التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

الحلال من المطعومات

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)

المفردات :

(الطَّيِّباتُ) : جمع طيب ، وهو ضد الخبيث. (الْجَوارِحِ) : جمع جارحة ، وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور. (مُكَلِّبِينَ) : من التكليب وهو : تعليم الكلاب ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا. (وَالْمُحْصَناتُ) قيل : هن الحرائر ، وقيل : العفيفات عن الزنا. (مُسافِحِينَ) : مجاهرين بالزنا. (مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) : مسرين بالزنا ، والخدن : الصديق. (حَبِطَ عَمَلُهُ) : بطل ثواب عمله.

سبب النزول :

روى أن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا؟ فنزلت ، وروى أن عدى بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول حتى أنزل الله هذه الآية.

٤٨١

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ سخر لنا ما في السموات والأرض لننتفع به في وجوه النفع من الأكل والشرب واللباس والزينة ... إلخ. ولذا كان الأصل في الأشياء الحل إلا أن هناك نفوسا حرمت الطيب وأحلت المحرم وخاصة في المطعومات فبين الله لنا ما حرم وما أحل لا سيما بعد سؤال الناس عن هذا.

يسألك المؤمنون أيها الرسول : ماذا أحل لهم من الطعام واللحوم؟ قل : أحل لكم الطيبات ، أى : غير الخبيثات ، وصيد ما علمتم من الجوارح المعلمة ، وما هي الطيبات؟ هي : كل ما لم يرد نص بتحريمه واستطابته النفوس الطيبة المعتدلة المزاج ، والمتوسطة في المعيشة.

فقد ورد نص بتحريم المحرمات العشر الماضية في القرآن ، وورد عن ابن عباس (نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) والسبع عند الشافعى ما يعدو على الناس والحيوان ، وعند أبى حنيفة كل ما أكل اللحم ؛ ويمكن أن يقال : ما لم يرد فيه نص قسمان : حلال طيب ، وحرام خبيث. وهل العبرة في التميز ذوق أصحاب الطباع السليمة من العرب أو يعمل كل أناس وجماعة بحسب أذواقهم؟ قولان.

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاف أكل الضب وأجاز أكله لمن سأله كما في حديث خالد ابن الوليد في الصحيحين وغيرهما.

هذا في صيد البر وحيوانه ، أما حيوان البحر فكله حلال أكل العشب أو أكل اللحم ، أما ما يعيش في البر والبحر كالضفدع والتمساح فلا يحل أكله ، وكذا الثعبان والسلحفاة للاستخباث والسم الذي في الثعبان.

أما صيد الجوارح فقد اشترط أن تكون الجارحة معلمة ومرسلة من الصائد حتى يكون قتل الجارح للصيد ذكاة شرعية. وإن أتى به حيا ذكاه صاحبه ، وضابط التعليم أن تكون الجارحة إذا أغراها صاحبها بالصيد ذهبت إليه ، وإذا كفها انكفت ؛ وتمسك عليه الصيد فلا تأكل منه شيئا.

٤٨٢

فإن أكلت منه فالجمهور على أنه لا يحل لأنه مثل فريسة السبع المحرمة سابقا ، وذلك لحديث عدى بن حاتم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل ، فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» وفي رواية أخرى : «وإذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاة».

وبعضهم يرى حل ما بقي من الكلب لظاهر الآية ولحديث أبى ثعلبة الخشني : «فكل وإن أكل منه» وبعضهم لا يأكل بقية الكلب ويأكل بقية الطائر.

وفي رواية : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد القوس فقال : «ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل» وفي رواية أخرى : ذكى أو لم يذك (ذبح أو لم يذبح) وصيد البندقية كالقوس ، وبعضهم يشترط في حله الذبح إن أدرك حيا. وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم الله من أنواع الحيل والتأديب فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه ، أى : عند إرسال الكلب ، وقيل : عند الأكل ، وعلى ذلك فهل التسمية في الآية سنة إن نسيها الشخص فلا حرج؟ روى ذلك عن ابن عباس ، وبعضهم يرى أنها واجبة.

واتقوا الله في هذه الحدود ، وقفوا عندها : إن الله سريع الحساب ، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض. روى أنه يحاسب الناس جميعا في مقدار نصف يوم. أحل لكم الطيبات على سبيل التفضيل ، وذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى حلال لكم دون ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان ، والتسمية عند الذبح قيل : لا بد منها ، والأرجح إن ذكر اسم غير الله فلا تأكل من المذبوح ، هذا إن سمعته ، فإن لم تسمعه يذكر شيئا فكل وهو حلال.

وطعامكم أيها المؤمنون حل لهم ، فلا جناح عليكم أن تطعموهم أو تبيعوهم شيئا.

والمحصنات ، أى : الحرائر العفيفات من المؤمنات ، والذين أوتوا الكتاب من قبلكم حلال لكم ، بشرط أن تؤتوهن مهورهن بقصد الإحصان والإعفاف ، لا سفح الماء على طريق الزنا العلنى ، ولا عن طريق الزنا السرى وهو اتخاذ الأخدان.

٤٨٣

ومن يكفر بالإيمان وفروعه وأصوله ، وأحكامه وقوانينه ، فقد حبط عمله وبطل أجره وهو في الآخرة من الخاسرين.

وعلى العموم : للصيد والذبائح باب واسع في كتب الفقه والحديث يحسن الرجوع إليه لمن أراد المزيد.

الوضوء والغسل والتيمم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)

المفردات :

(وُجُوهَكُمْ) : جمع وجه ، وهو ما تقع به المواجهة ، وحدّه طولا ما بين منبت

٤٨٤

شعر الرأس إلى منتهى اللحيين ، وعرضا ما بين الأذنين. (الْمَرافِقِ) : جمع مرفق ، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد. (الْكَعْبَيْنِ) : العظمين الناتئين عند اتصال الساق بالقدم من الجانبيين. (جُنُباً) أى : أصابتكم جنابة بمجامعة النساء ، أو إنزال المنى. (بِذاتِ الصُّدُورِ) : بصاحبة الصدور ، والمراد بها : السر الذي لم يبارح الصدور.

المناسبة :

بعد أن بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ عهوده الخاصة بالحلال والحرام في الطعام والنكاح ، أخذ يبين ما يقتضيه هذا من الشكر لله والصلاة ، ومفتاحها الوضوء والغسل والتيمم ، وختم الآية ببيان الحكمة في الطهارة وتذكيرنا بالعهود والمواثيق التي التزمناها ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح الصلاة الطهور».

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا : إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون وهذا التقيد بالحدث أتى من السنة الشريفة ، فعليكم بالوضوء ، فالوضوء واجب عند كل صلاة على المحدث حدثنا أصغر ، وإنما يستحب على غير المحدث عند كل صلاة. فقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» وروى البخاري عن عمر ابن عامر الأنصارى : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت : فأنتم كيف تصنعون؟ قال : كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ولم نحدث».

فرائض الوضوء :

إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ، واغسلوا أيديكم إلى المرافق ، فالمرافق تغسل من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وامسحوا برءوسكم ، امسحوا ولو شعرة واحدة عند الشافعى ـ رضى الله عنه ـ وربع الرأس عند الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان ، وعلى كل الرأس عند مالك للاحتياط وقد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٨٥

هذا كله ، والآية تحتمل كل هذا. إذ الباء في قوله تعالى : (بِرُؤُسِكُمْ) هل هي للإلصاق أو للتبعيض أو زائدة صلة؟؟ ولا تنس أن خلافهم رحمة ، ومن هنا كانت دراسة الأزهر للغة دراسة حرفية أمرا واجبا حتى يتسنى استخلاص الأحكام أو فهمها فهما صحيحا! (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) أى : واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، وهما داخلان كالمرفقين. ومن فرائض الوضوء النية عند الشافعى ، واستدل بقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ) وبحديث «إنما الأعمال بالنيات» والترتيب كذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبدأ بما بدأ الله به» وتوسط مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين يدل على الترتيب ، وعلى ذلك فتكون فروض الوضوء : النية ، وغسل الوجه ، وغسل اليدين ، ومسح بعض الرأس ، وغسل الرجلين ، والترتيب ، وله سنن كثيرة مذكورة في كتب الفقه.

روى الترمذي وغيره عن بعض الصحابة قال : رأيت عليا توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ، ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، وذراعه ثلاثا ، ومسح رأسه مرة ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قال : «أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أى : وضوءه.

وفي هذا الحديث فروض الوضوء وبعض السنن ، وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة مرة ، ومرتين مرتين ، وأما التثليث فهو السنة التي جرى عليها العمل في الكثير.

نواقض الوضوء :

ما خرج من السبيلين ، النوم على غير هيئة المتمكن ، وتلاقى بشرتي ذكر وأنثى ، وعند الأحناف : اللمس لا ينقض مطلقا ، وقيل : بالشهوة ينقض فقط ، وعند الإمام مالك : اللمس ينقض إذا كان بشهوة مقصودة أو وجدها بدون قصد ، فإن لم يقصد اللذة ولم يجدها ، فلا ينتقض وضوؤه ، ومس فرج الآدمي بباطن الكف ، وخالف بعضهم في هذا ، وليست نواقض الوضوء في الآية ولكن تعميما للفائدة ذكرت ، وعلى العموم فللوضوء أحكام كثيرة في كتب الفقه.

٤٨٦

الغسل :

هو تعميم البدن بالماء الطاهر ، وله أسباب منها : الجنابة وتكون بإيلاج الحشفة أو قدرها من الذكر في فرج ، أو بنزول المنى ، وكذا الولادة ، وكذا الحيض والنفاس ، فمن كان جنبا أو عنده سبب من أسباب الغسل المتقدمة وأراد الصلاة فعليه الغسل مع النية (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

التيمم :

هو ضربتان للوجه واليدين بنية من تراب طاهر له غبار ، وقيل : لا يشترط ، وله أسباب : وهي تعذر استعمال الماء لمرض أو سفر أو أحدث الشخص حدثا أصغر أو حدثا أكبر (كما تقدم في الغسل) وطلب الماء فلم يجده (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) جامعتم (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

حكمة مشروعية الوضوء والغسل :

غسل البدن كله أو أطرافه مما يبعث النشاط والهمة فيقف العبد بين يدي ربه نشيطا حاضر القلب صافى الروح ، وعند حصول سبب من أسباب الغسل كالجنابة أو الجماع مثلا وهو ما يسمى بالحدث الأكبر يعترى الجسم استرخاء وفتور يزولان بالغسل ، على أن النظافة من الإيمان (وهي أمر لازم للمسلم من حيث كونه مسلما. ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج حيث أوجب الغسل والوضوء للصلاة وعند فقد الماء أوجب التيمم ، ولكن يريد ليطهركم ماديا من الدنس والرجس ، ومعنويا من الكسل والفتور ويبعث النفس صافية مشرقة لتناجى ربها ، وليتم نعمته برسمه طريق العبادة لكم ، بهذا تقومون بالشكر الواجب عليكم.

واذكروا نعمة الله عليكم الذي وفقكم للإسلام وهداكم للقرآن ، واذكروا ميثاقه الذي أخذه عليكم وأنتم في عالم الذرة ، وحين الإيمان بالرسول والشهادة لله (إذ قلتم بلسان الحال : سمعنا وأطعنا).

واتقوا الله في كل شيء ولا تنقضوا الميثاق إن الله عليم بذات الصدور.

٤٨٧

إتقان العمل والشهادة بالقسط مع التذكير بنعم الله

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)

المفردات :

(قَوَّامِينَ) : جمع قوّام ، وهو المبالغ في القيام بالشيء والإتيان به مقوما تاما كاملا. (بِالْقِسْطِ) : بالعدل. (يَجْرِمَنَّكُمْ) : يحملنكم ويكسبنكم. (خَبِيرٌ) الخبرة : العلم الدقيق الذي يؤيده الاختبار. (يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) يقال : بسط إليه لسانه : إذا شتمه ، وبسط إليه يده : إذا بطش به.

٤٨٨

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا : كونوا من أصحاب النفوس الطيبة والأرواح العالية الذين يتقنون أعمالهم ، ويخلصون فيها إخلاصا لله ولرسوله ، سواء منها الأعمال الدينية والدنيوية ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، والإتقان والإخلاص أساس النجاح ، وأما الشهادة بالقسط وتحرى العدل فهي الدعامة الأولى لسعادة الأمم ، وبناء المجتمع وانتشار الطمأنينة ، وانصراف كل إلى عمله.

وأنت إذا لم تحاب أحدا في شهادتك ، وقمت بها عادلا. لم تراع قرابة ولا صداقة ولم تخش في قول الحق لومة لائم ، ولم تحملك عداوة قوم لك ولا بغضهم على الجور وعدم العدل ، كنت من القوامين لله والشهداء بالقسط ولو على أنفسهم.

فالعدل العدل!!! فهو أقرب طريق إلى التقوى ، والخلوص من المهالك والمعاصي ، واحذروا عقاب الله فإنه بكم خبير وبعملكم بصير ، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

فهذه الآية الكريمة والآية التي تقدمت في سورة النساء كلاهما يعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة ، وشهادة الزور ، والله قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى.

وأما الذين كفروا ، وكذبوا بآيات الله الكونية ، وآياته المنزلة على رسله مع العلم بأن من يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض فقد كفر بالكل ، فهؤلاء أصحاب النار الملازمون لها ، وهي بئس المأوى وبئس المصير.

يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعم الله عليكم التي لا تحصى ، ومن نعمه السابغة أن دفع عنكم كيد أعدائكم ورده في نحورهم ، على كثرتهم وقوتهم ، وضعفكم وقلتكم ، وقد هموا وعزموا بل وأنفقوا جهدهم أن يمدوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ولكن الله مؤيد رسله وناصر دينه ومتمّ نوره ولو كره الكافرون ، ولقد صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده!!!

وقد روى في أسباب النزول لهذه الآية روايات كثيرة كلها تدور حول رجل هم بقتل

٤٨٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم حفظه الله منه مع أنه مسلح. وكان النبي أعزل ، ولقد منّ الله على المؤمنين عامة بحفظ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ والصحابة من أعدائهم ولا شك أن ذلك حفظ للدين ، وذكرهم بهذا ليقتفى المؤمنون آثار من تقدمهم والله ناصرهم ما نصروه ، وحافظهم من أعدائهم إن كانوا قوامين لله شهداء بالقسط عدولا.

واتقوا الله أيها الناس وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون ، لا على قوتهم وبأسهم ، ولا يغرنهم الذين كفروا مهما كثروا وتفننوا في أساليب الخراب والدمار ، فالله معهم وناصرهم ما داموا مؤمنين.

كيف نقض اليهود والنصارى المواثيق؟

وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ

٤٩٠

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)

المفردات :

(نَقِيباً) نقيب القوم : كبيرهم الذي يعنى بهم وبمصالحهم ويعرف دخائلهم وهو الضامن لهم. (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) : نصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء. (لَعَنَّاهُمْ) : طردناهم من رحمتنا. (قاسِيَةً) : شديدة مغلقة لا تقبل خيرا. (خائِنَةٍ) أى : خيانة ، أو نفس خائنة. (فَأَغْرَيْنا) : ألزمهم وألصقنا بهم.

المناسبة :

بعد أن أمرنا بالوفاء بالعهود وذكرنا بموجب هذا الوفاء من إحلال الحلال وتحريم الحرام ، وتبصيرنا بالاستعداد للصلاة وإقامة الشهادة بالعدل ، وقد ذكرنا بنعمه والمواثيق التي أخذها علينا. بعد هذا كله أخذ يعرض لنا حال أهل الكتاب وقد نقضوا الميثاق. وكيف كان جزاؤهم في الدنيا والآخرة ، لعل المسلمين يتعظون بمن سبقهم من الأمم.

روى أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه ، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة ، وقال لهم : إنى جعلتها لكم وطنا ، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها ، وإنى ناصركم ، وأمر نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به ، فاختار النقباء ، وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل وتكفل النقباء بما طلب وسار بهم فلما دنا من بيت المقدس بعث النقباء يتحسسون الأخبار ، فرأوا أجساما قوية ، وشوكة وقوة ، فهابوهم ورجعوا وحدثوا

٤٩١

قومهم بما رأوا. وكان موسى قد أمرهم ألا يخبروا أحدا بما يرون فنقضوا العهد إلا نقيبين منهم وهما اللذان قال فيهم القرآن : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) وسيأتي خبرهما بعد في الآية ٢٣.

المعنى :

ولقد أخذ الله العهود والمواثيق على بنى إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن بالتوراة وليقبلنها بجد ونشاط (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [سورة البقرة الآيات ٦٣ و ٩٣] ولا يزال هذا العهد موجودا في التوراة ، وأمرناه أن يختار اثنى عشر نقيبا منهم ، يتولون أمور الأسباط ، ويقومون على رعايتهم ، وبعثناهم يتحسّسون العدو ليقاتلوه ، وقال الله على لسان موسى : إنى معكم وناصركم على عدوكم ومطلع عليكم ومجازيكم على أعمالكم.

ثم أعطاهم العهد الموثق : لئن أقمتم الصلاة وأديتموها تامة كاملة الأركان مستوفية الشروط ، وأنفقتم بعض المال الذي به تزكو نفوسكم وتطهر. وآمنتم برسلي التي سترسل لكم بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ كداود وسليمان ويحيى وزكريا وعيسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ونصرتموهم ، ومنعتموهم من الأعداء ، ووقفتم إلى جانبهم في السراء والضراء ، وأقرضتم الله قرضا حسنا طيبة به نفوسكم ، مع أنكم تقرضون ربّا له خزائن السموات والأرض قادرا كريما ، يضاعف الحسنة إلى عشرة أمثالها بل إلى سبعمائة.

تالله إنكم إن فعلتم هذا (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل ونصرتهم والقرض الحسن) لأكفرن عنكم سيئاتكم ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وأنتم بذلك تستحقون الرضوان ودخول الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار ، ومن يكفر بعد ذلك منكم ، وينقض الميثاق فقد ضل السبيل الواضح وأخطأ الطريق المستقيم الذي رسمه الله لعباده الأبرار.

وهؤلاء اليهود ـ كما وصفهم القرآن غير مرة ـ دأبهم العناد ، وديدنهم الكفر والعصيان ، وجزاؤهم الطرد والحرمان ، فبنقضهم الميثاق ، وكفرهم بالله ورسله وعدم نصرتهم لهم وعدم تعظيمهم وتوقيرهم ، استحقوا المقت والغضب واللعن والطرد من

٤٩٢

رحمة الله ، وكان نقضهم الميثاق مفسدا لفطرتهم مدنسا لنفوسهم ، فإن الذنب الذي يرتكبه الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب. فإذا كثرت المعاصي اسود القلب وأصبح في أكنة ، لا يصل إليه النور والهدى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (١) ولذلك رأيناهم يقتلون الأنبياء بغير حق ، ويفترون على مريم البتول وابنها عيسى الذي أرسل لهم يهديهم سواء السبيل ، بل حاولوا قتله وافتخروا بذلك (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) (٢) فبسبب هذا بعدوا عن رحمة الله وطردوا منها شر طردة وأصبحت قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قساوة ، وصاروا يحرفون الكلم عن مواضعه فيقدمون ويؤخرون ، ويحذفون منه ، ويغيرون معناه ويبدلون ، ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين ، وقد نسوا حظا من التوراة كبيرا.

ذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ توفى والتوراة التي كتبها وأمر بحفظها نسخة واحدة قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبى البابليين لهم وإغارتهم عليهم ، ولم يكن عندهم غيرها وما كانوا حفظوها كلها ، نعم هناك أسفار خمسة تنسب إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ فيها أخبار عن موته وحياته وأنه لم يقم أحد بعده مثله ، كتبت بعد موته بزمن طويل ، قيل : كتبها عزرا الكاهن معتمدا على ما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل.

أفلا تراهم نسوا حظا كبيرا ، وكما يقول القرآن في موضع آخر : (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) (٣) ومن العلماء من يرى أن معنى الآية أنهم تركوا أحكاما كثيرة من التوراة. والله أعلم بكتابه.

ألا ترى أن هذا من أعظم المعجزات على صدق الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبرهم بدخائل نفوسهم!! وأما أنت يا محمد فلا تأس عليهم ، ولا تعجب من عنادهم فها هم قديما قد فعلوا كل شيء ، ولا تزال تطلع منهم على خيانة تصدر منهم على سبيل المبالغة ، إلا قليلا منهم ممن آمن وحسن إيمانه.

وإذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم واصفح إذا تابوا ، أو بذلوا الجزية ، إن الله يحب المحسنين.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٧.

(٢) سورة النساء الآية ١٥٧.

(٣) سورة آل عمران الآية ٢٣ ؛ والنساء ٤٤ و ٥١.

٤٩٣

ولقد أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب من النصارى ، فنسوا حظا عظيما مما ذكروا به ولذلك كان جزاؤهم أن الله ألزمهم العداوة والبغضاء حتى صارت صفة لازمة لهم لاصقة بهم إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.

والمنصف للتاريخ يعرف أن المسيح توفى ، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب ، وقد اضطهد اليهود أتباعه وتلاميذه وشردوهم حتى قتلوا أكثرهم فلما هدأت الأحوال ودخل الملك قسطنطين الديانة المسيحية أخذوا يكتبون الأناجيل ، ولذلك كانت كثيرة ومختلفة ومتباينة.

وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون في الدنيا ، ويجازيهم عليه حتما.

القرآن وما يخفيه أهل الكتاب

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)

المعنى :

يا أهل الكتاب. قد جاءكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيدا بمعجزة القرآن المعجزة الباقية الخالدة ، فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. هذا النبي قد بين لكم كثيرا من الأحكام والآيات التي كنتم تخفونها عن العوام ، فقد روى أن هذه الآية نزلت حينما كتموا

٤٩٤

حكم الزاني المحصن وأقسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حبرهم ابن صوريا وناشده الله حتى اعترف به.

وقد أنكروا غير ذلك من بشارة النبي ووصفه فبينه القرآن لهم ، ولقد كان بيان القرآن لما كتموه سببا في إسلام كثير من أحبارهم وعلمائهم.

يبين الله بواسطة رسوله كثيرا مما يخفون ، ويعفو عن كثير مما لا تمس الحاجة إليه ، ولا يفيد الدعوة في شيء ، وهم يعلمون أنهم يخفون غير الذي أبداه الرسول ...

يا أهل الكتاب : قد جاءكم من الله نور هو النبي محمد ، أو هو القرآن ، أو دينه ، وجاءكم كذلك كتاب مبين بين الحق وأظهر المكنون ، يهدى به الله من اتبع رضوانه طريق الخير التي تنجيه من العذاب الأليم ، ويخرج من اتبعه من ظلمات الشرك والخبث والخرافة والأوهام الباطلة إلى نور الإسلام وهدى القرآن الذي أنزل بعلمه ومشيئته وتوفيقه ، ويهدى من اتبعه صراطا مستقيما يوصل إلى خير الدنيا والآخرة.

مناقشة النصارى في عقائدهم

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

٤٩٥

وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)

المفردات :

(يَمْلِكُ) : يدفع ويمنع ، وأصل الملك : الضبط والحفظ التام. (يُهْلِكَ) : يميت ويعدم. (فَتْرَةٍ) : سكون وهدوء من الرسل ، والمراد انقطاع الوحى ، وعدم ظهور الرسل مدة من الزمن.

المعنى :

المسيحيون في هذا العصر طوائف أشهرها ثلاث : البروتستانت ، والكاثوليك ، والأرثوذكس. يقولون بألوهية المسيح وأن الله (هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وقد كان المسيحيون القدامى لا يصرحون بهذا الرأى وإن كان لازما لأقوالهم بالحلول والاتحاد ، على أن فرقة منهم هي اليعقوبية كانت تقول : إن المسيح هو الله.

والمسيحيون المعاصرون خصوصا الكاثوليك والأرثوذكس لا يعدون الموحد مسيحيا ، وأساس هذه العقيدة عبارة وردت في إنجيل يوحنا (في البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله : والله هو الكلمة) وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح ، فصار معنى الفقرة : الله هو المسيح ، كما وصفهم القرآن الكريم.

على أن الثابت أن يوحنا كتب إنجيله في آخر حياته وكتبه بإلحاح عليه. فإذا المسيح برىء منها ولم يدع إليها أبدا بل سيأتى أنه دعا إلى التوحيد وإلى تمجيد الله فقط كما نقل عنه في الإنجيل.

٤٩٦

وقد ذكر الدكتور (بوست) في تاريخ الكتاب المقدس : طبيعة الله ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : الله الأب ، والله الابن ، والله روح القدس ، فإلى الأب الخلق ، وإلى الابن الفداء ، وإلى روح القدس التطهير ، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء.

ولقد رد القرآن هذا الزعم الباطل ، وأبطل تلك العقيدة الوثنية فقال : يا أيها الرسول قل لهؤلاء الذين تجرأوا على مقام الألوهية : من يملك من الله شيئا إذا أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه؟ من يمنع الله إذا أراد أن يميت المسيح وأمه؟ لا أحد يقدر على هذا!! فالله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه!! بل لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وأمره وها هو ذا المسيح وأمه قد حصل لهما ما حصل لبقية الخلق فهل منعا عن أنفسهما شيئا؟؟.

وإذا كان المسيح لم يستطع أن يدفع شيئا عن نفسه ولا عن أمه ولم يستطع أحد أن يدفع عن المسيح شيئا فهل يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!!

ولنا أن نرد عليهم بكلامهم.

إذا كان المسيح إلها فكيف لم يرد عن نفسه الصلب الذي هو شر أنواع الهلاك؟ فقد قيل في الإنجيل : «ملعون كل من علق على خشبة» من إحدى رسائل بولس الرسول ، وثبت أن المسيح استغاث بربه ضارعا خائفا وجلا ليصرف عنه ذلك الكأس فلم يجب إلى طلبه ، في إنجيل متى : (إلهى إلهى لما ذا تركتني؟). (يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك).

فإذا عيسى ـ كما هو منصوص عندهم ـ نبي ورسول كما أنه بشر كبقية الخلق خائف وجل متضرع إلى الله ـ جل جلاله ـ شاعر بأن الصلب شر أنواع الهلاك ، ولإخلاصه وصدقه نجاه الله من الذين مكروا به (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء ١٥٧].

لا أحد يمكنه أن يرفع الهلاك ويمنع الموت عن عيسى وأمه ومن في الأرض جميعا وكيف يكون غير هذا؟ ولله وحده ملك السموات والأرض وما بينهما.

ولقد كان السبب في تخبط النصارى وضلالهم كثرة المتشابه عندهم في الأناجيل ،

٤٩٧

وأن عيسى خلق على غير السنن المألوف ، وقد عمل أعمالا غريبة لم تصدر عن عامة البشر.

ولذلك رد الله عليهم هذا بقوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فهو مالك الملك ، وصاحب الأمر في السماوات والأرضين يخلق ما يشاء على حسب حكمته وإرادته فقد خلق أبانا آدم بلا أب ولا أم ، وحواء بدون أم ، وعيسى بلا أب وأصول الحيوانات جميعا من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة.

ولقد أرسل رسله مبشرين ومنذرين ، وأيدهم بروح من عنده وأجرى على أيديهم المعجزات المناسبة لزمانهم ، فهذا موسى وعصاه السحرية لأن السحر كان أبرز علم عندهم ، وهذا عيسى وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الميت ؛ لأن الطب كان أبرز شيء عند قومه ، وهذا خاتم النبيين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت معجزته القرآن لأنه بعث في العرب المعتزين بالفصاحة وكانت رسالته خاتم الرسالات فكان قرآنه باقيا كاملا في كل شيء ، هذا القرآن الذي وقف وحده آلاف السنين يرد هجمات أعدائه على كثرتهم.

فلا يغرنكم أيها المسيحيون إحياء عيسى للميت.

أخوك عيسى دعا ميتا فقام له

وأنت أحييت أجيالا من العدم

ولا غرابة في ذلك فالله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.

وإذا كان عيسى إلها فمن كان الإله قبله؟ وعلى أى وضع كان؟

وسيأتى مزيد من الرد على ألوهية عيسى ابن مريم قريبا.

روى أن اليهود تكلموا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاهم إلى التوحيد وحذرهم من عذاب يوم القيامة ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد؟ ونحن أبناء الله وأحباؤه!! وقد قالت النصارى ذلك فنزلت هذه الآية.

والمعنى : قالت اليهود كما قالت النصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه!! فالله يعاملنا معاملة الأب لأبنائه يعطف علينا ويرحمنا ، وبعض النصارى بالغوا في ذلك فقالوا : عيسى ابن الله حقيقة ونحن أبناء مجازا.

وقد رد الله عليهم بقوله : قل لهم يا محمد : إذا كان الأمر كذلك!! فلم يعذبكم

٤٩٨

بذنوبكم في الدنيا كما ترون من تخريب دياركم وهدم الوثنيين لمسجدكم في بيت المقدس ، ومن لصوق العداوة والبغضاء فيكم أيها النصارى ، فأنتم تتحاربون وتتقاتلون إلى الأبد ، فبعضكم رأسمالي وستظل الحرب بينكم دائما حتى تفنوا جميعا إن شاء الله.

وأما في الآخرة فيكون العذاب عسيرا عليكم أهل الكتاب ، والأب لا يفعل هذا مع أبنائه والأولاد لا يعصون آباءهم كما تفعلون!!

بل أنتم وغيركم من جميع الطوائف والملل بشر وخلق من خلق الله لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان الصادق الخالص من شوائب الوثنية.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [سورة النساء آية ١٢٣].

ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير في الآخرة (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (١) وسيعذب الكافر والعاصي ويثيب الطائع والصالح.

يا أهل الكتاب لا حجة لكم ، قد جاءكم رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين لكم ما اندثر من الأحكام ، وضاع من القوانين وقد بشرت به كتبكم وهو مصدق لما معكم ، جاءكم على فترة من انقطاع الرسل والوحى عليكم فيما بينه ما كنتم تخفونه وتكتمونه ، ولو لا أنه رسول ما أمكنه ذلك ، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، لئلا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ؛ فقد جاءكم بشير ونذير ، والله على كل شيء قدير.

__________________

(١) سورة مريم آية ٩٣.

٤٩٩

من مواقف اليهود مع موسى عليه‌السلام

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)

المفردات :

(مُلُوكاً) : أحرارا عندكم ما يكفيكم. (الْمُقَدَّسَةَ) : الطاهرة من الأوثان

٥٠٠