التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

فإذا أحصن بالزواج ، وقيل : بالإسلام ، فإن أتين بفاحشة الزنا ، فجزاؤهن خمسون جلدة على النصف من الحرة ، وقال العلماء : المتزوجة من الإماء حدّت بالقرآن ، والبكر منهن حدت بالسنة. لما ورد في الصحيحين من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال : «اجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير» (١).

وإنما كانت الأمة على النصف لأنها ضعيفة المقاومة ، والحرة أبعد عن داعية الفاحشة ؛ فلذا رحم الله ضعف الأمة!!

ذلك أن جواز نكاح الإماء لمن خاف العنت والمشقة في ارتكاب الإثم والفاحشة حيث لم يستطع نكاح الحرة لسبب من الأسباب. وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم ، وإن رخص الشارع في نكاحهن للضرورة ، إذ فيه يعرض الولد للرق ، وحق الولي فيها أقوى فلا تخلص للزوج كالحرة فهو يقدر على استخدامها كيفما يريد في سفر أو حضر وعلى بيعها ، وهي ممتهنة خرّاجة ولّاجة والله غفور لمن يصبر ، ستار على العيوب والذنوب ، رحيم بكم حيث رخص لكم في نكاحهن للضرورة.

نكاح المتعة : هو نكاح المرأة إلى أجل معين ، وقد أباحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا ثم حرمه تحريما مؤكدا ، وليس في الآية دليل على جوازه خلافا لبعضهم.

تقدير المهر : المهر في الشرع ليس له حد في القلة أو الكثرة إذ قد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التمس ولو خاتما من حديد» (٢) وفي القرآن : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) (٣) ولكن المغالاة فيه ليست من المصلحة في شيء بل قد تعوق الزوج.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب البيع باب بيع العبد الزاني رقم ٢١٥٣.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب التزويج على القرآن وبغير صداق ٥١٤٩.

(٣) سورة النساء آية ٢٠.

٣٦١

حكم عامة للأحكام السابقة

يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)

المفردات :

(سُنَنَ) : جمع سنة ، وهي الطريقة والشريعة. (ضَعِيفاً) : غير قادر على مخالفة نفسه وهواه.

المعنى :

بعد ما ذكر الله الأحكام السابقة المتعلقة بالبيوت والنكاح ـ حلاله وحرامه ـ كأن سائلا سأل : ما هي الحكمة في ذلك؟ وهل الأنبياء والأمم السابقة كانت مكلفة بمثل هذا؟ وهل هذه الأحكام مقصود بها التخفيف علينا أم التشديد؟ فأجاب الله بهذه الآيات مبينا الحكم العالية في آياته وأحكامه وأنه (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (١) ..

يريد الله أن يبين لكم ما هو خفى عنكم ، ويرشدكم إلى ما فيه مصلحتكم ، ويهديكم إلى مناهج من قبلكم من الأنبياء والصالحين وطرقهم التي سلكوها في دينهم ودنياهم وأن دينهم الذي ارتضاه لهم سابقا لا يبعد عما اختاره لكم.

يريد الله أن يرشدكم إلى طاعات وأعمال إن قمتم بها وأديتموها على وجهها كانت

__________________

(١) سورة الحج آية ٧٨.

٣٦٢

كفارات لكم ولسيئاتكم ، فيتوب عليكم ، ويكفر عنكم (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١) والله عليهم بكل قصد ، حكيم في كل عمل وقانون يسنه لعباده.

والله يريد أن يتوب عليكم بما كلفكم به من الأعمال التي تطهركم وتزكى نفوسكم فيتوب عليكم بعد هذا ، ويريد الذين يتبعون الشهوات ويجرون وراءها ـ فكأنها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها ـ أن تميلوا معهم حيث مالوا ميلا عظيما ، فإن مرتكب الإثم يهمه جدا أن يشاركه غيره فيه إرضاء لنفسه واطمئنانا لها.

يريد الله بهذه الأحكام التخفيف عليكم ، حيث أحل لكم نكاح الأمة للضرورة ، وحرم عليكم نكاح هذه المحرمات السابقة ، وخلق الإنسان ضعيفا عن مقاومة الشهوات والوقوف أمام تيارات النساء ؛ فإنهن حبائل الشيطان. ولهذا نهانا عن الجلوس مع غير المحارم والحديث معهن لغير ضرورة ، ونهى النساء عن كشف عوراتهن وتبرجهن وعن إبداء زينتهن.

أخرج البيهقي عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وعد هذه الآيات الثلاث (٢٦ و ٢٧ و ٢٨) والرابعة (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ). والخامسة (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ). والسادسة (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً). والسابعة (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). والثامنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) (٢).

حدود ومعالم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ

__________________

(١) سورة هود آية ١١٤.

(٢) وهي على التوالي الآيات : ٣١ ، ٤٠ ، ١١٠ ، ١١٦ ، ١٥٢.

٣٦٣

إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)

المفردات :

(لا تَأْكُلُوا) المراد : لا تأخذوا ، وإنما عبر بذلك عن الأخذ لأن الأكل هو المقصود المهم. (بِالْباطِلِ) الباطل : ما قابل الحق. (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : لا يقتل بعضكم بعضا. (عُدْواناً) العدوان : قصد التعدي على الغير. (وَظُلْماً) : هو تجاوز الحق بالفعل. (نُصْلِيهِ ناراً) : ندخله ونحرقه بالنار. (تَجْتَنِبُوا) : تتركوا الشيء جانبا. (كَبائِرَ) : جمع كبيرة ، وهي المعصية التي قرن بها وعيد شديد أو حد في كتاب الله أو سنة رسوله كما في بعض الأقوال. (نُكَفِّرْ) : نغفر ونمنح. (مُدْخَلاً كَرِيماً) : مكانا طيبا وهو الجنة. (وَلا تَتَمَنَّوْا) التمني : طلب حصول الأمر المرغوب فيه. (فَضْلِهِ) : إحسانه

٣٦٤

ونعمه الكثيرة. (مَوالِيَ) : جمع مولى ، والظاهر أن المراد به من يحق له الاستيلاء على التركة ، وقيل غير ذلك. (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قيل : إن المراد بهم الأحلاف ، فقد كان من عادة العرب أن يتحالف الرجل مع رجل آخر على تبادل النجدة والمعونة ، وكان الحليف يرث السدس. وقيل وهو الظاهر : إن المراد بهم الأزواج.

ونحن في بيوتنا وأسرنا ومجتمعنا الصغير والكبير أحوج ما نكون إلى معرفة حكم الله في الاعتداء على المال أو النفس ، ولذا وضعت هذه الآية هنا.

المعنى :

المال شقيق الروح ، والاعتداء عليه يورث العداوة بل قد يجر إلى الجرائم والاعتداء على النفس أقسى اعتداء وأشده ، قد تنجم عنه حروب وثارات ، واجتناب الكبائر وإعطاء الحقوق لأربابها من دعائم المجتمع السليم ؛ لذا عالج القرآن هذا بأحسن علاج.

يا أيها المؤمنون : لا تكونوا من ذوى الأطماع في حقوق الغير ، الذين يأكلون أموال الناس بغير حق ، فلا يأكل بعضكم مال أخيه الذي بينه وبينه ويتخاصم لأجله بالباطل ، ولكن كلوه عن طريق التجارة ما دامت عن تراض منكم ليس فيها كذب ولا خداع ولا غش ولا تدليس.

والتجارة مشروعة ، ومتى كانت بالتراضي مع الذكاء وحسن العرض وجذب قلوب الناس بحسن الكلام والوسائل المغرية غالبا يأتى معها الربح الكثير ، وإنما أضاف الأموال إلى الجميع (أموالكم) للإشارة إلى أن مال الفرد مال الأمة ، والاعتداء على مال الفرد اعتداء على مال الأمة جمعاء ، فنحن خلفاء الله في هذا المال. والمال للكل ، فالفقير والمحتاج له منه نصيب فلا تمنعوه ... وهذه هي الاشتراكية الإسلامية ، احترام الملكية وإيجاد حق معلوم للسائل والمحروم بالزكاة المقيدة والمطلقة ، وحث على العمل ومنع الاعتداء على حق الغير إلا بحق الإسلام.

واستثناء التجارة من الأكل بالباطل فيه إشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها أكل مال الغير ، وإنما أبيحت للترغيب فيها «تسعة أعشار الرزق في التجارة» فهي عماد الحياة ودعامة العمران. متى خلت من الغش والكذب.

٣٦٥

ولا يقتل بعضكم بعضا ، وفي تعبير القرآن (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إشارة إلى أن من قتل غيره فكأنما قتل نفسه (بالقصاص) بل من قتل غيره فقد اعتدى على الأمة كلها وهو فرد منها (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (١) فدم المسلم على المسلم حرام إلا من ارتد أو زنى وهو محصن أو قتل عمدا.

وإذا كان قتل الغير على هذا الوضع. كان قتل النفس (الانتحار) أشد جرما وأفظع ذنبا لا يصح أن يصدر من مؤمن ، ولذا لم ينهنا عنه القرآن صراحة.

إن الله كان بكم رحيما ، حيث حرم الاعتداء على الغير في المال والنفس إلا بحق الإسلام ، من يفعل ذلك الاعتداء بقصد الجور والظلم فقد استحق من الله عقوبة صارمة وهي إصلاؤه النار وإدخاله فيها وبئس المصير (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء ٩٣]

وكان ذلك على الله يسيرا وسهلا تحقيقه فهو القادر على كل شيء ، مالك الملك والملكوت فلا يغرنك حال الكافرين والعصاة فالله يمهل ولا يهمل ، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

نهى الله عن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن القتل بغير حق ، وتوعد من ارتكب ذلك بأقسى العقوبة ، ثم ذكر في هذه الآية نهيا عامّا لكل كبيرة ووعد من يمتثل بمحو السيئة ودخول الجنة.

اختلف العلماء في المعصية وتحديدها وهل فيها كبيرة وصغيرة؟ أم كلها كبائر؟

وأحسن الآراء أن لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار ، فالمعصية إن صاحبها استخفاف بالدين ، واستهانة به مع الإصرار فهي كبيرة من الكبائر.

وإذا نظرت إلى الزنى وقبلة المرأة أو النظر إليها رأيت أن الزنى كبيرة بلا شك بالنسبة إلى النظر أو القبلة. وعلى هذا الأساس جاء حد الكبائر في الأحاديث الشريفة ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجتنبوا السبع الموبقات : ـ أى : المهلكات ـ قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي

__________________

(١) سورة المائدة آية ٣٢.

٣٦٦

يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» وقد رويت عدة روايات ثابتة ، فيها غير هذه الكبائر كشهادة الزور مثلا ... إلخ.

وخرج علماء الحديث ذلك على أن الرسول كان يذكر في كل مقام ما يناسبه ، فلم يكن ذلك على سبيل الحصر ، على أن الشارع نظر إلى عدم تحديد الكبيرة والصغيرة رجاء أن تجتنب المعاصي كلها ، كما أخفى الصلاة الوسطى ، وليلة القدر ، وساعة الإجابة ؛ لنحافظ على الكل.

واجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن تدعوه امرأة ذات حسن وجمال إلى نفسها ، فيأبى ذلك خوفا من الله لا لشيء آخر ، فهؤلاء الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم البسيط من السيئات ، والمعاصي التي تحصل لظرف طارئ كثورة أو غضب ثم يعقبها تأنيب وندم ، هؤلاء يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم ، نزلا من عند الله مباركا طيبا إنه واسع المغفرة.

بعد أن نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس بغير حق ، نهى عن كل الكبائر ، توعد على ذلك وأوعد ، نهى في الآية عن سبب كل هذا وهو تمنى ما عند الغير ، وحثنا على العمل والكسب حتى لا نطمع فيما في أيدى الناس.

وقد ذكروا في أسباب نزول الآية عدة روايات ، كلها تدور حول تمنى الرجال. مضاعفة الثواب كما ضوعف حظهم في الميراث ، وتمنى النساء الجهاد مثل الرجال وغير ذلك.

ينهانا الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن أن يتمنى كل مكلف منا ـ ذكرا كان أو أنثى ـ ما فضل الله به غيره ، بل الواجب على كل منا أن يعمل ويكتسب ويجد ويجتهد ، فله في كل عمل أتقنه وأخلص فيه نصيبه من الحسنات ، وعلينا أن نوجه أفكارنا إلى الخير وإلى ما يغذى العقل ويزكى النفس ، واسألوا الله أن يهبكم من فضله ويمن عليكم من نعمه ، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (١) ولذا ختم الله الآية بقوله إن الله كان بكل شيء عليما.

والله ـ سبحانه وتعالى ـ خص كلا من الرجال والنساء بأعمال تتفق وطبيعة كل ،

__________________

(١) سورة الشورى آية ٢٧

٣٦٧

وحثهم جميعا على العمل بالإشارة في قوله (اكْتَسَبُوا) الذي يفيد المبالغة والتكلف في العمل والكسب.

وانظر إلى قوله تعالى : (بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) إذ فيه إيجاز بديع ، فالآية تشمل كل تفضيل واقع بين الرجال والنساء وبين النساء والرجال ، أفرادا وجماعات.

وهذا التفضيل يشمل الخلقي ، ويشمل التفاضل فيما يدخل فيه العمل والاجتهاد كالعلم وتحصيل المال أو الجاه مثلا ، وهذا هو المقصود بالنهى في الآية. ومن السخف أن يتمنى الإنسان أن يكون قوى البنية أو صحيح الجسم أو ذكرا أو أنثى.

والخلاصة : إننا نهينا عن التمني مع الكسل والخمول ولا يتمنى هذا إلا ضعيف الهمة وضعيف الإيمان ، ولا شك أن هذا يجر إلى التعدي على الغير والحسد والحقد ... إلخ. وينبهنا الله بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) إلى الكسب والعمل. وفقنا الله إلى ما فيه الخير والسداد.

بعد أن نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن أكل أموال الناس بالباطل وعن تمنى ما للغير من مال أو جاه ، والمال هو المقصود ويأتى عن طريق الكسب وعن الإرث ، قال الله ـ تعالى ـ قطعا للأطماع ووضعا للأمور في نصابها : (ولكل) من الرجال والنساء (جعلنا موالي مما ترك) يحق لهم الاستيلاء على التركة وأخذها.

والمولى : هم (الوالدان والأقربون) والأزواج ، فآتوهم نصيبهم كاملا من غير نقصان ، واعلموا أن الله كان ولا يزال على كل شيء تفعلونه شهيدا فيجازيكم عليه يوم القيامة ، فلا يحملنكم الطمع وحسد بعضكم لبعض من جراء زيادة نصيبه في الميراث على أن يأكل من حق غيره سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا.

٣٦٨

تنظيم الحياة الزوجية

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)

المفردات :

(قَوَّامُونَ) : يقومون بأمرهن ويحافظون عليهن بعناية ورعاية تامة. (قانِتاتٌ) القنوت : السكون والطاعة. (لِلْغَيْبِ) : ما غاب واستتر من أمور الزوجية. (نُشُوزَهُنَ) النشوز : ارتفاع الأرض عما حولها ، والمراد : عصيان المرأة وترفعها على زوجها. (شِقاقَ) : نزاع وخصام ، كأن كلا منهما في شق وجانب. (حَكَماً) الحكم : من له حق الفصل بين الخصمين.

المناسبة :

لما نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن تمنى الرجال والنساء ما فضل الله به بعضهم على بعض ، وأمرهم بالعمل والجد ، وإعطاء كل وارث نصيبه في الميراث وفيه تفضيل الرجال على النساء. ذكر هنا معالم لتدعيم الرابطة الأسرية.

٣٦٩

المعنى :

من حكم الله العالية أن جعل الرجال من شأنهم وطبيعتهم أن يقوموا بأمر النساء والإرعاء عليهن خير قيام ، وتبع ذلك فرض الجهاد ، وحماية الذمار ، والإنفاق على النساء من أموالهم ، ولذا جعل الله حظهم في الميراث ضعف النساء.

وذلك بما فضل الله به بعض الرجال على بعض النساء ، فالرجل كامل الخلقة قوى الإدراك ، معتدل العاطفة ، سليم البنية ، كما فضلهم بوجوب الإنفاق على الزوجة والقريبة ووجوب المهر على أنه تعويض أدبى للمرأة ومكافأة على الدخول في حماية الرجل وحصن الزوجية ، وفيما عدا ذلك فالرجل والمرأة متساويان في كل الحقوق والواجبات ، ذلك من مفاخر الدين الإسلامى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) وهي رئاسة البيت والقيام عليه ، ومعناها تصرف المرأة بكامل حريتها في حدود الشرع وحدود ما يرضاه الزوج ويحبه ، فتحفظ منزله وتدبره بالحكمة وترعى أولاده. وتحفظ نفسها وعرضها ، وتنفق على حسب طاقة الزوج ، وفي ظل كفالة الرجل وحمايته يمكنها أن تقوم بوظائفها الطبيعية كالحمل والولادة والإرضاع ... إلخ ، وليست القوامة على النساء سلطة وتحكما ، ولكنها إرعاء وتفهم.

هؤلاء النساء لهن في الحياة المنزلية حالتان :

فالصالحات منهن قانتات مطيعات لأزواجهن ، حافظات لما غاب واستتر من أمور الزوجية التي لا يصح أن يطلع عليها أحد مهما كان ، كالأعراض وما يحصل في الخلوات ، وذلك بما وعدهن الله من الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وبما أوعدهن من العقاب الشديد على إفشائه ، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير النساء : التي إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» وهؤلاء ليس لكم عليهن إلا المعاشرة بالمعروف ، والمخالطة بالحسنى والآداب الإسلامية.

الحالة الثانية تظهر في هذا الصنف :

واللاتي تخافون أن يرتفعن عن حدود الزوجية وواجباتها فعلى الزوج أن يتبع التعليمات الآتية :

٣٧٠

(أ) أن يعظها بما يناسبها من تخويف بالله ، وأن هذه معصية ستعاقبين عليها يوم القيامة وأن يهددها ويحذرها سواء العاقبة ، وأنه سيحرمها بعض الهدايا والتحف ، واللبيب أدرى بحالة امرأته.

(ب) الهجر والإعراض عنها فلا يضاجعها حتى تتبصر في أمرها وتفكر في فعلها فربما رجعت عن نشوزها.

(ج) الضرب غير المبرح ، أى : المؤذى إيذاء شديدا.

وليس معنى هذا أن الضرب دواء يعطى لكل امرأة ، لا : بل قد تكون هناك نساء شواذ لا يصلح لهن إلا الضرب ومع هذا فديننا يأمرنا بالإحسان في المعاملة (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (١) وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم»؟؟ (٢)

فالضرب علاج مرّ قد يستغنى عنه الكريم الحر.

فإن أطعنكم وعولج حالهن بواحد من هذا (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) (٣) ولا تبغوا في الاعتداء عليهن سبيلا ، إن الله كان عليّا كبيرا ، ومع هذا فهو يقبل التوبة ويعفوا عن السيئة ، ولله المثل الأعلى ، فعاملوا من هو أضعف منكم بالحسنى والمغفرة.

قد لا ينتهى الحال عند هذا وقد تكون المرأة مظلومة فيتسع النزاع.

والعلاج أن يبعث الأهل أو الجيران وكل من يهمهم الأمر رجلا حكما من جانب الزوج وحكما من جانب الزوجة بشرط العدالة فيهما والقرابة والخبرة في شئون العائلات ونظام البيوت مع توفر حسن النية ، وهما إن يريدا إصلاحا وتوفيقا بين الزوجين قاصدين وجه الله فالله سيوفق ويهدى إلى الخير ، وإلا فقد يكون من الخير لهما الطلاق.

إن الله كان عليما بنا وبأحوالنا ، خبيرا بأمورنا ، وأفضل علاج يرتضيه هو العلاج الحاسم والدواء الناجع وليس علينا إلا اتباعه ، والله الموفق.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٢٨.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب ما يكره من ضرب النساء ٥٢٠٤.

(٣) سورة الأحزاب آية ٢٥.

٣٧١

وعظ وإرشاد

وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)

المفردات :

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) : صاحب القرابة ، أى القريب. (وَالْجارِ الْجُنُبِ) : البعيد منك. (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) قيل : المراد به الرفيق في السفر ، أو من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا. (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) : تقدم تفسيرها في آية «ليس البر» ج ٢. (مُخْتالاً) : ذا الخيلاء والكبر الذي يظهر تكبره في أفعاله

٣٧٢

وأعماله. (فَخُوراً) : هو المتكبر الذي يعدد محاسنه وأعماله تعاظما وتعاليا. (وَأَعْتَدْنا) : هيأنا وأعددنا. (مُهِيناً) ذا إهانة وذلة. (رِئاءَ النَّاسِ) : للرياء والسمعة. (قَرِيناً) : صاحبا وخليلا.

المناسبة :

الكلام من أول السورة إلى هنا في ربط أواصر الصلات وتنظيم حال البيوت والأسر مع العناية بالقرابة والمصاهرة ، ثم ناسب هنا ذكر بعض الحقائق التي تنظم المجتمع ، وتبنى الأسرة على أساس من التعاون وحسن المعاملة ، وقد صدّر هذا الإرشاد بالأمر بعبادة الله تعالى ؛ لأنها الأساس الأول ومصدر الخير والهداية.

المعنى :

عبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ هي الخضوع له غاية الخضوع ، مع إشعار القلب بتعظيم الله وإجلاله ، في السر والعلن ، والخشية منه وحده ، واعبدوا الله وحده مخلصين له الدين ، ولا تشركوا به شيئا من الإشراك حتى يكون العمل لله وحده.

وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، فلا تقصروا في حقوقهما ، وقوموا بخدمتهما كما يجب من غير تأفف أو تألم (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء ٢٣ ـ ٢٤].

ولأن حب الوالد لولده غريزة وطبيعة لم يأمرنا الله العطف على الأولاد.

وأحسنوا لذوي القربى كالأخ والأخت والعم والخال وأبنائهما ، فإن الإنسان إذا أحسن للوالدين والأقارب تكونت أسرة قوية متعاونة متساندة. وهي نواة المجتمع ومنها تتكون الدولة ، لا سيما إذا كان هذا العمل بعد الإيمان بالله والإخلاص له.

وأحسنوا لليتامى فقد فقدوا آباءهم ولا عائل لهم ، والمساكين فقد فقدوا أموالهم لضعف أو عجز أو آفة لا لكسل أو خمول أو إسراف في الشر ، وأحسنوا للجار القريب إذ له عليكم حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام ، والجار البعيد عنكم في النسب

٣٧٣

أو الدار ، وقيل : المراد به الجار ولو كان كافرا ، فقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعطف على جار له يهودي ويزور ابنه ، وقد قال الرسول : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره».

والصاحب بالجنب كالرفيق في السفر ، ومن عرفته ولو مدة قصيرة ، وابن السبيل : المنقطع في سفره عن أهله وماله واللقيط من باب أولى. كل هؤلاء الإحسان إليهم من إرشادات الدين ودعائمه ، وأما عبيدكم وإماؤكم فأحسنوا إليهم بالعتق أو بالمساعدة عليه بالمال ، وإذا كلفتموهم فأعينوهم على أعمالهم ، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ، وليأكلوا مما تأكلون وليشربوا مما تشربون فهم إخوانكم ، وهكذا تكون الاشتراكية الحقيقية للعمال ، وهكذا الدين الإسلامى يعامل الأرقاء بهذا فما بال الأحرار! ثم بعد هذا كله ذكر القرآن العلة في الامتثال وأن من يخالف هذه الوصايا ينطبق عليه الوصف الآتي المفهوم من قوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١).

المختال : من تمكنت من نفسه صفة الكبر حتى ظهرت على حركاته وأعماله ، والفخور : المعتد بنفسه المتحدث بعمله كبرا وانتقاصا لحقوق الغير ، والمختال الفخور مبغوض من عند الله والناس أجمعين ، إذ لا يعقل أنهما يمتثلان أمر الله في الوصايا ، إذ العبادة خضوع وخشوع وقلبهما بعيد عن هذا ، وهما لا يقومان بحق الغير ؛ لأنهما لا يشعران بحق للغير عليهما كبرا وبطرا ، ولقد صدق رسول الله حيث قال ما معناه : «الكبر بطر الحق وغمط الناس» وبطر الحق : رده استخفافا وترفعا ، وغمط الناس : استحقارهم والازدراء بهم ، وقد فسر القرآن الكريم المختالين الفخورين بأنهم الذين يبخلون فلا يعطون ، ويأمرون غيرهم بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله كالعلم والمال.

وقد روى عن ابن عباس : كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار ينصحون لهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر ، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون ، ويشمل البخل في الآية البخل بالمال وبالإحسان في الكلام وبالنصيحة.

هؤلاء هيأ الله لهم وأعد لهم بسبب كبرهم وبخلهم ، وكتمانهم الحق ، وعدم شكرهم

__________________

(١) سورة لقمان آية ١٨.

٣٧٤

عذابا يهينهم ويذلهم ، وقد سماهم الله كفارا للإشارة إلى أن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله ، ومن كان كافرا بنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.

والذين ينفقون أموالهم للرياء والسمعة ، لا شكرا لله على النعمة ، ولا اعترافا لعباده بحق ؛ والمرائى أقل خطرا من البخيل ولذا أخر في الذكر. وهم لا يؤمنون بالله حقا ـ لأن المؤمن الكامل لا ينفق رياء بل لله ـ ولا يؤمنون باليوم الآخر. إذ هم لو كانوا كذلك ما راءوا أحدا بل يعملون لهذا اليوم وهؤلاء هم قرناء الشيطان يوحى إليهم ؛ ويعدهم بالفقر لو أنفقوا ، ويأمرهم بالفحشاء والمنكر ، ومن يكن الشيطان له قرينا فبئس هذا القرين.

أى ضرر كان يلحقهم لو آمنوا حقيقة بالله وعملوا لليوم الآخر الذي فيه الجزاء وآمنوا به ، وأنفقوا مما رزقهم الله ابتغاء رضوانه وامتثالا لأمره؟ وهذا الأسلوب للتعجب من حالهم ؛ إذ هم لو أخلصوا العمل لما فاتهم ما يطلبون من منافع الدنيا والآخرة ، فحالهم حقيقة جدير بالعجاب.

وكان الله بهم عليما وخبيرا وسيجازيهم على أعمالهم ، فعلى المؤمن أن يعتقد أن الله يراه ويحاسبه على عمله فإنه إن لم يكن يرى الله فالله يراه.

ترغيب وتحذير

إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢)

٣٧٥

المفردات :

(لا يَظْلِمُ) الظلم : النقص وتجاوز الحد. (مِثْقالَ) أصله : المقدار الذي له ثقل ، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب. (ذَرَّةٍ) : أصغر ما يدرك من الأجسام ، وقيل : الجزء الذي لا يتجزأ ، وقيل : هي ما يرى في نور الشمس إذا دخلت من نافذة ، والذرة الآن لها اصطلاح علمي آخر.

المناسبة :

بعد الإرشادات السابقة من الأوامر والنواهي ، رغب ـ سبحانه ـ في الامتثال وحذر من المخالفة والعصيان بهذه الآيات.

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ متصف بكل كمال ، ومنزه عن كل نقص ، ومن النقص الظلم ، ومن الظلم أن ينقص أحدا من أجر عمله شيئا ولو بسيطا جدّا أو يعاقب أحدا مهما كان بغير ما يستحق (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (١). (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢).

والله خلق الخلق ولهم عقول ومشاعر تدرك بعض الخير والشر ، وأرسل لهم رسلا وأنزل معهم كتبا لتمام هدايتهم مع المبالغة في التحذير والإنذار ، فمن اجترح سيئة بعد ذلك ، ووقع فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣).

ومن فضله وإحسانه أنه يضاعف الحسنة إلى عشرة ، ويجزى السيئة بمثلها فقط (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٤) والله يضاعف بعد هذا لمن يشاء ، ويؤتى من لدنه أجرا عظيما فهو واسع الفضل كثير الخير.

وإذا كان هذا هو النظام العام في الثواب والعقاب ، فكيف حال هؤلاء الكفرة؟ إذا جاء يوم القيامة وشهد عليهم أنبياؤهم (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٥) (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٦).

__________________

(١) سورة الأنبياء آية ٤٧.

(٢) سورة الزلزلة الآيتان ٧ و ٨.

(٣) سورة فصلت آية ٤٦.

(٤) سورة الأنعام آية ١٦٠.

(٥) سورة فاطر آية ٢٤.

(٦) سورة الإسراء آية ٦٥.

٣٧٦

وقيل : معنى الشهادة أن أعمالهم تقاس بأعمال أنبيائهم ، وتعرض عليهم يوم القيامة. وأما الرسول الأعظم خاتم الأنبياء والمرسلين فهو شهيد على الأنبياء جميعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى البخاري والنسائي من حديث ابن مسعود أنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقرأ علىّ ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : نعم ؛ أحب أن أسمعه من غيرى ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حسبك الآن. فإذا عيناه تذرفان.

فانظر كيف بكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهذا اليوم؟! يومئذ يلاقون ما يلاقون ، يومئذ يود الذين كفروا بالله وعصوا رسول الله أن يدفنوا في الأرض كالبهائم ويسوى بهم فيكونون سواء (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١) وأنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض ، والحال أنهم لا يكتمون الله حديثا ولا يكذبون في قولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) لأنهم حينما يقولون ذلك تنطق عليهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم والشهادة عليهم بالشرك ، فلشدة الأمر عليهم يتمنون لو تسوى بهم الأرض.

بعض شروط الصلاة مع بيان رخصة التيمم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)

__________________

(١) سورة النبأ آية ٤٠.

(٢) سورة الأنعام آية ٢٣.

٣٧٧

المفردات :

(سُكارى) : جمع سكران وهو من الخمر. (جُنُباً) : من أصابته الجنابة كإنزال المنى أو الجماع. (الْغائِطِ) : المكان المطمئن من الأرض كان بقصد قديما لقضاء الحاجة فجعل كناية عنها (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) : كناية عن الجماع ، وحقيقته : اللمس المشترك من الجانبين ، (فَتَيَمَّمُوا) أى : اقصدوا. (صَعِيداً) : وجها طاهرا للأرض (عَفُوًّا) : ذو العفو ، وهو محو السيئة من أساسها. (غَفُوراً) : ذا المغفرة ، وهي ستر الذنب وقد يبقى أثره.

سبب النزول :

روى أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ودعا نفرا من الصحابة حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم للصلاة فقرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فنزلت الآية فحرموا الخمر وقت الصلاة ، وكانوا يشربونها ليلا حتى نزلت آية التحريم الكبرى.

وروى أن السيدة عائشة كانت في سفر ففقدت عقدها فنزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلتمسه والناس حوله وليسوا على ماء. فنزلت الآية وصلوا بالتيمم. وقد جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة وجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبى بكر. ما نزل بك يا عائشة أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا ، والظاهر أن صدر الآية نزل لحادثة الخمر وعجزها في حادثة السفر.

المعنى :

لما نهى الله ـ سبحانه ـ فيما مضى عن الشرك وارتكاب الكبائر نهى هنا عما يؤدى إليه وهو السكر. يا أيها الذين آمنوا : احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة والقيام لها ، فتصلوا وأنتم سكارى ، وامتثال النهى يكون بترك السكر وقت الصلاة وفيما يقرب منها ، والخطاب في الآية موجه للمؤمنين قبل السكر ليجتنبوه.

٣٧٨

حتى تعلموا ما تقولون وتدعون به ربكم : إذ السكر يتنافى مع الصلاة التي تحتاج إلى خشوع وخضوع واتجاه لله بالقلب ودعائه باللسان.

ولا تقربوا الصلاة حالة كونكم جنبا إلا في حالة عبور السبيل واجتياز الطريق ، وهل المراد بالصلاة حقيقتها؟ أو مكانها؟ الأصح أن يراد بها هذا وذاك ، لا تقربوها مع الجنابة أصلا حتى تغتسلوا ، والغسل : أن يعم الماء جميع الجسد ؛ إذ عند الجنابة توجد حالة عصبية عامة في الجسد يتبعها انحلال عام فيه ، وهذا الانحلال يذهب بالغسل.

الصلاة هي الركن الأول العملي في الدين ، وهي الصلة بين العبد والرب تتكرر خمس مرات في اليوم ، وهي مطلوبة طلبا لا هوادة فيه ، إلا أن الطهارة لها قد تتعذر على المسلم لمرض أو عذر ، فرخص الشارع الرحيم في التيمم لها حتى لا يعذر في تركها إنسان.

وكان التيمم بالتراب ؛ إذ لا يعقل أن يفقده الإنسان بحال من الأحوال بخلاف الماء ، على أنا خلقنا من التراب وكانت صورته كما ستعرف لإشعار الشخص بإجراء عملية تشبه الوضوء في أهم أركانه.

وإن كنتم مرضى مرضا يتعذر معه الوضوء أو الغسل ، أو في سفر من الأسفار وتعذر استعمال الماء لفقده أو لمشقة السفر ، أو أحدثتم حدثا أصغر يوجب الوضوء كخروج شيء من أحد السبيلين ... إلخ ، ما هو معروف في كتب الفقه الإسلامى. أو أحدثتم حدثا أكبر يوجب الغسل ـ كالجماع مثلا ولم تجدوا الماء لتعذر وجوده واستعماله لسبب من الأسباب.

فاقصدوا وجها للأرض طاهرا لا نجاسة فيه ، له غبار عند بعض العلماء والبعض لا يشترط فيكفى حجر صلب ... وتيمموا.

والخلاصة : أن التيمم رخصة تغنى عن الوضوء والغسل عند تعذر استعمال الماء لسبب من الأسباب التي ذكرت بالتفصيل في كتب الفقه.

وكيفية التيمم : نية وضربتان على تراب ولو كان غبارا من حشية (مرتبة) الأولى للوجه ، والثانية لليدين ، ثم لك بعد هذا أن تصلى وتقرأ القرآن ... إلخ ، كأنك متوضئ أو مغتسل ، وللتيمم أحكام كثيرة في كتب الفقه.

٣٧٩

إن الله كان غفورا حيث سهل الصلاة للمعذور بدون وضوء وغسل ، ونحن يا أمة النيل لكثرة نعم الله علينا ولجريان النيل تحت أقدامنا ، قد لا نشعر بفقد الماء وبالحاجة للتيمم ، ولكن الدين الإسلامى دين عالمي للصحراء وللوديان ، وقد عفا عمن صلى في حالة السكر قبل هذا ، والله عفو عن الذنب ، ومن كان عفوّا غفورا آثر التسهيل ولم يشدد علينا. سبحانه من رءوف رحيم (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ٧٨].

اليهود وأعمالهم

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)

المفردات :

(نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أى : جزءا من التوراة. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) : يميلونه ويزيلونه عن مواضعه. (غَيْرَ مُسْمَعٍ) : يحتمل غير سامع مكروها ، أو غير مقبول منك ولا مسموع دعاؤك. (وَراعِنا) يحتمل انظرنا وأمهلنا ، أو بمعنى الرعونة والطيش ، أو هي كلمة عبرية كانوا يتسابون بها وهي راعينا. (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) : فتلا بها وتحريفا. (طَعْناً فِي الدِّينِ) قدحا فيه وذمّا.

٣٨٠