التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

حددوها بمسيرة ثلاثة أيام بلياليها على القدم أو على البعير وحددت الآن بالكيلومتر حوالى ٨١ كيلو متر ، وبعضهم يرى القصر مع أى سفر كان.

إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بمعنى أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح ، قال العلامة أبو السعود في تفسيره : «وهذا شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة ، وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته» وقد روى عن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه سئل عن قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وعن أمن الناس فقال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».

فالظاهر ـ والله أعلم ـ أن السفر مطلقا يقتضى القصر ، وقوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ) كقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (١) حيث إن الإكراه حرام مطلقا أردن التحصن أم لم يردن.

إن الكافرين كانوا لكم عدوّا مبينا ظاهرا فاحذروهم في السفر والإقامة ... ولقد ذكر القرآن الكريم كيفية صلاة الخوف بعد ذكرها مجملة ، وأنه لا إثم فيها لأنها تزيد على صلاة القصر بكثرة التغير عن الهيئة العامة مع القصر.

وإذا كنت يا محمد فيهم ـ وكذلك كل إمام قائم مقامك ـ فأقمت لهم الصلاة وناديتهم لها بالأذان والإقامة. فالواجب أن يقسم الجيش طائفتين ، فلتقم طائفة منهم معك في الصلاة وليأخذوا أسلحتهم معهم حتى لا يحتاجوا إلى مجهود عقب الصلاة ، وربما باغتهم العدو فيكونون على استعداد ، فإذا سجدوا فليكن الذين يحرسون من ورائكم في اتجاه العدو مستعدين لرده إن حدثته نفسه بالاعتداء ، والظاهر أن المراد بالسجود هنا إتمام الصلاة ، فإذا أتمت الطائفة الأولى صلاتها وأنت واقف في أول الركعة الثانية فلتأت الطائفة الثانية التي كانت حارسة ، وتقتدى بك وتأخذ حذرها وأسلحتها ، ولعل الحكمة في الأمر بأخذ الحذر لها أن العدو قد يكون تنبه في صلاة الطائفة الأولى فمن الحكمة أن تحذر الثانية وتتنبه ثم تصلى بها الركعة الثانية لك وتنتظرها في جلوس التشهد الأخير حتى تقوم هي وتصلى الركعة الثانية لها ثم تسلم بها ، وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتكبير مع الإمام والثانية بالتسليم معه.

__________________

(١) سورة النور آية ٣٣.

٤٢١

ولصلاة الخوف أحكام كثيرة في كتب الفقه وصفات الصلاة كلها تدور حول الآية وتختلف باختلاف ما إذا كان العدو في جهة القبلة أو غيرها.

والحكمة العامة في الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة ، أن الكفار يودون من صميم قلوبهم أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم ولو بانشغالكم في الصلاة ، فينقضون عليكم ويميلون عليكم ميلة واحدة بالقتل والنهب ولكن الله يريد لكم النصر والغلبة ، فيأمركم بالاستعداد والحذر.

ولا جناح عليكم إذا كان بكم أذى كمطر أو مرض أو عذر أن تضعوا أسلحتكم مع أخذ الحذر والاستعداد للعدو ، ولتعلموا أن النصر لكم ما نصرتموه. وأن الله يدافع عنكم إذا دافعتم عن قرآنه ودينه ، وأنه أعد للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدنيا والآخرة.

وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ذات الرقاع ما معناه أنه صلّى بطائفة ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم الركعة الثانية وسلموا وانصرفوا تجاه العدو ، وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت لهم ثم أتموا فسلم بهم.

وقال بهذه الصلاة أكابر الصحابة ومالك والشافعى رضى الله عنهم جميعا.

فإذا أديتم الصلاة ـ أى : صلاة الخوف ـ فاذكروا الله في أنفسكم بتذكر نعمه ، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء في أى حال تكونون من قيام وقعود واضطجاع.

وإذا كنا مأمورين بالذكر في الحرب على كل حال ولا عذر في تركه!! فما بالنا في السلم ، فإذا اطمأننتم بانتهاء الحرب أو الحلول في دار الإقامة بعد السفر فأقيموا الصلاة كالمعتاد تامة الأركان والشروط ، إن الصلاة عماد الدين قد فرضها الله فرضا ثابتا كالكتابة في اللوح ، موقوتا بأوقات معلومة ، فلا يصح أن يترك وقتها أبدا حتى في الحرب وساعة الخوف (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة آية ٢٣٩].

وإتمام صلاة الخوف بالجماعة يدل على أن الجماعة مطلوبة في أشد الأحوال.

٤٢٢

في الحث على القتال أيضا

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

المفردات :

(وَلا تَهِنُوا) : لا تضعفوا. (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) : في طلب القوم ورد عدوانهم.

المعنى :

يرشدنا الله إلى أننا لا نضعف ولا نهن في طلب القوم الذين ناصبونا العداء. وجاهرونا بالبغضاء ، إن كنتم تتألمون من الحرب وشدتها فإنهم كذلك يتألمون مثلكم ولكنكم تنتظرون إحدى الحسنيين وترجون من الله نصرة دينه ، وفوز حزبه والثواب الجزيل على حرب الأعداء ، وكان الله عليما حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه.

وهذا من باب تقوية الروح المعنوية ، وشحذ العزائم بالنسبة لمن يتربص بالإسلام الدوائر ، ويناصبونه العداء بل ويعتدى علينا بالفعل.

أما من لم يقاتلنا في الدين ولم يخرجنا من ديارنا فلا جناح علينا أن نبرهم ونقسط إليهم ، ونعاملهم معاملة حسنة ، وصدق الله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة آية ٨)

٤٢٣

حفظ الحقوق وعدم المحاباة في الأحكام

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)

٤٢٤

المفردات :

(لِلْخائِنِينَ) : الذين يخونون أنفسهم بارتكاب المعاصي. (وَلا تُجادِلْ) المجادلة : أشد أنواع المخاصمة. (خَوَّاناً أَثِيماً) : مبالغا في الخيانة وركوب الآثام. (يَسْتَخْفُونَ) : يستترون من الناس حياء وخوفا. (يُبَيِّتُونَ) : يدبرون ، والأكثر أن يكون هذا ليلا. (وَكِيلاً) : حفيظا يوكل إليه الأمر في الحفظ والحماية. (خَطِيئَةً) : ذنبا بلا قصد ، والإثم : الذنب المقصود. (يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) : يقذفه به ويسنده إليه. (بُهْتاناً) : كذبا يبهت الغير ويجعله يتحير عند سماعه.

سبب النزول :

روى أن طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر من الأنصار سرق درعا ـ من جار له ـ في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه ، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود ، فالتمسوا الدرع عند طعمة فلم يجدوها وحلف بالله ما أخذها ، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها ، فقال : دفعها إلىّ طعمة ، وشهد له ناس من اليهود بذلك ولكن طعمة أنكر ذلك ، فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله ، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرىء اليهودي فهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي ، فنزلت. وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ، وقد سقط عليه حائط في سرقة فمات.

المعنى :

أراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يأمر رسوله بإقامة العدل والحكم بما أنزل الله ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المكان الذي نعرفه ، فما بال الناس والحكام غيره؟! إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن هاديا إلى صراط الله العزيز الحكيم ، وهو الحق من عنده ، والحق في خيره وطلبه وحكمه ، أنزله لتحكم بين الناس بما علمك الله وأرشدك إليه ، فاحكم بين الناس به ، ولا تكن لمن خان نفسه وغيّر ضميره مخاصما ومدافعا تدافع عنه وترد من طالبه بالحق.

٤٢٥

فعلى الحكام أن يبحثوا في القضية ، ويدققوا النظر في شكلها وموضوعها ، ولا تغرنهم بلاغة الخصم ولحنه في القول ، ولا تأخذهم العاطفة الدينية أو الجنسية فيميلوا لبنى جنسهم أو دينهم ، ولعل السر فيما دار في خلد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن طعمة المسلم يغلب عليه الصدق ، وذاك اليهودي يغلب عليه الكذب والخداع.

والثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول القرآن ولم يعمل بغير ما يعتقد لكنه أحسن الظن في المسلم ، فبين له علام الغيوب حقيقة الأمر.

واستغفر ـ يا محمد ـ الله مما يعرض لك من شئون البشر وميلك إلى من هو ألحن بحجة أو إلى من هو مسلم لإسلامه فهذا وإن لم يكن ذنبا إلا أنه في صورة الذنب. إن الله كان غفورا لذنوب عباده ، ستارا رحيما بهم.

ولا تجادل ـ يا محمد ـ عن الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير ، إن الله لا يحب بل يبغض من كان كثير الخيانة دائبا على ارتكاب الإثم ، واجتراح السيئة!! والخيانة مطلقا تقتضي عدم المحبة من الله لصاحبها ، ولكن الوصف المبالغ فيه في الآية لبيان ما كان عليه من طعمة وأقاربه ، هؤلاء وأمثالهم الذين يأخذون المال خفية يستخفون من الناس ، ويستترون منهم حياء وخوفا ، ويا للعجب العجاب!! يستخفون من الله عالم الغيب والشهادة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وبالضرورة يعلمهم ويشاهدهم وقت أن يدبروا ليلا ما لا يرضى الله ورسوله ، تبرئة لأنفسهم ولصاحبهم ولرمي غيرهم بالجريمة وهم يعلمون أنه برىء ، وما ذاك إلا لضعف دينهم ولصدأ قلوبهم ، وكان الله بما يعملون محيطا وحافظا لهم ، فكيف ينجون من عقابه؟

أيها الأقارب لطعمة : ها أنتم أولاء جادلتم عن صاحبكم ومن وقف معه تبرئة له ، زورا وبهتانا ، جادلتم في الدنيا ، فمن يجادل عنهم يوم القيامة؟ يوم تكشف السرائر ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله؟ بل من يكون عليهم وكيلا ومدافعا عنهم؟ لا أحد إلا أعمالهم تنطق عليهم ، فلينظر كل إلى عمله.

ومن يعمل سوءا يتعدى جرمه إلى غيره أو يظلم نفسه بفعل معصية خاصة ، ثم هو يرجع إلى الله ويتوب نادما على فعله فإنه يجد الله غفورا رحيما يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، فلا تيأسوا من رحمته ، ومن يفعل

٤٢٦

إثما ويرتكب جرما ظنّا منه أنه كسب لنفسه شيئا فإنما مكسبه وبال وضرر عليه لا يتعداه إلى غيره ، فليبق على نفسه من كسب السوء ، وليعلم أن الله عليم به ، وحكيم في وضعه العقاب الصارم للمذنب.

ومن يكسب ذنبا خطأ بلا قصد أو ذنبا آثما فيه وقاصدا له ثم يجنى جناية أخرى بأن يرمى به شخصا بريئا لا ذنب له مهما كان دينه وجنسه ولونه ، فقد احتمل بشدة وألم بهتانا حيث كذب على الله في ادعائه البراءة واتهامه البريء الذي يبهت ويتحير عند سماعه هذا الاتهام ، وقد احتمل إثما في ارتكاب الذنب.

فانظر يا أخى كيف ينشد الإسلام العدالة حيثما كانت ويطبقها على المسلم وغيره!! ولو لا فضل الله عليك يا محمد أنت وأمتك ورحمته بك وأنه عصمك من الوقوع في الخطأ العملي والقولى ، ويمنع عنك أذى الأشرار الذين يحاولون إضلالك وتلبيس الحق بالباطل وإخفائه عليك ، لهمت طائفة منهم أن يضلوك ، فإن الإنسان مهما كان إذا أحيط بجماعة كهؤلاء يحتاج إلى بحث وفكر حتى يميز حقهم من باطلهم ، ويكشف حيلهم ويرد كيدهم ، ومن ثم تفضل الله بزحزحة الأشرار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصرف كيدهم عنه حتى يسير على طريق الله وهدى القرآن والنور الذي أنزل عليه كاشفا له الحقائق ليكون حكمه سليما عادلا.

والواقع أنهم بهذا لا يضلون إلا أنفسهم ، إذ الوزر عليهم فقط ، وما يضرونك أبدا وقد عصمك الله من كل مكروه وأنزل عليك القرآن ، والحكمة ـ وهي فقه مقاصد الدين وأسراره ـ وعلمك ما لم تكن تعلم قبل ذلك ، ولا غرابة ففضل الله عليك عظيم إذ أرسلك للناس كافة وجعلك خاتم الأنبياء ، وشهيدا عليهم يوم القيامة ، وعصمك من الناس ، وجعل أمتك وسطا ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

٤٢٧

إرشادات

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)

المفردات :

(نَجْواهُمْ) : مسارتهم بالحديث. (أَوْ مَعْرُوفٍ) : ما يعرفه الشرع ويقره العقل. (يُشاقِقِ) المشاقة : المعاداة والمخالفة ، وذلك أن كل واحد من المتعادين يكون في شق.

سبب النزول :

نزلت في تناجى أهل طعمة ليلا بالفساد وتعاونهم على الشر وروى أن طعمة ارتد ومات مشركا فنزلت آية (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) في حقه.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ولكن تناجوا بالبر والتقوى وفعل الخير والمعروف ، وذلك أن التناجي وحديث السر مظنة لارتكاب الإثم : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) (١) إذ «الإثم ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه غيرك»

__________________

(١) سورة المجادلة آية ١٠.

٤٢٨

(حديث شريف) ، ولما كان التناجي قد يكون في الأمور العادية كالزراعة والتجارة مثلا ، وفيما يضر شرعا قال الله : لا خير في كثير من تناجى الناس إلا نجوى من أمر بصدقة أو بما تعارف عليه الشرع من كل خير عام ، أو بإصلاح بين الناس في الخصومة والنزاع ، والخيرية في هذه الأشياء الثلاثة إنما يكون في السر دون الجهر : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (١) وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا ما كان في السر كان أجدى لمن يسدى له النصيحة ، والإصلاح بين الناس قد يكون في السر أدعى لإزالة الخصومة وسل السخيمة وتقريب الشقة.

ومن يفعل ذلك بقصد طلب الرضا من الله بأن يكون الدافع له على هذا العمل في السر الرغبة في رضوان الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما والله أعلم به.

ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهاره عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسان رسوله ، ويعادى سنته ويتبع غير سبيل المؤمنين ويخالف إجماعهم وما اتفقوا عليه فجزاؤه أن الله يوليه ما تولى ويتركه يتخبط في دياجير الظلام والضلال : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [سورة الصف آية ٥] وجعل النار مصيرهم وساءت مصيرا ، ويمكن أن نفهم من هذه الآية أن الوجهة التي يتوجه إليها الإنسان ويرضاها لنفسه يوليه الله إياها ويسيره في طريقها ، وعلى ذلك فاستحقاقه العقاب أمر طبيعي لاختياره طريق الشر وبعده عن الصراط المستقيم.

الشرك وخطره ، والشيطان وأثره

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٧١.

٤٢٩

وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢)

المفردات :

(يَدْعُونَ) : يتوجهون ويطلبون المعونة ، وهذا نوع من العبادة. (شَيْطاناً) قيل : إنه الخبيث من الجن والإنس. (مَرِيداً) : متمرنا على الخبث والخبائث. (لَعَنَهُ) : طرده من الرحمة مع السخط والإهانة. (مَفْرُوضاً) : معينا ثابتا. (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) : لأدفعنهم إلى الضلال والفساد. (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) : أزين لهم الأمانى الباطلة المبنية على غير أساس. (فَلَيُبَتِّكُنَ) البتك : القطع ، والمراد قطع آذان الأنعام لأجل تمييزها للآلهة. (مَحِيصاً) : مهربا ومخلصا.

المناسبة :

بين الله جزاء العصيان والخروج عن الشرع ومشاقة الرسول والمؤمنين ، وهنا بين أن الله لا يغفر الشرك به أصلا ويغفر غيره لمن يشاء ، وهذا تحذير وإطماع.

المعنى :

الشرك بالله لا يصدر عن قلب فيه مثقال ذرة من إيمان ، ولذلك لا يغفر الله الشرك أصلا ، ولكنه يغفر ما دون ذلك ـ لأن القلب فيه بقية من نور الإيمان ـ لمن يشاء من

٤٣٠

عباده الذين تابوا إلى الله وأنابوا إليه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١) والقرآن الكريم ساق مثل هذه الآية قريبا تسجيلا لفظاعة جرم الشرك بالله بالنسبة لغيره من المعاصي ، وليس هناك تكرير للآية وإنما هو مبدأ قرآنى وقاعدة مهمة في الدين تذكر عند ما يناسبها كرأى السياسى أو مذهبه الذي يذكره ويكرره في كل خطبة مع ما يناسبه من قول محكم ومعنى دقيق ، ومن يشرك بالله شيئا من الإشراك في القول أو الفعل أو الاتجاه أو التقديس فقد ضل ضلالا بعيدا عن الخير والرشد ، ما يعبدون بدعائهم غير الله إلا أمواتا لا ينفعون ولا يضرون بل (إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٢) وقيل : سماها إناثا لأنها اللات والعزى ومناة ، وما يدعون بذلك إلا شيطانا متمرنا على الإيذاء والخبائث لعنه الله وطرده من رحمته مع الذل والهوان ، فإنه داعية الشر والفساد ، ولذا يقسم : لأتخذن من عبادك جزءا من الناس معينا (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣) وقيل : ما من إنسان إلا وفيه استعداد للخير وللشر ووسوسة الشيطان وهذا معنى (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٤) ولأضلنهم وأصرفنهم عن العقائد الصحيحة والطرق المستقيمة مغريا لهم بالأمانى الباطلة ، كما إذا وسوس لإنسان بارتكاب المعاصي وغره بالمغفرة أو الشفاعة ... إلخ ، من الأمانى الكاذبة ، وهذا ديدن الشيطان وطبعه إضلال العباد وملء عقولهم بالأمانى الباطلة ، ولآمرنهم بكل سوء وضار فليقطعن آذان الأنعام للآلهة كما كانوا يفعلون في البحيرة من شق الآذان أو قطعها.

ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي الاهتداء إلى الحق والدين الصحيح (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (٥) إذ «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه» (حديث شريف).

وقيل : المراد بتغيير خلق الله الأمور الحسية كالخصاء وغيره ، وقد روى المعنيان عن السلف الصالح ، ومن يتخذ الشيطان وليّا وإماما من دون الله فقد باء بالخسران المبين ، وهل هناك خسران أكثر من ترك هدى القرآن واتباع أساليب الشيطان؟

__________________

(١) سورة الشمس الآيتان ٩ و ١٠.

(٢) سورة الحج آية ٧٣.

(٣) سورة ص الآيتان ٨٢ و ٨٣.

(٤) سورة البلد آية ١٠.

(٥) سورة الروم آية ٣٠.

٤٣١

وهو يعدهم الباطل ويمنيهم بالكاذب ، يعدهم بالفقر والمرض والتأخر والبعد عن الحضارة ويمنيهم الأمانى الواسعة الكاذبة ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وباطلا ، أولئك المتبعون للشيطان التاركون للقرآن مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ولا مهربا وبئس المصير مصيرهم.

والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات ولم يقترفوا المنكرات وخالفوا أنفسهم وشياطينهم وكانوا من عباد الله المخلصين الذين قوى الله إيمانهم وأنار بصيرتهم أولئك سيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ولهم فيها ما يدّعون (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (١) وعد الله ومن أصدق من الله حديثا؟ فانظر يا أخى ـ رعاك الله ووفقك ـ أين أنت من هؤلاء وأولئك!؟ وهل أنت من حزب الرحمن؟!!

الأمانى وعاقبتها ، والعمل وجزاؤه

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)

__________________

(١) سورة فصلت آية ٣٢.

٤٣٢

المفردات :

(بِأَمانِيِّكُمْ) الأمانى : مفردها أمنية ، وهي تمنى الشيء المحبوب. (وَلِيًّا) : يتولى أمره ويدافع عنه. (نَقِيراً) : هو النقرة في النواة ، ويضرب بها المثل في القلة. (حَنِيفاً) : مائلا عن الزيغ والضلال. (خَلِيلاً) الخليل : المحب الذي يدفع الخلة ، أى : الحاجة عن صاحبه وقد تخللت محبته قلبه.

المناسبة :

مر أن الشيطان يعد أصحابه ويمنيهم الأمانى الكاذبة وقد كان لهذا أثر في نفوس أهل الكتاب وبعض ضعاف الإيمان من المسلمين فناسب بيان حقيقة الأمانى وأثرها والعمل وجزائه.

المعنى :

ليس الثواب يوم القيامة يحصل بالأمانى منكم أيها المسلمون أنتم وأهل الكتاب ، ولكن الثواب المعد في الآخرة إنما هو منوط بالعمل ، فمن يعمل مثقال ذرة من سوء يجز به الجزاء المساوى لعمله حسبما وعد الله ، ولا يجد له من غير الله وليا يتولى أمره أو يدافع عنه ولا نصيرا ينصره يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ومن يعمل مثقال ذرة من الصالحات سواء كان ذكرا أو أنثى عربيا أو عجميًّا وقد جمع مع ذلك الإيمان الخالص بالله ورسوله فأولئك يدخلون الجنة التي وصف لهم بعض ما فيها في القرآن وصفا قريبا من المشاهد المحسوسة حتى تتصوره عقول البشر ، ولا يظلم أحد نقيرا ، والنقير مثل في القلة ، والله أرحم الراحمين لا يظلم أحدا من العالمين ، ولا يزيد في عقاب المقصرين (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) وبعد أن بيّن ـ سبحانه ـ أن الجزاء منوط بالعمل لا بالأمانى ولا الغرور الكاذب أردف ذلك بذكر درجات الكمال فقال :

لا أحد أحسن دينا من دين من أسلم وجهه لله وجعل قلبه خالصا له ، وفوض أمره إليه لا يعرف رباّ سواه وبالطبع لا أحد يساويه ، وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه

__________________

(١) سورة الزلزلة آية ٨.

٤٣٣

لأن الوجه هو المرآة لما في القلب ، ومع هذا الإيمان الكامل هو محسن للعمل ، والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، واتبع ملة إبراهيم وطريقته حالة كونه حنيفا ومائلا عن الشرك ، فهو الذي تبرأ من الوثنية وأهلها (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

(وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) جملة اعتراضية تفيد مبلغ تفانى إبراهيم الخليل في الذات العلية وإخلاصه في إيمانه إخلاصا جعله خليل الرحمن عدو الشيطان ، وقد اختصه الله بكرامات ومنزلة يشبه بها الخليل لدى خليله ، ومن كان كذلك كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته.

واعلموا أن لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعبيدا ؛ فهو القادر على جزاء العاملين خيرا أو شرا. إذ الكل ملكه فلم يخرج أحد من ملكوته ، وهو المستحق للطاعة والعبادة وحده ؛ إذ هو المالك ومن عداه مملوك ، ولم يتخذ إبراهيم خليلا لحاجة ؛ إذ له ملك السموات والأرض وما فيهن ، وإبراهيم عبد خاضع ، والمولى سيد قاهر جل شأنه ، وكان الله بكل شيء محيطا بعلمه وقدرته وتدبيره وخلقه.

حقوق الضعفاء وعلاج المشاكل الزوجية

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)

__________________

(١) سورة الزخرف آية ٢٦ ـ ٢٨.

٤٣٤

وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)

المفردات :

(يَسْتَفْتُونَكَ) : يطلبون منك الفتيا. (يُفْتِيكُمْ) : يبين لكم ما أشكل من أمورهن. (ما كُتِبَ لَهُنَ) أى : فرض لهن من ميراث وصداق. (وَأَنْ تَقُومُوا) : وأن تعنوا عناية خاصة بهن. (بِالْقِسْطِ) : العدل. (خافَتْ مِنْ بَعْلِها) : توقعت من زوجها. (نُشُوزاً) : تكبرا وتعاليا. (إِعْراضاً) : ميلا. (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) : جعلت مطبوعة عليه وحاضرة له لا تنفك عنه أبدا. (كَالْمُعَلَّقَةِ) : التي ليست مطلقة ولا ذات بعل. (سَعَتِهِ) السعة : الغنى.

المناسبة :

كان الكلام أول السورة في الأحكام المتعلقة باليتامى والنساء والقرابة والإرث والمصاهرة ، ومن قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) في أسس الدين وما يتعلق بذلك من ذكر أهل الكتاب ، والقتال ، وقد كثر السؤال بشأن حقوق النساء

٤٣٥

واليتامى والعدل بينهن وهل يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب لها من الإرث حين يرغب في نكاحها؟ وبما ذا يصالح امرأته؟ كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته والسؤال عنه ، ولذا سئل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك كثيرا فما بين حكمه فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك الكتاب ، أى : هذه السورة وما لم يبين حكمه بعد بين هنا.

المعنى :

ويستفتونك يا محمد في حقوق النساء على الإطلاق الشاملة للميراث وحقوق الزوجية والمعاشرة ، قل : الله يفتيكم فيهن ويبين لكم ما أشكل من أمرهن ؛ وكذلك يوضح لكم هذا ما أنزله الله من الآيات السابقة في أول السورة التي تتلى عليكم كأحكام معاملة النساء اليتامى في المواريث فقد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديكم ، وما يتلى عليكم في هذا قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) ولا تأكلوها (الآية). وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن. وقيل : المعنى : وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ، وما يتلى عليكم قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا) (الآية). وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيدفنها.

وما يتلى عليكم كذلك في شأن المستضعفين من الأولاد لا تعطونهم حقهم في الميراث وذلك قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (الآية).

والله يذكرهم بالآيات السابقة ليتدبروا معناها فإن النفس كثيرا ما تتغافل عن دقائق الأحكام خصوصا إذا كانت الآيات تخالف طبائعهم وما ألفوه من الظلم والجور ، والله يرشدكم إلى أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان الضعفاء بالعدل وأن تعنوا بهم عناية خاصة.

وما تفعلوا من خير ـ قل أو كثر ـ فإن الله عليم فسيجازيكم عليه أحسن الجزاء ، وما تفعلوا من شر ـ قل أو كثر ـ فإن الله به عليم ومجازيكم عليه.

وإن كانت امرأة تتوقع من زوجها استكبارا وعلوّا عليها بأن يمنعها نفسه ويغلظ لها

٤٣٦

القول أو يعاملها معاملة قاسية لا تتناسب مع رابطة الزوجية التي عبر عنها القرآن بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم آية ٢١].

وعلى المرأة الانتظار والتريث فربما يكون الزوج مضطرّا إلى هذا العمل لظروف خاصة له فإذا أحست منه ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها ، فلا إثم عليها ولا حرج في أن يصلحا بينهما بأن تعرض على زوجها التنازل عن بعض حقوقها ونفقاتها لتبقى في عصمته إن كان ذلك خيرا لهما أو تتنازل عن نفقة العدة أو عن بعض الصداق ومتعة الطلاق ليطلقها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (١) إن كان في هذا خير لها.

وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت : لا تطلقني ودعني أقم بتربية ولدي وتقسم لي في كل شهرين فقال : إن كان هذا يصلح فهو أحب لي ، والصلح خير من الطلاق والشقاق والخلاف الذي يهدم كيان الأسر ويقطع رابطة من أقدس الروابط ، وناهيك أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله فالصلح هو الخير حتى لا يمنى المجتمع بداء التفرق فإن فيه القضاء على الأولاد الصغار وضياعهم ماديا وأدبيا ، ويشير القرآن إلى أن الشح طبع في النفوس فقد جعلت حاضرة له ومطبوعة عليه فتجد المرأة تشح نفسها ولا تسمح بحقوقها التي قبل الرجل وترى الرجل شحيحا لا يجود بحسن المعاشرة وطيب المعاملة ، هكذا جبلت النفوس. وعلى هذا طبعت ، وأحضرت الأنفس الشح (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) فالقرآن يحث كلا من الزوجين على التنازل عن بعض الحقوق وعلى معالجة شح النفس ، ويقول لهم أيضا : وأن تحسنوا المعاملة وتتقوا النشوز والإعراض والمعاكسة وتصبروا على ما يبدو من أحد الزوجين مراعاة لحقوق الزوجية وهناءتها ، أن تفعلوا ذلك فإن الله بما تعملون خبير وبصير.

ولن تستطيعوا العدل بين النساء ولو كنتم حريصين على ذلك ففي المعاملة أمور مادية وأخرى غير مادية ، وأما المادية فتستطيعون فعلها والعدل فيها ؛ كالمبيت والنفقة والكسوة ... إلخ ، أما الأمور القلبية كالميل والحب وغير ذلك مما يكون الباعث عليه

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٢٩.

(٢) سورة الحشر الآية ٩ ؛ والتغابن ١٦.

٤٣٧

الوجدان والشعور النفسي ، فهذا مما لا تملكونه ، ولهذا خفف الله عنكم ورفع الحرج فيه.

ولكن لا تميلوا كل الميل بحيث تترك المرأة الثانية كالمعلقة لا هي مطلقة ولا هي متزوجة بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها ومحاربة الميول الجارفة لضرتها حتى لا تتألم.

وإن لم ينفع العلاج واستفحل الداء حتى صار البيت كالمرجل المغلق المليء بالبخار المعرض للانفجار في أى وقت وانفجاره قد يودى بشرف الأسرة كلها وهتك حجابها فإن الكريم العليم الخبير بطبائع النفوس قد فتح بابا للتخلص من هذا حتى تهدأ النفوس وتسكن ، ألا وهو باب الطلاق ، وإن يتفرقا يغن الله كلا منهما من سعته وقدرته ، وربما بعد الانفصال يعودان على أحسن حال ؛ وقلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها كيفما شاء.

وكان الله واسع الفضل والتدبير حكيما فيما شرعه لعباده.

كمال القدرة

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)

٤٣٨

المعنى :

واعلموا أن لله ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا له الحكم وإليه ترجعون. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب كالتوراة والإنجيل والزبور من قبلكم وهم اليهود والنصارى ، ووصيناكم أنتم يا أمة محمد كذلك بأن اتقوا الله جميعا ، وفي هذا إشارة إلى أن الأديان جميعها متفقة على مبدأ التوحيد وتقوى الله ومختلفة في الفروع تبعا للزمان والمكان ، وإن تكفروا بالله فاعلموا أن له ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا عن عبادتكم (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (١) ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا. ثم هدد تهديدا عاما صريحا إن يشأ الله يذهبكم أيها الناس ويستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ، وكان الله على ذلك قديرا.

أيها الناس : من كان يريد بعمله ثواب الدنيا فقد أخطأ فعند الله ثواب الدنيا والآخرة فليرجوا ثوابهما معا (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢) فبدل أن يبغى بالجهاد الدنيا فقط كالغنيمة فليرج بعمله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا لكل قول ، بصيرا بكل قصد وعمل.

وفي هذه الآية إشارة صريحة إلى أن الدين الإسلامى كفل لأتباعه وكل من سار على هديه سعادة الدنيا والآخرة ، وقد تحقق هذا في صدر الإسلام بما لم يتفق لأمة في المعمورة إلى الآن ، ولو استقام المسلمون على سنة كتابهم وهدى دستورهم ورجعوا إلى الدين لاستردوا مكانتهم التي بهرت العالم قرونا طويلة.

__________________

(١) سورة الذاريات آية ٥٧.

(٢) سورة البقرة آية ٢٠١.

٤٣٩

العدل والشهادة لله والإيمان به وبكتبه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)

المفردات :

(قَوَّامِينَ) : جمع قوّام ، وهو المبالغ في القيام بالشيء حتى يأتى على خير وجه. انظر إلى قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ* أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ). (تَلْوُوا) أى : ألسنتكم بالشهادة ، والمراد تحرفونها ولا تأتون بها على وجهها. فإن اللّيّ هو التحريف وتعمد الكذب. (تُعْرِضُوا) : لا تؤدوها.

المعنى :

يأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ عباده بأن يكونوا قوامين بالعدل ومبالغين في الإتيان به على خير وجه ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، لا يصرفهم عنه صارف مع التعاون والتساند والتناصر ، وأن يؤدوا الشهادة لله ابتغاء رضوانه وحينئذ تكون شهادة عامة خالية من التحريف والتبديل والكتمان ولو كانت على أنفسكم فاشهدوا الحق ولو عاد

٤٤٠