التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

المفردات :

(مَفْرُوضاً) : محتوما لا بد من أخذه. (وَلْيَخْشَ) الخشية : الخوف مع تعظيم المخفو والأمل فيه. (سَدِيداً) : محكما صائبا ، والمراد : موافقا للدين. (ظُلْماً) : بغير حق. (سَيَصْلَوْنَ) : سيحرقون ، من أصلاه إصلاء : أراد إحراقه ، ومنه : صلى اللحم : شواه ، واصطلى : استدفأ. (سَعِيراً) : النار المستعرة.

سبب النزول :

روى أن أوس بن الصامت الأنصارى توفى وترك امرأته أم كحلة وبنات له فمنع ابنا عمه سويد وعرفطة ميراث أوس عن زوجته وبناته ، فشكت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاهما رسول الله ، فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلّا ولا ينكى عدوا ، نكسب عليها ولا تكسب ، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث ، ثم نزلت آية المواريث فجعلت لكل حقه.

المعنى :

إذا توفى رجل وورثه ذكور وإناث ـ صغارا كانوا أو كبارا ـ فالله قد أوجب لكل وارث نصيبا مفروضا وقدرا محتوما في المال الموروث من الوالدين أو الأقربين يستوي في ذلك القليل والكثير ، وستأتى آية المواريث وتوضح هذا المجمل وتبينه.

ولقد عالج القرآن الكريم بمناسبة تقسيم المال في التركات مرضا في نفوسنا وهو تألم البعض من حضور الأقارب ساعة التقسيم ، وحسد الأقارب الذين لا يرثون ، فقال : إذا حضر مجلس القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فعالجوا شح النفس عندكم واقطعوا ألسنة بعض ضعاف النفوس بأن تعطوهم شيئا من المال ولو قليلا ، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يسل السخائم ويهدئ النفوس ، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ واستلام المال ؛ كل هذا تحتمله الآية ، والمهم أن هذا أدب قرآنى وعلاج حكيم ، ولعل أحدث الدول رجعت تقول بضريبة التركات بل بالغت في درجتها.

٣٤١

ألا ما أحسن كلامك يا خالق الخلق!! وما أحكم دستورك يا إله السماء والأرض ، ارجعوا إلى القرآن واعملوا بما فيه فهو الخير ومنه الشفاء (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١).

وعلاج لمرض آخر وهو أن النفس الإنسانية كثيرا ما تتحامل على اليتيم وتقسو عليه فذكّرنا بشيء يهز القلب ويحرك المشاعر. تذكروا أنكم مفارقون أولادكم واخشوا ترك ذرية ضعفاء كزغب القطا لا حول لها ولا قوة ، فاتقوا الله وقولوا قولا سديدا يوافق الدين وتذكّروا أنه كما تدين تدان ، ثم ختم الكلام بهذا التهديد الشديد ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ويأخذونها بأى طريق إنما يأكلون في بطونهم ما به يدخلون النار وسيحرقون بنار مسعرة وقودها الناس والحجارة ، وقانا الله منها.

آيات المواريث

يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٨٢.

٣٤٢

وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)

المفردات :

(يُوصِيكُمُ) الوصية : ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل ، تقول : سافر

٣٤٣

فلان إلى بلد كذا وأوصيته بأن يحضر لي شيئا. (حَظِّ) : نصيب. (كَلالَةً) الكلالة : مصدر كلّ يكل كلالا ، وهو من الإعياء ، ثم استعمل في القرابة البعيدة غير قرابة الأصول والفروع ، رجل ذو كلالة ليس له والد ولا ولد ، وعلى هذا أكثر الصحابة.

(حُدُودُ اللهِ) : جمع حدّ وهو المنع ، وأحكام الله مانعة من الوقوع في المعصية. (مُهِينٌ) : ذو إهانة وذل.

سبب النزول :

جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله : هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال : يقضى الله في ذلك ، فنزلت آية المواريث ، فأرسل رسول الله إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثّمن وما بقي فهو لكم (١) ، وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.

وهذا نظام المواريث في الحكم الإسلامى الذي يفتخر به المسلمون ، وقد أصبح قاعدة عامة للمواريث في العالم ـ إن لم يكن هو المصدر الأول لأحدث الدساتير ـ ولو لا العصبية الممقوتة عند غير المسلمين لأخذوه كله ؛ فإنه نظام من حكيم عليم ، والآيات تتضمن حقوق الأولاد ذكورا وإناثا (الفروع) ، وحقوق الأصول كالأب والأم ، وحقوق الزوجية وحقوق الإخوة لأم. أما الإخوة لأب فحكمهم سيأتى في آخر السورة.

ولأن الأولاد أحق بالعطف والمعونة ولأن الأصول قد يكون لهم حق واجب على غير المتوفى ، أو لهم قدرة على الكسب ، ولقلة ما بقي من عمرهما بدأ بالفروع وكان لهم نصيب كبير.

يوصيكم الله وصية لمصلحتكم ـ أيها المخاطبون والمكلفون ـ من المسلمين لأنهم هم الذين يقسمون التركات ، ولمبدأ تكافل الأمة وأنها كالجسد الواحد ، يوصيكم الله في شأن أولادكم أن يأخذوا من تركة أبيهم ، وإذا كانوا إناثا وذكورا ، فللذكر مثل نصيب

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب الفرائض رقم ٢٨٩١ وأخرجه الترمذى وابن ماجة.

٣٤٤

الأنثيين ولا غرابة في هذا ، فالرجل محتاج إلى النفقة على نفسه وزوجته ، وأخته ؛ وأخته تكفل نفسها ، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها.

وإن كان للميت ذكر واحد لا أخت له أخذ التركة بعد أخذ أصحاب الفروض كالزوجة والأم والأخ لأم كما سيأتى.

وإن كان للميت بنتان فأكثر أخذتا الثلثين (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) وقد دخلت البنتان في عموم الآية ، لأن البنت مع أخيها تأخذ الثلث وهو يأخذ الثلثين ، والذكر له حظ الأنثيين ، فإذن البنتان تأخذان الثلثين ، ولأن الله صرح في آية أخرى بحق الأختين وأنهما يأخذان الثلثين ، وقد ساق القرآن هنا حكم البنتين فأكثر مع بقاء التفريع على ما تقدم ، وهذا ما فهمه جمهور الصحابة خلافا لابن عباس الذي يرى أن للبنتين النصف ، وإن كانت واحدة فلها نصف ما ترك أبوها والباقي يورث على حسب المواريث الشرعية.

حقوق الوالدين :

ولأبوى الميت السدس لكل واحد منهما ، لا فرق في ذلك بين الأب والأم لأن علاقتهما ومحبتهما بالنسبة له سواء ، هذا إن كان له ولد ، فإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن (الولد يطلق على الذكر والأنثى) وقد ورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما ، فإن كان للميت إخوة من ذكور أو إناث رجعت الأم من الثلث إلى السدس سواء كانت الإخوة لأبوين أو لأحدهما وليس كذلك كالأخ الواحد وقد قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدون من بعده بأن الأخوين والأختين يردون الأم من الثلث إلى السدس ، هذا حكم الوالدين مع ولد للميت وعدمه ومع الإخوة للميت ، وبقي حكم الوالدين مع أحد الزوجين.

والحكم أن الزوجين يأخذان حظهما ، والأم ثلث الباقي والأب الباقي من التركة ، هذا رأى جمهور الصحابة ما عدا ابن عباس ـ رضى الله عنهم أجمعين ـ.

يوصيكم الله أن تعملوا بهذه القوانين فإنها خير لكم وأنفع من بعد وصية يوصى بها الميت أو دين يتركه عليه ، ولعل تقديم الوصية في الذكر على الدّين لأنها أخذ شيء من

٣٤٥

غير عوض ، قد تكون ثقيلة على الورثة فقدمها للاعتناء بها ، وإن كان الدّين مقدما عليها في الأداء وكان العطف للإيذان بأنهما متساويان في الوجوب متقدمان على القسمة مجموعين أو منفردين. ولا تتبعوا ما كنتم عليه في الجاهلية من حرمان الأنثى والصغير ، فلستم تعرفون النافع من الضار فاتبعوا ما أمركم الله به فهو أعلم منكم ، بما هو أقرب في النفع لكم ، وقد فرض ما ذكر من الأحكام فريضة محكمة لا هوادة في وجوب العمل بها فريضة من الله ، إنه كان عليما بكم حكيما يضع الأمور في نصابها.

حقوق الأزواج :

إن كان الميت أنثى فللزوج النصف ، هذا إن لم يكن للزوجة ولد ولا ولد ابن سواء كان من الزوج أو من غيره ويستوي في ذلك الزوجة المدخول بها والمعقود عليها ، فإن كان لها ولد أو ولد ابن من أى زوج فلكم أيها الأزواج الربع مما تركن والباقي للأقارب حسب الميراث الشرعي وذلك من بعد وصية توصى بها أو دين ثبت عليها.

وإن كان الميت ذكرا فلزوجته الربع من تركته إن لم يكن له ولد ولا ولد ابن ، أى : فرع وارث وإن يكن من غيرها ، فإن كان له ولد أو ولد ابن فلها الثمن والباقي للورثة حسب المواريث الشرعية ، وذلك من بعد وصية يوصى بها أو دين.

وإن كان هناك رجل موروث كلالة بأن لم يكن له فرع وارث من ابن أو ابن ابن ، وليس له أصل وارث كالأب والجد ، وكان له أخ من الأم أو أخت فللأخ من الأم السدس ذكرا كان أو أنثى ، فإن كانوا أكثر من ذلك فلهم الثلث كالأم.

كل هذا : من بعد وصية يوصى بها أو دين حالة كونه غير مضار في الوصية بأن تكون أكثر من الثلث ، وفي الدّين بأن يقر بدين لم يقبضه أو يستغرق المال كله ، وشرط عدم الضرر في صاحب الكلالة فقط لأن بعض الناس قد يكره ميراث الكلالة فنهاهم الله عن الضرر في ذلك ، والله عليم بالأحوال حليم بنا لا يعاجل بالعقوبة من يستحقها.

وبعد أن بين الله الأحكام المتعلقة بالضعفاء من الأيتام والنساء وأحكام المواريث ، أشار إلى أنها حدود الله ومحارمه التي لا يصح لمسلم أن يتخطاها ويتجاوزها ، ومن حام حولها يوشك أن يقع فيها.

٣٤٦

ومن يطع الله باتباع ما أنزله على رسوله وبلغه إلى خلقه ومن يطع الرسول فيما بلغ عن ربه من أحكام وآيات ، يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار. وصفها الحقيقي الله أعلم به ، وعلينا أن نسلم به وأنه جزاء المحسنين ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وهم فيها خالدون ، وذلك هو الفوز العظيم.

وأما من يتعدّ حدود الله وينتهك حرمات الله ويعص الله ورسوله يدخله نارا وقودها الناس والحجارة خالدين فيها إلى ما شاء الله وله عذاب مهين ومذل له فهو عذاب مادى وروحي.

الفاحشة وجزاؤها

وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)

المفردات :

(يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) : يفعلنها ، والفاحشة : ما فحش ذنبه وقبح جرمه كالزنا. (يَتَوَفَّاهُنَ) يقال : توفيت مالي على فلان واستوفيته : قبضته ، والمراد : توفى أرواحهن ملك الموت.

المعنى :

واللاتي يأتين الفعلة الممقوتة وهي الزنا ، ولا شك أنها أكبر الفواحش وأحقرها ،

٣٤٧

ومن يفعلها من النساء فاطلبوا أربعة من الرجال يشهدون عليهن ، والخطاب للأمة كلها لأن هذا مرض عام يفت في عضد الأمة ، فإن شهدوا عليهن فأمسكوهن في البيوت فإنهن جرثومة الفساد ، وداء إذا تفشى أهلك الأمم والأفراد حتى يتوفى أرواحهن ملك الموت ويقبضها ، أو يجعل الله لهن سبيلا بأن يتزوجن ويقلعن ، وقيل : هو الحد عن هذا الداء الحقير ولا يكون ذلك إلا من الله وتوفيقه.

واللذان يأتيان الفاحشة من الزاني والزانية غير المحصنين فآذوهما بالتأديب والتوبيخ ، فإن تابا وأصلحا حالهما وأعرضا عن هذا العمل المشين فأعرضوا عنهما وكفوا الأذى ، إن الله كان توابا يقبل التوبة من عباده ويعفوا عن السيئات رحيما بعباده.

وفي هاتين الآيتين رأيان : رأى الجمهور القائل : إن الفاحشة هي الزنا خاصة ، فالآيات الأولى في المحصنات من النساء ، أى المتزوجات ، والآية الثانية في الأبكار ، ولذا كان عقابهن خفيفا .. والآيتان منسوختان بالحد المفروض في سورة النور من الرجم والجلد وهو المراد بالسبيل الذي جعله الله للنساء المحبوسات في البيوت.

وعن أبى مسلم أن الآية الأولى في المساحقات التي تحصل بين النساء ، والثانية في اللواط ، وعلى هذا فلا نسخ ، وقد قال بذلك مجاهد ، والله أعلم.

متى يقبل الله التوبة

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)

٣٤٨

المفردات :

(السُّوءَ) : العمل القبيح الذي يسوء فاعله ، فيشمل الصغائر والكبائر.

(بِجَهالَةٍ) المراد بها : الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب ، وكل من عصى الله فهو جاهل.

(أَعْتَدْنا) : هيأنا وأعددنا.

المعنى :

إنما قبول التوبة والغفران واجب على الله لسابق وعده الكريم فقد (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الأنعام آية ٥٤].

قبول التوبة متحقق للذين يعملون المعصية ويلمون بها ولم يصروا عليها ؛ لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان ، حتى إذا ما ثابوا لأنفسهم ورجعوا لعقولهم أدركوا خطأهم وأنبوا أنفسهم وتابوا إلى الله توبة نصوحا هؤلاء هم الذين يعملون السوء ، أى : المعصية الواحدة التي لم تكرر حتى تصير سيئات ـ كما في الصنف الثاني ـ في ثورة الجهل والسفه ، والغضب ، حتى إذا زالت تلك الحال تابوا من قريب ، أى : بعد وقوعها بسرعة ، فأولئك يتوب الله عليهم.

والله الذي أوجب قبول التوبة على نفسه عليم بخلقه إذ إن النفس الإنسانية قد تشذ ويغويها الشيطان فتقع في المعصية ، فلولا باب التوبة ليئس الناس وظلوا على حالهم ، وهو الحكيم في صنعه ـ سبحانه وتعالى ـ.

وليست توبة الذين يعملون السوء بعد السوء حتى تصير لهم سيئات وسيئات مقبولة عند الله ، وذلك أن المعصية تجعل في القلب نكتة سوداء. بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي ، هؤلاء لا تقبل توبتهم ، وكيف تقبل وهم يظلون على عملهم سادرين في غيهم؟ حتى إذا أدركهم الموت وساعته تابوا عند العجز عن المعصية والخوف من العقاب.

٣٤٩

وأما حديث أن التوبة تقبل ما لم يغرغر فمحمول على من تاب توبة خالصة لله ، يدرك فيها المذنب قبح فعله السابق ويندم ندما حقيقيّا وقلما يحصل مثل هذا.

ولا يقبل الله توبة الذين يموتون وهم كفار. وقد سوى الله بين من يموت كافرا وبين من يؤجل التوبة حتى تحضره الوفاة ؛ إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.

أولئك هيأنا لهم عذابا مؤلما ومذلا لهذين الفريقين اللذين استعبدهما الشيطان إلى الموت.

كيف نعامل نساءنا؟

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)

٣٥٠

المفردات :

(وَلا تَعْضُلُوهُنَ) العضل : داء عضال ، أى : شديد ، وعضلت المرأة بولدها : إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه ، فالعضل : الشدة والتضييق والحبس. (الفاحشة) : الفعلة الشنيعة القبيحة. (مُبَيِّنَةٍ) : واضحة ظاهرة. (بِالْمَعْرُوفِ) : ما لا ينكره الشرع والعرف والطبع. والبهتان : الكذب. (أَفْضى) : وصل إليها وصولا خاصا وهو ما يكون بين الزوجين. (مِيثاقاً غَلِيظاً) : عهدا مؤكدا ربط برباط قوى محكم.

كانت المرأة في الجاهلية تعد من قبيل المتاع حتى كان أقارب الزوج المتوفى يستولون عليها كرها. روى البخاري : أنه كان إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت الآية.

وقيل : كان الرجل يمسك المرأة وهو لها كاره حتى تموت فيرثها!! وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن تكفى حاجته حبسها مع سوء العشرة ؛ لتفتدى نفسها بمالها وتختلع ، فقيل : ولا تعضلوهن ... الآية.

وكان من عادتهم في الجاهلية أيضا إذا أرادوا فراق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشترى نفسها بالمهر الذي دفعه إليها.

والآية الكريمة فيها دواء لهذه الأدواء وعلاج كريم ورفع المرأة إلى مكانتها اللائقة بها كشريكة في الحياة وكإنسان حي له كرامة وشخصية. وهكذا الإسلام والقرآن من أربعة عشر قرنا يعالج ولكن بحكمة لا إفراط ولا تفريط. لأنه تنزيل من حكيم عليم.

فيا من اتصفتم بالإيمان بالله ورسوله لا يليق أن تعاملوا المرأة كالمتاع فتستولون عليها وترثونها وهي كارهة لهذا ، لا يحل لكم أبدا أن تفعلوا فعل الجاهلية إن شاء أحد الأقارب تزوجها وإن شاء أمسكها ومنعها إلى أن تموت ، تالله إن هذا عمل لا يليق بكم أبدا.

ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن ، وتضاروهن حتى يضطروا إلى الافتداء بالمال والصداق ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «استوصوا بالنساء خيرا ؛ فإنهن عوان في أيديكم ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله».

٣٥١

وهل يليق بمن اتصف بالإيمان وخالط قلبه بشاشته أن يفعل الإيذاء خاصة مع من أفضى إليها وعاشرها معاشرة الأزواج لأجل المال أو العتاد؟ تالله إن هذا لا يليق أبدا. ما دامت المرأة في طاعته وتحفظ فراشه وتقوم بخدمته ، فإذا نشزن عن طاعتك وساءت عشرتهن ولم ينفع معها النصح أو التأديب أو ظهر ـ والعياذ بالله ـ أنها ارتكبت فاحشة كالزنا أو السرقة أو نحوها من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا فلكم حينئذ أن تعاكسوهن وتعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أعطيتموه لهن من المال والصداق ، وإنما شرط في الفاحشة أن تكون ظاهرة فاضحة لئلا يستغل هذا بعض ضعاف النفوس من الرجال فيرمى المرأة العفيفة بشيء لمجرد الظن فقط ، وإنما أبيح للرجل التضييق على المرأة التي تأتى بالفاحشة خشية أن يستغل بعض النساء هذا فيفحشن في القول والفعل حتى يطلقها زوجها فتتاجر بالمال والصداق مع كل رجل.

ويا أيها المؤمنون عاشروا نساءكم بالمعروف وخالطوهن بما تألفه الطباع السليمة ولا ينكره الشرع ولا العرف من غير تضييق في النفقة ولا إسراف ، وفي كلمة المعاشرة معنى المشاركة والمساواة ، أى : كلّ يعاشر صديقه من جانبه بالمعروف معرضا عن الهفوات جالبا للسرور معينا على الشدائد حافظا للود (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (١) فإن كرهتموهن لعيب خلقي أو دمامة في خلقتهن أو تقصير أو مرض أو لهوى في نفوسكم فاصبروا ولا تتعجلوا ، فعسى أن تكرهوا شيئا وفيه الخير الكثير لكم ، ومن يدرى؟ إن هذه الدميمة تكون أم الأولاد النجباء وربة البيت الأمينة المحافظة المقتصدة الصبور المعينة لك في السراء والضراء ، والحوادث تثبت أكثر من هذا ، فالصبر الصبر أيها المؤمنون ، وحسن المعاشرة ؛ وإن أردتم استبدال زوج جديد مكان زوج سابقة كرهتموها وهي لم تأت بفاحشة ظاهرة وقد كنتم آتيتموها المال الكثير قبل ذلك ، فلا تأخذوا من هذا المال شيئا لأنها لم ترتكب ذنبا تستحق أن يؤخذ منها المال ؛ وإرادة الاستبدال ليست شرطا في عدم حلّ الأخذ بل هو الكثير الغالب.

وكيف تأخذونه وتستسيغون ذلك بعد أن تأكدت بينكم رابطة الزوجية بأقوى رباط حيوي وباشر كل منكم الآخر ولابسه ملابسة يتكون منها الولد ، واطلع على ما لم يطلع عليه أب أو أخ؟! إن هذا الشيء عجيب ، أتأخذونه بالبهتان آثمين وقد أفضى

__________________

(١) سورة الروم آية ٢١.

٣٥٢

بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا هو حق الصحبة والمضاجعة ، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمته ، وقيل : الميثاق : «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان».

والشريعة لم تحدد مقدار الصداق بل تركته للظروف والأحوال ، وإن التغالى فيه لمعوق للزواج الذي هو مطلوب الشرع.

من يحرم التزوج بهن

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)

المفردات :

(سَلَفَ) مضى. (مَقْتاً) : ممقوتا ومبغوضا. (ساءَ سَبِيلاً) أى : بئس ذلك طريقا.

٣٥٣

المعنى :

ذكر الله في هاتين الآيتين ما يحرم على الرجال نكاحهن ؛ وقد كانوا في الجاهلية إذا توفى الرجل عن امرأته كان ابنه أحق بها ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه ، أو ينكحها من شاء!! والمراد بالنكاح : العقد كما قال ابن عباس.

روى ابن جرير : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي حرام ، والمراد بالآباء ما يشمل الأجداد ، والمراد أنكم تستحقون العقاب لنكاحكم ما نكح آباؤكم إلا ما مضى فهو معفو عنه ، إن هذا النكاح كان فاحشة يأباها العقل وممقوتا في الشرع وساء سبيلا ، وبئس ذلك الطريق في العرف ، ولذا كانوا يسمونه نكاح المقت وبعد هذا بين الله أنواع المحرمات وهي أنواع.

نكاح الأصول :

فقد حرم الله نكاح الأمهات وكذا الجدات.

ونكاح الفروع :

فقد حرم الله نكاح البنات وهن يشملن بنات الصلب وبنات الأبناء.

نكاح الحواشي القريبة والبعيدة :

فقد حرم نكاح الأخت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم.

ونكاح العمات والخالات القريبة والبعيدة كعمة الأب وخالة الأم.

وقد حرم بنات الأخ وبنات الأخت من جهة الأبوين أو لأب أو لأم.

ما حرم من جهة الرضاع :

يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب.

٣٥٤

فإذا رضع طفل من امرأة فهي أمه تحرم عليه ، وزوجها أبوه وأولادها أخواته ، وهكذا للرضاع أحكام كثيرة مذكورة في كتب الفقه ، ويجب على المسلمين العناية به.

ما يحرم بسبب المصاهرة :

فقد حرم أم الزوجة التي دخلت بها أو عقدت عليها ، وكالأم الجدة.

وابنة الزوجة التي من غيرك ـ وهي الربيبة ـ بشرط الدخول بأمها ، وكذا أولاد أولادها ، فإن لم يدخل بها لا يحرم عليها بناتها ، وزوجة الابن وابن الابن تحرم على الأب والجد.

ما يحرم بسبب عارض :

الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها ، وضابط ذلك كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه نكاح الأخرى كالمرأة وعمتها وخالتها ... إلخ.

إلا ما قد سلف فلا يؤاخذ عليه ... وعن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرم الله إلا نكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين. إن الله كان غفورا رحيما. والله أعلم.

٣٥٥
٣٥٦

من أحكام الزواج

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)

المفردات :

(وَالْمُحْصَناتُ) الإحصان في القرآن جاء بأربع معان : الزواج كما في قوله تعالى (وَالْمُحْصَناتُ) أى : المتزوجات لأنهن دخلن حصن الزواج وحمايته. العفة : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ). الحرية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) الإسلام : (فَإِذا أُحْصِنَ) أى : أسلمن عند بعض العلماء. (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) المراد بهن : ما سبين في حروب دينية وأزواجهن كفار في دار الحرب. (أُجُورَهُنَ) المراد بها هنا : المهور. (فَرِيضَةً) : مفروضة ومقدرة. (لا جُناحَ) : لا إثم ولا حرج.

المعنى :

ذكر الله ـ سبحانه ـ في الآية السابقة المحرمات من النساء بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها ... إلخ. وفي الآية هنا ذكر أن

٣٥٧

المحصنات من النساء بمعنى المتزوجات كذلك يحرمن ما دمن في عصمة رجل ... إلا اللاتي سبين في حرب دينية بيننا وبين الكفار ، أى : ليست حرب استعمار واستغلال ، فقد روى عن أبى سعيد الخدري أنه قال : «أصبنا سبيا يوم (أوطاس) ، ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ، فسألنا النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن» فقد أحل الله للمسلم نكاح المسبية بعد براءة رحمها من زوجها الأول ، وشرط الأحناف أنه لا بد من اختلاف الدار بينها وبين زوجها ، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره.

ولعل سائلا يقول : الرق وصمة عار فكيف يبيح الإسلام هذه المعاملة؟

نعم هو وصمة عار والإسلام لم يفرضه ولم يحرمه ، بل لم ترد آية واحدة في القرآن تبيح الرق ، وقد ترك لإمام المسلمين الحرية فيما يراه صالحا وموافقا لمصلحة الدولة من ناحية الأسرى (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [سورة محمد آية ٤]. وفي هذا الحكم خاصة نظر القرآن إلى مصلحة المرأة نفسها ، إذ غالبا زوجها قتل في الحرب وفرق بينه وبينها ، فلن يعود إليها. فبدل أن تكون جرثومة فساد ، أو عالة على المجتمع ، ندب لها كافلا أو زوجا يكفيها مئونة العيش ولم يتركها. بل أمره بالعدل معها والرحمة ، وحثه على العتق ورغبه فيه ، وشرطه في كثير من الكفارات.

وبالجملة فقد حرم الله علينا المحصنات من النساء إلا ما سبيناهن في حروب دينية.

وعلى هذا الأساس فليس هناك رق في العالم يقره الإسلام ويرضاه إلا لضرورة.

كتب الله علينا هذه المحرمات كلها ، وأحل لكم ما وراء ذلك المذكور من المحرمات في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ...) إلى هنا ، وكذا المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره ، والمشركة حتى تسلم ، فعل ذلك لأجل أن تبتغوا النكاح الحلال وتطلبوه بأموالكم متى تدفعونها للزوجة أو ثمنا للأمة بشرط قصد الإحصان والإعفاف. لا بقصد سفح الماء والزنا ؛ محصنين أنفسكم وزوجاتكم غير مسافحين ولا زانين.

فالقصد الصحيح الشرعي من الزواج هو الإعفاف ، وحفظ الماء ، والنسل الطاهر ، فيختص كل رجل بأنثى وكل أنثى برجل ، وهذا هو معنى الإحصان وعدم سفح الماء ، فإن الزاني لا يريد باتصاله بالمرأة إلا سفح الماء فقط استجابة لداعي الطبيعة الحيوانية فيه.

٣٥٨

فما استمتعتم به من النساء فآتوهن مهورهن التي اتفقتم عليها وفرضتموها على أنفسكم ، فريضة من الله العليم الحكيم.

والمهر ليس في مقابلة المتعة للرجل ، وحق الإشراف على البيت والقيامة على المرأة ، وإنما هو لتحقيق العدل والمساواة ودليل المحبة والإخلاص ، ولذا سماه الله نحلة وعطية ، ولا جناح عليكم فيما لو تراضيتم واتفقتم بعد العقد ، فزدتم في المهر أو نقصتم فيه أو تنازلت الزوجة عن شيء لمصلحة الحياة الزوجية وعلامة على الإخلاص والتعاون إن الله كان عليما بكل نية وقصد ، حكيما في كل قانون يسنه لعباده.

والمهر يجب بالعقد أو الدخول ، وفي بعض المذاهب بالخلوة الصحيحة.

متى تنكح الأمة وما جزاؤها على الفاحشة

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)

المفردات :

(يَسْتَطِعْ) الاستطاعة : كون الشيء في طوعك. لا يتعاصى عليك. (طَوْلاً) : زيادة وفضلا في المال أو الحال. (الْمُحْصَناتِ) والمراد هنا : الحرائر.

٣٥٩

(مُسافِحاتٍ) : زانيات. (أَخْدانٍ) جمع خدن : وهو الصاحب أو الرفيق الذي يزنى سرّا. (بِفاحِشَةٍ) : بفعلة قبيحة وهي الزنا. (الْعَنَتَ) أصله : كسر العظم بعد الجبر ، ثم استعير لكل مشقة وضرر.

المعنى :

ومن لم يستطع منكم من جهة الطول والقدرة في المال ، أو الحال لسبب من الأسباب. أن ينكح الحرائر اللاتي أحصنتهن الحرية ، ومنعتهن عن الوقوع في المفاسد خاصة المؤمنات ، فلينكح ما ملكته يمينه من المسبيات في الحرب الدينية من فتياتكم ، والمؤمنات منهن أفضل ، وانظر إلى قوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ) بدل إمائكم ، للإشارة إلى أنهن أخواتكن فليعاملن معاملة كريمة عزيزة.

ثم رغب القرآن في نكاحهن بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) فأنتم أيها المؤمنون أولى ببعض فلا ينبغي أن يعد نكاح الإماء عيبا ، إذ المهم هو الإيمان والله أعلم به ، فرب أمة خير من ألف حرة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١).

فانكحوهن أيها الراغبون بإذن أهلهم ، وهم الموالي المالكون ، وقيل : من له ولاية عليهن كالأب والجد أو القاضي والموصى. أدوا إليهن مهورهن كاملة بالمعروف شرعا وعادة بلا نقص أو تهاون ، حالة كونهن متزوجات منكم ، محصنات بكم ، لا مسافحات ولا زانيات ، بمعنى ادفعوا المهر بقصد الزواج والإحصان لا بقصد الزنا والسفاح ، بشرط ألا يكن متخذات أخدان وأصحاب يزنين بهن سرّا.

والفاحشة كانت في الجاهلية على نوعين : سرّا وكان يأنف منها الأشراف ، وجهرا وكان يقوم بها الإماء فقط ، وينصبون علامة حمراء لهن في الجبل بل كان بعضهم يشترى الإماء لهذا ، ولذا نرى الله يقول : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (٢) وقيد هنا بقوله : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) في جانب الإماء ؛ لأنهن أقرب إلى الوقوع في الفاحشة من الحرائر ، وعند الكلام على الحرائر قال : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لأن الرجال أكثر منهن انقيادا لدواعى الفاحشة وهم الذين يطلبونها من النساء غالبا.

__________________

(١) سورة الحجرات آية ١٣.

(٢) سورة الأنعام آية ١٥١.

٣٦٠