموس ـ شريعة موسى ـ وإنما جئت لأتمم ..) فالإنجيل مكمل لها وقد حكم بها عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

وحكم بها وحافظ عليها الربانيون والأحبار وهم الصالحون من ولد هارون في الأزمنة التي لم يكن بها أنبياء ، وذلك بسبب ما أخذه الأنبياء عليهم من العهد المؤكد ، وسألوهم حفظها والعناية بها ، وكانوا على كتاب الله شهودا ورقباء يحمونه من التغيير والتحريف ، وشاهدين عليه أنه الحق لا مرية فيه.

٥١٨

فأين أنتم أيها اليهود؟ وأين علماؤكم الآن من الربانيين والأحبار السابقين؟ فهؤلاء يحافظون عليها ، وأنتم تحرفون وتكتمون!!

وإذا كان الأمر كذلك فلا تخشوا الناس أيها الأحبار المعاصرون فتكتموا الحق ، من صفة النبي والبشارة بها ، طمعا في الدنيا وعرضها الزائل ، واخشوا الله ربكم واقتدوا بالصالحين السابقين من أمتكم ، واحفظوا التوراة ، وإياكم والتحريف ، روى عن الحسن : أخذ الله على الحكام ألا يتبعوا الهوى ، وألا يخشوا الناس ، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ، ولا تشتروا بآياتنا ثمنا قليلا ، ومنفعة حقيرة تأخذونها ، من رشوة أو جاه أو رئاسة كاذبة! وكيف تستبدلون الثمن القليل والعرض الزائل بالآيات البينات التي استحفظتم عليها وكنتم عليها شهودا؟!!

واعلموا أن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقد حكم اليهود في الزاني المحصن بالجلد وتركوا الرجم ، وفي القتل بالتفريق بين بنى قريظة والنضير وتركوا العدل والقصاص.

والله في التوراة قد سوى بين الجميع لا فرق بين أمير وخفير ، ولا بين شريف ووضيع.

ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلا له ، منكرا بالقلب حكم الله ، وجاحدا باللسان فهو من الكافرين ، ومن لم يحكم وهو معتقد أنه مخطئ ومذنب فهو خارج عن الدين ومؤاخذ على شهادته ورضائه الحكم بغير حكم الله ، وتقصيره في طلب تحكيم ما أنزل وهذا حكم عام في كل من يترك كتاب الله والحكم به.

إنا أنزلنا التوراة ، وفرضنا عليهم فيها أن النفس تقتل بالنفس والعين بالعين ، والسن بالسن وهكذا بقية الأعضاء بالقياس ، وكذا الجروح على تفصيل فيها وبيان لحدها بالضبط. فيها القصاص ، وهذا الحكم في القتل أو التعدي العمد ، أما الخطأ ففيه الدية ، وأن تصدقوا خيرا لكم (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة ٢٣٧] روى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه».

ومن لم يحكم بما أنزل الله ، ويعرض عما شرعه الله من القصاص والعدل والتساوي بين الأفراد فهو من الظالمين الذين يغمطون الناس حقوقهم المشروعة.

٥١٩

وقفينا على آثار أنبياء بنى إسرائيل بعيسى بن مريم فكان آخر نبي لبنى إسرائيل ، مصدقا لما بين يديه من التوراة حاكما بها. حافظا لها لم يغير منها شيئا ، وإنما أتى متمما لها كما نقل عنه في الإنجيل.

وآتيناه الإنجيل الذي نزل عليه ، فيه الهدى والنور. والإرشاد والوعظ الذي يهدى إلى طريق الحق ، وكان مصدقا للتوراة ، مؤيدا لها مع اشتماله على الهدى والموعظة الحسنة : ومن الثابت الذي لا يقبل الشك أنه كان في التوراة والإنجيل نور البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفه وأن شريعته تامة كاملة عامة ، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ، ولكن لا ينتفع بهذا كله إلا المتقون.

وقلنا لأهل الإنجيل : احكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام والمواعظ ، ومما كان فيه اتباع التوراة وأحكامها حتى يرسل النبي العربي خاتم الأنبياء ولكن النصارى غيروا الإنجيل وحرفوا كلمه من بعد مواضعه ولم يحكموا به ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون والخارجون عن حدود الدين والعقل.

يروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بنى إسرائيل؟ قال : نعم هي فيهم ، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل ، والأوصاف الثلاثة باعتبارات مختلفة : فلإنكارهم وصفوا بالكفر ، ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظلم ، ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفسق ، وقيل في تخريج الأوصاف : إن من يترك حكم الله معتقدا أنه لا يصلح فهو الكافر ، ومن يترك لسبب آخر من ضياع الحقوق فهو ظالم ، وإلا فهو فاسق.

الحكم بكتاب الله ودستور القرآن

وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً

٥٢٠