التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

المناسبة :

نعى الله على أهل الكتاب عموما أنهم يفرقون بين الأنبياء فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. ثم تعرض القرآن لليهود خاصة وأنهم سألوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عنادا واستكبارا ـ أن ينزل كتابا من السماء آية لهم ولم يكن هذا العناد جديدا على اليهود فقد سألوا موسى قديما أكبر من هذا ، وفعلوا القبائح ، وكفروا بعيسى ، وبهتوا أمه وحاولوا قتله وصلبه ... إلخ ، ما ذكر.

ولو فعلت هذا لآمنوا بك وصدقوك ، فأنت أوضح دليلا وأقوم قيلا ، على أن الإيحاء من الله إليك كان كالأنبياء السابقين ، فما لهم يفرقون بين نبي ونبي؟؟ وما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟!!

المعنى :

إنا بما لنا من العظمة والقدرة قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن إيحاء كإيحائنا إلى الأنبياء قبلك ، فلست بدعا من الرسل ، وهم قد آمنوا بهم ، فكيف يطلبون منك أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، على أنهم لو آمنوا حقيقة بالرسل لآمنوا بك فالوحى جنس واحد لم يتغير ، وفي كتبهم البشارة بك ووصفك.

وحقيقة الإيحاء كما قال المرحوم الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد : (عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة) .. إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى المشهورين من الأنبياء قبلك كنوح ، وخص بالذكر أولا لأنه أقدم نبي مرسل ، على أن قومه كذبوه فعذبوا. وهو الأب الثاني للبشر ، وأوحى إلى النبيين من بعده لا سيما إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أبو الأنبياء ، والذي يدين له العرب وأهل الكتاب ، وإسماعيل ابنه الأكبر وأبو العرب وجد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسحاق ابن إبراهيم أبو يعقوب المسمى بإسرائيل وإليه تنسب اليهود ، والأسباط وهم حفدة يعقوب ، وقيل : أولاده لصلبه وعددهم عشرة أولاد يوسف واثنان فكان المجموع اثنى عشر ، وهم في نسل إسحاق كالقبائل في نسل إسماعيل ، وعيسى ابن مريم وقدم على غيره

٤٦١

لأنه محل طعن اليهود ، وأيوب ويونس وهارون وسليمان بن داود ، وخص هؤلاء جميعا بالذكر مع اندراجهم في لفظ النبيين لشرفهم وكرامتهم على الله. وآتينا داود كتابا زبورا ، قال القرطبي : كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حكم ومواعظ وتمجيد وثناء على الله تعالى ... وأرسلناك كما أرسلنا رسلا غير هؤلاء قد قصصناهم عليك من قبل في سورة الأنعام (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [سورة الأنعام آية ٨٤] الآيات وأجمع السور لقصصهم سورة هود والشعراء.

وهنا أرسلنا رسلا لم نقصصهم عليك لأن أممهم مجهولة غير معروفة وليس في ذكرهم كبير فائدة (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود ١٢٠].

وكلم الله موسى تكليما ، وخص موسى بهذه الكرامة على سبيل التأكيد لأن قومه هم المقصودون بالحديث ، وقد كلم الله موسى تكليما خاصا ممتازا عن غيره ، أما كيف كان؟ وهل كان مشافهة أم لا. فالله أعلم بذلك كله ، على أن وقوفنا على أسرار الأثير واستخدامه ، ونقل الحديث بالراديو والتليفزيون جعل الاعتراضات القديمة شيئا بسيطا لا يعبأ به ، فالله الذي أقدر بعض المخلوقات على الوصول إلى هذا قادر جدا على خلق أشياء ليس لها مقياس معروف ولا حد مألوف.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [سورة الشورى آية ٥١] والظاهر أن تكليم موسى ـ عليه‌السلام ـ كان من النوع الثاني.

والخلاصة : أنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى فلان وفلان من الأنبياء وآتيناك كتابا كما آتينا بعضهم كتابا ، وأرسلناك للناس كافة رسولا كما أرسلنا لهم رسلا ، فما لهؤلاء القوم يفرقون بين نبي ونبي؟! ويؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

أرسلنا أولئك الرسل الذين قصصنا عليك بعضا منهم ، مبشرين من يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر بالثواب الأبدى : جنة المأوى خالدين فيها أبدا ، ومنذرين من يكفر بالله ورسله واليوم الآخر بالعقاب الصارم نارا وقودها الناس والحجارة ، أرسلنا رسلنا لئلا يكون للناس على الله حجة (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [سورة طه آية ١٣٤].

٤٦٢

وحجتهم أنهم يقولون : لولا أرسلت إلينا رسلا تبين لنا الشريعة وتعلمنا ما لم نكن نعلم! إذ القوة البشرية مهما تكن تعجز عن إدراك كل جزئيات الخير والشر ، على أن عامة الناس لا يفرقون بين الضار والنافع مع احتياج الكل إلى قادة يقودونهم إلى الصراط المستقيم صراط الله العزيز الحميد : ومن الذي كان يأتى بأخبار الغيب من حساب وجزاء ، وثواب وعقاب؟؟ ... وما أتى به الرسل موافق لسنن الفطر السليمة ، ملائم للطبائع الزكية ، ومع ذلك يترتب عليه ثواب عظيم وعقاب أليم.

وكان الله عزيزا لا يغلبه متعنت ولا مكابر ، حكيما في كل صنع صنعه (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء آية ١٥].

وهؤلاء اليهود قد أنكروا نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يشهدوا برسالته وهي أوضح من الشمس فسألوه كتابا من السماء.

إنهم لا يشهدون بذلك ولكن الله يشهد بالقرآن وكفى به شاهدا ، فالله أنزله عليك بعلمه الخاص لا يعلمه سواه ، ولقد صدق الله في وصفه (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (١) تحدى به الكل فعجزوا (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢) وهو القرآن الكامل في كل شيء المشتمل على قوانين وشرائع تكفل لمن يتبعها حياة سعيدة وعزة ورخاء!! وانظر إلى قوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) تجد القرآن لا يمكن أن يصدر عن علم بشر ، وخاصة إذا كان يعيش في البيئة العربية قبل الإسلام ، ولعل هذا هو محط الشهادة.

فكأن القرآن بهذا يشهد للنبي بصدقه ، ولسان حاله : صدق محمد في كل ما يبلغه عن ربه ، والملائكة ومنهم جبريل يشهدون لك بالرسالة فثبتت شهادة الله تعالى بما أنزله عليك من القرآن إذ لا يستطيع أحد أن يأتى بمثله ولو اجتمع الإنس والجن ، ولا يعقل أن يكون من وضعك فأنت النبي الذي نشأ في بيئة جاهلة.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢.

(٢) سورة الإسراء الآية ٨٨.

(٣) سورة الأنعام الآية ١٩.

٤٦٣

جزاء الكافرين

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)

المعنى :

بعد أن دلت الآيات على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لا حجة للكفار المعاندين ، وأن الله شهيد له بما أنزله عليه بعلمه من آيات القرآن ، أخذ ينذر الكفار ويهددهم بالعذاب الشديد ، وينذرهم سوء العاقبة وبئس المصير ، إن الذين كفروا بالله ورسوله وصدوا عن سبيل الله بأعمالهم التي يقلدهم فيها غيرهم. قد ضلوا وأضلوا ضلالا بعيدا عن الصواب جدا. إن الذين كفروا وظلموا أنفسهم وغيرهم باتباعهم الشيطان وبعدهم عن هدى الرحمن ، لم يكن من شأن الله وصفته أن يغفر لهم ، فالله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولم يكن ليهديهم ويوفقهم إلى طريق أبدا إلا طريق جهنم وبئس المصير ، فهم قد ملأوا النفس والقلب من ظلام الكفر والضلال حتى لم يعد فيه متسع للنور والهداية ، هؤلاء لهم جهنم خالدين فيها خلودا أبديا الله أعلم به يتناسب مع ما قدموا من أعمال ، وما جبلوا عليه من خصال ، وكان ذلك على الله سهلا ويسيرا.

يا أيها الناس : وقد جاءكم الرسول الكامل والمعهود عند أهل الكتاب ، جاءكم

٤٦٤

بالقرآن والحق والخير والهدى والعلاج ، فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، آمنوا واقصدوا خيرا لكم وإن تكفروا فاعلموا أن الله معذبكم ومجازيكم على كفركم فليس هناك عذر لمعتذر وليس وراء الموت إلا الجنة أو النار ، وليس يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، ولا يجهل شيئا فيهما ، وهو الغنى عن عبادتكم ، وما ذلك كله إلا أن لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا وحكما ، سبحانه وتعالى العليم بخلقه الحكيم في صنعه.

المسيح ابن مريم في نظر القرآن

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)

٤٦٥

المفردات :

(لا تَغْلُوا) الغلو : مجاوزة الحد من جهة التفريط أو الإفراط. (وَكَلِمَتُهُ) المراد أنه حدث بكلمة (كن) التكوينية لا بمادة أخرى كغيره من الناس. (وَرُوحٌ) وجد بنفخ من روح الله وهو جبريل. (يَسْتَنْكِفَ) الاستنكاف : الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا. الاستكبار : أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة غرورا منه وإعجابا بها.

المناسبة :

بعد أن حاج اليهود وألزمهم كلمة التقوى والطريقة المثلى ، أردف ذلك بمحاجة النصارى ، وألزمهم جميعا الرأى الوسط في عيسى ابن مريم.

المعنى :

يا أهل الكتاب لا تكونوا مغالين في الدين ومجاوزين الحدود فيه ، فلا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه ، وتحقروه وتهينوه كما فعلت اليهود ، ولا تعظموه وتقدسوه حتى تجعلوه إلها أو ابن الإله كما فعلت النصارى ، ولا تقولوا على الله إلا القول الحق الثابت بالنقل المتواتر ، الذي يستحيل معه الكذب ، أو المؤيد بالحجج الدامغة ، أما القول بالحلول واتخاذ الصاحبة والولد فكذب وبهتان وخرافة ووثنية ؛ وموسى وعيسى والأنبياء جميعا برآء منها.

إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة الصديقة النقية التي أنبتها الله نباتا حسنا ، وكفلها زكريا الرجل الصالح والتي برأها القرآن الكريم.

إنما المسيح عيسى رسول الله إلى بنى إسرائيل ، أمرهم بالمعروف ، ونهاهم عن المنكر ، وأمرهم بعبادة الله وحده ، ونهاهم عن الكفر به والشرك والتثليث وزهدهم في الدنيا ، وحثهم على التقوى ، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ...) [سورة الصف آية ٦].

٤٦٦

إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وهو مكون بكلمة (كن) التكوينية (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٤٧] نعم كل مولود له سبب ظاهر وهو اتصال الجنسين ، وله سبب حقيقى وهو إرادة الله المعبر عنها بكلمة (كن) فلما انتفى مع عيسى السبب الأول بالبرهان ثبت أن عيسى خلق بالسبب الثاني وهو كلمة (كن) أوصلها الله مريم بواسطة جبريل (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة آل عمران آية ٤٥].

وهو مؤيد بروح كائنة منه ـ سبحانه وتعالى ـ لا بعضا منه كما فهم المسيحيون ، وإلا لكان كل شيء بعضا من الله بدليل قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية ١٣] وكونه مؤيدا بروح منه يؤيده قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة ٨٧ و ٢٥٣] وقيل : المعنى : أن عيسى خلق بنفخ من الله وهو جبريل ، ويوضحه قوله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء ٩١] (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [سورة مريم آية ١٧].

وقال بعضهم : المعنى : أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورحمة منه ويقويه قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [سورة مريم آية ٢١] ، وما لنا نعجب من خلق عيسى بلا أب؟ حتى تنكب المسيحيون طريق الحق وانغمسوا في الشرك والتثليث هذا!!

فهذا آدم خلق بلا أب وأم (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [سورة آل عمران آية ٥٩] وهذه حواء خلقت من آدم فقط!!

وبما ذا نرد أصول الحيوانات جميعا!! وكما يقولون : هل البيضة أصل أم الفرخة؟ أيا كان فمن الذي أوجد الأصل الأول من الفرخة أو البيضة؟ هو الله : بلا تناسل وبدون تزاوج معروف.

ومن الغريب أن بعض النصارى يفهمون قوله تعالى : (رُوحٌ مِنْهُ) أن عيسى ابن الله أو جزء الإله أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، والذي أوقع المسيحيين في هذا هو التشابه في التوراة والإنجيل ، وما وصل إليهم عن طريق الوثنيين من اليونان والرومان والمصريين القدامى والبراهمة.

٤٦٧

فالديانة المسيحية الصحيحة مبنية على أساس التوحيد البريء لله سبحانه ذاتا وصفة وفعلا ، ولكن الكنيسة أدخلت هذه الوثنيات والعقائد الزائفة في عقول أبنائها لأمر في نفوس القوم ، ولما رأوا القرآن يعارضهم في ذلك كذبوه وأنكروا ، وهو الذي برأ مريم من قول اليهود!! ووضع عيسى الموضع اللائق (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [سورة مريم آية ٣٤] وفي أقوال الأحرار من المسيحيين ما يؤيد هذا وهي موجودة في كتاب الشيخ رشيد رضا (تفسير الشيخ محمد عبده) الجزء السادس من تفسير هذه الآية. وفي كتاب (إظهار الحق).

وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، لم يلد ، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ... وآمنوا برسله جميعا لا فرق بين نبي ونبي ، ولا تقولوا الآلهة ثلاثة (الأب والابن وروح القدس) أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر وكل منها إله كامل ومجموعها إله واحد.

فإن هذا إشراك بالله وترك للتوحيد الذي هو ملة أبيكم إبراهيم وهذا كلام ينافي العقل الراجح والفكر السليم ؛ إذ كيف يكون واحدا وثلاثة وكيف يحل الإله في بعض خلقه؟ وكيف يتحدد ، وهل طبيعة الإله كطبيعة البشر؟ أظن لا!! بل طبيعة البشر تتنافى مع طبيعة الملك فهذا لا يأكل ولا يشرب ، وعيسى وأمه يأكلان ويشربان! وما ميزة عيسى على غيره من الأنبياء؟ أرسل مؤيدا بالمعجزات وكانت كغيرها لم تجر على سنن الطبيعة بل بقدرة الله وقوته كما نص القرآن الكريم ، وموسى الكليم ، ومحمد كذلك. فكيف تقولون : عيسى إله؟ ـ انتهوا خيرا لكم ، وقولوا قولا حسنا يكن خيرا لكم ، وأجدى من هذا العبث والوثنية والعصبية الحمقاء.

إنما الله إله واحد ، لا إله إلا هو ، سبحانه وتعالى عما يشركون!

سبحان أن يكون له ولد فليس المسيح ابنه ؛ إذ الولد يقتضى اتصالا جنسيا بالأم ، وحاجة إليه ، وإلى أمه ، حتى يبرز إلى الوجود أفيليق هذا!

لا : يا قوم! الله له ما في السموات وما في الأرض ، ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [سورة مريم آية ٩٣ ـ ٩٥].

٤٦٨

لا فرق في ذلك بين الملائكة والنبيين والناس أجمعين! وهل الإله في حاجة للولد؟ ليقيم اسمه ، ويحفظ ذكره ، ويرثه بعد موته ، وهل هو في حاجة إلى الولد ليعينه؟ كلا فالله قوى قادر ، مالك الملكوت ، حي دائم ؛ باق بعد فناء خلقه ، صاحب الأمر والتصريف ، وكفى بالله وكيلا!؟

وهذا عيسى نفسه يقول في إنجيل يوحنا : (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص صريح في أن المسيح رسول الله فقط ، وفي الإنجيل أيضا : (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الله الذي أرسلنى لن يتكبر المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة الذين هم أعظم من المسيح خلقا وقوة ، فهم أعلم بذات الله ومكانته).

ومن يستنكف عن عبادة الله وحده ويتكبر ويدعى الإشراك أو التثليث فسيحشرهم إليه جميعا ويجازيهم على كل ذلك.

فأما المؤمنون بالله وحده والعاملون الصالحات فيوفيهم أجورهم كاملة ، ويزيدهم من فضله فهو واسع الفضل كثير الخير.

وأما الذين استنكفوا وتكبروا فهم المعذبون عذابا أليما في الدنيا والآخرة ولا يجدون لهم من دون الله وليّا ولا نصيرا (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)

الدعوة العامة

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)

٤٦٩

المناسبة :

بعد أن حاج القرآن النصارى فأفحمهم. ومن قبل حاج اليهود فألزمهم ، وناقش المنافقين وكشف سترهم ، وظهرت نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهور الشمس في رابعة النهار ، نادى الناس جميعا ودعاهم إلى اتباعه.

المعنى :

أيها الناس : قد جاءكم برهان واضح ، ونور ساطع ، يبين لكم حقيقة الإيمان بالله ، وهو رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ذلك البرهان هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي العربي الأمى ، الذي نشأ في الجاهلية. لم يجلس إلى معلم ، ولم يؤدبه مؤدب ، ولم يتعلم في جامعة ولم يتخرج في معهد. ولم يعد إعدادا لتحمل أكبر رسالة في الوجود من إنسان!!

كان في شبابه الأمين الصادق ، وعند رجولته الكاملة كان الداعية إلى الله بأقوى أسلوب ، وأوضح بيان ، وقد كان المثل الأعلى في عمله ، وعلمه ، ورسالته ، وسياسته وقيادته ، وزعامته ، فحقا أدبه ربه فأحسن تأديبه ، نعم كان برهانا على صدق رسالته (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام آية ١٢٤].

وأنزل الله إليكم مع هذا البرهان ، نورا مبينا هو القرآن الكريم ، ظهر في الوجود ، بعد ما عميت القلوب ، وغشيت الأبصار من الوثنية المشركة ، واليهودية الكاذبة ، والمسيحية الضالة ، ظهر في الكون فأنار الوجود ، وأضاء القلوب ، وأحيا النفوس. وأوضح الطريق لعبادة الله حق العبادة ، وكان محكم التنزيل ، كاملا في السياسة والاقتصاد ، والاجتماع والعمران والعلوم الكونية والإلهية والسياسة الحربية للأمم ، فحقا هو حبل الله المتين وهو النور المبين (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [سورة الشعراء آية ١٩٢ ـ ١٩٥] .. فمن تأمل هذا البرهان القوى ، وذلك النور السماوي ، ظهر له أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم برهان من الله وحجة على أحقية هذا الدين ، وأن كتابه القرآن أنزله الله بعلمه وشهد له بصدقه.

٤٧٠

فأما الذين آمنوا به واتبعوا نوره واعتصموا بحبله فسيدخلهم ربهم في رحمته وفضله في الدنيا والآخرة ويهديهم إلى صراطه المستقيم ، فمن يعمل بالقرآن وحكمه كانت له العزة في الدنيا والكرامة ، وفي الآخرة الجنة والرضوان والسلامة.

حق الإخوة في الميراث

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)

المفردات :

(الْكَلالَةِ) تقدم تفسيرها. (هَلَكَ) : مات.

سبب النزول :

روى أحمد والشيخان عن جابر بن عبد الله قال : دخل علىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ ثم صب فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية المواريث ، يريد هذه الآية.

وقال الخطابي : أنزل الله في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول السورة وفيها إجمال ، ثم أنزل الأخرى في الصيف وفيها كمال البيان وقيل : إنها من آخر الآيات نزولا.

٤٧١

المعنى :

يطلبون منك الفتيا أيها الرسول فيمن يورث كلالة جابر بن عبد الله الذي ليس له ولد وارث ولا والد ، وله إخوة من أب وأم. وإن هؤلاء لم يفرض لهم شيء. وإن الذي تقدم أول السورة في الأخ لأم ونصيبه السدس ، فإن زاد فالثلث فقط كنصيب أمه.

إن امرؤ مات ، وليس له ولد ولا والد وله أخت لأب أو شقيقة (لأب وأم) فلها نصف ما ترك.

وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ذكر أو أنثى على الصحيح.

فإن كان يرث بالأخوة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما ، وكذا إن كن أكثر من اثنتين كأخوات جابر فقد كن تسعا ، وفي رواية : سبعا ، فلهن الثلثان والباقي لمن يوجد من العصبة على ما هو مفصل في أبواب الميراث.

وإن كان الإخوة رجالا ونساء فللذكر مثل الأنثيين في حظهما وهو الثلثان.

يبين الله لكم هذه الأحكام لتعرفوها وتعملوها بها فلا تضلوا أبدا ، والله بكل شيء عليم ، فعليكم التمسك بهذه الأحكام إذ هي مصدر الخير والبركة لكم ..

٤٧٢

سورة المائدة

مدنية إلا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (الآية) ، فقد روى في الصحيحين عن عمر أن هذه الآية نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ، وآياتها مائة وعشرون آية.

وهي كسورة النساء كلاهما مشتمل على عدة عهود وأحكام ، وفيهما ذكر لأهل الكتاب والمنافقين ، وقد مهدت سورة النساء لتحريم الخمر ثم جاء تحريمها قاطعا في المائدة ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : «يا أيها الناس إن سورة المائدة آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها».

الوفاء بالعهود

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)

٤٧٣

المفردات :

(أَوْفُوا) الوفاء : الإتيان بالشيء وافيا كاملا لا نقص فيه. (بِالْعُقُودِ) : بالعهود المؤكدة الموثقة ، وهي تشمل عقود الشرع فيما أحل وحرم وفرض ، وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والمناكحة وغير ذلك. (بَهِيمَةُ) : وهي ما لا عقل لها ، سميت بذلك لإبهام أمرها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها ، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر. (الْأَنْعامِ) : هي الإبل ، والبقر ، الشامل للعراب الجواميس ، والضأن الشامل للخراف والمعز ، وألحق بها الظباء وبقر الوحش وحمره. (شَعائِرَ) : جمع شعيرة ، مأخوذ من الشعور والإعلام ، والمراد معالم دينه ، وخصت بمناسك الحج. (الْهَدْيَ) : ما يهدى إلى الحرم ويذبح فيه للفقراء. (الْقَلائِدَ) : جمع قلادة ، وهو ما يعلق في العنق. (آمِّينَ) : قاصدين. (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) : لا يحملنكم ولا يكسبنكم. (شَنَآنُ) : بغضهم بغضا شديدا. (الْبِرِّ) : ما اطمأن إليه القلب. (الْإِثْمِ) : كل ذنب ومعصية ، وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه الغير.

المعنى :

هذا بيان للناس من الله ورسوله ، فيا من اتصفتم بالإيمان وتطهرت قلوبكم من دنس الشيطان أوفوا بالعقود التي عقدتموها بينكم وبين الله أو بينكم وبين أنفسكم ، أو بينكم وبين الناس. ومن كل ما أمر به الشرع ونهى ، أو تعاقدتم عليها كالبيع والشراء والنكاح ... إلخ ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المسلمون عند شروطهم» وقال : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» وقال : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فإذا يجب الوفاء بالعقود والعهود ، بشرط أن توافق الشرع الشريف.

ولقد أخذ القرآن الكريم يفصل تلك العهود المأخوذة علينا من قبله ، مع أن فيها بيانا لنعمه التي تحملنا على الوفاء بالعهود.

أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية ، والأنعام

٤٧٤

لا تشمل ذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير ، وكذلك السباع وكل ما له ناب يعتمد عليه في الاعتداء على غيره.

حالة كونكم غير محلى الصيد في الإحرام ، فالذي يجلس في الحرم ولو لم يحرم أو من أحرم بالحج والعمرة ولو لم يكن في الحرم. يحرم عليه الاصطياد والأكل منه.

إن الله يحكم بما يريده من الخير لكم أيها المؤمنون ، فانظروا مواقع أحكامه تجدوها عين الخير والصواب.

وانظر ـ رعاك الله ووفقك ـ تجد الآية اشتملت على أمر بالوفاء بالعهد ونهى عن نقض الوعد ، وإحلال الأنعام ، واستثناء بعد استثناء ، وإخبارا عن قدرته وحكمته ، كل ذلك في سطرين ، وتبارك الله أحسن الخالقين.

يا أيها الذين آمنوا : لا تحلوا شعائر الله ولا تتهاونوا في معالم الدين مطلقا خصوصا مناسك الحج ومشاعره ، على معنى : لا تتعدوا حدود الله ، ومكنوا المسلمين جميعا من أداء مناسك الحج.

ولا تتهاونوا في حرمة الشهر الحرام وهو جنس يشمل الأربعة الحرم (ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب) تلك الأشهر الحرم ؛ لا تقاتلوا فيها المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة ، ولا تبدلوها بغيرها ؛ ولا تعترضوا الهدى الذي أهدى للحرم بالأخذ أو التعرض له حتى لا يصل إلى الكعبة ، ولا ذوات القلائد من الأنعام ، وخصت بالذكر مع اندراجها في الهدى تشريفا لها واعتناء ، وقيل : المراد أصحاب القلائد من الكفار ، ولا تعترضوا الآمّين البيت الحرام والقاصدين له ، فالمعنى : أن الله يوجب على المسلمين أن يكون زمان الحج ومكانه وقت أمان واطمئنان ، لا خوف ولا قلق للحاج حتى يكون آمنا على نفسه وماله فالحجاج يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، ومن كان كذلك وجبت المحافظة عليه.

وإذا تحللتم وخرجتم من الإحرام وأنتم في غير أرض الحرم فاصطادوا كما تشاءون ، فإن المحّرم الصيد وأنتم محرمون أو أنتم في أرض الحرم وإن لم تكونوا محرمين ، فإذا تحللتم من هذين فلا إثم عليكم في الصيد وأكله.

٤٧٥

ولا يحملنكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، لا يحملنكم هذا على الاعتداء عليهم بغير حق ، فالعفو والصفح خير.

وتعاونوا على البر وهو ما تطمئن إليه القلوب وتسكن من كل خير وطلب الشرع الشريف على سبيل الأمر والنهى ، ولا تتعاونوا على الإثم وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه غيرك من كل ذنب ومعصية لله ، ولا تتعاونوا على العدوان على حق الغير ، وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل معروف ومنكر وكل خير وشر.

فالقرآن يأمرنا بالتعاون على كل ما ينفع الأمة في دينها ودنياها ، ولا شك أن هذا مبدأ اجتماعي خير ، فالأمم وقد تكاثرت أفرادها وتشعبت اتجاهاتها ، وتعددت مصالحها ، أصبح لا يؤثر فيها مجهود الفرد مهما كان قويا ، بل لا بد من تعاون غيره وتسانده معه ، ومن ثم كانت الجمعيات الدينية والتكتل للخير ، من أقوى دعائم النجاح والفلاح في هذا العصر.

وقد كان المسلمون في العصر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى تكتل وارتباط لأن الكل مرتبط بعهد الله وميثاقه ، أما نحن اليوم ففي أشد الحاجة إلى توحيد الاتجاهات حتى تأتى الدعوة إلى الله بثمرها الطيب ، واتقوا الله أيها الناس إن الله شديد العقاب فاحذروه. وإياكم ومخالفة أمره.

المحرمات من المطعومات

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ

٤٧٦

فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)

المعنى :

إن الله تعالى أحل لنا أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان الذي يعيش في البر والبحر والجو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ).

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وإنما حرم علينا أربعة أنواع بالإجمال : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [سورة النحل آية ١١٥].

وفي هذه الآية ذكر المحرم وهو عشرة :

الميتة : وهي ما ماتت وحدها بدون فعل فاعل ، وفي الشرع : هي التي لم تذكّ ذكاة شرعية ، وقد حرمت لما فيها من الضرر إذ الغالب أنها ماتت من مرض ، وبقي فيها مكروبه وجراثيمه التي تعيش في الدم بعد الوفاة ، أما إذا ذكيت فإن الدم الذي يحمل الجراثيم أو أغلبه ينزل منها ، على أنها مما تعافها النفوس الطيبة ؛ وتأنف من أكلها الطباع السليمة.

الدم : والمراد به المسفوح لا المتجمد كالكبد والطحال ، إذ هو مباءة للجراثيم الفتاكة ، على أنه مستقذر عند الطبع السليم ، مما يعسر هضمه وهو من فضلات الجسم الضار ، كالبراز ، فدل ذلك على أنه لا يحل أكله أبدا.

ولحم الخنزير : وهو ثالثة الأثافى ، والمراد لحمه وعظمه ودهنه ، وهو حيوان قذر لا يأكل إلا القاذورات والمواد العفنة ، وقد أثبت الطب الحديث أن أكله يولد الدودة الشريطية ، والدودة الوحيدة ، والحلزونية ، على أنه عسير الهضم ، ضار بالمعدة ضررا بالغا ، ولولا ما يستعين به بعض الغربيين من الأدوية ما أكلوه ، على أن أكثر الدول حرمت ذبحه ، وهل تقبل النفوس الطيبة على أكل حيوان كهذا؟ والإسلام حينما حرم

٤٧٧

الكلب والخنزير لم يكن متعديا ولا متجنيا ، بل لما فيهما من الضرر والخطورة ، وإنما ينظر الشرع للجماهير والشعب لا لبعض أفراد يعنون بكلابهم مثلا فلا يطعمونهم إلا شهى اللحم!!!

ما أهل لغير الله به : والإهلال رفع الصوت ، وقد كانوا يرفعون صوتهم عند الذبح في الجاهلية بقولهم : باسم اللات والعزى ... إلخ. فما ذبح وقد ذكر عليه اسم غير الله كان حراما أكله ، إذ أكله مشاركة لأهله في عبادة غير الله ، وهذا مما يجب إنكاره لا المشاركة فيه.

المنخنقة : هي ما ماتت خنقا بأى شكل كان ، وهي نوع من الميتة التي لم تذك ذكاة شرعية ، وإنما خصها القرآن بالذكر مع اندراجها في الميتة لئلا يظن أنها ماتت حتف أنفها بل بفعل فاعل فتحل ، ولكن الشرع شرط الذكاة ليتأكد الإنسان مما يأكل ويثق من أن ما يتغذى به سليما من هذا الدم الفاسد الذي يراق بالذبح.

الموقوذة : هي التي ماتت بعصا أو بحجر بلا ذكاة شرعية وكانوا يأكلونها في الجاهلية ، والوقذ يحرم في الإسلام لأنه تعذيب للحيوان شديد ، وليست معه ذكاة ومن هنا حرمت.

ويدخل في الموقوذة ما رمى بعصا أو حجر ليس له حد ، وما رمى بالبندق «وهو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها» وكذا الحصاة فإن هذا كله لا يفقأ عينا ولا ينكى عدوا ولا يحرز صيدا وليس سببا للقتل غالبا أما الرصاص المستعمل الآن في سلاح الصيد فجائز شرعا على الصحيح.

المتردية : هي ما سقطت من مكان عال كجبال ، أو هوت في بئر بسبب ذلك هي كالميتة لا يحل أكلها بدون تذكية ، ويجوز عقرها في أى مكان للضرورة فتحل.

النطيحة : وهي ما نطحتها بهيمة أخرى فماتت ، وهي حرام كالميتة.

ما أكل السبع : وهي ما قتلت بافتراس حيوان كالسبع والذئب والنمر مثلا ، والمراد ما بقي منها بعد السبع لا ما أكلت كلها ، وكانوا في الجاهلية يأكلون ما بقي من السباع والوحوش.

٤٧٨

إلا ما ذكيتم : أى : إلا ما أدركتموه حيا مما سبق فذكيتموه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، وما أكل السبع جزءا منه ، وما أهل لغير الله به. فإذا كانت فيه حياة ولو بسيطة بأن يطرف عينا أو يضرب برجل أو يد ثم ذكيتموه ذكاة شرعية صار حلالا ، وإلا فلا.

أما الميتة والدم ولحم الخنزير فلا تحل أصلا ذكيت أم لا.

ما ذبح على النصب : وهو آخر المحرمات العشر ، والنصب : حجارة حول الكعبة ، قيل : كان عددها ثلاثمائة وستون حجرا ، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها تقربا للأصنام ، وهو نوع مما ذكر عليه اسم غير الله فحرم أكله لهذا.

وقد أضاف القرآن الكريم إلى محرمات الطعام التي كان الجاهليون يستحلونها خرافة أخرى كانوا يعملونها وهي :

الاستقسام بالأزلام : أى معرفة ما قسم له بواسطة الأزلام وكانت ثلاثة أنواع في الجاهلية ، نوع كان مع الشخص وعدده ثلاثة مكتوب على واحد (افعل) والثاني (لا تفعل) والثالث غفل.

النوع الثاني سبعة قداح ، واحدها قدح ، وكانت عند هبل في جوف الكعبة ، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل.

النوع الثالث قداح الميسر ، وعددها عشرة ، سبعة منها فيها حظوظ وثلاثة غفل ... إلخ ، ما هو معروف.

أى : حرم عليكم معرفة ما قسم لكم بالأزلام ، والحكمة في هذا أنه من الخرافات والأوهام التي تعوق نشاط الفرد والأمة ومدعاة للكسل والسير على غير بصيرة وهدى ، على أنها تجعل الناس ألعوبة في يد الكهان ، والإسلام برىء من هذا كله.

وفي هذه الأيام شاعت معرفة الحظ والاستقسام بأوراق (الكوتشينة) و (الودع) و (الفنجان) وهذا كله منكر شرعا لا يليق بعقل المسلم.

على أن معرفة الحظ والنصيب بواسطة المسبحة أو المصحف شيء لا يعرفه الشرع ولا القرآن.

٤٧٩

والاستخارة الواردة شرعا : أن يصلى الإنسان ركعتين نفلا للاستخارة ثم يدعو الله بدعاء يشرح به صدره لما يريده إن كان خيرا له في دينه ودنياه ، وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاء في الاستخارة موجود في كتب الحديث.

كل المحرمات التي ذكرت لكم فسق وخروج عن الدين والمألوف من الحكمة والعقل.

اليوم وهو يوم عرفة في حجة الوداع يئس الكفار من التغلب على دينكم ويئس الشيطان من أن يعبد غير الله في أرضكم ، وعلى ذلك فلا تخشوا أحدا إلا الله ، ولا يهمنكم أمر الكافرين فقد عصمكم الله منهم ، واخشوا الله واتقوه ولا تخالفوه في شيء أبدا.

اليوم أكملت لكم دينكم بإحلال الحلال وتحريم الحرام حتى صار كل شيء بينا واضحا لا لبس فيه ولا غموض ، وكفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم ، وأتممت عليكم نعمتي فلم يحج معكم مشرك أبدا ، وقد تحقق الوعد ، وفتحت مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وجاءكم النصر ورضيت لكم الإسلام دينا ، واخترته لكم (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١).

كل ما ذكر من المحرمات العشر حرام على المسلمين جميعا إلا المضطر الذي حمل قهرا على تناول ما يضره كأن يكون في مخمصة تخمص لها البطون ، أى : تضمر ، فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المحرمات بشرط أن يكون غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه ولا متجاوز قدر الضرورة ، فإن الله غفور له ولمثله رحيم بخلقه.

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٨٥.

٤٨٠