التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

وإن كان الله خالقا لكل شيء فما أصابك أيها المخاطب من حسنة فمن فضل الله ونعمه وتوفيقه لك حتى تسلك سبل النجاة والخير ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك حيث لم تسلك سبيل العقل والحكمة ، حتى قالوا : إن المرض بسببك بل الأمراض الوراثية بسبب الإنسان وسلوكه الطرق التي تتنافى مع الصحة!! وأما أنت يا محمد فرسول وما عليك إلا البلاغ ، والخير والشر كله من عند الله خلقا وإيجادا ، وعلى الله الحساب وكفى بالله شهيدا.

الطاعة لله ولرسوله

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١)

المفردات :

(تَوَلَّى) : أعرض. (بَرَزُوا) أى : خرجوا من عندك ، وأصل البراز : الأرض الفضاء. (بَيَّتَ) : دبّر جماعة منهم ليلا رأيا غير الذي قالوه لك.

وروى مقاتل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : من أحبنى فقد أحب الله ومن أطاعنى فقد أطاع الله. فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك؟ قد نهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربّا كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية.

المعنى :

محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي كريم ورسول رب العالمين (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً

٤٠١

وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١) وهو بهذا المعنى يخبر عن المولى ـ عزوجل ـ ويبلغ ما أوحى إليه ، فالآمر والناهي هو الله ، والرسول مبلغ فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه وهو الله ـ عزوجل ـ فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ... والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوامر الشريعة وفيما يتعلق بالقرآن وأحكام الدين (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [سورة النجم الآيات ٣ ـ ٥].

أما أمور الدنيا وما يقوله باجتهاده ورأيه في غير الشرع فقد كان الصحابة يسألون النبي عنه : أوحى يا رسول الله أم رأى؟ فإن كان وحيا أطاعوا بلا تردد ولا نظر وإن كان رأيا أشاروا ، وقد يرجع الرسول إلى رأيهم كما حصل في غزوة بدر وأحد.

ومن تولى وأعرض عن طاعتك فلا تحزن عليهم إن عليك إلا البلاغ ولست عليهم بمسيطر ، وهؤلاء الذين يخشون الناس كخشية الله أو أشد يقولون إذا أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر : أمرك طاعة ، أى : مطاع ؛ نفاقا وانقيادا للنبي ظاهرا فقط.

فإذا خرجوا من المكان الذي يكونون معك فيه منصرفين إلى بيوتهم دبر جماعة منهم في الليل رأيا غير الذي قالوه لك ، والله يكتب ما يبيتونه ويطلعك عليه في كتابه المنزل فلا يهمنك أمرهم فإنا مجازوهم ، وأعرض عنهم ، وتوكل على الله ؛ فإن الله كافيك شرهم ومنتقم منهم ، وكفى بالله وكيلا.

القرآن من عند الله

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)

المفردات :

(يَتَدَبَّرُونَ) التدبر : التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ، وتدبر القرآن : النظر والتفكير في غاياته ومقاصده التي يرمى إليها.

__________________

(١) سورة النساء آية ٧٩.

٤٠٢

المعنى :

أعمى هؤلاء عن حقيقة الرسالة وكنه الهداية فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ ولو تدبروه لعلموا أنه الحق من ربهم إذ هو في صدق في إخباره عما تكنّه ضمائرهم وما تخفيه سرائرهم ، ولكن ختم الله على قلوبهم وأضل أعمالهم!! ولو كان هذا القرآن الذي هو عماد الدعوة المحمدية من عند غير الله بأن كان من عند محمد بن عبد الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا في نظمه من جهة البلاغة فيكون بعضه عاليا بلغ حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه ، وبعضه صحيح المعنى وبعضه سقيمه ، وجزء وافق في إخباره بالغيب وجزء خالف!!! وكان بعضه موفقا صادقا في تصوير الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم ، فكان مثلا أعلى ، وبعضه غير موافق.

وناهيك بوضع الآيات وترتيبها مع أنها نزلت منجمة غير مرتبة ، وسبحان الله وتعالى عما يصفون ، وكيف لا يكون القرآن من عند الله وفيه تصوير الحقائق تصويرا تامّا كاملا بلا اختلاف ولا تفاوت في أى جزئية.

وفيه الإخبار عن الماضي الذي لم يشاهده محمد بن عبد الله ولم يتيسر له أن يقف على تاريخه ، وعن الحاضر والمستقبل ، بل على مكنونات الأنفس ومخبئات الضمائر ، وأما الأصول والقواعد في التشريع والسياسة العامة والخاصة للفرد والأمة فيكفى شهادة الأعداء له ، والحديث فيه عن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الإنسان مع ضرب الأمثال والقصص الذي يسحر القلوب ويخطف الأبصار فأمر لا ينكره إلا مكابر ، وأما البلاغة والجزالة فهو الذي أعجز فحول البلاغة من العرب وتحداهم فقهرهم وأذلهم على كره منهم.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (الزمر ٢٣).

ولو تدبر المسلمون القرآن الكريم وفهموه فهما صحيحا سليما ووقفوا على أسراره لما وصلوا إلى ما وصلوا.

٤٠٣

الرقابة على الأخبار

وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)

المفردات :

(أَذاعُوا بِهِ) يقال : أذاع السر وبالسر : نشره وأشاعه بين الناس. (رَدُّوهُ) : أرجعوه. (يَسْتَنْبِطُونَهُ) استنبط الماء : استخرجه من البئر ، ثم استعمل فيما يستخرجه الرجل بفضل عقله من المعاني والحلول للمشكلات.

المعنى :

سبحانك يا رب أنت الحكيم العليم. ما تركت لنا شيئا إلا ونبهتنا إليه. حتى إذاعة الأخبار ، إذ في كل أمة من الأمم جماعة يذيعون الأخبار بشغف خصوصا ما يتعلق بالحروب بقصد سيّئ كالمنافقين ، أو بقصد حسن كما يحصل من عامة الشعب ، فيرشدنا الله إلى أن الأمور التي تتعلق بالأمن أو الخوف يجب أن يترك الحديث فيها إلى القائد العام وهو الرسول ـ عليه‌السلام ـ ولأهل الرأى والحل والعقد في الأمة فهم أدرى الناس بها وبالكلام فيها ، أما أن نتحدث ونهرف بما نعرف وما لا نعرف بقصد وبغير قصد فهذا ضرر وأى ضرر على الدولة!! ولذا تنبهت الأمم الحديثة إلى الرقابة على الصحف والإذاعة وغيرها حتى لا تستغل عقول الجماهير خصوصا في الحرب رقابة تكفل الحرية ، وتمنع الخطأ ، أما الرقابة بمعنى كمّ الأفواه والقضاء على الحرية فشيء لا يقره الدين.

ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم إذ هداكم ووفقكم لطاعة الله ورسوله ولنور

٤٠٤

القرآن لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعه الذين يبيتون ما لا يرضى من القول ويكون لهم ظاهر وباطن ، ولما آمن منكم الإيمان الخالص إلا قليل ، أو لآمنتم إيمانا ضعيفا.

الحث على الجهاد أيضا

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)

المفردات :

(وَحَرِّضِ) التحريض : الحث على الشيء بتزيينه والترغيب فيه. (بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : قوتهم وشدتهم. (تَنْكِيلاً) التنكيل : معاقبة المجرم عقابا يمنع غيره من أن يفعل مثله.

المعنى :

إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم وتقصير الآخرين فقاتل أنت وحدك في سبيل الله وامتثل أمره إن أردت الظفر بالأعداء إذ لا تكلف إلا فعل نفسك فقط ، أما غيرك من الذين يقولون : لم كتبت علينا القتال؟ ويخشون الناس أكثر من خشيتهم الله فدعهم ، والله مجازيهم على أفعالهم وما عليك إلا أن تحرض المؤمنين على القتال وتحثهم عليه ببيان آثاره في الدنيا ونتائجه في الآخرة.

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما حل موعد بدر الصغرى في السنة التالية لغزوة أحد صمم على الخروج فخرج ومعه ألف وخمسمائة مقاتل وعشرة أفراس ، وأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان كما وعدهم وكان النصر لهم ، أما أبو سفيان فرجع من الطريق وصرفه الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عسى أن يكف بأسهم ويزيل قوتهم ، فالله ناصرك على الأعداء سواء

٤٠٥

كنت وحدك أو معك الألوف ، فهو أشد بأسا وأشد قوة وسيعاقبهم العقاب الصارم الذي يمنع أمثالهم من الجرأة على الحق وينكل بهم.

من آداب القرآن

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧)

المفردات :

(يَشْفَعْ) الشفاعة : ضم صوتك إلى صوت رجل آخر لنصرته في طلبه. (نَصِيبٌ) أى : حظ منصوب ومعلوم. (كِفْلٌ) : نصيب مكفول ومضمون. (مُقِيتاً) أى : حافظا ومقتدرا. (بِتَحِيَّةٍ) التحية : مصدر حياه إذا قال له : حياك الله ، وهي في الأصل : الدعاء له بالحياة ، ثم صارت اسما لكل دعاء وثناء عند المقابلة ، والتحية الإسلامية : السلام عليكم ، للإشارة إلى أن الدين الإسلامى دين محبة وسلام وأمن. (حَسِيباً) : محاسبا على العمل ومكافئا له.

المعنى :

الشفاعة : ضم صوتك إلى أخيك لنصرته وتوصيل الحق له ، وعلى هذا الأساس يدخل فيها تحريض المؤمنين على القتال وتحبيبهم فيه ؛ فإن هذا خير لهم وأى خير؟ ومن

٤٠٦

هنا كانت المناسبة ظاهرة على أن بعض المنافقين كانوا يستأذنون النبي في القعود عن القتال لهم ولغيرهم ، وإذا توسعنا فيها شملت شفاعة الناس بعضهم لبعض ، والتحية نوع من الشفاعة ، وعلى كل فهي نوعان : شفاعة حسنة ، وشفاعة سيئة ؛ والضابط العام أن الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع ورضيه ، والسيئة فيما كرهه الشرع أو حرمه.

ويجب ألا ننسى أن العبرة في القرآن الكريم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

والشفاعة الحسنة هي التي يراعى فيها حق المسلم فيدفع بها شرا أو يجلب إليه خيرا ، وابتغى صاحبها وجه الله ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله ولا في ضياع حق من الحقوق ، والسيئة ما كانت بخلاف ذلك ، وقد شاعت عندنا الوساطات والشفاعات السيئة الملوثة بالمادة لتضييع الحقوق وهضمها والاستيلاء على مال الغير ، وهذا داء حقير يتنافى مع مبدأ الدين وأصوله ، ولكل من الشفعاء نصيب إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وكان الله على كل شيء مقيتا ومقتدرا على إيصال الجزاء لكل شافع.

بعد أن علم الله الناس طريق الشفاعة الحسنة وجزاءها وطريق الشفاعة السيئة ومآلها ، علم الناس سنة التحية وآدابها ، فكلاهما من أسبابها التواصل بين الناس ، ولذا عدت التحية من الشفاعة ، وإذا حييتم بتحية فالواجب ردها على أن تكون مثل الأولى أو أحسن منها ، وحسن الرد يكون بزيادة الألفاظ فإذا قال لك : السلام عليكم ، تقول : وعليكم السلام ورحمة الله. ويكون بزيادة معنوية كالبشاشة وحسن الاستقبال ... إلخ ، ما هو معروف.

وأحكام السلام موضحة في كتب الحديث ، ومنها أن بدأه سنة ورده واجب ، ويجوز بدء السلام ورده على غير المسلمين عند بعض الأئمة ، وأن يسلم القادم على الجالس ، والراكب على الماشي ، والقليل على الكثير ، والصغير على الكبير ، ولا يسلم الرجل على المرأة الأجنبية ويسلم على زوجته.

إن الله كان على كل شيء تعملونه حسيبا ومكافئا.

ثم ختم الآيات بالأساس العام للدين ، وهو إثبات التوحيد والبعث ولا شك أن ذلك يدفع المسلم إلى العمل والامتثال لأمر الله ، لا إله إلا هو ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة

٤٠٧

ليأخذ كلّ جزاءه فلينظر الإنسان ما قدم ، وليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، ومن أصدق من الله حديثا ، فكلامه ـ سبحانه ـ كلام عالم الغيب والشهادة الذي لا يضل ولا ينسى ، وهو القوى القادر فكيف لا يكون صادقا في وعده؟!

المنافقون وكيف تعاملهم

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)

٤٠٨

المفردات :

(فِئَتَيْنِ) الفئة : الجماعة. (أَرْكَسَهُمْ) الركس : رد الشيء مقلوبا ، والمراد ردهم إلى الكفر والقتال. (يَصِلُونَ) : يتصلون. (مِيثاقٌ) : عهد. (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) : ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم. (السَّلَمَ) : الاستسلام والسلام. (الْفِتْنَةِ) : الشرك والضلال واضطراب الأحوال. (ثَقِفْتُمُوهُمْ) : وجدتموهم وصادفتموهم. (سُلْطاناً مُبِيناً) : حجة واضحة.

سبب النزول :

روى أن قوما من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخروج إلى البدو معتلين بجو المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين حتى وصلوا مكة قلب الشرك ، وقيل : هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة يظاهرون المشركين ، وقد رويت عدة روايات في سبب النزول كثيرة ، ولكن المعقول منها الموافق لروح الآية الروايات التي يشم منها أنها في جماعة خارج المدينة. ويظهر أن النفاق نوعان : نفاق في الإسلام وادعائه ، وهؤلاء هم الذين كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة ونزل في شأنهم آيات النفاق في سورة البقرة وسورة المنافقون ؛ بدليل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقتلهم أينما وجدوا ، فهذا زعيمهم عبد الله بن أبىّ يسرح ويمرح على الملأ ، وبدليل عدم اتخاذ الأولياء منهم حتى يهاجروا ، فدل كل ذلك على أن هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية نوع آخر لم يكونوا في المدينة وإنما كانوا خارجها ، نافقوا في الولاء للإسلام وادعوا أنهم مع المسلمين ، والواقع أنهم عليهم ، وهذا ما ظهر والله أعلم.

المعنى :

خاطب الله ـ جل شأنه ـ المؤمنين خطابا يتعلق بما قبله ، ولذا أتى بالفاء : فما لكم اختلفتم في شأن المنافقين فئتين؟ جماعة يشهدون لهم بالخير ، وأخرى تشهد لهم بالكفر والشرك ، وكيف هذا؟ والحال أن الله صرفهم عن الحق وأركسهم في الضلال وردهم إلى الشرك على أقبح صورة ، بما كسبوا من أعمال الضلال ، والبعد عن حظيرة الإسلام

٤٠٩

وعدم الهجرة مع رسول الله ، أتريدون أن تبدلوا سنة الله في الخلق؟ وأن تجعلوا الضال مهتديا والكافر مسلما ، لا يعقل هذا!! إنهم ينظرون إليكم نظرة الأعداء ويودون أن تكفروا مثلهم ، فتكونوا سواء ، ومن كان هذا حاله فلا يصح أن تختلفوا في شأنه ، بل أجمعوا على أنه منافق خارج عن حدود الإسلام. ولا تتخذوا منهم أولياء تعتمدون عليهم ، وتركنون إليهم ، حتى يهاجروا في سبيل الله هجرة خالصة لوجه الله ورسوله فإن تولى هؤلاء الموصوفون بما ذكر ، وأعرضوا عن الهجرة في سبيل الله ولزموا مواضعهم وأساليبهم السابقة وكانوا حربا عليكم فخذوهم إن قدرتم عليهم في أى مكان أو زمان واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل أو الحرم ، ولا تتخذوا منهم وليّا ولا نصيرا. وقد استثنى الله منهم طائفتين :

(أ) الذين يتصلون بقوم معاهدين بينكم وبينهم ميثاق وعهد بعدم الاعتداء فيلحقون بهم ، ويدخلون معهم في عهدهم.

(ب) الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وقتال قومهم المشركين وأعلنوا الحياد ، فهؤلاء اتبعوا فيهم أيضا قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [سورة البقرة آية ١٩٠] فهاتان الطائفتان لا يصح قتالهم.

واعلموا أن الله لو شاء لسلط هؤلاء وأولئك عليكم فانضموا إلى معسكر المشركين الذين يجاهرونكم بالعداوة والحروب ، لكنه ألقى في قلوبهم الرعب والخوف منكم ، فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم بأى نوع من أنواع القتال وألقى المذكورون إليكم الاستسلام وزمام أمورهم فاعلموا أن الله لم يجعل لكم عليهم سبيلا تسلكونها للاعتداء عليهم.

وقال الرازي : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عامر السلمى على ألا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله جواره.

ستجدون آخرين ، أى : فئة أخرى غير السابقة ، مردوا على النفاق ومرنوا عليه يريدون أن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم.

حكى ابن جرير أنها نزلت في قوم هم بنو أسد وغطفان وقيل غيرهم ، كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، فيسلمون رياء ونفاقا ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان

٤١٠

ويرتدون إلى الشرك ، يبتغون أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا أنفسهم.

هؤلاء كلما ردوا إلى الفتنة والشرك ودعوا إليها أركسوا فيها على أسوأ حالة ، وبالغوا في الضلال ، فهؤلاء إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم زمام السلام فاقتلوهم إن تمكنتم منهم ، وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا واضحا ظاهرا وحجة قوية في قتالهم.

قتل المؤمن وجزاؤه

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)

المفردات :

(خَطَأً) : بغير قصد للقتل. (فَتَحْرِيرُ) : فعتق. (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) : نفس مؤمنة. (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) : مال يدفع لأهل القتيل جبرا لخاطرهم وعوضا

٤١١

عنه. (أَنْ يَصَّدَّقُوا) : أن يعفوا عنها. (مِيثاقٌ) : عهد ، أو ذمة ، أو أمان. (مُتَتابِعَيْنِ) : المراد شهرين قمريين لا يتخللهما فطر إلا لعذر شرعي. (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) : تطهيرا لأنفسكم ولأما لجرحكم.

سبب النزول :

روى أن الحارث بن يزيد من بنى عامر بن لؤي كان يعذب عياش بن أبى ربيعة ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعرف إسلامه بعد ، فلقيه عياش بالحرة (ضاحية من ضواحي المدينة) فعلاه بالسيف وهو يظن أنه لا يزال كافرا ، ثم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر ، فنزلت الآية ثم قال له : قم يا عياش فحرر ، أى : أعتق رقبة مؤمنة.

المعنى :

الإيمان بالله ورسوله إذا وصل إلى القلب منع صاحبه من ارتكاب الفواحش خاصة التعدي على النفس بغير حق ، والمؤمن يشعر بحقوق الله عليه وحقوق إخوانه المؤمنين. ويؤمن بقوله تعالى : و (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (١) وروى في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» والأحاديث التي تقرن القتل بالشرك كثيرة ، ولذا يقول الله (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) (٢) أى : ليس من شأن الإيمان وطبعه أن يقتل المؤمن مؤمنا ، وأن يقترف هذا الجرم الفظيع عمدا وبقصد!! ولكنه قد يقع منه ذلك خطأ وبغير قصد.

ومن قتل مؤمنا خطأ فعليه عقاب ؛ إذ الخطأ ينشأ من التهاون وعدم الاهتمام والاعتناء.

والقتل الخطأ : كأن يقصد طيرا فيصيب إنسانا ، أو يظن شخصا كافرا حربيا فيظهر أنه مسلم ، كما حصل لعياش ـ رضى الله عنه ـ أو يقصد إنسانا بما لا يقتل غالبا كالعصا البسيطة واليد فيقتله.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٣٢.

(٢) سورة النساء آية ٩٢.

٤١٢

وعقابه في شيئين : كفارة للقتل ، وهي : عتق رقبة مؤمنة ، لأنه أعدم نفسا مؤمنة.

فيحيى بالعتق نفسا مثلها.

ودية مسلّمة إلى ورثة القتيل عوضا عن دمه ، وإزالة للعداء ، وقطعا للإحن والبغضاء. وقد بينتها السنة ، وهي مائة من الإبل مختلفة الأسنان ، أو قيمتها ، وتجب على أسرة القاتل ، فإن عجزت أخذت من بيت المال (وزارة المال) ، وهي واجبة كما قلنا إلا إذا عفا أهل القتيل وتصدقوا بها ، ولها أحكام كثيرة في كتب الفقه.

فإذا كان القتيل مؤمنا وهو من قوم أعداء لكم فالواجب تحرير رقبة مؤمنة فقط ، بلا دية إذ لا يعطى لهم مال يحاربوننا به.

وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق أو عهد أو ذمة كالذي بين الدول الآن ، فالواجب دية مسلّمة إلى أهله احتراما للعهود والدماء ، وعتق رقبة مؤمنة ، واختلف العلماء في دية غير المسلم فقيل : دية كاملة ، وقيل : على النصف ، والظاهر أن القرآن نكّر الدية للإشارة إلى أنها مال يتفق عليه ويحكم به الحاكم حسب ما يمليه عليه دينه وضميره ، ويوافق العصر الذي هو فيه وتزال آثار القتل به ، فمن لم يجد رقبة يعتقها فعليه صيام شهرين متتابعين ، تطهيرا لنفسه وتكفيرا عن فعلته ، ومعنى التتابع أنه إذا أفطر لغير عذر شرعي في أثناء الصوم لم يحسب له ما مضى.

وكان الله عليما بكم حكيما في حكمه.

ومن يقتل مؤمنا عامدا قاصدا قتله بما يقتل غالبا كالرصاص أو الآلة الحادة كالسيف مثلا ، فجزاؤه جهنم ، خالدا فيها ، وغضب الله عليه ، وطرده من رحمته وأعد له عذابا عظيما لا يدرى كنهه إلا المنتقم الجبار!! لأنه هدم ما بناه الله بغير حق.

هذا غير القصاص في القتل كما ثبت في آية البقرة وآية المائدة.

وهذا التهديد الشديد والوعيد الكثير المفهوم من الآية جعل بعض الأئمة كابن عباس يقول : ليس للقاتل توبة ، وفيه أحاديث صحيحة تثبت ذلك. وقال بعضهم : هذا من التغليظ ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) (١) يشمل القاتل وقيل : إن هذا الجزاء لمن استحل قتل المؤمن. والله أعلم.

__________________

(١) سورة الفرقان آية ٧٠.

٤١٣

التسرع في الحكم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)

المفردات :

(ضَرَبْتُمْ) : سرتم في الأرض للتجارة أو الحرب. (فَتَبَيَّنُوا) قرئ : فتثبتوا ، والمراد : اطلبوا بيان الأمر وحقيقته ولا تتسرعوا. (السَّلامَ) : الاستسلام والانقياد ، أو التحية. (عَرَضَ الْحَياةِ) : متاعها الفاني. (مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) المراد : أرزاق ونعم كثيرة.

سبب النزول :

رويت روايات كثيرة كلها تدور حول قتل مسلم أظهر إسلامه ساعة القتال وهو في أرض المشركين ، عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : مر رجل من بنى سليم بنفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا : ما سلّم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه واستاقوا غنمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الآية.

المعنى :

بعد بيان حكم قتل المسلم خطأ وعمدا ، شرع في بيان نوع من قتل الخطأ الناشئ عن التسرع في الحكم على الرجل بعدم الإسلام.

٤١٤

يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله : إذا سافرتم في سبيل الله ، ولإعلاء كلمته فالواجب عليكم أن تتمهلوا في الحكم على من يقابلكم ، وتتبينوا جلية الأمر. هل هو مؤمن يظهر عليه علامة الإيمان من التهليل والتكبير وإلقاء تحية الإسلام؟ فمتى ظهر عليه شيء من ذلك ، فلا تتعرضوا له أصلا فأنتم مأمورون بالحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر ، وليس لكم أن تقولوا : قال هذا تعوذا منا ليفر بنفسه وليس مؤمنا ؛ فالله أعلم به ، تبتغون بذلك عرض الدنيا الفاني وحطامها الزائل من الغنيمة التي معه ، فعند الله أرزاق ونعم كثيرة لا تحصى ، وله خزائن السموات والأرض ، فلا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل وتتسرعوا في الحكم ، على أنكم كنتم هكذا من قبل ، آمنتم سرا ثم أظهرتم الإسلام علنا فقبلتم في عداد المؤمنين وصرتم آمنين مطمئنين ، إن الله كان بما تعملون خبيرا وبصيرا سيجازيكم على نواياكم فاحذروه وخافوا عقابه.

الجهاد في سبيل الله وفضله

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)

المفردات :

(الضَّرَرِ) : المرض والعلة كالعمى والعرج. (الْحُسْنى) : هي الجنة.

المعنى :

لا يستوي القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها ، وحرصا عليها ، وضنّا بها عن

٤١٥

الإنفاق في سبيل الله ، والقاعدون بأنفسهم حرصا على الراحة والنعيم ، نعم لا يستوي هؤلاء مع المجاهدين في سبيل الله.

ولكن القعود عن الجهاد يكون مذموما حيث لا عذر يمنع منه ، فإن كان هناك عذر شرعي فلا لوم ولا عتاب ، بل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند دخوله المدينة بعد غزوة تبوك : «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه. قالوا : يا رسول الله : وهم بالمدينة؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر».

فضل الله المجاهدين في سبيل الله بالنفس والنفيس على القاعدين بعذر درجة وفضلا والله أعلم به ، وإن كان قد وعد كلا الجنة والمثوبة الحسنى.

أما القاعدون بغير عذر. فقد فضل الله عليهم المجاهدين أجرا عظيما ، ودرجات كثيرة ومغفرة من الله كبيرة ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة ، أى : جوع في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ، ورحمة من الله ورضوان فوق هذا وذاك ، ولا غرابة فالله غفور لمن يستحق المغفرة رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة.

المهاجرون في سبيل الله والمتخلفون عنها

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)

٤١٦

وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)

المفردات :

(تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) توفى الشيء : أخذه وافيا تامّا ، وتوفى الملائكة الناس : قبض أرواحهم حين الموت. (سَبِيلاً) طريقا يوصلهم. (مُراغَماً) الرغم : الذل والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام ، أى : التراب ، والمراد : مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير فيرغم بذلك أنوفهم. (وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أى : وجب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَجَبَتْ جُنُوبُها) أى : وقعت جنوبها على الأرض.

نزلت في قوم أسلموا بمكة ، وتركوا الهجرة ثم ماتوا. وقيل : ماتوا في غزوة بدر وكانوا يحاربون في صفوف الكفار على كره منهم فقتلوا.

المعنى :

لما اشتد إيذاء الكفار للمسلمين في أول الأمر وهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم هاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وولدت الدولة الإسلامية. في هذا الوقت كانت الهجرة واجبة وكان بعض المسلمين قد هاجر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يدخر وسعا في ذلك. وبعضهم قعد عنها حبّا في وطنه وإيثارا للدنيا وعرضها ، ومنهم من كان ضعيفا لا يقدر عليها لمرض أو كبر أو جهل بالطريق ، ومنهم من هاجر ومات في الطريق.

إن الذين قبضت أرواحهم الملائكة وهم في دار الشرك حالة كونهم ظالمي أنفسهم برضاهم الإقامة في دار الشرك وإيثارهم الدنيا وعرضها على نصرة الحق ، والهجرة مع رسول الله ، وبقبولهم الظلم والتضييق عليهم في عدم إقامتهم الشعائر الدينية. هؤلاء قالت لهم الملائكة توبيخا لهم وتأنيبا : في أى شيء كنتم من أمور دينكم؟ فإنهم تركوا الهجرة التي كانت طريق نصرة الإسلام في مهده وهم قادرون عليها قالوا معتذرين بغير

٤١٧

العذر الحقيقي : كنا مستضعفين ومستذلين في مكة ، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته ، وهذه حجة واهية ، ولذا قالت لهم الملائكة : ألم تكن أرض الله التي يمكنكم فيها القيام بواجبات الدين والهجرة مع الرسول بدون تعرض لكم ، ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟؟ نعم هي واسعة ولكنكم رضيتم بالذل ، وآثرتم الدنيا على نصرة الحق. فأولئك جزاؤهم جهنم وبئس المصير مصيرهم.

وفي هذا إشارة إلى أنه يجب على المسلم أن يفر بدينه إلى حيث يمكنه أن يقيم حدوده وواجباته حسبما أمر الله ، وقد استثنى الله من هؤلاء صنفا وهم المستضعفون حقيقة الذين لهم عذر مقبول كالشيوخ الضعفاء ، والعجزة من النساء والولدان الذين لا يستطيعون الهجرة ، وقد ضاقت بهم الحيل ، وعميت عليهم الطرق فلا يهتدون إلى سبيل منها ، مثل عياش بن ربيعة. ومسلمة بن هشام ، وأم عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عباس ، وغيرهم ، على أن المراد بالولدان المراهقون لا الصبيان ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الشرك وترك الهجرة ، وفي هذا إشارة إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير ، وكان الله كثير العفو عن الذنوب غفورا لأصحابها.

وأما المهاجرون في سبيل الله وإن كان بهم ضعف فمن يهاجر منهم يجد في الأرض مكانا للهجرة ، ومأوى يسلكه ، فيه الخير والسعة والرزق والعزة ، وهذا ترغيب في الهجرة ، ووعد صريح لمن يخشى ترك المال والأهل ومشقة السفر والبعد عن الديار بأنه سيجد ما يغنيه ويرغم به أعداءه متى كانت هجرته خالصة لوجه الله!! ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت قبل الوصول إلى المدينة ، فقد ثبت أجره على الله ، والله هو الذي أوجب هذا تفضلا وإحسانا «إنما الأعمال بالنيات».

روى أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان قد بلغه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (الآية) ، فقال لأولاده : احملوني إلى المدينة فلن أبيت بمكة الليلة ، فحملوه ومات بالطريق فنزلت هذه الآية.

وما أعظم الفرق بين هذا الوعد المؤكد الذي لا يعلم كنهه إلا هو وبين الوعد بالمغفرة لمن ترك الهجرة لضعفه.

٤١٨

والهجرة قبل الفتح كانت واجبة ليعز المسلم دينه ويقيم حدوده وأركانه ، ويتعلم الفقه ويأخذه من معينه الأول ولتقوية شوكة المسلمين ونصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وانتشر الصحابة يعلمون الناس ويفقهونهم في دينهم ، وقويت شوكة الإسلام لم تعد الهجرة واجبة «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا» (رواه الشيخان).

كيفية الصلاة في السفر والحرب

وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)

٤١٩

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)

المفردات :

(ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : سافرتم فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه أو بعصاه أو بقوائم راحلته. (تَقْصُرُوا) أى : تتركوا شيئا منها. (يَفْتِنَكُمُ) : يؤذونكم بالقتل أو غيره. (كِتاباً) : فرضا ثابتا ثبوت الكتابة في اللوح. (مَوْقُوتاً) : منجما في أوقات معلومة.

لا زال الكلام في الجهاد والهجرة وما يتصل بهما ، وفيهما سفر وخوف فمن الحكمة بيان الصلاة فيهما.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا إذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها لقصد الهجرة أو للحرب أو التجارة فليس عليكم جناح ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية ، وهذه صلاة السفر المسماة في كتب الفقه بصلاة القصر ، وذلك أن السفر شدة ومشقة رخص الشارع فيها قصر الصلاة ، وقد ثبتت كيفيتها بالسنة المتواترة ، أما صلاة الخوف الآتية في الآية فثبتت كيفيتها بنص القرآن. والثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أبى بكر وعمر وكبار الصحابة وصدر من خلافة عثمان أنهم كانوا يصلون في السفر الظهر ، والعصر ، والعشاء ركعتين ، ولذا قال الأحناف : إن قصر الصلاة في السفر عزيمة ، أى : واجب ، والشافعى يقول : إنها رخصة ، أى : جائز لك أن تتم وأن تقصر ، والظاهر أن الحق مع الأحناف.

وعثمان ـ رضى الله عنه ـ قيل : إنه أتم وهو بمنى صلاته ، وقد تأولوا ذلك بأنه كان متزوجا ونوى الإقامة ... ومسافة السفر التي تبيح قصر الصلاة وتبيح الفطر في رمضان

٤٢٠