التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

ضرره عليكم أو على الوالدين والأقربين ؛ فإن بر الوالدين وصلة الأقارب لا تكون بالشهادة لغير الله ، ولا تراعوا غنيا لغناه أو ترحموا فقيرا لفقره بل اتركوا الأمر لله ، فالله يتولى أمرهما وهو أعلم بما فيه صلاحهما فلا تحملنكم العصبية وهوى النفس وبغضكم الناس على ترك العدل فيما بينكم (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (١) ومن هذا ما روى أن عبد الله بن رواحة لما بعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلىّ ، ولأنتم أبغض إلىّ من أعدائكم من القرود والخنازير ، وما يحملني حبى إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم.

فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض.

وأن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرفوها أو تعرضوا عن إقامة الشهادة وتكتموها فاعلموا أن الله بما تعملون خبير وسيجازيكم بذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : المعنى : اثبتوا على ذلك وداوموا عليه وازدادوا يقينا ، وآمنوا بالكتاب الذي أنزله الله على رسوله وهو القرآن وجنس الكتاب الذي أنزله على رسله كالتوراة والإنجيل ، ومعنى الإيمان بالقرآن التصديق بأنه أنزل من عند الله على خاتم الأنبياء والمرسلين وهو الناسخ لما قبله ليس بعده شيء ، والإيمان بالكتب السابقة على أنها من عند الله نزلت على موسى وعيسى.

وقيل : هو خطاب لمؤمنى أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه أتوا رسول الله قالوا : نؤمن بك وبكتابك والتوراة وبموسى ونكفر بما عدا ذلك ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : بل آمنوا بالله ورسوله والقرآن وبكل كتاب قبله. فقالوا : لا نفعل ، فنزلت ، فآمنوا كلهم ، ثم توعد من لم يؤمن بما ذكر بقوله : ومن يكفر بالله وملائكته الذين هم رسل الله إلى أنبيائه وبرسله إلى خلقه واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا عن طريق الحق ونور الهدى ، فاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض إيمانهم لا يعتد به إذ الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل ، لأنه لو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه لما كفر بمحمد المبشر به عندهم.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٨.

٤٤١

المنافقون وصفاتهم

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)

٤٤٢

المفردات :

(بَشِّرِ) : المراد أنذر ، وإنما قال : بشر ؛ تهكما بهم. (الْعِزَّةَ) : القوة والمنعة. (يَخُوضُوا) : يدخلوا. (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) : ينتظرون وقوع أمر بكم. (نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) الاستحواذ : هو الاستيلاء ، والمراد : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم.

المعنى :

من الناس من ران على قلبه ظلمات الغي والضلال فختم الله عليه وحجب بصره كثرة الفسوق والعصيان حتى لم يعد عقله يرى نور الإيمان ، ولا قلبه يهتدى بهدى القرآن ، أولئك هم الذين تذبذبوا واضطربوا ، فمرة هم مؤمنون في الظاهر وإذا خلوا إلى شياطينهم فهم كافرون ، وإذا عادوا مع المؤمنين آمنوا ثم ارتدوا كافرين بل أشد كفرا وعنادا مما جاهر بالكفر وثبت عليه ، أولئك هم المنافقون الذين كانوا حربا على الإسلام وخطرا داهما على الدولة ، وهؤلاء بطبيعتهم التي وصفها القرآن يستحيل عليهم الهداية فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد ، وقلوب هؤلاء تراكم عليها الصدأ حتى أكلها وأفناها ، فإن الله لن يغفر لهم ولن يهديهم سبيلا إلى الخير لأنهم لم يحاولوا الهداية ولم يفتحوا عيونهم للنور أبدا.

أنذر هؤلاء المنافقين بأن لهم عذابا أليما إذ هم في الدرك الأسفل من النار ، هؤلاء هم الذين يتخذون الكافرين أولياء متجاوزين المؤمنين اعتقادا منهم أن الدولة للكافرين ولم يعلموا أن العاقبة للمتقين لأن الله معهم.

وكذبوا وافتروا : أيبتغون العزة عند هؤلاء؟ كيف يطلبون من هؤلاء القوة والمنفعة وهم أعداء الله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وأوليائه.

وقد نزل عليكم في الكتاب حيث قال : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

والخطاب موجه إلى المؤمنين مطلقا الصادقين والمنافقين ، أى : إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الكافرون ويستهزئون بها فلا تستمعوا لهؤلاء ولا تجالسوهم حتى يتكلموا في

٤٤٣

حديث آخر غير حديث الكفر والإلحاد ؛ إنكم إن قعدتم معهم وهم يتكلمون بالباطل في الدين ويستهزئون بالقرآن تكونوا مثلهم ، وقد كان المنافقون يجالسون اليهود ويستعمون إليهم وهم يجعلون القرآن موضع الهزء والسخرية ، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ، فإنهم بين مرتكب للإثم وراض عنه غير منكر بل مشجع على ارتكابه.

هؤلاء المنافقون الذين يتربصون بكم وقوع الأمر المؤلم وأن تدور الدائرة عليكم وينتظرون ما يحدث لكم من خير وشر ، فإن كان لكم نصر من الله وفتح قالوا : نحن معكم نستحق في الغنيمة ، وإن كان للكافرين نصيب في النصر كما حصل يوم أحد قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم ونحن نمنعكم من المؤمنين بتخذيلهم وإذاعة الأخبار التي تثبط قلوبهم وتلقى الرعب فيها ، وإذا كنا نهينا عن مجالسة هؤلاء فكيف بنا إذا اتخذناهم أولياء؟ فالله يحكم بينكم يوم القيامة فيجازى كلا على عمله ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يغلبونكم به على أمركم ، وحيث وصف المؤمنين بهذا الوصف وهو الإيمان فإن تحقق الإيمان تحقق وعد الله بالنصر وغلبة المؤمنين على الكافرين ، وقريب من هذا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) وأين هم المؤمنون الصادقون في الإيمان؟

المنافقون لجهلهم ، وقلة علمهم ، وسوء تقديرهم ، يفعلون ما يفعل المخادع ، حيث يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، والله ـ سبحانه ـ فاعل بهم ما يفعله المخادع حيث أجرى عليهم الأحكام العامة التي عصموا بها دماءهم وأموالهم وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار ، وفي الحقيقة الله لا يخادع فإنه العالم بالسر وأخفى ، فقيل : إن المراد يخادعون رسول الله والمؤمنين ، وإنما آثر القرآن هذا التعبير ليسجل عليهم عظم جرمهم وليشير إلى أن من يخادع الله كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (٣) وهكذا يكون مركز الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سورة الحج آية ٣٨.

(٢) سورة الروم آية ٤٧.

(٣) سورة الفتح آية ١٠.

٤٤٤

وقال بعضهم : إنهم يخادعون الله يوم القيامة حيث يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة وسائرين على الطريق (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) والله خادعهم حيث يستدرجهم في طغيانهم ويبعدهم عن الحق والنور (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) [سورة الحديد آية ١٣].

ولا غرابة في ذلك فها هم أولاء المنافقون مع أشرف الأعمال وأفضلها وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها لأنه لا نية لهم فيها ، ولا إيمان لهم بها ولا خشية ولا هم يعقلون معناها! وأما قلوبهم ففاسدة ، ونواياهم سيئة يفعلون بلا إخلاص ، ولا يعاملون الله ولكن يعاملون الناس ، ألا تراهم يراءون في كل عمل ، ويستخفون من الناس والله معهم.

وإذا قاموا إلى الصلاة خشية من الناس بالطبع لا يذكرون الله إلا قليلا بل كما يقول الحديث : «تلك صلاة المنافق. كررها ثلاثا. يجلس يرقب الشمس إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعة لا يذكر الله فيها إلا قليلا».

وهم ـ لعنهم الله ـ مضطربون دائما بين الإيمان والكفر (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) (١) وتراهم مرة مع المؤمنين في الظاهر وأخرى مع الكفار في الباطن ، فهم لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، وحقيقة من يضله الله ولا يوفقه ، فلن تجد له سبيلا إلى الخير والسداد.

موالاة الكافرين .. وجزاء المنافقين

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٠.

٤٤٥

فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)

المفردات :

(سُلْطاناً) : حجة قوية ظاهرة. (الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) : الطبقة التي في قعر جهنم.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تتخذوا الكافرين أولياء متجاوزين المؤمنين تبغون بذلك العزة عندهم ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، وكيف يصدر منكم هذا وهو دأب المنافقين وصفتهم أتريدون بهذا أن تجعلوا لله عليكم حجة قوية ظاهرة في استحقاق العذاب ، وإذا اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين فإن هذا لا يصدر إلا من منافق ، مع أن المنافقين لسوء أعمالهم وفساد أرواحهم يوم القيامة يكونون في الدرك الأسفل من النار ، والنار ذات دركات والجنة درجات ، فالمنافقون في أسفل الدرك من النار ، ولا شك أنهم يستحقون ، فهم خالطوا الإسلام وعرفوه ثم أنكروه اتباعا للشيطان وإيثارا للهوى وزخرف الدنيا ، أما الكفار فقد يغلبهم الجهل ويعميهم التقليد لذلك كانوا في درك أقل من المنافقين في النار ولن تجد لهم نصيرا أبدا يمنعهم من العذاب أو يخفف عنهم ما هم فيه ، هذا جزاؤهم ، أما من تاب منهم عن النفاق وتوفرت فيه شروط التوبة الصحيحة وأتبعوها بثلاثة :

٤٤٦

(أ) الاجتهاد في صالح الأعمال التي تستر ما مضى من سيئ النفاق.

(ب) الاعتصام بالله والتمسك بكتابه والاهتداء بهدى الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذلك طلبا لرضا الله.

(ج) الإخلاص لله بأن يدعوه وحده ويتجهوا إليه اتجاها خالصا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [سورة الفاتحة الآيتان ٥ و ٦].

فأولئك الموصوفون بما ذكر مع المؤمنين ، وسوف يؤت الله المؤمنين الأجر العظيم الذي لا يدرى كنهه إلا الله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة السجدة آية ١٧].

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) ماذا يريد الله بعذابكم أيها الناس أيعذبكم انتقاما؟! لا ... أيعذبكم لدفع ضرر وجلب خير؟! لا .. إنه هو القوى الغنى ، ولكن الله عادل حكيم لا يسوى بين الصالح والطالح ، فالكافرون والمنافقون والعاصون لم يؤدوا حق الشكر لله وواجبه ، ولم يصرفوا ما أعطى لهم من نعم في الخير ولكن في غير ما خلقت لأجله ، ولو شكروا الله وآمنوا به حقا لاستحقوا الثواب المعد لأمثالهم ؛ فالله شاكر يجازى من شكر عليم بخلقه لا تخفى عليه خافية (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (١) فهو الكريم يعطى ، ويجازى بل ويضاعف الحسنة بعشر إلى أضعاف .. ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، واجعلنا يا رب من عبادك المخلصين الأبرار ، إنك سميع الدعاء.

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ٧.

٤٤٧
٤٤٨

الجهر بالسوء وخطره

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

المفردات :

(الْجَهْرَ) : الإعلان ، يقال جهر برأيه : أعلنه.

المناسبة :

كان الكلام إلى هنا في المنافقين والكفار من أهل الكتاب ، وبعد هذه الآيات رجع القرآن إلى الكلام عليهما ، وكل ذلك بذكر عيوبهم والتعرض لسوءاتهم ، حتى يقف المسلمون عليها فيبعدوا عنها (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١) وقد جاءت هاتان الآيتان في الوسط ، لإرشاد المسلمين إلى أن الجهر بالسوء لا بأس به. وخاصة بعد أن تعرض القرآن الكريم لإذاعة السوء عن الكفار ، وسنعرف أن الجهر بالسوء فيه خطر على الأمة والفرد.

المعنى :

لا يحب الله الجهر بالسوء حالة كونه من القول لأنه يؤجج نيران العدوان ، ويولد البغضاء والكراهية ، ولا تنس أنه يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا سيئا من ناحية تقليد صاحبه في إذاعة السوء ، وتقليد نفس السوء الذي يحكى للناس وهذا أمر مسلّم به ومعروف.

لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا إذا كان صادرا من مظلوم ، إذ له بالطبع أن يشكو ظلمه للناس ، ويشرحه للقضاء لعله ينصفه ، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، ويقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.

__________________

(١) سورة الحديد آية ١٦.

٤٤٩

والظالم لنفسه هو الذي يحب الجهر بالسوء وإذاعة الفاحشة بين الناس ، والسوء من القول يشمل إذاعة الفاحشة والغيبة والنميمة والسعاية والكذب والبهتان ... إلخ. والله سميع لكل قول من ظالم أو مظلوم ، عليم بكل فعل ونية ، وسيجازى كلا على عمله.

وإن تبدوا خيرا من قول أو فعل أو تخفوه فلا تظهروه ، أو تعفوا عن سوء منكم وضرر ألمّ بكم ، فاعلموا أن الله عفو عن السيئات ، يحب العافين عن الناس مع القدرة ، قدير على أن يجزل الثواب للطائعين. وفي هذا ترغيب لفعل الخير ، والعفو عند القدرة.

أما إبداء الخير فحسن لمن يأنس من نفسه عدم الرياء وكان قلبه عامرا بالإخلاص والإيمان ، وهو قدوة لغيره ، والإخفاء حسن إن خاف شيئا من الرياء والنفاق وكان فيه حفظ للكرامة وستر على الفقراء والمحتاجين.

الكفر والإيمان وعاقبة كل

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)

المفردات :

(سَبِيلاً) : طريقا. (وَأَعْتَدْنا) : هيأنا وأعددنا. (مُهِيناً) : ذا إهانة.

٤٥٠

المعنى :

الكفر والإيمان ضدان لا يجتمعان في قلب أبدا ، وهل تستوي الظلمات والنور ...؟ ومن الناس من يكفرون بالله ورسله جميعا في الواقع ونفس الأمر وإن لم يصرحوا بذلك ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ، فيؤمنوا بالله ويكفروا بالرسل وكتبهم ، وهؤلاء هم أكثر سكان العالم.

ومن الناس من يؤمن بالله وببعض الرسل كاليهود والنصارى. يؤمنون بموسى أو عيسى ويكفرون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكتابه المنزل عليه.

ويريدون بهذا أن يتخذوا سبيلا وسطا بين الإيمان والكفر ، أولئك المذكورون هم الكافرون الكاملون في الكفر ، والراسخون في الضلال حقا. وأى حق يكون أثبت وأصح مما يجعله الله تعالى حقا؟؟ وأعتدنا وهيأنا للكافرين منهم ومن غيرهم عذابا ذا إهانة في الدنيا والآخرة.

ولا غرابة في هذا الحكم الشديد ، لمن يؤمن بالله ويكفر برسله ، أو يؤمن ببعض الرسل ويكفر بالبعض الآخر ، إذ الإيمان بالله حقيقة يقتضى عبادته على وجه يرتضيه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإيمان بالرسل واتباع تعاليمهم فهم السفراء بين الله وخلقه ، فكيف يتصور إيمان بالله وكفر برسله؟

وأما الإيمان برسله كموسى أو عيسى كما فعلت اليهود أو النصارى. والكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء فليس بشيء.

إذ لو آمن اليهود بموسى حقيقة لآمنوا بمحمد كذلك ، ولو آمن النصارى بعيسى حقيقة لآمنوا كذلك بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مذكور في كتبهم ومبشر به عندهم ومصدق لما معهم ، على أن دلائل الرسالة عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوضح من غيرها فهو الأمى العربي الذي نشأ في الجاهلية ثم أنزل عليه القرآن الكامل في كل شيء (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة آية ٢].

ألست ترى أن الرسل وكتبهم كأمراء الأقاليم ، والقوانين التي تصدر إليهم من الرئيس الأعلى ، والشعب ملزم بطاعة الرئيس وقانونه ، حتى إذا انتهت مدته وجاء رئيس آخر

٤٥١

بقانون آخر وجب أن يترك السابق ويؤمن بالجديد وهكذا فالله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (١) أرسل رسله قديما بالهدى ودين الحق حتى ختم الرسالة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقران دستوره الباقي ما بقيت الأرض والسماء (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٢) فالواجب اتباعه والإيمان به.

والمسلمون هم الذين يؤمنون بالله ورسله ولا يفرقون بين أحد من رسله إيمانا خالصا لله ، أولئك سوف يؤتيهم ربهم أجورهم كاملة يوم القيامة ، وكان الله غفورا لمن يأتى بهفوة مع الإيمان الصحيح ، رحيما بعباده جميعا ، حيث أرسل لهم الرسل لهدايتهم الطريق المستقيم.

من قبائح اليهود وأفعالهم

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ

__________________

(١) سورة الروم الآية ٢٧.

(٢) سورة المائدة الآية ٤٨.

٤٥٢

بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)

المفردات :

(جَهْرَةً) المراد : رؤية جهرة. (الصَّاعِقَةُ) : نار تنزل من السماء ، والظاهر أنها الشرارة الكهربائية التي تظهر في السماء. (الْبَيِّناتُ) : الدلائل الواضحة على نبوة موسى : كفلق البحر ، واليد البيضاء ، والعصا. (الطُّورَ) : اسم الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله. (سُجَّداً) المراد : خاضعين متذللين. (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) : لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ، أو لا تظلموا أنفسكم بالصيد فيه. (غُلْفٌ) : جمع غلاف ، وهو الظرف ، والمراد : أوعية العلم فليست في حاجة إلى ما نقول ، ويصح أن يكون جمع أغلف ، والمراد : مغطاة بأغطية خلقية لا يصل إليها شيء مما نقول. (طَبَعَ اللهُ عَلَيْها) : ختم عليها بالخاتم.

وقيل صارت كالنقود المسكوكة فلا تقبل غير النقش الذي عليها. (بُهْتاناً) : كذبا يبهت صاحبه عند سماعه ويتعجب منه.

المعنى :

يسألك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم ، وقيل : ينزل باسم جماعتهم أو أسماء الأحبار منهم ، وهذا الطلب دليل على عدم فهمهم حقيقة الرسالة (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ

٤٥٣

لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١) يسألك هؤلاء اليهود على سبيل التعنت والتعجيز ، ولا تعجب أيها الرسول من سؤالهم ولا تستكثره عليهم فقد سألوا موسى قديما أكبر من هذا ، وقالوا : أرنا الله رؤية جهرة عيانا بلا حاجز ولا حجاب ، وقد مر كثيرا أن فعل آبائهم ينسب إلى المعاصرين منهم ، لأنهم وارثوهم ومقلدوهم ومعتزون بهم ، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة ، وقيل : إن أهل الكتاب جنس عام يدخل فيه المعاصرون وآباؤهم ... وسؤالهم رؤية الله عيانا يدل على جهلهم بالله وما يجب له من صفات الكمال ، إذ كيف تحيط به الأبصار والعيون؟ لذا كان أكبر جرما من سؤالهم كتابا من السماء ، وقد عوقبوا على هذا الطلب بنزول الصاعقة (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة ٥٥].

ثم هم بعد أن ماتوا بالصاعقة أحياهم الله فاتخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم الآيات البينات الواضحات ، كالعصا وفلق البحر وغيرها من الحجج القوية التي تثبت الألوهية والوحدانية لله ـ سبحانه وتعالى ـ فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا منه تلك التوبة النصوح ، وآتينا موسى سلطانا مبينا وحجة قوية حيث طلب منهم القتل فقتلوا أنفسهم (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة آية ٥٤].

ومن عجائب أحوالهم أن الله أخذ عليهم الميثاق. وكلفهم بالشريعة ورفع فوقهم الطور بسبب هذا الميثاق ليأخذوه بقوة ونشاط. وقد كان رفع الطور فوقهم من الآيات الكونية ، حتى يؤمنوا ، ولكنهم اليهود وكفى!!

وقلنا لهم : ادخلوا باب القرية (والله أعلم بها) خاضعين لله متذللين له ذلة وانكسارا لعظمته وجبروته ، وقلنا لهم ، لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم ، ولا تصطادوا يوم السبت ـ وقد كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرعا ـ ابتلاء لهم واختبارا ، فظلموا أنفسهم واصطادوا فيه (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة ٦٥]. وأخذنا منهم ميثاقا شديدا ليأخذنّ التوراة بقوة وجد ،

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٧.

٤٥٤

وليعملن بها ، ولا يكتمون بشارة عيسى ابن مريم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى أنهم بعد ما قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله يعذبهم بأى نوع من العذاب وهذا هو الميثاق المؤكد.

ثم انظر بعد هذا الميثاق المؤكد والعقود الموثقة ماذا هم فاعلون؟؟

لقد سجل القرآن عليهم هنا أقبح المخالفات وأشد العناد فقال ما معناه : فبسبب نقضهم الميثاق الذي واثقهم الله عليه ، فقد أحلوا حرامه وحرموا حلاله ، وبكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم ير سواهم ، وبسبب قتلهم الأنبياء بغير ذنب إلا أنهم قالوا : ربنا الله ، قتلوهم بغير حق كزكريا ويحيى ـ عليهما‌السلام ـ وبسبب قولهم : قلوبنا في غلاف فلا يصل إليها شيء مما تدعون إليه ، أو هي أوعية مليئة بالعلم فليست في حاجة إلى شيء!! لا بل طبع الله على قلوبهم بكفرهم وختم عليها فلا يصل إليها نور الهدى فهي كالنقود المضروبة لا تقبل نقشا آخر ، ولذلك فهم لا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه.

وبكفرهم بعيسى والإنجيل ورميهم بالفاحشة مريم البتول رموها بيوسف النجار وكان صالحا فيهم ، ولا شك أن هذا بهتان يبهت من يقال فيه ويدهش عند سماعه لبعده عن الحق وغرابته ، وبادعائهم أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ووصفهم له بالرسالة تهكما به ووصف القرآن له بأن ابن مريم رسول الله للرد على من يزعم من النصارى أنه الإله أو ابنه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وما قتلوه ، وما صلبوه : كما زعموا وادعوا وشاع بينهم ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوه والواقع أنهم صلبوا شخصا غيره .. وكيف يقتل عيسى والله قد عصم أولى العزم من الرسل جميعا فنجى نوحا من الغرق ، وإبراهيم من النار ، وموسى من فرعون ، وعيسى من اليهود ، ومحمدا من المشركين.

وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي شك منه وحيرة ، ما لهم به من علم قاطع بقتله ، لكنهم يتبعون الظن والشك في أمره ، ويرجحون هذا على ذلك بالظنون والشبه لا بالعلم القاطع.

وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى ، أنه قال لتلاميذه والمقربين إليه ، وفي الليلة التي طلب فيها للقتل «كلكم تشكون في هذه الليلة».

٤٥٥

وقيل : اختلافهم قولهم : إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا؟

وما قتلوه قتلا يقينا ، لأن الجند الذين قاموا بقتله من الثابت أنهم كانوا يعرفون شخص المسيح ، وقد مات في شبه ثورة.

وفي الأناجيل الموجودة الآن ، أن الذي سلمه هو يهوذا الأسخريوطى ، وفي بعض الأناجيل أن الجند أخذوا يهوذا نفسه ظنا منهم أنه المسيح ، فالذي لا خلاف فيه أن الجند ما كانوا يعرفون عيسى وأنهم قتلوا شخصا هل هو المسيح أو شخص يشبه إلى أبعد حد. وقيل : المعنى ما قتلوا العلم يقينا من جهة البحث والنظر في أمر قتله وصلبه.

رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ :

المسلمون يعتقدون كما أخبر القرآن أن عيسى لم يقتل ولم يصلب (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) وأنه نجاه من الذين مكروا به (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) وهذا هو معنى (متوفيك) عند بعض العلماء ، أى : موفيك أجلك كاملا وعاصمك من الناس كغيرك من الأنبياء ، وهل هو بعد النجاة رفع إلى السماء بروحه وجسده أو رفع بروحه فقط ، وأما جسده فانتهت حياته كغيره من الناس؟ أو لم يحصل له رفع لا بالروح ولا بالجسد؟ ويتبع ذلك تفسير قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) (٢) أما جمهور المفسرين : فيرون أن الله رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء وسينزل آخر الزمان يحكم بالقرآن ويقتل الخنزير ويكسر الصليب بدليل الآية الآتية (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وكما هو ثابت في حديث البخاري. وهناك آراء أخرى في رفع عيسى إلى السماء ، والقرآن الكريم لا يثبت الرفع ولا ينفيه (والله أعلم بكلامه) وكان الله عزيزا لا يغالب أبدا ، فهو الذي أنقذ عيسى من كيد اليهود وعصم محمدا من الناس جميعا ، حكيما في كل فعل وعمل.

وما من أحد من أهل الكتاب سواء كان يهوديا أو نصرانيا إلا ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا قبل موته ، أى : عند خروج روحه بلا إفراط ولا تفريط ، فاليهودى يؤمن أنه

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٥٤.

(٢) سورة آل عمران الآية ٥٥.

٤٥٦

رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والنصراني يؤمن بأنه رسول الله وعبده وكلمته فليس إلها ولا ابن الإله.

وإذا كان حالهم هكذا قبل الموت ولا ينفعهم الإقرار حينئذ فما بالهم لا يسرعون في الإيمان بعيسى إيمانا صحيحا؟

وقيل : وما من أهل الكتاب أحد من المعاصرين لنزول عيسى آخر الزمان إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته ، أى : موت عيسى أو موت ذلك الكتابي ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ، يشهد بإيمانهم به وبكفرهم (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [سورة النساء آية ٤١].

ودعاة المسيحية : يقولون بصلب المسيح ـ عليه‌السلام ـ وينسجون لهذا قصة الخطيئة الخاصة بأبينا آدم وأن العدل والرحمة تقاتلا حتى انتهى الأمر إلى صلب المسيح كفارة لخطايا شعبه أو للعالم ... إلخ ، ما هو مدون في كتبهم ، ونحن إذ ننكر هذه العقيدة لا نقول باستحالتها على عيسى كبشر وإنما لأن القرآن نفاها نفيا باتا (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ).

على أن مسألة القتل ، لا مجال للعقل فيها ، بل لا بد أن نستقيها من مصدر صحيح ، يكون موضع الثقة ، ونحن المسلمين نقلنا نفى القتل والصلب عن القرآن.

وهو الكتاب الوحيد الذي نقل بالتواتر نقلا سليما لا شبهة فيه لأى منصف بدليل أنه لا يختلف في أى بلد من بلاد العالم في كلمة ؛ وأما الكتب الأخرى التي فيها الصلب فهي كتابة أفراد لم تنقل بالتواتر وليس مصدرها واحدا ولذا نراها مختلفة جدا في الشكل والموضوع اقرءوا إن شئتم إنجيل برنابا وبعض الأناجيل الأخرى ؛ وهل من كتب من أتباع المسيح بالصلب شاهده أو هو خبر يحتمل الصدق والكذب؟؟!

وكيف يتصور عاقل أن قوما يؤمنون بأن عيسى إله أو ابنه أو واحد من ثلاثة ثم يؤمنون مع هذا بأنه صلب على خشبة مع اعترافهم بأن المسيح تألم وبكى من هذا القتل وتضرع إلى الله أن يكشف عنه هذا السوء فقد ورد في الإنجيل : (يا أبتاه إن أمكنك فلتعبر عنى هذه الكأس إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك).

٤٥٧

ثم كيف يتصور عاقل قصة الخطيئة وصلب عيسى كفارة؟ ـ وفيها :

(أ) طول تفكير الإله من وقت خطيئة آدم إلى قبيل ظهور عيسى ، بل كيف نتصور العراك والنزاع بين العدل والرحمة!! ما شاء الله ما شاء الله!!!

(ب) وكيف نحكم على أمثال أبينا إبراهيم الخليل وقد مات قبل ظهور المسيح وصلبه أمات عاصيا لم تكفر ذنوبه!

(ج) وكيف يبيح شرع لأتباعه أن يرتكبوا كل شيء لأن نبيهم عيسى صلب تكفيرا لخطاياهم ، إن هذا لشيء عجيب!! (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة آية ١٤٦] وأعجب من هذا إيمان كثير من المسيحيين بتلك الخرافات.

بعض قبائحهم وجزاؤهم عليها

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)

المفردات :

(هادُوا) : تابوا ورجعوا بعد عبادة العجل. (بِصَدِّهِمْ) : منعهم. (الرَّاسِخُونَ) : الثابتون في العلم المتقنون له.

٤٥٨

المعنى :

كان اليهود قديما كلما ارتكبوا ذنبا خاصة بعد ما تابوا من عبادة العجل ، حرم الله عليهم نوعا من الطيبات التي كانت حلالا لهم ولأسلافهم من قبل ، فبسبب هذا الظلم الذي لا يعرف كنهه إلا الله حرم عليهم ما حرم ، ومع هذا كانوا يفترون على الله الكذب ويقولون : هذه المحرمات كانت جراما علينا وعلى نوح وإبراهيم ومن بعدهما ، ولذا كذبهم الله تعالى في كثير من الآيات : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ) [آل عمران ٩٣]. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) [سورة الأنعام آية ١٤٦] .. ثم شرع القرآن في بيان مجمل الظلم الصادر منهم فقال : وبسبب صدهم عن سبيل الله كثيرا من الناس لقد منعوا أنفسهم وغيرهم من الإيمان بالله بسبب عصيانهم موسى وعنادهم مرارا ، وبالقدوة السيئة لغيرهم في الكفر ، وأمرهم بالمنكر ، ونهيهم عن المعروف ، وكتمانهم البشارة ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبسبب أخذهم الربا من غيرهم وأكله معتقدين حله ، وقد كتب في التوراة المحرفة : إن الربا حلال مع غير اليهود حرام مع اليهود ، وبسبب أكلهم أموال الناس بالباطل من طريق الرشوة والنصب والاحتيال والغش (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (١) وجزاء هؤلاء الظلمة لأنفسهم ولغيرهم أن الله هيأ للكافرين منهم عذابا ذا إهانة وذل لهم في الدنيا والآخرة ، وقد ذكر أن تحريم الطيبات كان عاما ، أما العذاب فكان للمصرين منهم على الكفر ، وبعد أن بيّن الله قبائحهم وجزاءهم عليها! وأنه شامل للكل استدرك على ذلك بقوله :

لكن الراسخون في العلم الثابتون فيه ، الذين لا يشترون الضلالة بالهدى ، وهم المنتفعون به المؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل عليك ، وبما أنزل على من قبلك من الرسل ، وهم لا يفرقون بين أحد منهم ، وأخصّ المقيمين الصلاة المؤدين لها تامة الأركان ، مستوفية الشروط بالجوارح والقلب ، والمؤتون الزكاة لمن يستحقها ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا فلا يقولون : عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ، ولا يقولون : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة أولئك البعيدون في درجات الكمال سيؤتيهم ربهم أجرا لا يعلم قدره إلا هو ، أجرا عظيما من عنده.

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٤٢.

٤٥٩

وحدة الوحى وحكمة إرسال الرسل

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦)

المفردات :

(أَوْحَيْنا) الإيحاء يأتى في اللغة على معان ، منها : الإشارة كقوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) والإلهام : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) وعلى ما يكون غريزة : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) وعلى الإعلام في خفاء : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) والمراد بالإيحاء في الآية ما يلقى إلى الأنبياء من عند الله. (الْأَسْباطِ) جمع سبط ، وهو : ولد الولد ، والمراد : أبناء يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده. (زَبُوراً) : مكتوبا ، وكل كتاب زبور ، والمراد به : الكتاب المنزل على داود عليه‌السلام.

٤٦٠