التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

(الْكاظِمِينَ) : الحابسين الغيظ ، والكاتمين له مع القدرة. (الْغَيْظَ) : أشد أنواع الغضب ، وهو فورة في الدم عند وقوف الإنسان على ما يؤلمه في ماله أو ولده أو عرضه. (فاحِشَةً) ذنب كبير ، وظلم النفس ذنب صغير.

المناسبة :

لما نهى الله المؤمنين عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين لأنهم خطر عليهم وبين أنهم إن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا ، ثم ضرب الله المثل لبيان أثر التقوى والصبر في غزوتى بدر وأحد وما فعله الكفار وخاصة اليهود والمنافقين ، بين بعد هذا وذاك فحش صفة لازمة لليهود وحذر منها المسلمين وهي الربا واستتبع هذا ذكر لون من ألوان الترغيب والترهيب.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا لا يليق بكم وقد خالط قلوبكم نور الإسلام وبرد اليقين أن تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة كما كنتم تفعلون في الجاهلية ـ وهذه ثانى آية في الربا.

فقد كانوا يعطون المائة حتى إذا حل أجلها فإما أن يدفع المدين وإما أن يزيد في الدين وهكذا حتى يصبح المال المقروض أضعافا مضاعفة ، وهذا ما يسمى ربا النسيئة أو الربح المركب وهو ما ورد فيه نص القرآن كما قال ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ.

وضابطه : كل قرض جر نفعا للمقرض في مقابل النسيئة ، أى : التأخير والأجل سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا كثيرة أو قليلة وعلى ذلك فالتعامل مع المصارف بفائدة ٣ در صد أو ٤ در صد مثلا هو ربا ونسيئة بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) (١) أى : بدون زيادة أصلا ، أما ربا الفضل فهو بيع ربوى بمثله مع زيادة في أحد المثلين ، كبيع إردب قمح جيد بإردب وكيلتين من القمح مع رضا الطرفين وهو يكون في المطعومات كالبر والذرة والشعير وكل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وكذا النقدان.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٧٩.

٢٨١

وربا الفضل ـ كما تقدم عند شرح آية البقرة ـ ثابت تحريمه بالحديث الشريف فقد روى ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا سواء بسواء ... إنى أخشى عليكم الرماء ، أى : الربا» (١). وكذا حديث أبى سعيد الخدري المتقدم.

والجمهور من العلماء على أن الربا بنوعيه خطر على الأمة والفرد كما بينا ذلك في آية البقرة لا فرق بين ربا النسيئة وربا الفضل سواء كانت الزيادة قليلة أم كثيرة ، والتقيد بالأضعاف المضاعفة في الآية هنا لبيان الواقع الذي كان يحصل عندهم في الجاهلية فلا مفهوم له ، وقد تكون هذه الآية هي المرحلة الوسطى بين الإشارة التي في سورة الروم آية ٢٩ وبين التحريم الكلى القاطع في سورة البقرة كما تقدم.

وبعض العلماء يرى أن ربا النسيئة ثابت بنص القرآن وخطره ظاهر جسيم ؛ إذ هو الربح المركب الذي يتضاعف فيه مال المرابى إلى أضعاف كثيرة وهو الذي لعن الله آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده وآذن صاحبه بالحرب إن لم يكف وهو صفة اليهود وديدنهم.

وأما ربا الفضل فثابت بالحديث ، وخطره قليل وتحريمه ليس لذاته بل أمر عارض ، فإنه قد يجر إلى ربا النسيئة فتحريمه من باب سد الذرائع فهو يباح عند الضرورة والحاجة. وأنت كمسلم تقدر ضرورتك.

والرأى عندي أن الواجب على الحكومة أو الأغنياء أن ينشئوا مصرفا للتسليف بلا فائدة كمؤسسة القرض الحسن ؛ ومصاريف الموظفين والعمال واستهلاك المبانى والمصارف إن لم تكن على حساب الحكومة فلا مانع من أن تؤخذ من المدين.

واتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون خاصة الربا ، ولا تكن قلوبكم كقلوب اليهود. فإنكم إن اتقيتم الله حق تقواه كنتم كمن يرجو الفلاح في الدنيا والآخرة.

واتقوا النار التي أعدت للذين يبتعدون عن الله ولا يمتثلون أمره ، لا سيما هذا الداء الوبيل فإنه من أكبر الكبائر حتى كأن صاحبه في عداد الكافرين.

وانظر يا أخى كيف نفّر القرآن من الربا وأكد ذلك بأربعة تأكيدات : اتقوا الله ، اتقوا النار ، أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وفي هذا كله فلاح وبعد عن النار ورحمة وأى رحمة؟

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب البيوع رقم ٣٤ ج ٢ ص ٦٣٤.

٢٨٢

ثم ثنى بالوعد والترغيب بعد الوعيد والترهيب فقال :

وبادر بعمل الطاعات كالبر والصدقة والبعد عن الآثام كالربا وغيره ، وبادروا إلى مغفرة من ربكم وإلى جنة أعدت للعاملين جنة واسعة فسيحة عرضها كعرض السماء والأرض معا وهذا بيان لأقصى ما يتصوره الخيال وتمثيل لعظمتها وكبرها وخص العرض لأنه أقل من الطول.

هذه الجنة أعدت للمتقين ، الذين أخذوا الوقاية لأنفسهم من عذاب الله بالعمل الصالح وها هي ذي أوصافهم :

١ ـ المنفقون في السراء والضراء في الشدة والرخاء في كل حال وعلى كل وضع و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢٨٦] (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق ٧].

فانظر إلى المؤمنين كيف يبذلون لله ويعطون الفقراء من غير عوض؟ والمرابين الذين يستنزفون دماء المحتاجين ويخربون بيوت المدينين ويأكلون مال الغير بغير حق بل وبمنتهى الظلم والقسوة.

٢ ـ وهم الذين يكتمون غيظهم ويملكون أنفسهم عند الغضب فلا يعتدون على الغير خاصة إذا كانوا في قوة ومنعة.

٣ ـ وهم الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس فلا حقد ولا ألم في نفوسهم بل يعفون عن طيب خاطر وطواعية.

٤ ـ وهناك صفة أعلى إذ هم مع كظم الغيظ والعفو عن الناس يحسنون إليهم ولذلك أحبهم الله ووصفهم بالإحسان والله يحب المحسنين.

روى أن جارية لعلى بن الحسين ـ رضى الله عنهما ـ جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة : فسقط الإبريق من يدها ، فشجه ، فرفع رأسه فقالت : إن الله يقول : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال : قد كظمت غيظي. فقالت : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال : قد عفوت عنك. قالت : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرة لوجه الله.

٥ ـ وهم الذين إذا فعلوا ذنبا كبيرا يتعدى ضرره إلى الغير كالزنا والربا والسرقة

٢٨٣

والغيبة مثلا ، أو فعلوا ذنبا صغيرا لا يتعداهم إلى غيرهم ذكروا عقاب الله وما أعده للطائعين والعاصين فيرجعون ويتوبون إليه ، أو ذكروا الله وجلاله وجماله ونعمه وفضله فاحتقروا أنفسهم إذ فعلوا ما يغضب الله ، وهؤلاء لا يلبثون أن يتوبوا سريعا ويقلعوا عن ذنبهم إلى غير رجعة ـ ومن يغفر الذنوب الكبيرة والصغيرة إلا الله؟ الذي وسعت رحمته كل شيء وكتب على نفسه الرحمة لمن يرجع إليه ـ وهؤلاء هم الذين إذا ذكروا الله استغفروا لذنوبهم وتابوا عن جرمهم وانصرف عنهم طائف الشيطان ، ووجدوا نفس الرحمن ، ومن كان كذلك لا يصر على الذنب فيفعله مرة ثانية ، أولئك الموصوفون بما ذكر البعيدون في درجات الكمال الروحي والتوفيق الإلهى ، جزاؤهم مغفرة من الله ورضوان من ربهم ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها نعيم مقيم وهم فيها خالدون ، ونعم أجر العاملين الذين يعملون لأنفسهم ولغيرهم.

سنة الله في الخلق والعاقبة للمتقين

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)

٢٨٤

المناسبة :

كان الكلام في وقعة بدر وأحد وما حصل للمؤمنين فيهما وموقف الكفار وصفتهم مع بيان صفة المؤمنين وجزائهم.

ثم بعد هذا ذكر القرآن سنة الله في الخلق وأن ما حصل كان موافقا للسنة مع بيان الحكمة فيما وقع.

المعنى :

انظروا أيها المسلمون فأنتم أولى بالنظر والاعتبار ، انظروا إلى من تقدمكم من الأمم ، سيروا في الأرض حتى تقفوا على أخبار الماضين فستجدون أن لله طريقا واحدا لا يختلف : (سُنَّةَ اللهِ* وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١) فإن أنتم أيها المسلمون سرتم سير الطائعين الموفقين ، وصلتم إلى ما وصلوا إليه حتما ، وإن سرتم سير العصاة المكذبين كانت عاقبتكم خسرا ، وفي هذا تنبيه لمن خالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد.

فكأنهم انتصروا يوم بدر لسلوكهم سبيل الطائعين المتوكلين على الله وهزموا يوم أحد لأنهم تنازعوا ففشلوا وخالفوا أمر الرسول ولم يصبروا ولم يتقوا كما أمروا ، ففي الآية الكريمة سبيل الأمن والخوف ، وفي طيها الوعد والوعيد ، والقرآن الكريم يشير في جملته إلى أن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة قد ربطت فيها الأسباب بالمسببات وإن يكن الله قادرا على كل شيء ، ففي الحرب أو الزرع أو التجارة مثلا إذا سار فيها صاحبها على الطرق المألوفة والنظم المحكمة نجح وإن كان شريرا مجوسيا. وإن جانب المألوف وركب رأسه واتبع غير المعقول كان من الخاسرين ولو كان شريفا علويّا ، وأحق الناس بالسير على المعقول والاستفادة بهدى القرآن هم المؤمنون في كل ما يأتون ويذرون ؛ والسير في الأرض ومشاهدة الآثار أثبت في معرفة الأخبار من التاريخ ورواية الأخبار «فما راء كمن سمعا».

كل إنسان له عقل يفكر به يعرف أن لله سنة في الكون لا تختلف عند جميع الناس في كل العصور مؤمنهم وكافرهم ، وبرهم وفاجرهم والله يهدى من يحب إلى صراط مستقيم.

__________________

(١) سورة الأحزاب آية ٦٢.

٢٨٥

فبيان سنن الكون للناس جميعا ، وإن كون ما ذكر هداية وعظة فهو خاص بالمتقين ؛ لأنهم المنتفعون بهدى القرآن (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١) ولذا قال الله : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

وإذا كان المؤمنون هم المنتفعين بما ذكر يجب ألا يضعفوا لما أصابهم من مس السلاح عند القتال وما يلزمه من التدبير ، ولا يحزنوا على من قتل منهم في أحد فهو شهيد مكرم عند الله يوم القيامة ، وما وقع ليس نصرا للمشركين ولكنه درس شديد للمسلمين ، ولذا ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو خيرت بين الهزيمة والنصر يوم أحد لاخترت الهزيمة» لما في تلك الغزوة من التربية لكم على تحمل المشاق وبيان أن خروجكم على نبيكم ومخالفة أمره خروج على سنة الله في أسباب الظفر فلا تعودوا لمثله أبدا!! وكيف تهنون وتحزنون والحال أنكم الأعلون بمقتضى سنة الله في جعل العاقبة للمتقين؟ ألا تعلمون أن قتلاهم في النار وقتلاكم في الجنة؟! والمراد بالنهى عن الوهن والحزن النهى عن الاستسلام إلى ذلك ، بمعنى التأهب والاستعداد مع العزيمة الصادقة والتوكل على الله والوثوق بالنصر ، فإن الله وعد بذلك إن كنتم مؤمنين فاعملوا بهذا.

وكيف تضعفون ولا تعلمون حقيقة ما أصابكم من الألم ، فأنتم إن أصابكم ألم في أحد فقد أصاب الكفار ألم أكثر منه في بدر ، وإن هزمتم في أحد فقد انتصرتم في بدر.

فيوم لنا ويوم علينا

ويوما نساء ويوما نسرّ

والأيام دول ، والحرب سجال ، وتلك الأيام نداولها بين الناس فنجعل للباطل دولة في يوم ، وللحق دولة في أيام ، والعاقبة والنصر في النهاية للمتقين الصابرين ؛ كل ذلك ليستقر العدل ويعم النظام ويعلم الناس أن الدنيا إن سلك طريق النجاح والفوز .. فعل الله ما فعل مع المؤمنين لحكم يعلمها وليتحقق إيمان المؤمنين ويظهر واضحا ، ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موقعة أحد : «لا يذهب معنا في القتال (غزوة حمراء الأسد) إلا من قاتل» فذهب المؤمنون وهم في أشد التعب والنصب.

(لِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) هذه العبارة وأمثالها تفيد تحقيق الإيمان وحصوله في الخارج حتى يحصل علم الله به ، فإذا علم الله إيمان فلان كان لا بد أن يكون إيمانه

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢.

٢٨٦

حاصلا في الواقع ، إذ علم الله لا بد أن يكون مطابقا للواقع ، وعلى ذلك فالمعنى : فعل الله بكم ذلك لحكم هو يعلمها وليتحقق إيمان المؤمنين ويظهر.

وليكرم الله أناسا منكم بالشهادة والقتل في سبيل الله ؛ والاستشهاد درجة عظيمة سيأتى بيانها (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) (سورة النساء ٦٩) ؛ وهذه الشهادة لا يعطيها الله إلا لمن أحبه واصطفاه والله لا يحب الظالمين أبدا.

وليمحص الله الذين آمنوا ، فهذه الحوادث العنيفة التي ترج المجتمع تمحص الإيمان الخالص من الإيمان المشوب بالضعف والاستكانة حتى تصفو النفوس فلا يبقى فيها درن.

وكثير من الناس مصابون بداء الغرور الديني فهم يفهمون في أنفسهم أنهم كاملوا الإيمان حتى إذا ما محصوا بالابتلاء قلّ الديانون (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ففي غزوة أحد تخلف البعض وفر البعض.

وصعدوا في الجبل لا يلوون على أحد ، وثبت البعض حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قتل ، واتخذ البعض نفسه ترسا واقيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضى الله عن الجميع ووفقنا حتى نقتدي بهم.

ومن الحكم العالية محق الكافرين ؛ فإنهم إذا ظفروا مرة طغوا وبغوا فيكون هلاكهم مرة واحدة ، وإذا هزموا كما في بدر ، تقلمت أظفارهم وأصابهم الضعف والهلاك شيئا فشيئا حتى يبادروا ، والعاقبة للمتقين.

دروس لمن شهد غزوة أحد

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ

٢٨٧

إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)

٢٨٨

المفردات :

(وَلَمَّا) بمعنى (لم) إلا أن مدخولها متوقع الحصول ، فالمراد نفى الجهاد في الماضي وتوقعه في المستقبل. الجهاد : احتمال المشقة ومكافحة الشدائد. (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) المراد : تمنى الشهادة في سبيل الله. (تَلْقَوْهُ) : تشاهدوا هوله وتروا خطره. (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) انقلب على عقبيه ونكص على عقبيه : رجع وراءه ، والمراد : رجعتم كفارا بعد إيمانكم.

(مُؤَجَّلاً) : ذا أجل ، وهو المدة المضروبة للشيء. (كَأَيِّنْ) : كلمة تفيد الكثرة. (رِبِّيُّونَ) : جماعات كثيرة واحدهم ربّىّ وهو الجماعة. (اسْتَكانُوا) الاستكانة : الاستسلام والخضوع ؛ لأن صاحبها يستكين للخصم. (إِسْرافَنا) : مجاوزة الحد في كل شيء.

(الرُّعْبَ) : شدة الخوف. (سُلْطاناً) : برهانا وحجة ، ولما فيهما من القوة على دفع الباطل سمى سلطانا. (مَثْوَى) المثوى : المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه.

يبين الله في هذه الآيات أن الثواب في الآخرة منوط بالجهاد والصبر ، كما أن الفوز في الدنيا منوط بإقامة العدل وسلوك الطرق المألوفة ، فسنة الله لا تختلف ، وقد ذكر مع هذا عتابا لبعض من شهد أحدا.

المعنى :

لا ينبغي لكم أن تظنوا بالله الظنون وتصابوا بداء الغرور فتفهموا أن دخول الجنة لا يكون من غير جهاد في الله وصبر على البأساء والضراء وحين البأس «لا» ... إن دخول الجنة لا يكون إلا بالجهاد الكامل لإعلاء كلمة الله ورفع راية الوطن ، وإنما يكون بجهاد العدو وجهاد النفس خاصة في الشباب ، وجهاد حب المال عند البذل في الأعمال العامة النافعة وغير ذلك.

وتمكن الصبر في أنفسكم تمام التمكن على أداء التكاليف وعلى الطاعة وعلى البلاء والحوادث.

٢٨٩

ونفى العلم من الله دليل على عدم وقوع الجهاد والصبر منكم فهو أبلغ من نفى الجهاد والصبر ، إذ هو كالدعوى ودليلها ، شبيه بهذا قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا).

روى عن الحسن أنه قال : بلغني أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفعلن ولنفعلن فابتلوا بذلك ، فلا والله ما كلهم صادق ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ).

نعم لقد كان كثير منكم يتمنى لو يستشهد في سبيل الله تمنيا من نفسه استحق أن يعبر عنه المولى بهذا التأكيد : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ) حتى إذا جد الجد وقامت الحرب وشاهدتم بأعينكم مشاهدة كاملة وأنتم تنظرون نظرة فاحصة ليست عاجلة ، توانيتم وانحزتم إلى الجبل وأصعدتم فيه لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فلا يجيبه أحد.

وهذا عتاب وأى عتاب؟ نعم كان مع النبي من بايعه على الموت ودافع عنه دفاعا مجيدا حتى قتل البعض ونجا البعض كما تقدم في سرد حوادث الغزوة ، ومع هذا كان الخطاب عاما ليكون الإرشاد عاما فيتهم المؤمنون الصادقون أنفسهم ليزدادوا إيمانا وليرعوى المقصرون فلا يعودوا لمثلها أبدا.

في هذه الغزوة ـ كما قلنا سابقا ـ أشيع قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت الإشاعة سببا في شيوع قالة السوء ، حتى قال بعض المنافقين : لو كان نبيا ما قتل!! من لنا برسول إلى عبد الله بن أبىّ ليأخذ لنا الأمان عند أبى سفيان؟ وهكذا مما جعل أنس بن النضر يبرأ إلى الله من مثل هذا الكلام ويقاتل حتى يقتل دفاعا عن الدين.

وكانت هذه الإشاعة سببا في انفضاض بعض الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعاتبهم الله بقوله. وما محمد إلا رسول كمن سبقه من الرسل فهم قد خلوا وانتهت حياتهم بموت كموسى وعيسى ، أو قتل كزكريا ويحيى ، ومع هذا ظلت ديانتهم كما هي وأتباعهم متمسكون بها ، فالمعقول أن تظلوا كما كنتم ولو مات أو قتل ؛ فإن الرسول بشر كسائر الأنبياء له في الدنيا مهمة تنتهي بانتهاء أجله ، ومن كان يعبد الله فإن الله باق ، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات.

أفتنقلبون على أعقابكم فترتدون عن دينكم أو يطير صوابكم لو مات أو قتل مع أنه

٢٩٠

رسول كسائر الرسل لم يدّع أنه إله ، ولم يطلب لنفسه العبادة حتى إذا مات أو قتل تركتم دينه ورجعتم كفارا.

ومن ينقلب على عقبيه ويعود إلى الكفر فلن يضر الله بشيء من الضرر ، وإنما يضر نفسه ؛ وأما من ثبت على دينه وجاز هذا الامتحان الدقيق فهو من المجاهدين الصابرين الشاكرين الذين سيجزيهم الله خير الجزاء ، وقد كانت هذه الآية تمهيدا لموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أداء رسالته وقولا فصلا لأمثال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ.

ثم بعد ما لام القرآن المؤمنين على ما بدر منهم حينما بلغهم قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر لهم : بأنه رسول كبقية الرسل ، لم يطلب لنفسه العبادة ، حتى إذا مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم كافرين ، وإنما كان يأمركم بعبادة الله ، والله حي لم يمت ، ومهمته البلاغ فقط ، فإذا ليس لوجوده دخل في استمرار عبادة الله.

وهنا يلومهم أيضا على أن النبي لو قتل ـ كما أشيع ـ ما كان لكم أن تفعلوا ما فعلتم.

ليس من شأن النفوس ، ولا من سنة الله فيها ، أن تموت بغير إذنه أو مشيئته ، التي يجرى بها النظام العام في الكون ، وارتباط الأسباب بالمسببات ، فالله وحده هو المتصرف في كل شيء ، وله الأمر فيأذن للملك يقبض الروح في الموت العادي وغيره ، في الإنس والجن حتى في نفسه ، الموكل بقبض الأرواح.

كتب هذا كتابا محكما مؤقتا بوقت لا يتعداه ، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة النحل آية ٦١] وإذا كان العمر لله ، وانقضاؤه بإذنه وإرادته. فكيف يصح الجبن والوهن والضعف والانخذال؟؟

ومن يرد ثواب الدنيا بجهده وعمله ، وأعطاه الله شيئا من ثوابها. ومن يرد ثواب الآخرة وجزاءها أعطاه الله شيئا من ثوابها ، على حسب إرادته ومشيئته في كلا الحالين ، وأما أنتم يا من ضعفتم وفشلتم وتنازعتم وخالفتم أمر نبيكم وقائدكم لأجل الغنيمة ، ما الذي تريدون بعملكم؟ إن كنتم تريدون الدنيا فالله لا يمنعكم من ذلك ، ولكن ليس هذا طريقها ، إن العمل الذي يدعوكم إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو للدنيا والآخرة.

ولا تنس أن التعبير بقوله : (يُرِدْ) دليل على أن الإرادة للشخص هي التي تكيف العمل فتارة يكون خيرا وتارة يكون شرا «إنما الأعمال بالنيات» أما الله ـ سبحانه وتعالى ـ فسيجزى الشاكرين نعمه. الواقفين عند حدوده ، الثابتين مع نبيه.

٢٩١

وكثير من الأنبياء السابقين قاتل معهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته ، جماعات في أحرج الأوقات وأشدها ، فما وهنوا ولا ضعفوا ولا خضعوا للدنيا ومتاعها ، بل ظلوا كما هم لم تزعزعهم الأعاصير ثابتين ، والله يحب الصابرين الذين صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله فهو يهديهم ويرشدهم ، ولا شك أن هؤلاء مبالغون في التعلق بالله ـ سبحانه ـ هذا عملهم ، أما قولهم فهو : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واستر ما ألممنا به مما نعلمه ولا نعلمه واغفر لنا إسرافنا ومجاوزتنا أمرك ، فهم مهما فعلوا من الخير يرون أنفسهم مقصرين ، أو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ... وثبت أقدامنا على صراطك المستقيم وأمام عدوك المبين ، وانصرنا على القوم الكافرين.

فآتاهم الله ثواب الدنيا والسعادة فيها بالرضا والقناعة والعزة وحسن التوكل على الله ، وثواب الآخرة وهو الجزاء الأوفى ، أولئك رضى الله عنهم ورضوا عنه وذلك هو الفوز العظيم.

وأنتم يا أصحاب الرسول محمد وخاتم الأنبياء والمرسلين أولى بهذا.

روى أن بعض المنافقين حينما أذيع خبر مقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

من لنا برسول إلى ابن أبىّ يأخذ أمانا لنا عند أبى سفيان؟ وقال بعضهم : لو كان نبيا ما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم ، وهذا أبو سفيان ينادى : العزى لنا ولا عزى لكم ، فنزلت هذه الآيات.

وبعد ما رغب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء السابقين وبين جزاء هذا وحذرهم من متابعة الكفار فإن في ذلك خسارة لهم.

يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا كأبى سفيان وعبد الله بن أبى والداعين إليهما ، إن تطيعوهم يردوكم كافرين كما كنتم ، خاسرين في الدنيا بالذلة بعد العزة وتحكم العدو فيكم ، وحرمانكم من السعادة والملك الذي وعده الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً). (١) وأما خسران الآخرة فعذاب شديد يوم القيامة.

بل الله مولاكم ولا مولى لهم ، فلا يليق أن تفكروا في ولاية أبى سفيان أو غيره ولا

__________________

(١) سورة النور آية ٥٥.

٢٩٢

تأبهوا لكلام المنافقين الجبناء ، فالله نعم المولى وهو خير الناصرين ، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة المنافقون آية ٢٨] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [سورة محمد آية ١١].

سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب شركهم بالله أصناما وحجارة ، ليس لهم في هذا حجة ولا برهان ، بل هم إذا خلوا إلى أنفسهم وجدوها تعبد معبودات كل حجتهم في عبادتها أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) وعبادتهم الأصنام تورث في عقولهم خبالا وفي نفوسهم ضعفا وأى ضعف؟ وإذا رأوكم متمسكين بدينكم كان ذلك أدعى إلى إلقاء الرعب في قلوبهم وشكهم في أنفسهم ، وهذا ما حصل ويحصل.

هذا حالهم في الدنيا ، وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار ؛ فإنهم الظالمون المشركون.

أما إذا رأيت المؤمنين مع الكافرين وقد انعكست الآية ، وقد ألقى الرعب في قلوب المؤمنين فاعلم أنهم ليسوا مؤمنين حقا ولكنهم مسلمون بالوراثة والاسم فقط.

ما أصاب المسلمين في أحد ، وسببه

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ

٢٩٣

وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)

المفردات :

(تَحُسُّونَهُمْ) : تقتلونهم ، من حسه ، أى : أذهب حسه بالقتل. (بِإِذْنِهِ) : بأمره ودعوته. (فَشِلْتُمْ) : جبنتم وضعفتم. (صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) : كفّكم عنهم وحوّلكم. (لِيَبْتَلِيَكُمْ) : ليختبركم ، والمراد : ليعاملكم معاملة من يختبر وإلا فالله عالم لا يحتاج إلى اختبار. (تُصْعِدُونَ) من أصعد بمعنى أبعد في الذهاب وأمعن فيه.

٢٩٤

(وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) : ولا تلتفتون لأحد فجازاكم. (أَمَنَةً) : الأمنة والأمن سواء. (الْغَمِ) : ألم وضيق في الصدر من الأمر الذي لا يدرى الخلاص منه. (لَبَرَزَ) : لخرج. (مَضاجِعِهِمْ) : مصارعهم التي يصرعون فيها. (اسْتَزَلَّهُمُ) : أوقعهم في الزلل والخطأ.

سبب النزول :

روى الواحدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال الناس : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى النصر؟ فأنزل الله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) (الآية). وتلاها ذكر الحوادث وأسبابها.

المعنى :

وتالله لقد وفّى لكم ربكم وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم المشركين وقت أن أخذتم تقتلونهم قتلا وتفتكون بهم فتكا ، كل ذلك بتيسير الله ومعونته ، وإذنه وإرادته.

نعم صدقكم الله وعده ، حتى ضعفتم في الرأى وجبنتم في الحرب ، وفشلتم وتنازعتم واختلفتم فقال قائل : فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال بعضهم : لا نخالف أمر الرسول أبدا ، وما ثبت مكانه إلا عبد الله بن جبير في نفر قليل من أصحابه ، وكان ما كان من أمر انهزامكم مما ذكر في (غزوة أحد).

منكم من يريد الدنيا وهم الذين تركوا أماكنهم طلبا للغنيمة ، ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم كفّكم عنهم حتى تحولت الحرب ودالت الدولة. فعل هذا بكم ليمتحن إيمانكم ويتبين أمركم ، فيظهر الصادقون من المنافقين ، ولقد عفا الله عنكم بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرط منكم ، إنه هو التواب الرحيم وهو ذو الفضل العظيم على المؤمنين ؛ وكم نقمة في طيها نعم.

٢٩٥

صرفكم الله عنهم فجازاكم غما وغما حين ابتلاكم بالهزيمة بسبب غم منهزمين لا تلتفتون وراءكم ، والحال أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوكم قائلا :

«إلىّ عباد الله ، إلىّ عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكرّ فله الجنة» يدعوكم في الجماعة المتأخرة الذين ثبتوا مكانهم ولم تنخلع قلوبهم وظلوا يدافعون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

صرفكم عنهم وقت أن كنتم تصعدون في الجبل وتبعدون في السير ألحقتموه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصيانكم أمره ، ومخالفة رأيه ، ويصح أن يفهم (أصابكم غما بعد غم) هزيمة المشركين وإشاعة قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل الأحبة وفوات النصر والغنيمة.

وما فعل بكم كله إلا ليمرنكم على الشدائد فإنها هي التي تخلق الرجال والأمم ولئلا تحزنوا على شيء فات ، ولا ما أصابكم من عدوكم ، والله خبير بأعمالكم فمجازيكم عليها.

روى الزبير ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : لقد رأيتنى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد علينا الخوف فأرسل الله علينا النوم والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا).

ثم أنزل الله الأمن على القلوب والطمأنينة على النفوس بالنعاس حتى كان يسقط السيف من أحدهم فيأخذه ، والنعاس في هذه الحالة نعمة من نعم الله وحدّ فاصل بين حالتي الأمن والخوف ، فإنه لا ينام الخائف أبدا.

هذا النعاس غشى طائفة من الناس هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله.

وهناك طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم ، وملأ الخوف قلوبهم ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ الرسول والمسلمين ، وذلك لأنهم لا يثقون بنصر الله ولا يؤمنون بالرسول ، فقلوبهم هواء ، وهؤلاء هم المنافقون كمعتب بن قشير ومن لف لفه من أتباع ابن أبىّ ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية الأولى.

يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لنا من الأمر والنصر نصيب؟ يسألون كالمؤمنين في الظاهر والواقع أنهم ينكرون أن لهم شيئا من النصر والغلب.

٢٩٦

قل لهم يا محمد : إن الأمر والنصر كله لله ، ولا يكون من غيره (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١). (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). (٢)

هم يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد لكم ويظهرون غير ذلك ولا غرابة فهم المنافقون والمخادعون.

يقولون : لو كان لنا من النصر والفوز نصيب ما قتلنا ها هنا ، فهزيمتنا دليل واضح على أن النصر لن يأتى لنا وأن محمدا ليس نبيا ؛ إذ لو كان نبيا ما هزم ، فهم يربطون بين النبوة والنصر. وما علموا أن النصر من عند الله وتوفيقه وأن الهزيمة من أعمالهم ومخالفتهم ، ومع ذلك فالعاقبة للمتقين.

وهؤلاء ختم الله على قلوبهم ، فغفلوا عن أن الأعمار بيد الله وأن النصر من عنده وأن الذين كتب عليهم القتل ، لا بد من حصوله ولو كانوا في بروج مشيدة.

قل لهم : لو كنتم في بيوتكم وقد كتب عليكم القتل ، لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى حيث يصرعون ويقتلون ، فالحذر لا ينجى من القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير والأمر كله بيد الله والعاقبة للمتقين.

وقد فعل الله ما فعل ، ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص والتقوى ، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان حتى تصل إلى الغاية القصوى في اليقين ، والله عليم بصاحبات الصدور التي لا تنفك عنها من الأسرار والضمائر ؛ فهو لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وهو الغنى عن الابتلاء والاختبار ولكن يفعل هذا لينكشف حال الناس بعضهم لبعض فلا ينخدع إنسان بظاهر أخيه.

إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان من المشركين والمسلمين وتركوا أماكنهم أو تولوا منهزمين ، إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب بعض أفعالهم السابقة فإن الذنب الذي يفعله الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب يرتكز عليها الشيطان فينفذ منها إلى الإنسان ويوحى إليه بالسوء.

ولقد عفا الله عنهم لما تابوا وأنابوا وكانت عقوباتهم في الدنيا جوابر لهم ، إن الله غفور للذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة.

__________________

(١) سورة المجادلة آية ٢١.

(٢) سورة الصافات آية ١٧٣.

٢٩٧

بث روح التضحية والجهاد في نفوس المؤمنين

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)

المفردات :

(ضَرَبُوا) : سافروا في الأرض للتجارة والكسب. (لِإِخْوانِهِمْ) : لأجل إخوانهم ، أى : في شأنهم والمراد بالأخوة ما هو أعم من أخوة النسب والدين والمودة : (غُزًّى) : جمع غاز ، وهو المقاتل. (حَسْرَةً) : ندامة في قلوبهم.

لما بين الله فيما مضى سبب الهزيمة وأن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا.

بين هنا ما يوسوس به الشيطان للناس فيعتقدون هذا الخطأ الفاسد.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين طمس الله على قلوبهم وجعل على أبصارهم غشاوة ، فأصبحوا لا يهتدون إلى صواب في رأى ، فهم يقولون في شأن إخوانهم في الدين والرأى! حينما يسافرون للتجارة والكسب أو

٢٩٨

يجاهدون في سبيل الله ، فيحصل لهم موت أو قتل : لو كانوا عندنا لم يبرحوا مكانهم ، ما ماتوا وما قتلوا.

عجبا لهؤلاء البله أهم يظنون أن المنايا ترسل بلا حساب ، وأن الهلاك لا يكون إلا بالسفر أو الحرب؟! ولله در خالد بن الوليد الذي يقول : ما في شبر من جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح وها أنا ذا أموت على الفراش كالبعير ، فلا نامت أعين الجبناء!! ألم يسمعوا قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (١).

وإذا لم يكن من الموت بدّ

فمن العجز أن تموت جبانا

فيا أيها المؤمنون لا تكونوا مثلهم ، بل خالفوهم وثقوا بالله وأن (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٢) فإنهم إن رأوكم هكذا لا تبالون بالموت.

ولست أبالى حين أقتل مسلما

على أى جنب كان في الله مصرعي

جعل الله ذلك حسرة في قلوبهم وندامة.

فأنتم المؤمنون المعتقدون أن الله يحيى ويميت وأنه هو المؤثر وحده وأنه يقول : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٣) والله بما تعملون بصير ، فلا تخفى عليه خافية من خفايا نفوسكم ومعتقداتكم ، وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين ، وتالله ـ أيها المسلمون ـ لئن قتلتم في سبيل الله أو متم فهناك مغفرة الله ورضوانه خير بكثير جدا مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية.

ألا ترى معى أن القرآن يربى فينا روح التضحية والكفاح من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام ويعدنا بأن من يقتل في سبيل الله فهو حي يرزق عند ربه ؛ وعند الناس حي بالذكر الطيب والثناء الجميل.

وانظر إلى تقديم القتل في الجهاد والموت في غيره اعتبارا بالكثير الغالب.

__________________

(١) سورة آل عمران آية ١٤٥.

(٢) سورة آل عمران آية ١٨٥.

(٣) سورة النساء آية ٧٨.

٢٩٩

بعض أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)

المفردات :

(لِنْتَ لَهُمْ) اللين : الرفق والسهولة في المعاملة. (فَظًّا) الفظ : السيئ الخلق الشرس. (غَلِيظَ الْقَلْبِ) : قاسيه الذي لا يتأثر بشيء. (لَانْفَضُّوا مِنْ

٣٠٠