التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

المعنى :

المثل الأول : المنافقون قوم أظهروا الإسلام زمنا قليلا فأمنوا على أنفسهم وأولادهم وأخفوا وراءهم الكفر والفساد ، ولكنهم لم يلبثوا على ذلك حتى أظهر الله الحق ، وبدا الصبح لذي عينين فأضحوا بعد أمنهم خائفين وصاروا متخبطين في ظلمة النفاق والفضيحة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، فحالهم هذه تشبه حال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها ، فلما أوقدت النار وأبصروا ما حولهم زمنا يسيرا أطفأها الله وذهب بنورهم من أساسه وتركهم في ظلمة الليل وظلمة السحب المتراكمة وظلمة إطفاء النار فهم لا يبصرون.

ولا شك أن المنافقين صم عن الحق فلا يسمعون ، وبكم فلا يتكلمون ، وعمى عن الهدى فلا يبصرون. إذن فهم لا يرجعون أصلا عن حالهم فلا تأس عليهم ولا تحزن.

أردف الله المثل السابق بمثل آخر مستقل واضح ليظهر حالهم فلا تخفى على أبسط الناس فهما وإدراكا.

المعنى :

المثل الثاني : أنزل الله القرآن الكريم : وقد اعترى المنافقين شبهة واهية ، وفي هذا القرآن وعد لمن آمن ووعيد لمن كفر ، وفيه حجج بينات واضحات ، وفيه آيات فاضحة لهم وكاشفة أستارهم كانت تنزل عليهم نزول الصاعقة أو أشد ، وهم مع القرآن الكريم إذا نزلت آية فيها مغنم فرحوا وساروا مع المسلمين وإذا نزلت آية تطالبهم بالجهاد أو تكشف حالهم وقفوا وبهتوا.

فحالهم هذه تشبه حال قوم نزل عليهم مطر غزير من كل جانب ، وكان يصاحبه صواعق تصم الآذان حتى أنهم يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم خوفا من الموت.

وأما برقه ونوره فكلما ظهر في الأفق فرحوا وساروا آمنين ، وهم حريصون على ذلك ، وإذا أظلم الأفق وانتهى البرق وقفوا حيارى مبهوتين.

والله محيط بهم قادر عليهم ، ولو شاء لأذهب أسماعهم بقوة الرعد وأبصارهم بوميض البرق فهو القادر المختار.

٢١

روائع التشبيه : في هذا المثل العظيم عيون البلاغة ، وقوة التعبير الذي يقف عنده كل بليغ وأديب.

فيه تشبيه القرآن بالمطر إذ المطر يحيى موات الأرض. والقرآن يحيى موات النفوس ، ومع القرآن شبهة واهية لا أساس لها كالظلمات العارضة مع المطر.

وفيه وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة ، وفيه حجج وآيات كالبرق وضوحا وجلاء ، وفيه آيات كاشفة فاضحة كالصواعق أو أشد خطرا.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المثل الأول للمنافقين الخلص ، والثاني للمترددين تارة يظهر لهم وميض الإيمان ونوره وتارة يخبو ، وقيل : هما لصنف واحد.

وحدة الإله. إعجاز القرآن. صدق الرسول

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)

٢٢

المفردات :

(يا) صوت يهتف به المنادى ، ويكون لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل لعظم المأمور به بعد النداء ، والظاهر أنها استعملت هنا لهذا (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) : أطيعوه. (فِراشاً) الفراش : ما يفرشه الإنسان ، والمراد أنه مهدها للإقامة عليها. (بِناءً) : مبنية محكمة. (أَنْداداً) : جمع ندّ وهو النظير. (شُهَداءَكُمْ) : جمع شهيد ، وهو من يحضر معكم من الرؤساء ، أو من يشهد لكم يوم القيامة.

المناسبة :

لما ذكر الله ـ سبحانه ـ القرآن وصفته ، وبين أن الناس مع القرآن ثلاثة أنواع : فمنهم المؤمن ، والكافر ، والمنافق ، خاطبهم جميعا بوصف عام يأنسون به ليكون ذلك أدعى للامتثال ؛ ولما أثبت الوحدانية لله. ثنى ببيان إعجاز القرآن وفي ذلك إثبات صدق الرسول.

المعنى :

لقد أمر الله الناس بعبادته ، والإقرار له بالربوبية والوحدانية ، ونبذ الأصنام وما كانوا يعبدون ، لأنه الرب الذي خلقهم ، وخلق آباءهم من قبل ؛ فلا يليق بهم أن يتخذوا أندادا له.

ففي عبادتهم لله وحده تتحقق تقواهم التي يحبها الله لهم ، إذ هو الذي جعل لهم الأرض ممهدة للإقامة عليها مع تحريكها ودورانها ، وجعل السماء كالقبة تظلهم بالخير والبركة.

وهي كالبناء المحكم مع ما فيها من عوالم الأفلاك والأجرام لا يسقط منها جزء ولا يختل لها نظام ، وأنزل من السماء ماء مباركا طيبا ينبت لنا به الكلأ والزرع.

ألست ترى معى أن الله وصف نفسه بما يدل على انفراده بالربوبية؟ فصفة الخلق والتكوين ، والرزق ، من الصفات المسلّم بأنها له وحده.

٢٣

وإذا كان هذا شأن الرب ـ سبحانه ـ فاعبدوه ، ولا تجعلوا له أندادا في العبادة ، تعبدونهم وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له يخلق شيئا مما ذكر ، وها هي ذي مظاهر قدرته ودلائل وحدانيته تدل عليه.

وإن كنتم في شك من القرآن وأنه أنزل على عبدنا ورسولنا النبي الأمى محمد بن عبد الله فها هو ذا القرآن ، فجدوا واجتهدوا واشحذوا عزائمكم ، واجمعوا جموعكم ، واستعينوا برؤسائكم وآلهتكم ، وأتوا بسورة تماثله في البلاغة وسداد التشريع الصالح لكل زمان ومكان ، والإخبار بالمغيبات إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن من عند محمد وليس القرآن من عند الله ، وكيف يعقل هذا؟ ومحمد بشر منكم أمى مثلكم لم يقرأ ولم يكتب ، وأنتم مجتمعون وفيكم الشاعر والخطيب والبليغ والأديب ، والقرآن كلام عربي من جنس ما تتكلمون به في خطبكم وأشعاركم بل كلامكم العادي ، وقد تحداكم الله به وأنتم ومن يحضر معكم من جهابذة القول وأعلام البلاغة وفرسان البيان ، فإن عجزتم ـ وأنتم لا شك عاجزون ـ فارجعوا إلى الحق وآمنوا بمحمد وبما أنزل عليه من القرآن ، وفي ذلك وقاية لكم من النار التي وقودها الناس والحجارة التي أعدها الله للكافرين.

تحدى الله العرب أن يأتوا بسورة تماثله في البيان وقوة الأسلوب ، ودقة التعبير وغير ذلك مما برع العرب فيه ، أما النواحي السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والقانونية فذلك شأن عال ، ومنزلة رفيعة أثبتت الأيام أن القرآن فيه معجزة للعالم كله.

(بحث لعل) : أصل لعل للترجى ، فإذا قلت لصديقك : لعلك تزورنى ، كان المعنى أرجو وأطمع في زيارتك ، وهنا لا تصح أن تكون كذلك لأن رجاء تقواهم لا يكون من القادر الذي في قبضته كل شيء وهو العليم الخبير.

ولكن لما خلق الله الخلق لعبادته (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) وقد أوضح لهم الطريقتين ، وطلب منهم سلوك الطريق المستقيم مرارا كأنه في صورة الذي يرجو تقواهم وكأنها مرجوة له سبحانه ... وهي تفيد كذلك التعليل.

__________________

(١) سورة الذاريات ٥٦.

٢٤

من آمن بالقرآن وجزاؤهم

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)

المفردات :

(مُتَشابِهاً) : يشبه بعضه بعضا. الجنة : البستان ، والمراد دار الخلود التي أعدت للمؤمنين.

المناسبة :

من عادة القرآن الكريم أنه إذا تعرض للكلام على من كفر وعصى أردف ذلك بالكلام على من آمن واتقى ؛ ليظهر الفرق جليا بينهما فيكون ذلك أدعى للامتثال.

المعنى :

بشّر يا محمد ، أو : يا من تتأتى منه البشارة من العلماء والوعاظ ، بشّر العاملين الذين آمنوا وعملوا صالحا أن لهم جنات فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيها أنهار جارية تحت الأشجار ، فيها الثمار الشهية ، كلما قدمت لهم ثمرة منها قالوا متعجبين : هذه الثمرة كالتي رأيناها في الدنيا ، فإذا تذوقوها وأكلوها رأوا عجبا وأدركوا أنها تشبه ثمار الدنيا في الشكل والجنس فقط ، أما في الذوق والطعم والحجم فهذا ما لم يروه أبدا ، وأتوا به

٢٥

متشابها ليأنسوا به ويقدموا على أكله ؛ لأن النفس للمألوف أميل ، وفي الجنة حور مقصورات في الخيام ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، طاهرات مطهرات من كل دنس ورجس كالحيض والنفاس وشرور النفس والهوى ، وهم في الجنة خالدون ، ولا حرج على فضل الله ، فهذا الكريم القادر أعده لعباده الصالحين ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

واعلم يا أخى أن نعيم الجنة غير محدود ، وما أعد فيها فشيء تقصر العبارة عن وصفه ، وإذا أراد بيان الحقيقة المادية عبر عنها بقوله : (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ).

الأمثال في القرآن وموقف الناس منها

إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)

المفردات :

(لا يَسْتَحْيِي) الاستحياء : تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب عليه فيؤدى إلى ترك الفعل ، والمراد هنا أنه ـ سبحانه ـ لا يترك ضرب المثل.

٢٦

(مَثَلاً) يطلق على المثل ومنه التمثيل ، وعلى القول السائر ، وعلى النعت والصفة التي بلغت مبلغ المثل في الغرابة والشيوع ، البعوضة : الناموسة (ينقضون) النقض : الفسخ وفك الترتيب ، وأصل الاستعمال في الحبل ، ثم استعمل في العهد لأنه يشبهه. (ميثاق) ميثاق العهد : توكيده ، المراد العهد المؤكد ، وهو ما أوصاهم به في الكتب السابقة من الإيمان بمحمد إذا ظهر.

سبب النزول :

روى أنه لما ضرب الله الأمثال بالذباب والعنكبوت ضحكوا وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، وفي رواية أنهم قالوا : ما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذبابة والعنكبوت ، فنزل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) مشاكلة لقولهم.

المعنى :

أن الله ـ سبحانه ـ لا يترك ضرب الأمثال بالبعوض أو أخس منه ، فالمثل جعل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد لا سبيل إلى إنكاره ، فإن كان المضروب له المثل عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء.

وإن كان ضعيفا حقيرا كالأصنام ضرب مثله بما يشبهه كالذباب والبعوض والعنكبوت ، على أنه لا فرق عند الله بين البعوضة والجمل في الخلق والتقدير.

فأما المؤمنون ، ففي قلوبهم نور يهديهم إلى التصديق بأن هذا كلام الله ، وأما الكفار الجاحدون فهم في حيرة من أمرهم ، وقصارى قولهم أن يقولوا متعجبين ، ماذا يريد الله بهذا المثل؟ شأن المتخبط الذي لا يدرى. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)؟ [سورة المدثر آية ٣١].

فأنت معى أن المثل ضل به كثير من الناس ، واهتدى به كثير من الناس ، ولا يضل به إلا الخارجون عن طاعة الله ، الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه من الإيمان بمحمد

٢٧

والتصديق به ، خصوصا بعد ظهور الحجة على صدقة ، وأنه مكتوب عندهم في التوراة ، فهؤلاء يفرقون بين الأنبياء فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، وقد أمر الله بوصل الإيمان بجميع الأنبياء ، ولكن هؤلاء همهم الإفساد بين الناس. والتضليل في العقائد إبقاء على رئاسة كذابة وزخرف زائل ، هؤلاء لا شك قد خسروا دنياهم بافتضاحهم وتخبطهم ، وخسروا آخرتهم بغضب الله عليهم ، وأى خسران بعد هذا؟!!

مظاهرة قدرة الله

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)

المفردات :

(اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : استواء يليق بجلاله لا يعلمه إلا هو بلا كيف ولا تمثيل ، وقيل : قصد إلى السماء قصدا مستويا خاصا بها. (فَسَوَّاهُنَ) : أتم خلقهن مستويات لا تشقق فيهن ولا عوج.

المعنى :

استتبع الحديث عن الكفار وموقفهم من القرآن وأمثاله أن يتعجب من حالهم التي تناهت في العجب فيقول ما معناه :

أى وجه لكم وأى سند لإنكاركم ربوبية الله؟! ولو خلّيتم وفطرتكم الصحيحة لعرفتم فيما بينكم وبين أنفسكم أن وجودكم هذا سببه فطرة الله ، وأنه منّ عليكم بنعمة الوجود ووهب لكم عقلا ، وكرمكم ولم يترككم هملا في الدنيا ، بل جعل حدا لآجالكم ، ثم إليه ترجعون ليجزي كلا منكم على ما قدمته يداه ، ويحاسبكم على النعمة

٢٨

التي أنعم بها عليكم. وعن ابن عباس قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة ثانية ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ).

وها هي ذي الأرض بما فيها هو الذي خلقها ومكن لكم فيها ، ففهمتم أسرارها ودقائقها حتى استخدمتم الذرة والأثير ، وقد كان هذا كافيا لئلا تكفروا به ، وهناك مظهر آخر من مظاهر القوة والعظمة اختص الله بمعرفة سره ودقائقه وهو هذه السموات السبع التي رفعها بقدرته ، وعلم هو كنهها وحقيقتها ، ومن ذا الذي يعلم المخلوق إلا خالقه؟! فمن الخير لنا ألا نفكر في السماء وطبيعتها ، وكيف استوى إليها ، بحثا يضيّع علينا روح الدين ، بل نستشعر عظمة الخالق الذي رفع السماء وبسط الأرض!!

قصة خلق الإنسان وتكريمه بالخلافة وسجود الملائكة له

وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)

٢٩

المفردات :

(لِلْمَلائِكَةِ) الملائكة : خلق الله أعلم بهم ، وقيل : هم أجسام نورانية لا يأكلون ولا يشربون ، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا. (خَلِيفَةً) الخليفة : من يخلفك ويقوم مقامك. (يَسْفِكُ الدِّماءَ) : يريقها. (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أى : ننزهك عن كل نقص متلبسين بحمدك والثناء عليك. (وَنُقَدِّسُ لَكَ) : نعظمك. (أَنْبِئُونِي) : أخبرونى السجود : الخضوع والانقياد. (إِبْلِيسَ) : واحد من الجن ، وقيل : أبوهم (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف ٥٠] ، وقيل ـ من الملائكة لظاهر الآية والأحسن أن الله أعلم بهؤلاء جميعا (أَبى) امتنع.

القصة لون من ألوان الأدب العالي ، وهي في القرآن الكريم لمعان سامية (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) وهذه القصة فيها مدى تكريم الله لآدم وبنيه باختياره خليفة ، وتعلمه ما لا تعلمه الملائكة ، أفيليق منهم أن يقفوا من الله ورسله موقف الكفر والعناد؟ ومن هنا ندرك سر المناسبة بين الآيات ، ولا تنس ما فيها من التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يرى موقف الملائكة الأطهار من الله ـ سبحانه وتعالى ـ.

المعنى :

واذكر يا محمد لقومك قصة خلق أبيهم آدم حيث قال الله للملائكة : إنى جاعل في الأرض خليفة يقوم بعمارتها وسكناها ، ويقوم بعضهم بالزعامة والتوجيه وتنفيذ الأحكام حتى يعمر الكون ، فقالت الملائكة : يا رب ؛ هذا الخليفة وبنوه تصدر أفعالهم عن إرادتهم واختيارهم ، وهم لا يعلمون المصلحة الحقيقية ؛ لأن علمهم محدود ، وقد خلقوا من طين فالمادة جزء منهم ، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب فهو يفسد في الأرض.

وأنت يا رب تريد عمارتها فيا رب!! كيف تجعل فيها من يفسد فيها؟ [استفهام من لون التعليم لا الاعتراض] ونحن أولى لأن أعمالنا تسبيحك وتقديسك.

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فأجابهم المولى : إنى أعلم ما لا تعلمون ... إنى أعلم كيف تصلح الأرض وكيف تعمر ومن أصلح لعمارتها؟

٣٠

فهذا خلق فيه دواعي الخير والشر ، فبالخير والشر تصلح الدنيا وتعمر ، وبهذا تظهر حكمة إرسال الرسل.

وإن أردتم موضع السر فالله قد علم آدم أسماء الأشياء المادية التي بها تعمر الدنيا وتصلح إلى الأبد ، ثم عرض هذه الأشياء على الملائكة ، وقال لهم : أخبرونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في دعوى أنكم أحق بالخلافة من غيركم. فوقفوا عاجزين ، قالوا : يا رب لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم بكل شيء الحكيم في كل صنع.

فقال المولى ـ جل جلاله ـ : يا آدم أخبرهم بأسمائهم ، فلما أخبرهم بالأسماء أدركوا السر في خلافة آدم وبنيه وأنهم لا يصلحون لعدم استعدادهم للاشتغال بالماديات ، والدنيا لا تقوم إلا بها إذ هم خلقوا من النور وآدم خلق من الطين ، فالمادة جزء منه. وهنا قال الله ـ سبحانه ـ : ألم أقل إنى أنا العالم بكل ما غاب وما حضر في السموات والأرض؟ وأعلم ما ظهر ، وما تبدون وما تكتمون.

قصة ثانية تبين لنا مدى تكريم الله للإنسان ؛ حيث أمر الملائكة بالسجود له ، وفي هذا تعظيم وأى تعظيم!

واذكر يا محمد لقومك وقت أن قلنا للملائكة الأطهار : اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال لا سجود عبادة وتأليه كما يفعل الكفار مع أصنامهم ، فسجد الملائكة جميعا وامتثلوا أمر الله إلا إبليس اللعين فإنه امتنع من السجود واستكبر قائلا : أأسجد له وأنا خير منه؟ خلقتني من نار وخلقته من طين ، منعه حسده وغروره وتكبره من امتثال أمر ربه ، ولعل هذا الإباء والاستكبار والتعالي والغرور الذي عند إبليس من صفات النار التي خلق منها ، وهكذا قد خرج عن أمر ربه فاستحق اللعنة وكان من الكافرين.

يا ابن آدم! هكذا شرفك الله وكرمك (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (١) بأن جعلك خليفة في الأرض ، وعلمك ما لم تكن تعلم (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، وأمر الملائكة بالسجود لأبيك فسجدوا ، أفيليق بك أن تقف موقفا لا يرضاه ربك؟ لا بل يجب أن تمتثل أمر ربك وأن تعصى الشيطان عدوك ، وأن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

__________________

(١) سورة الإسراء آية رقم ٧٠.

٣١

طبيعة الإنسان وموقف الشيطان منه

وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)

المفردات :

(رَغَداً) : واسعا طيبا هنيئا. (الشَّجَرَةَ) قيل : هي الحنطة. (فَأَزَلَّهُمَا) : فأوقعهما في المخالفة ؛ من الزلة ، وهي : السقوط. (اهْبِطُوا) : انزلوا. (مُسْتَقَرٌّ) : مكان استقرار. (أَصْحابُ النَّارِ) : الملازمون لها الذين لا يخرجون منها.

المعنى :

وتلك قصة أخرى لأبينا آدم الذي جعله الله خليفة في الأرض ، كانت نهايتها أن أمره الله بأن يهبط إلى الأرض هو وزوجه وذريته ، وإبليس ومن معه.

قال الله ـ جل جلاله ـ لآدم : اسكن أنت وزوجك الجنة ، وتمتّعا بكل ما فيها ، وكلا من ثمارها وزروعها وأشجارها ما تشتهون أكلا هنيئا مريئا ، ولا تقربا هذه الشجرة أبدا!؟ إنكما إن أكلتما منها كنتما من الظالمين.

٣٢

ولكن إبليس اللعين لا يمكن أن يتركهما ، بل وسوس لهما وزين السوء قائلا : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) وأقسم لهما : إنى لكما لمن الناصحين.

وهنا تظهر غريزة الإنسان وضعفه أمام المغريات ، وها هو ذا قد ضعف أمام إغراء الشيطان ، فأزلهما وأوقعهما في المخالفة ، وكان ظاهر الأمر أن قد عصى آدم ربه وغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى.

وهكذا كانت حكمة الله وكان أمره لأسرار لا يعلمها إلا هو لتعمر الدنيا ، ولتتحقق الخلافة لله في الأرض حكم بأن يخرجا من الجنة ، ويهبط الكل بعضهم لبعض عدو ، ولهم جميعا في الأرض مستقر ومتاع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فإما يأتينكم منى هدى على لسان أنبيائى ورسلي : فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ولا خوف عليه أبدا ، ومن يعرض عن ذكرى ويعص أمرى فله في الدنيا التعب والنصب وفي الآخرة العذاب والألم.

أما آدم أبو البشر فبعد أن أكل من الشجرة وظهرت غريزته وطبيعته وبدت له سوءته ، وحاول سترها ، وأدرك ما وقع فيه ، وتلقى آدم من ربه كلمات : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فتاب الله عليه وهدى. إنه هو التواب الرحيم.

بنو إسرائيل وما طلب منهم

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)

٣٣

المفردات :

(إِسْرائِيلَ) : هو يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل ـ عليهم‌السلام ـ وبنوه وأولاده وهم اليهود. (بِعَهْدِي) عهد الله : ما عاهدهم عليه في التوراة من الإيمان بالله وبرسله وخاصة خاتم الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يبعث من ولد إسماعيل. (بِعَهْدِكُمْ) : ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان والتمكين من بيت المقدس قديما ، وسعة العيش في الدنيا. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) : البيع والشراء قد يطلق كل منهما مكان الآخر ، والمعنى : لا تبيعوا آياتي بثمن قليل. (تَلْبِسُوا) : تخلطوا.

المناسبة :

من أول السورة إلى هنا يدور الكلام حول الكتاب واختلاف الناس فيه وضرب الأمثال للمنافقين ، والأمر بعبادة الله ، والدليل على أن القرآن من عنده ، ثم الإنذار والبشارة ، والحجج القائمة على الكافرين ، ومظاهر قدرته ، ثم الكلام على خلق الإنسان وتكريمه ، ثم بعد هذا أخذ يخاطب المقيمين بالمدينة من أهل الكتاب وخاصة اليهود فهم أكثر من غيرهم ولهم في هذا المجتمع مكان ، وكانت لهم مواقف مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكلام كله يدور حول القرآن وما فيه.

خاطب اليهود من هنا إلى قوله ـ تعالى ـ : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) تارة بالملاينة وتارة بالشدة وطورا بذكر النعم وآخر بذكر جرائمهم وقبائحهم ... إلخ.

المعنى :

يا بنى العبد الصالح يعقوب ، كونوا مثل أبيكم في اتباع الحق ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون ، وظلل عليكم الغمام إلى آخر نعمه التي ستذكر بالتفصيل ، وذكرها : القيام بشكره وامتثال أمره ، وأوفوا بما عاهدتكم عليه من الإيمان بالله ورسله بلا تفريق ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد بن عبد الله أوف أنا بعهدي لكم فأعطيكم الجزاء العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة ، ولا يمنعكم من

٣٤

هذا شيء ، ولا ترهبوا أحدا سواي ، فأنا أحق بالرهبة والخوف ، وآمنوا إيمانا قلبيا صادقا بالقرآن وأنه من عند الله ، فإنه أتى موافقا للتوراة التي معكم في الأصول العامة للدين ، وفي التوراة وصف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به ، فأنتم أحق بالإيمان لأن عندكم في التوراة دليل صدقه ، ولا تبيعوا آيات الله الواضحة الدالة على صدق محمد فيما ادعى ، ولا تبيعوها بثمن دنيوى قليل من رئاسة أو مال أو عادات قديمة ، فإنه ثمن بخس وتجارة غير رابحة ، ولا تخافوا أحدا سوى الله ، ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه ، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون ، وليس جزاء العالم يوم القيامة كالجاهل ، ومن هنا نفهم أن التوراة التي أنزلت على موسى ـ عليه‌السلام ـ والتي كانت موجودة أيام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها حق وباطل ، وأنهم غيروا فيها وبدلوا ، وكانوا يعرفون هذا وذاك ، وقد صدق الله (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ).

ثم أمرهم بأهم أركان الدين التي لا يختلف فيها دين عن آخر ، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والخضوع لله مع الخاضعين.

علماء اليهود وأحوالهم

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)

٣٥

المفردات :

(بِالْبِرِّ) : الطاعة والصدق والتوسع في الخير. (بِالصَّبْرِ) : حبس النفس على ما تكره ، وقيل : هو الصوم. (يَظُنُّونَ) : يعتقدون. (عَدْلٌ) العدل : الفداء.

نزلت في علماء اليهود كانوا يأمرون غيرهم بالصدقة والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم.

المعنى :

إن تعجب فعجب من هؤلاء يأمرون غيرهم بالخير وينسون أنفسهم فهم كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه ، كيف يليق بكم يا أهل الكتاب أن تأمروا الناس بالبر ، وهو جماع الخير ، ولا تأتمرون به! والحال أنكم تتلون الكتاب ، وتعلمون ما فيه من عقوبة من يقصر في أمر الله!! ولا شك أن من هذا وصفه فهو بغير العقلاء أشبه ، آمنوا واستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء وشياطينكم بالصبر والصلاة فإنهما جلاء القلوب والأرواح ، وإنما أمرنا بالصبر لأنه احتمال المشاق من تكاليف وابتلاء مع الرضا والتسليم ، ولا شك أن مثلهم في أشد الحاجة إليه ، والصلاة أقرب إلى حصول المرجو منهم لما لها من التأثير في الروح ، ولكنها شاقة على النفس الأمارة بالسوء : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) الذين عمرت قلوبهم بالإيمان فخفت جوارحهم إلى الصلاة بنشاط ، واطمئنان ، ومن هنا ندرك معنى الحديث : «جعلت قرّة عيني في الصّلاة» فالخاشعون : هم الذين يعتقدون أن وراءهم يوما يلاقون فيه ربهم فيحاسبون على أعمالهم. وأنهم إلى الله وحده راجعون ، فمكافأون عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهل الصلاة التي أمر بها اليهود هنا هي الصلاة الإسلامية أم هي صلاتهم؟ الأصح أنها الصلاة الإسلامية بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها ، وهذه الصفات التي ذكرت ككونها كبيرة إلا على الخاشعين يؤيد ذلك.

ثم كرر نداء بني إسرائيل ذاكرا لهم ما منّ على آبائهم وعليهم من النعم ، وأنه فضلهم على غيرهم إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وفضلهم على العالمين في زمانهم ، يا بنى إسرائيل : اتقوا يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ، فليس الأمر كما تفهمون أن هناك شفعاء يشفعون ؛ إذ لا تقبل هناك شفاعة من شافع ، ولا يؤخذ من نفس فداء ولا هم ينصرون.

٣٦

وإذا كان الأمر كذلك فعلى أى أساس تنسون أنفسكم ولا تعملون لهذا اليوم وأنتم أهل كتاب فيه يوم الجزاء ووصفه؟!

نعم الله على اليهود

وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما

٣٧

رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)

المفردات :

(يَسُومُونَكُمْ) سامه العذاب : أذاقه. (سُوءَ الْعَذابِ) : العذاب السيئ الشديد. (يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) : يبقون نساءكم على الحياة فلا يقتلون. (بَلاءٌ) اختيار (فَرَقْنا) أى : فلقنا ، والمراد : جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه. (الْفُرْقانَ) : التوراة الفارقة بين الحق والباطل. (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : ليقتل البريء منكم المجرم. (جَهْرَةً) : عيانا واضحا منكشفا. (الصَّاعِقَةُ) : الصيحة ، أو نار من السماء. (بَعَثْناكُمْ) : أحييناكم (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أى : جعلنا الغمام يستركم كالمظلة ، والغمام : السحاب الرقيق. (الْمَنَ) : شيء حلو كالعسل. (السَّلْوى) : نوع من الطير. (هذِهِ الْقَرْيَةَ) : هي بيت المقدس ، أو بلد قريب منه. (سُجَّداً) : ساجدين بالانحاء ، والمراد متواضعين متذللين لله. (حِطَّةٌ) أى : سؤالنا أن تحط عنا ذنوبنا ، والمراد اسألوا الله المغفرة. (رِجْزاً) : عذابا من السماء. (الْحَجَرَ) : حجر الله أعلم به ومن أين أتى لموسى. (فَانْفَجَرَتْ) : انشقت وسالت. (الناس) : جماعة منهم وكانوا اثنى عشر سبطا.

٣٨

المناسبة :

بعد ما ذكّر اليهود بالنعم عليهم جملة في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أخذ يقصها عليهم مفصلة وعددها عشر.

المعنى :

اذكروا أيها اليهود المعاصرون النعم التي أنعم الله بها على آبائكم ، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع ، اذكروها حتى تقوموا بشكرها وتلجأوا لبارئها.

١ ـ فقد نجى الله آباءكم من فرعون وآله فإنه كان يذيقكم العذاب الشديد ، يذبح أبناءكم الذكور ويترك بناتكم يحيون ، فقد ورد أن فرعون رأى نارا أطلقت من بيت المقدس وأحاطت بمصر ، وانزعج من هذه الرؤيا ، وفسرت له بأنه سيخرج ولد من بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه ؛ فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء ، ومع هذا فقد نجى الله بنى إسرائيل من هذا العذاب المبين ، وفي النجاة من الهلاك أو الهلاك اختبار من الله حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك.

٢ ـ واذكروا إذ جعلنا لكم في البحر طريقا يبسا سلكتموه حتى عبرتم سالمين وقد ترك فرعون وجنوده يغرقون وأنتم تنظرون إليهم.

وروى أنهم كانوا بلا كتاب يحتكمون إليه ، وقد وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة بعد أربعين يوما (ذو القعدة وعشر من ذي الحجة).

وأمر موسى أن يذهب إلى جبل النور فيصوم الأربعين يوما ، فذهب واستخلف هارون عليهم وأنزلت التوراة في الألواح ، ولكن في هذه المدة اتخذتم العجل الذي صنعه لكم السامري (رجل كان منافقا فيهم) اتخذتموه إلها فعبدتموه ، وظلمتم أنفسكم بهذا العمل الذي لا يليق.

٣ ـ ثم عفا الله عنكم وقبل توبتكم كي تشكروا الله أيها اليهود المعاصرون ، وشكره باتباع رسله والإيمان بكتبه ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ واذكروا وقت أن آتينا موسى الكتاب والتوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام رجاء أن تهتدوا بها وتسيروا عليها.

٣٩

٥ ـ واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل في مدة صومه وغيابه وهي أربعون يوما :

يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها ظلمتم أنفسكم وأى ظلم بعد الإشراك بالله؟ فتوبوا إلى الله وارجعوا ؛ ذلكم خير لكم وأحسن عند بارئكم.

وكانت التوبة في شريعتهم أن يقتل البريء منهم المذنب.

وقد أرسل الله ـ سبحانه ـ سوداء حتى لا يرى بعضهم بعضا عند القتل فيرحمه وقد قتل منهم سبعون ألفا ، وبعد ذلك تضرع موسى وهارون إلى الله فتاب عليكم إذ قبل توبة من قتل ومن لم يقتل ، ولا غرابة في ذلك فالله هو التواب الرحيم بعباده.

واذكروا وقت أن قال آباؤكم لموسى : لن نؤمن بالله وأنك رسوله حتى نرى الله عيانا بلا حاجز ، فأخذهم ربكم بعذابه فماتوا ومكثوا يوما وليلة والحي ينظر إلى الميت.

٦ ـ ثم أحييناهم ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم ، كل ذلك لكي تشكروا ـ أيها اليهود المعاصرون ـ الله على ما أنعم به ، وتعتبروا وتعتقدوا أن الله قادر على كل شيء ، وشكر الله المطلوب منكم هو الإيمان بالله وكتبه وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أخبر عن هذا كله.

٧ ـ روى أن موسى كلف من الله بأن يرحل ببني إسرائيل لقتال قوم جبارين فخرج معهم فلما وصلوا إلى وادي التيه بين الشام ومصر ومكثوا فيه أربعين سنة حيارى تائهين فكان الله يظلهم بسحاب رقيق يقيهم حر الشمس.

٨ ـ وكان ينزل عليهم الطعام مكونا من حلوى وطير مطهوّ وكان طعاما يقيهم غائلة الجوع ، ولا علينا بعد ذلك بحث في أنه من أى نوع أو على أى شكل ، ثم قيل لهم :

كلوا من هذه الطيبات ولا تدخروا شيئا منها ، واشكروا الله ، فلم يفعلوا شيئا مما أمروا به ، وعصيانهم وكفرهم بهذه النعم لا يضيرنا ، وما ظلمونا به ولكنهم ضروا أنفسهم حيث قطع الله عنهم هذه النعم وجزاهم على مخالفتهم ، أنهم كانوا لأنفسهم ظالمين.

٩ ـ واذكروا ـ أيضا ـ إذ قلنا لآبائكم : ادخلوا القرية المعلومة لكم فاسكنوا فيها وكلوا واشربوا أكلا واسعا لا حرج فيه وادخلوا الباب خاضعين مبتهلين إلى الله وحده وقولوا : يا ربنا دعاؤنا أن تحط عنا ذنوبنا وتغفر لنا سيئاتنا وسنزيد المحسنين منكم أكثر من هذا.

٤٠