التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

فيا أيها المسلمون : إياكم وهذا العمل الشنيع الذي يقوم به أهل الكتاب ، ولا تحزنوا ولا تضعفوا واصبروا واتقوا الله ، وبينوا الكتاب ولا تشتروا به ثمنا قليلا وعرضا زائلا ولا تفرحوا بما تفعلون ، ولا تحبوا أن تحمدوا بما لم تفعلوا فإن الله ـ تعالى ـ يكفيكم ما أهمّكم وينصركم على أعدائكم ، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها ، فلله ملك السموات والأرض وما فيهن يعطى ويمنع وهو على كل شيء قدير ؛ لا يعز عليه نصركم وهلاك من يؤذيكم من أهل الكتاب والمشركين ، وإلى الله ترجع الأمور.

وفي هذا تسلية ووعد بالنصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه.

ما تشير إليه الآية :

إن الواجب على العلماء وعلى كل من يفهم كتاب الله أن يبينه ويوضحه ويظهر ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والأحكام الدينية وعلاقتها بصالح الأمة ـ وها نحن نأمل أن يوقظ الله العلماء فيثابروا ويتعاونوا ويستهينوا بالصعاب حتى يخرجوا للناس كنوز الدين بما يلائم المجتمع الحاضر. فإن الواجب ينحصر في شيئين :

(أ) تبيين الدين وحقيقته لغير المؤمنين حتى يهتدوا به ويدخلوا فيه.

(ب) تبينه للمسلمين حتى يهتدوا به ويفهموه على حقيقته ويعرفوا مخلصين أنه الطريق الوحيد للخلاص من كل ما يضرنا ويؤذينا من خلق فاسد وداء كامن ومستعمر جاثم ، فو الله! أيها الناس : لا خلاص لنا إلا بالدين ولا خير إلا في القرآن ، فتعلموه وافهموه وادرسوه تكونوا من الناجين في الآخرة.

وقد روى عن على ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.

٣٢١

ذكر الله والتفكر في خلقه وأثرهما

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)

٣٢٢

المفردات :

(خَلْقِ) الخلق : التقدير والترتيب الدال على النظام والإحكام. (السَّماواتِ) السماء : ما علاك. (وَالْأَرْضِ) : ما نعيش عليها. (لَآياتٍ) : لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه. (الْأَلْبابِ) : العقول. (باطِلاً) : عبثا لا نتيجة له. (سُبْحانَكَ) : تنزيها لله عما لا يليق به. (الذَّنْبِ) : هو الكبيرة ، وقيل : ما كان بينك وبين ربك. السيئة : هي الصغيرة ، وقيل : ما كان بينك وبين الخلق.

المناسبة :

قال الإمام الرازي : اعلم أن المقصود من الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ، فلما طال الكلام في تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء ، والجلال لله ـ سبحانه وتعالى ـ فذكر هذه الآية.

المعنى :

ما هذا الكون البديع الصنع؟ وما هذا العالم المحكم الترتيب ، وما هذه السماء وأعاجيبها ، وما بال نجومها وأفلاكها ، وما هذه الشمس وضحاها ، والقمر إذا تلاها ، والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها ، والسماء وما بناها؟!

وما هذه الأرض وما طحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، وأنبت فيها كل نبت وأرساها ، وشق فيها أنهارها وحلاها ، وما هذا الليل والنهار ، وهذا الفلك الدوار ، ليل يزحف بجحافله ، ونهار يختفى بمعالمه ، ثم لا يلبث أن تعاد الكرة بنظام ومسرة ، أليس يدل هذا على الخبير البصير؟ المحكم التدبير ، الواحد القدير؟ إن في ذلك لآيات لأولى الأبصار!!

عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : هل لك يا عائشة أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت : يا رسول الله إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى

٣٢٣

وتريد) وقد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلى فقرأ من القرآن ، وجعل يبكى حتى بلت الدموع حقويه ، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ، وجعل يبكى ، ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال ليؤذن بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له : يا رسول الله : أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟! ثم قال : وما لي لا أبكى؟ وقد أنزل الله علىّ في هذه الليلة : إن في خلق السموات والأرض. ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.

وأولوا العقول والأرواح الطيبة هم الذين ينظرون إلى السماء والأرض وما فيهما فيذكرون الله ويذكرون نعمه وفضله على العالم في كل حال من قيام وقعود واجتماع ذكر بالقلب حتى يطمئن (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد آية ٢٨] ثم يتبعون ذكر الله بالتفكير في بديع صنعه وأسرار خلقه وما في هذه العوالم من منافع وحكم وأسرار تدل على كمال العلم وتمام القدرة والوحدانية التامة في الذات والصفات والأفعال.

والمراد التفكر في خلق الله لا في ذات ، الله ، فقد ورد «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق» ومع التفكر اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ، وما حال هؤلاء الذين يجمعون بين التذكر والتفكير؟ يقولون باللسان وقلبهم بين الخوف والرجاء : ربنا ما خلقت هذا الكون باطلا وما خلقت هذا الخلق عبثا أو كمّا مهملا! بل لا بد لهذا الخلق من نهاية يأخذ المطيع والعاصي جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإذا كان كذلك فقنا يا ربنا واصرف عنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك لنا. واجعلنا مع الأبرار بهدايتك ورحمتك يا أرحم الراحمين ، ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر والذكر إلى حقيقة هذا العالم ومآله وقد دعوا ربهم أن يقيهم عذاب جهنم في الحياة الثانية يقولون متضرعين : ربنا إنك من تدخله النار فقد أهنته وأخزيته ؛ لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه ، وكيف لا وقد سخرت هذا العالم وأخضعته لكمال قدرتك وعظيم إرادتك ، فمن عاداك فلا ملجأ منك إلا إليك ، وليس له شفيع أو نصير ، وما للظالمين من أنصار!! وقد وصف من يدخل النار بأنه يستحق هذا لظلمه وتجاوزه الحد المعقول ، هذا ما نتجه الفكر والنظر الصحيح في الكون وما فيه.

وأما السمع فحينما سمعوا نداء الرسل الكرام قالوا : ربنا إننا سمعنا رسولا ينادى

٣٢٤

للإيمان : أن آمنوا بربكم وصدقوا برسالتي ، فلم يتلكئوا ولم يبطئوا بل أسرعوا فآمنوا بالمنادي ورسالته وكتابه المنزل عليه ، ومن آثار الإيمان القلبي المبنى على اليقين الكامل أن قالوا : ربنا فاغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها من مخالفة أمرك ؛ وهكذا حينما يمتلئ القلب من الإيمان الصحيح يشعر صاحبه بالخوف من ذنوبه وهفواته ، فيطلب من الله المغفرة والستر (حسنات الأبرار سيئات المقربين) وقيل : المراد بالذنوب : الكبائر ، والسيئات : الصغائر ، وقال بعضهم : الذنوب : التقصير في عبادة الله ، والسيئات : التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم لبعض ، ربنا وأمتنا مع الأبرار الأطهار من عبادك المخلصين ، ربنا وأعطنا ما وعدتنا (وأنت الصادق الوعد) من حسن الجزاء والنصر في الدنيا والنعيم السابغ في الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم ، ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة يوم تكشف السرائر وتهتك الحجب والستائر.

إنك يا رب لا تخلف الميعاد (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (١).

فاستجاب لهم ربهم بأن أعطى كل عامل جزاء عمله كاملا غير منقوص سواء كان ذكرا أو أنثى. لا فرق عنده ، بل العدل يقتضى المساواة التامة في الجزاء ، وقد أشير إلى أن هذا الجزاء إنما هو باعتبار العمل لا باعتبار شيء آخر : «يا فاطمة لا أغنى عنك من الله شيئا» (٢) حديث شريف.

وإنه لا فرق بين الذكر والأنثى بعضكم من بعض ، فالرجل مولود من الأنثى والأنثى مولودة من الرجل ، إذ كلهم لآدم وآدم من تراب.

وقد أتبع هذا الحكم ببيان سببه ، فلا غرابة في هذا فالذين هاجروا من ديارهم وتركوا أموالهم وأولادهم وديارهم إرضاء لله ورسوله ، أو أخرجوا منها عنوة وأوذوا في سبيلي وابتغاء مرضاتي وقاتلوا وقتلوا. لأكفرن عن هؤلاء جميعا سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أثابهم الله ثوابا من عنده وذلك هو الفوز العظيم. والله عنده حسن الثواب ، وحيث ربط القرآن الكريم هذا الجزاء العظيم بالهجرة والقتال والإيذاء في سبيل الله يمكننا أن نؤكد ما قلناه أولا من أن السبب في الجزاء هو العمل وأنه لا فرق بين ذكر وأنثى ، وإنما الفرق بين عمل وعمل ، وإخلاص وعدمه.

__________________

(١) سورة التوبة آية ٧٢.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب التفسير حديث رقم ٤٧٧١.

٣٢٥

الخلاصة :

أن الله وعد من فعل ذلك بأمور ثلاثة :

١ ـ محو السيئات وغفران الذنوب جوابا لقولهم : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ).

٢ ـ هذا الثواب مقرون بالتبجيل والإجلال جوابا لطلبهم : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ).

٣ ـ إعطاء الثواب العظيم وهو قوله : (لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا ما طلبوه بقولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).

يستفاد من الآية :

(أ) أن الجزاء منوط بالعمل لا بشيء آخر.

(ب) أن الإسلام يمحو الفوارق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب ، وهو أول دين كرم المرأة وعرف لها حقوقها ، وليس أخذها نصف الرجل في الميراث هضمها لحقها ، بل هي مكرمة عند زوجها أو أخيها ، والرجل مكلف بزوجة أخرى والولاية لحفظها وصونها وقصرها على ما هو أهم من ذلك.

المؤمنون والكافرون وجزاء كل

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ

٣٢٦

أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)

المفردات :

(لا يَغُرَّنَّكَ) الغرة : غفلة في اليقظة ، يقال : غرّنى ظاهره ، أى : قبلته في غفلة عن امتحانه. (تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : تصرفهم في التجارة والمكاسب. (مَتاعٌ) المتاع : ما يتمتع به صاحبه ، ووصف بالقلة لأنه قصير الأمد زائل ؛ وكل زائل قليل. (جَهَنَّمُ) : اسم للدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة. (الْمِهادُ) : المكان الممهد الموطأ كالفراش ، والمراد به جهنم ؛ وسميت بذلك تهكما. (نُزُلاً) النزل : ما أعد للضيف من الزاد وغيره. الأبرار : جمع بار ، وهو : التقى المبالغ في التقوى. (خاشِعِينَ) الخشوع : الخضوع. (اصْبِرُوا) : احبسوا أنفسكم على امتثال الدين وتكاليفه وعن الجزع مما ينالكم. (وَصابِرُوا) : أسبقوا الكفار في الصبر على الشدائد في الحرب. (وَرابِطُوا) أقيموا في الثغور وحصنوها. (تُفْلِحُونَ) الفلاح : الفوز.

المناسبة :

قال الإمام الرازي : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا في النعيم ذكر الله ـ تعالى ـ في هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدائد ، وذلك ببيان جزاء كل في الآخرة ، وأما الدنيا

٣٢٧

فنعيمها فان وزائل. ولا تنس أن السورة كلها تدور حول غريزة حب المال وأثرها في القديم مع أمم الأنبياء ، ومع المؤمنين في غزوة بدر وأحد.

المعنى :

لا يغرنك ما ترى من هؤلاء الكفار وتقلبهم في الدنيا وتجارتهم ومكاسبهم فإنه متاع زائل وعرض فإن ، وكل زائل قليل ، ومثله لا يعتد به ولا ينظر إليه ؛ فإن مأواهم ونهايتهم جهنم وبئس ما مهدوا لأنفسهم وأعدوا لها بما جنته أيديهم ، فاستحقوا غضب الله عليهم غضبا سرمديا لا نهاية له ولا أمد حيث شاء الله.

روى أن بعض المؤمنين قال : إن بعض أعداء الله فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت هذه الآية.

ثم بعد أن بين الله حال الكفار ومآل أمرهم في الآخرة أردف ذلك ببيان حال المؤمنين في الدنيا والآخرة ليظهر الفرق جليا وليعرف المسلمون أنهم ليسوا مغبونين في شيء لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات واجتناب المنهيات لهم جنات المأوى تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها ، تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار.

وما عند الله بعد هذا خير للأبرار الذين فعلوا البر وأخلصوا فيه وأى خير بجانب ما أعد لهم؟!!

فالخيرية ليست على بابها ، أى : ما أعد للمؤمنين المتقين هو خير ، وما سواه مما أعد للكفار شر.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف ١٠٧] الآية الكريمة حيث قال الله : (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أشار إلى أن المؤمن في الآخرة ضيف على كريم يداه مبسوطتان بالخير ، قوى قادر على كل شيء ، ملك الملوك ، وانظر إلى الكرامة التي خصوا بها من النزل من عند الله.

وقد عرفت حال الكفار الذين ماتوا على كفرهم وظلموا معاندين ، أما من أسلم منهم كعبد الله بن سلام أو من أسلم من نصارى نجران أو النجاشيّ عظيم الحبشة فالآية تحتمل كل هذا ، وإن من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله إيمانا حقيقيا خالصا لا نفاق فيه

٣٢٨

ولا شبهة ، لهم الأجر الكامل عند ربهم ، وقد وصفهم الله بأوصاف هي :

١ ـ الإيمان بالله إيمانا صادقا خالصا.

٢ ـ الإيمان بالقرآن المنزل عليكم ولا شك أنه الأساس لما أتى بعده ، وهو الحق الذي لا شبهة فيه ولا تحريف.

٣ ـ الإيمان بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل وإن يكن فيه تحريف ، أى : أنهم كانوا مؤمنين به فأرواحهم طاهرة نقية ، ولا شك أن من يؤمن بالكتب السماوية إيمانا حقيقيا ويترك العناد والحسد والبغضاء والكذب على الله لا بد وأن يؤمن بالقرآن والنبي.

٤ ـ الخشوع لله والخضوع له ، وهو ثمرة الإيمان الصحيح ومتى كان القلب خاشعا ممتلئا بخوف الله خضعت له جميع الجوارح «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، ألا وهي القلب» (١).

وإذا حلّت الهداية قلبا

نشطت في العبادة الأعضاء

٥ ـ ومتى جمعوا تلك الصفات استحال عليهم أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا من أعراض الدنيا الفانية ، هؤلاء الموصوفون بما ذكر البعيدون في درجة الكمال لهم أجرهم الكامل عند من؟ عند ربهم الذي تولاهم وهداهم ووفقهم ، يؤتيهم أجرهم مرتين ، ويعطيهم من رحمته كفلين.

إن الله سريع الحساب ؛ يحاسب الكل ويجازى الكل في أقل من لمح البصر ، وقد ختم الله السورة بهذه النصيحة الغالية للمؤمنين التي تنفعهم في الدنيا والآخرة بقوله :

يا أيها الذين آمنوا : اصبروا على تكاليف الدين وعلى ما يلمّ بكم من المصائب والشدائد ، وصابروا الكفار واغلبوهم في الصبر فتكونوا أكثر تحملا لشدائد الحروب وضرائها ، وخص المصابرة بالذكر لأهمّيّتها وخطرها ، ورابطوا عند الثغور وخاصة بالخيل وما يلائم قوة الكفار في كل عصر وزمن.

واتقوا الله وخافوه واحذروه وراقبوه في السر والعلن لعلكم تفلحون. ولا شك أن من يبذل هذه التضحية ويبالغ فيها كأنه يرجو فلاحا ، والصبر والمصابرة ومغالبة الأعداء

__________________

(١) أخرجه البخاري باب الايمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم ٥٢.

٣٢٩

فلاح في الدنيا والآخرة ويكون بقصد إقامة الحق والعدل ، وإعلاء كلمة الله ، وفقنا الله جميعا للخير والفلاح.

هذه سورة آل عمران!! أرأيت فيها غير تكوين العقيدة الإسلامية الصحيحة بمناقشته أهل الكتاب ـ وخاصة المسيحيين ـ في عقائدهم؟! أرأيت فيها غير تكوين الفرد المسلم والمجتمع المسلم في السلم والحرب؟ لم يكن فيها ـ علم الله ـ غير هذا!!

٣٣٠

سورة النساء

وآياتها مائة وست وسبعون

مدنية ؛ فقد روى البخاري عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت :

ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد بنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة في المدينة في شوال من السنة الأولى للهجرة.

اجتماع الناس في أصل واحد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)

المفردات :

(النَّاسُ) : هم الجنس البشرى ، وهو الحيوان الناطق المنتصب القامة الذي يطلق عليه الإنسان. (وَبَثَ) : نشر. (تَسائَلُونَ بِهِ) : يسأل بعضكم بعضا بأن يقول : سألتك بالله أن تفعل كذا. (وَالْأَرْحامَ) : جمع رحم ، وهي القرابة من جهة الأب أو الأم. (رَقِيباً) : مشرفا ، والمراد : محافظا.

افتتح الله هذه السورة الكريمة بتذكير الناس بأنهم من أصل واحد كلهم لآدم وآدم من تراب ، وذكر الرحم والقرابة ليكون هذا كبراعة استهلال لما في السورة من أحكام

٣٣١

المحافظة على أموال الضعاف وأحكام النكاح والإرث ، وكأن هذه الأحكام لازمة للناس من حيث كونهم ناسا ولذا بدأها بقوله : يا أيها الناس ، وإن تكن السورة مدنية.

المعنى :

يا أيها الناس خذوا لأنفسكم الوقاية ، واتقوا الله الذي رباكم بنعمه ، وتفضل عليكم بإحسانه ومننه ، فهو الذي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة هي آدم ـ عليه‌السلام ـ وإذا كنا جميعا أبناء لأب واحد ، فلا يصح أن نتعدى حدود الله خاصة حدود القربى والرحم الإنسانية.

وقيل : هذه النفس لم تبدأ بآدم بل بأوادم قبله ، فليس آدم أبا البشر جميعا ... والله أعلم بهذا كله ، والخطب يسير ، والقرآن أبهم النفس ولم يعرفها فهي تحتمل هذه المعاني وأكثر منها.

فإذا ثبت علميا أن آدم أبو البشر أو ليس آدم أبا البشر لم يتعارض ذلك مع القرآن كما تتعارض التوراة وغيرها.

على أن الرأى الأول هو الأحسن والذي يتلاءم مع كثير من الأحاديث الصحيحة ، والمعنى المراد أنه خلقكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها ، قيل : من ضلع لآدم كما في الحديث «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها».

وعند بعض العلماء أن المراد أنه خلق من جنسها زوجها فهما من جنس واحد وطبيعة واحدة واستدل على ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) [الروم ٢١] وقال في سورة أخرى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) من أنفسهم [الجمعة ٢] فالمراد في الآيات من النفس واحد وهو الجنس

ونشر وفرق من آدم وحواء نوعي البشر : الذكور والإناث ، فقد خلق آدم من تراب ، وخلقت حواء منه ، ومنها خلقت الذكور والإناث التي تفرع منهما الإنسان الذي سكن الأرض ، وهذا تفصيل لما أجمل في قوله ـ تعالى ـ : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [سورة الزمر آية ٦].

٣٣٢

واتقوا الله الذي تساءلونه به فيقول الواحد منكم لأخيه : أسألك بالله أن تفعل كذا ، والمعنى : أسألك بإيمانك به وتعظيمك له.

واتقوا الرحم ، أى : وصلوا الأرحام بالمودة والإحسان ولا تقطعوها ، وكرر الأمر بالتقوى للمبالغة والتأكيد ، وفي الأولى ذكر لفظ (الرب) الذي هو علم العطف والتربية في حالة الضعف والحاجة ، وفي الثانية لفظ (الله) إذ هو علم المهابة والجلالة ؛ ليكون أدعى للإجابة وقبول الأمر ، ثم ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) مشيرا إلى أنه لا يشرع لنا إلا ما به حفظنا ومصلحتنا ، وهو الخبير بنا البصير بأحوالنا.

ما هي النفس والروح؟ : مما لا شك فيه أن في الإنسان ناحية مادية وناحية مبهمة محجوبة بها العقل والحفظ والتذكر ، وهذه الأمور آثارها محسوسة بلا شك ، وليست من صفات الجسد ، فما منشئوها؟ قال الأقدمون عنها : إنها النفس والروح ، وهل هي جسم نوراني علوي منفصل عن الجسم متصل به في حال الحياة؟ أو هي حالة تعرض للجسم ما دام حيا وليست جسما؟! رأيان.

اليتامى ومعاملتهم في أموالهم

وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)

المفردات :

(الْيَتامى) : جمع يتيم : وهو من فقد أباه ، وخص الفقهاء اليتم بما دون البلوغ. (وَلا تَتَبَدَّلُوا) : تأخذوه بدله ، فالباء داخلة على المتروك. (الْخَبِيثَ) : الرديء ، مأخوذ من خبث الحديد ، والمراد منه : الحرام (بِالطَّيِّبِ) : الحسن ، والمراد : الحلال. (حُوباً) : إثما وذنبا كبيرا.

٣٣٣

شروع في بيان نواحي التقوى وجهتها ، وأولها المحافظة على مال الضعاف من اليتامى والنساء والسفهاء ، حيث ذكرنا الله بالرحم والقربى.

المعنى :

يا أيها الأوصياء في مال اليتامى : أنفقوا عليه من ماله ، واجعلوا ماله خاصا به لا تأكلوا منه شيئا حتى تسلموه إليه بعد البلوغ كاملا غير منقوص ، ولا تتمتعوا بمال اليتيم في موضع يجب أن تتمتعوا فيه بمالكم ؛ فإنكم إن أخذتم من ماله وتركتم مالكم تكونوا قد استبدلتم الخبيث بدل الطيب ، والحرام بدل الحلال ، وهذا منهى عنه شرعا.

روى أنهم كانوا يضعون الشاة الهزيلة ويأخذون بدلها شاة سمينة ، فجاء النهى عن ذلك ، ولا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. ومن كان غنيا فليكن عفيفا عن مال اليتيم ، إن أكل مال اليتيم بغير حق ذنب كبير وإثم عظيم ، فأقلعوا عنه أيها الناس ، واتقوا الله الذي خلقكم من نفس واحدة.

تعدد الزوجات والعدل معهن

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)

المفردات :

(تُقْسِطُوا) : من أقسط بمعنى عدل ولم يظلم ، بخلاف قسط بمعنى ظلم وجار. (ما طابَ لَكُمْ) : ما مال إليه القلب وعده طيبا من النساء. (مَثْنى وَثُلاثَ

٣٣٤

وَرُباعَ) : هذه ألفاظ معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. (تَعُولُوا) العول : الجور. (صَدُقاتِهِنَ) : مهورهن. (نِحْلَةً) عطية وهبة. (هَنِيئاً مَرِيئاً) : طعام هنيء إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ولا ألم ، وقيل : الهنيء : ما يستلذه الآكل ، والمريء : ما تحسن عاقبته وهضمه وتغذيته.

سبب النزول :

في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ عن هذه الآية فقالت : يا ابن أختى هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها ، فلا يعطيها مثل ما يعطى أترابها من الصداق ، فنهوا عن ذلك وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع.

وفي رواية أنها نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشاركه في ماله فيرغب عنها ويكره أن يتزوجها غيره فيشاركه في مالها فيعضلها ، فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره.

وفي رواية أخرى عن عائشة قالت : أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها لمالها ، فيضربها ويسيء صحبتها ، فنزلت الآية على معنى : خذ ما طابت بها نفسك ودع هذه لا تضر بها.

وقد كانوا في الجاهلية يتزوجون أكثر من أربعة ، بل قد يجمع الرجل ما شاء فيضطر إلى أخذ مال اليتيم ، فنهوا عن ذلك كله.

المعنى :

بعد أن نهاهم الله عن أكل مال اليتامى والجور فيه ، ووقع هذا النهى هذا الموقع فتحرجوا من الإثم ، قال ما معناه :

وإن خفتم عدم العدل في أموال اليتامى وتحرجتم من أكلها بالباطل ، وأحسستم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة وهضم حقوقها في الصداق ، فعليكم ألا تتزوجوا

٣٣٥

بها وألا تمنعوها من الزواج ، فإن الله جعل لكم مندوحة ، وشرع لكم الزواج بمن تحبون من النساء الرشيدات من واحدة إلى أربع.

وإذا قلت لجماعة : اقتسموا هذا المال بينكم مثنى وثلاث ورباع كان المطلوب أن يأخذ كل واحد منهم ما شاء من اثنين أو ثلاثة أو أربعة لا يجمع بين الأعداد كلها فيأخذ الواحد تسعة مثلا ، هذا استعمال العرب وعادتهم ، والقرآن عربي مبين.

ولكن إذا خفتم ألا تعدلوا مع اثنتين أو ثلاث أو أربع ، فتزوجوا واحدة فقط ومعها ما شئتم من الموالي ، فإنه لا يخشى معهن الجور وعدم العدل ، والخوف من عدم العدل يشمل تحقيق الظلم أو ظنه بل الشك فيه ، أما التوهم فالرأى التسامح فيه.

فالمعنى :

للرجل المسلم أن يتزوج من واحدة إلى أربع ما دام يثق في أنه يعدل ولا يجوز ، وإن خاف عدم العدل فلا يتزوج إلا واحدة ومعها ما شاء من الجواري ـ وهن الإماء الأرقاء المملوكات ملكا شرعيا ـ والعدل المطلوب بين النساء يكون في القسم بينهن في المبيت والتسوية في المأكل والمشرب والمسكن والأمور المادية ، أما الأمور القلبية كالميل والحب فهذا ما ليس في وسعه ، ولذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» وقد كان يحب عائشة أكثر من غيرها ومع هذا ما كان يخصها بشيء إلا بعد أن يستأذن أخواتها.

تعدد الزوجات

طبيعة الحياة الزوجية تقتضي ـ بالفطرة ـ أن يختص الزوج بالزوجة والزوجة بالزوج ، فكما أن الزوج يغار جدا على زوجته كذلك الزوجة.

ونحن نرى أن البيت الذي فيه ضرّتان فيه خلاف ونزاع وشقاق قد يؤدى إلى الموت والهلاك والعداوات المستحكمة.

لهذا يرى البعض أن في إباحة الإسلام التعدد في الزوجات شيئا يتنافى مع الطبيعة ويتنافى مع العقل ؛ فمن الخير المنع ، فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة!!

٣٣٦

ولكن الإسلام حينما أباح التعدد أباحه للضرورة وقيده بقيود تكاد تكون بعيدة المنال ، فالقرآن يقول : لا تظلموا اليتيمة في مالها ونفسها ، وأمامكم النساء غيرها كثيرات. تزوجوا باثنين أو بثلاث أو بأربع ولكن هذا مقيد بقيد العدل وعدم الظلم ، لا فرق بين قديمة وحديثة وجميلة وقبيحة!! والقرآن قال في موضع آخر : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) (١) والعدل المقصود منه هنا : الميل القلبي ، فإن تحقق العدل الكامل بعيد جدا ، والميل واقع حتما ، فلم يبح التعدد بلا قيد ولا شرط ، بل بشرط بعيد الحصول ؛ والتعدد أو الطلاق كحق للزوج لا غبار عليهما أبدا ، بل لعلهما بعض الضرورات اللازمة للطبيعة البشرية ، ولكن الخطأ الأكبر يجيء من سوء الاستعمال ، أما القول بمنعهما ففيه مخالفة لصريح القرآن ومخالفة لمصلحة الرجل والمرأة على السواء.

ماذا نفعل في رجل تزوج بامرأة لا تلد ، وهو غنى يريد الولد وعنده القدرة على كفاية اثنتين من النساء؟

ورجل عنده نهم على النساء ، ومن تحته امرأة عزوف عن الرجال أو بها مانع أو مرض فهل يزنى؟ فيضيع الدين والمال والصحة والشرف!! أم يتزوج بامرأة بشرط عدم الظلم في معاملة الاثنتين.

وماذا نعمل في الأمة عقب الحروب التي تبيد أكثر رجالها فتبقى النساء كثيرات مع قلة الرجال ، أمن الخير أن يتمتع بعض النساء وتبقى الأغلبية محرومة من عطف الرجل والعائل؟ وقد تضطرها الظروف إلى ارتكاب الإثم والفحش!!

إذا الخير في علاج المسألة بعلاج الدين ، فنحافظ على المرأة محافظة تامة ونعنى بها عناية كاملة في الحرب والسلم.

ولا يضر الدين إساءة المسلمين له في تنفيذ بعض رخصه ، فإنا نراهم لا يعدلون بين الأزواج ويتزوجون لمجرد الشهوة والانتقام لا لغرض شريف ، ويكفى الإسلام فخرا أن قال بالطلاق ونادى بتعدد الزوجات كثير من فلاسفة الغرب.

فالواجب على أولى الأمر أن يعالجوا الداء بما يحسمه مع تنفيذ روح الدين.

__________________

(١) سورة النساء آية ١٢٩.

٣٣٧

وآتوا النساء مهورهن اللاتي يستحقنها تشريفا لهن وتكريما وعلامة على المحبة وتوثيقا لعرى الصداقة والمودة بلا مبالغة ولا إسراف فإن طبن لكم عن شيء من أموالهن وتنازلن عنه فخذوه هنيئا مريئا.

متى نعطى أموال اليتامى لهم؟

وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦)

المفردات :

(السُّفَهاءَ) : جمع سفيه ، والسفه : الاضطراب في العقل والفكر والخلق ، والمراد به هنا : من لا يحسن التصرف في المال ، ويشمل ذلك اليتامى. (قِياماً) : ما به تقومون وتعيشون. (آنَسْتُمْ) : أبصرتم وتبينتم. (رُشْداً) : المراد به : صلاحا للعقل وحفاظا للمال. (إِسْرافاً) : مجاوزة للحد في كل عمل ، وغلب في الأموال. (بِداراً) : مبادرة ومسارعة. (فَلْيَسْتَعْفِفْ) : فليطلب العفة وليحمل نفسه عليها ، والعفة : ملكة في النفس تقتضي ترك ما لا ينبغي من الشهوات. (حَسِيباً) : رقيبا ..

أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيما سبق بإيتاء أموال اليتامى لهم وإعطاء النساء أموالهن

٣٣٨

ومهورهن ، وهنا شرط ذلك بشرطين : الخلو من السفه ، والاختبار ؛ حتى لا يضيعوا أموالهم.

المعنى :

نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأمة نهيا عاما ، يدخل فيه أولياء اليتامى والسفهاء دخولا من باب أولى .. نهاهم عن إعطاء السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم ، نهاهم عن إعطاء أموالهم لهم ، فإنهم يبددونها ، والدين حريص على حفظها لهم.

وإنما أضاف الأموال للأولياء وقال : (أموالكم) مع أنها أموال اليتامى والسفهاء للإشارة إلى أن الولي يجب عليه أن يحافظ على المال ، إذ لو ضاع لوجبت نفقة اليتيم عليه ، فكأن مال اليتيم ماله ، ولا يخفى عليك مبدأ التكافل في الأمة الواحدة ، وانظر إلى القرآن وقد وصف الأموال بأنها جعلت قوامكم في الحياة ، فبالمال تبنى الأمم صروح العمران وتقام دعائم الدنيا ، وفي هذا إشارة إلى أن المال والاقتصاد مما يرغب فيه الدين.

فعليكم ـ أيها الأولياء ـ أن تعطوا الأموال لأربابها بشرط ألا يكون سفيها لا يحسن التصرف ، وإلا بقي المال في أيديكم حتى يتم تمرينه على المحافظة على الأموال التي جعلها الله قوامكم في الحياة.

وارزقوهم منها ومن ثمرتها وكسبها لا من أصلها وذاتها ، والرزق يشمل وجوه الإنفاق جميعها من أكل وكسوة وتعليم وتمريض ، وخصت الكسوة بالذكر لأنها مظهر خارجى قد يتساهل فيه ، وقولوا لهم قولا لينا ليست فيه خشونة ، بل عاملوهم معاملة الأولاد بالعطف واللين ، وأشعروهم بالعزة والكرامة وأن ما ينفق عليهم من مالهم ، وسيأخذونه بعد البلوغ ، ويجب عليكم أن تختبروهم لتعرفوا مدى عقلهم وحسن تصريفهم للمال ، وقد أطلق القرآن الكريم الابتلاء حتى تتبينوا رشدهم وكمال تصريفهم ، لأن لكل زمن وبيئة نظاما ، فاختبار المتعلم غير اختبار العامي وهكذا.

وهذا الاختبار يكون عند البلوغ ، أى : بلوغ سن الزواج والاكتمال العقلي ، فإن تبينتم رشدهم فآتوهم أموالهم.

٣٣٩

ولا تأخذوها وتأكلوها عن طريق الإسراف والتبذير ، فإن طبيعة النفس التبذير في مال الغير ، ولا تأكلوها مسرعين قبل أن يصل اليتيم إلى مرحلة البلوغ والإدراك السليم.

أما الأكل من غير إسراف ولا تبذير وبلا إسراع ومبادرة فحكمه أن من كان غنيا فليطلب العفة ويحمل نفسه عليها حتى يتعود ذلك ، وفي هذا إشارة إلى أن طبيعة النفوس ميالة إلى الاعتداء على حق الغير وإن كان صغيرا ضعيفا.

ومن كان فقيرا محتاجا فليأكل بالمعروف شرعا وعرفا بلا إسراف وتبذير حتى قال بعضهم : إن الولي ليس له أن يأكل إلا قرضا أو بأجر المثل.

والحكمة في ذلك أن اليتيم الصغير من الخير له أن يخالط الولي ويأكل مع أولاده حتى يتسنى للولي أن يشرف عليه إشرافا فعليا ، فإن كان الولي غنيا كانت المخالطة لمصلحة اليتيم ، وإن كان فقيرا فالواجب عليه أن يأكل بالمعروف من كسب المال وثمرته ، وليس له أن يجمع من مال اليتيم شيئا خاصا به.

فإذا اختبرتم اليتيم أو السفيه وتبينتم صلاحيته لإدارة المال فادفعوه إليه بحضور الشهود قطعا للنزاع ، والله شهيد عليكم ورقيب فراقبوه ؛ فإنه لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء.

تشريع حقوق اليتامى والنساء

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)

٣٤٠