التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

ومن يعتصم بالله وبكتابه ورسوله فقد تحققت هدايته ، لا يضل أبدا ولا يخشى عليه من المهالك أصلا.

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله اتقاء حقا وأدوا واجب التقوى الذي يطلب منكم (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة التغابن آية ١٦] على معنى : بالغوا في التقوى وأدوها كاملة حتى لا تتركوا من المستطاع شيئا.

ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله ، أى : لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.

وتمسكوا بكتاب الله وعهده واعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا عنه أبدا فإن الداء العضال داء الفرقة والانحلال.

وفي الآية تمثيل الاستيثاق بالعهد أو القرآن والوثوق بحمايته ، باستمساك المتدلى من مكان مرتفع ؛ بحبل متين وثيق يأمن انقطاعه.

وحبل الله هو الإيمان والطاعة ، أو القرآن ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حبل الله المتين ، لا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد ، من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به فقد هدى إلى صراط مستقيم».

وقد كان العرب الجاهليون في حروب مستعرة وعداوات وإحن خاصة الأوس والخزرج ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه أفواجا ، سل من قلوبهم سخائم الحقد وطهر أرواحهم من نكد العداوة ، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا متحابين متعاطفين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة يدينون بمبدأ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [سورة الحجرات آية ١٠] وبالحديث : «مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها ؛ نعم كان العرب على حافة حفرة من النار بسبب شركهم ووثنيتهم لا يفصلهم عن النار إلا الموت فأنقذهم الله بالإسلام والتوحيد : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم آية ٣٤].

مثل هذا البيان القيم والتوجيه السديد يبين الله آياته لكم ، وهو في هذا البيان كالذي يرجو منكم الهداية والسداد لعلكم تهتدون.

٢٦١

ما يستفاد من الآيات : (١٠٠ ـ ١٠٣)

١ ـ يجب علينا ألا نؤمن لغير من اتبع ديننا خاصة إذا أشار علينا بالفرقة والخلاف.

٢ ـ إذا دهانا أمر أو حل بنا خطر نلجأ إلى القرآن والحديث نستهديهما ، ونستلهم رأيهما ففيهما الخير والرشاد في الدنيا والآخرة.

٣ ـ الاتحاد وعدم الخلاف والشقاق مع الاعتصام بالعهد والقرآن.

أمرنا الله بالاعتصام بحبله والتمسك بدينه ونهانا عن التفرق والاختلاف فقد أنعم علينا بالإسلام وألف بين قلوبنا بالقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنه يعلم أن هناك نفوسا يصدأ قلبها سريعا ولا يجلوها إلا الوعظ والإرشاد والتذكير بالله واليوم الآخر ، فأرشدنا إلى ذلك حيث قال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ) (الآية) ، فهذه وما بعدها متممة لقوله ـ تعالى ـ : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً).

خاطب الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأمة الإسلامية بأسلوب الأمر الصريح فقال : ولتكن منكم أيها المسلمون أمة لها كيان ونظام. أمة مؤتلفة الأعضاء موحدة الجهات لا ترهب أحدا ولا تخاف شيئا ، دينها قول الحق ورفع الظلم ولو كان عند سلطان جائر. لا تخشى في الله لومة لائم ، لها رئاسة وقانون. كل ذلك قد أشارت إليه كلمة واحدة وهي (أمة) إذ هناك فرق بين قولك : جماعة وأمة.

فعلى المسلمين جميعا واجب هو تكوين تلك الأمة. لتكون بهذا الوضع. وعلى الأمة المكونة واجب أن تقوم بمهمة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والذب عن حياض الدين ورفع منارة الحق والعدل ، فالمسلمون جميعا مكلفون بتكوين جماعة خاصة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فهذه الجماعة المكونة بهذا الوضع السابق لها حق الإشراف والتكوين والتوجيه والحساب والعمل على خدمة المسلمين ، وهذا أشبه بمجلس الأمة!

وعلى الأمة جميعا اختيار طائفة خاصة تقوم بتلك المهمة على سبيل الوجوب.

وفي سبيل قيامها بواجبها يجب أن تتوافر فيها شروط العلم الديني والعلوم التي يحتاج

٢٦٢

إليها من يخاطب الناس ويؤثر فيهم مع التقوى والتخلق بأخلاق الأنبياء ، وأن يكون الداعية مثلا أعلى في الخلق الكامل ، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.

فإذا توافرت هذه الشروط فأولئك البعيدون في درجات الكمال هم المفلحون في الدنيا والآخرة ، وأمة هداتها وقادتها بهذا الوضع لا بد أن تكون العزة والكرامة لها.

ولا تكونوا ـ أيها المسلمون ـ كالذين تفرقوا واختلفوا اختلافا كثيرا كما حصل لليهود والنصارى من بعد ما جاءتهم البينات الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتبعوها ، وما ذلك إلا لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ولم تكن فيهم أمة تهديهم إلى الخير وترشدهم إلى الطريق (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (الآيتان ٧٨ ، ٧٩ من سورة المائدة).

والاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف في الأصول العامة للدين وتحكم الهوى وإدخال السياسة المذهبية ، والبعد عن مناهل الشريعة والأخذ بالمتشابه.

أما الخلاف في الوسائل وكيفية الأداء كاختلاف المذاهب عندنا في كيفية الوضوء لتعدد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأن القرآن يسمح بكل صورة قال بها إمام من الأئمة ، فلا شيء فيه إذ كلهم من رسول الله ملتمس.

والمسلمون قد اختلفوا شيعا وأحزابا لما تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتركوا روح الدين واشتغلوا بالأمور الشكلية.

والأمة التي فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فأولئك جميعا هم المفلحون ، وأولئك المختلفون والمتفرقون التاركون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لهم عذاب عظيم. لا يعرف له حد ولا يدرى له كنه.

يوم تبيض وجوه المؤمنين وتشرق ويسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، وتسود وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحق والصبر من أهل الكتاب والمنافقين ، وتظلم وتكتئب حينما يرون ما أعد لهم من العذاب المقيم ، فأما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا : أكفرتم بالرسول محمد بعد إيمانكم به؟ فقد كنتم على علم ببعثته وعندكم أوصافه والبشارة به ، ولكن كفرتم به حسدا وحقدا ، وكانوا قبل البعثة

٢٦٣

يستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. وهذا جزاؤكم أن تذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.

وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله وجنته ورضوانه هم خالدون.

تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الثابت ؛ فلا عذر بعد هذا لو اختلفت أمتك وأهملت الاعتصام بحبل الله وتفرقت شيعا وأحزابا ، ولم تتواص بالحق والصبر ، وما الله يريد بهذه التوجيهات والأحكام ظلما للعباد ، حاشا لله أن يضع شيئا في غير موضعه ، بل كل هذا لمصلحتهم في الدنيا والآخرة ، وكيف لا يكون ذلك؟ ولله في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وحكما ، وإلى الله وحده ترجع الأمور.

فضل الأمة الإسلامية على غيرها

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)

٢٦٤

المفردات :

(كان) فعل يدل على الوجود والحصول في الماضي بقطع النظر عن الدوام أو الانقطاع ، وقد يستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (الْأَذى) : الضرر البسيط. (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) : كناية عن الانهزام ، فالمنهزم يحول ظهره إلى عدوه. (ضُرِبَتْ) : ألصقت بهم وأثرت فيهم. (الذِّلَّةُ) : الذل. (ثُقِفُوا) : وجدوا. (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) الحبل : العهد. (وَباؤُ) : رجعوا ، والمراد كانوا أحقّاء بغضب الله ، مأخوذ هذا من البواء ، أى : المساواة ، يقال : باء فلان بدم فلان : إذا كان حقيقا أن يقتل به لمساواته له ، والمراد حلوا في العذاب ، من المباءة ، وهو : المكان. (يَعْتَدُونَ) : يتجاوزون الحد.

هذا كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام بالله والاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير على أنه تحريض وإلهاب للهمم.

المعنى :

أنتم خير أمة في الوجود الآن ، وذلك لأن جميع الأمم قد غلب عليها الفساد وعمتها الفوضى ، فلا يعرف فيها معروف ولا ينكر فيها منكر ، فأنتم خير أمة أخرجت للناس ، وذلك لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله إيمانا كاملا صادقا «والإيمان بالله على هذا النحو لا يكون إلا إذا استوعب صاحبه جميع ما يجب الإيمان به ، فلو أخلّ بشيء لم يكن مؤمنا بالله ـ تعالى ـ إيمانا كاملا ، وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله لأنهما أظهر في بيان فضل المسلمين على غيرهم ، على أن الإيمان يدعيه أهل الكتاب وإن تكن دعوى باطلة».

ولو أن أهل الكتاب آمنوا إيمانا حقيقيا لكان خيرا لهم ؛ إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، أو يؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى ، ويكفرون بمحمد ، على أنهم كيف يدعون الإيمان وفي صلب كتبهم البشارة بمحمد وصفته فأنكروا كل ذلك ولم يؤمنوا به؟

٢٦٥

وقد استطرد القرآن فقال : من أهل الكتاب قوم مؤمنون حقيقة كعبد الله بن سلام وأحزابه وكثير منهم فاسقون وخارجون عن حدود دينهم وكتبهم.

ولو سئل أحبار اليهود عن أنفسهم لما قالوا أكثر من ذلك.

هؤلاء اليهود موصوفون بما يأتى :

لن يضروكم أبدا إلا ضررا بسيطا كالهجاء والخوض في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عرضه والتنفير من الدين الإسلامى.

وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم ويولوكم الأدبار ، وهذا ليس بالجديد على أمثالهم ثم بعد هذا لا ينصرون أبدا.

وصفهم القرآن بثلاث : عدم الضرر. والفرار في الحرب. وعدم النصر ؛ ولكن هذا مع من؟ مع قوم نصروا الله فنصرهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) فما دمنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله إيمانا صحيحا فلا بد أن نكون أقويا أعزاء ، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود الله والطاعة والإيمان يكون هذا الحكم لنا ولهم ، وإذا لم نكن كذلك فحالنا وحالهم كما نرى الآن.

وقد وصفوا كذلك بأن الذل قد ألصق بهم حتى أثر فيهم كما يؤثر الضرب في النقد فلا خلاص لهم من الذل أبدا إلا بسبب عهد لهم من الله وهو ما قررته الشريعة لهم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء ، وعهد من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في الوطن والحاجة والانتفاع في الصناعة والتجارة. أو المراد عهد من الناس يحميهم.

وصاروا مستحقين لغضب الله مستوجبين سخطه قد أحاطت بهم المسكنة إحاطة المكان بمن فيه ، فهم في الذل والحاجة أبدا.

ولا شك أنهم كذلك إلى الأبد وإن كانوا مياسير وأغنياء لأنهم ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل بيع الشرف لأجل المال فهم في فقر دائم وذل مستمر ومتألهين المال ، وفي الجزء الأول توضيح المقام فارجع إليه ص (٣١).

٢٦٦

ذلك الذي ذكر من هذه الصفات بسبب أنهم يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء معتقدين أنهم على غير حق فيما يفعلون ، إذ يقتلون رجالا يقولون ربنا الله ، وفي هذا تشنيع عليهم وأى تشنيع؟!

وما جرأهم على ذلك إلا فعل المعاصي واستمرارهم عليها ، فإنه يجعل الرّان على قلوبهم ويفضى بهم إلى الوقوع في الكبائر كالكفر وقتل الأنبياء.

ونسبة القتل إلى المعاصرين من اليهود كما قلنا ؛ لأنهم منتسبون إلى من فعل هذا الفعل وراضون عنه ، بل معتزون بهذا النسب ، على أنهم حاولوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا.

المؤمنون من أهل الكتاب

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)

المفردات :

(قائِمَةٌ) : مستقيمة عادلة ، مأخوذ من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام. (آناءَ اللَّيْلِ) : جمع آن ، والمراد : ساعات الليل. (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) : يبادرون إلى فعل الخيرات. (يُكْفَرُوهُ) : يمنعوه ثوابه.

٢٦٧

المناسبة :

لما وصف أهل الكتاب بأن منهم المؤمنين ، ومنهم الفاسقين ثم بين حالهم ومآلهم خاصة اليهود ، كان من العدل أن يبين حال المؤمنين منهم وإن كانوا قلة.

المعنى :

ليس أهل الكتاب متساوين في أصل الاتصاف بالقبائح ، بل منهم من تقدمت صفته. ومنهم أمة مستقيمة على طاعة الله ، ثابتة على أمره ، من صفاتهم أنهم يتلون آيات الله ويقرءون القرآن خاصة في ساعات الليل (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٧٨ الإسراء).

ففي صلاة الليل والتهجد يكثرون من قراءة القرآن وحدهم ، حيث ينام الكون كله وحارسه لا ينام ـ سبحانه وتعالى ـ وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا خالصا لا شبهة فيه ولا نفاق معه ، إيمانا بكل ما يجب الإيمان به.

فهم قد كملوا أنفسهم بالقرآن وتلاوته ، والإيمان وحلاوته ، ثم أرادوا لسمو أنفسهم وطهارة ضميرهم أن يكملوا غيرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ويبادروا إلى فعل الخيرات بسرعة وبلا إمهال ، وهكذا شأن المؤمنين أمثال عبد الله بن سلام ومن على شاكلته ، أولئك عند الله من الصالحين الذين صلح حالهم وعلت درجاتهم.

وفي هذا رد على اليهود حيث زعموا أن من آمن منهم هم شرارهم لا خيارهم ، إذ لو كان فيهم خير لما آمنوا.

وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ، ولن يمنعوا جزاءه. والله شكور عليم بالمتقين ، فلن ينسى ولا يهمل ، وليس ممن يجهل الجزاء ، وهو القادر على كل شيء ، البصير بكل عمل.

٢٦٨

الكافرون وأعمالهم يوم القيامة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)

المفردات :

(لَنْ تُغْنِيَ) : لن تجزى عنهم. (صِرٌّ) : برد شديد. (حَرْثَ) الحرث : إثارة الأرض للزرع ، والمراد النبات المزروع.

المعنى :

كثيرا ما افتخر الكفار وقالوا : نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، ولفظ الكفار هنا يشمل اليهود والمنافقين جميعا.

فهم لن تجزى عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) أولئك هم الملازمون للنار لا ينفكون عنها ، هم فيها ماكثون مكثا الله أعلم به. ثم ضرب الله مثلا من أروع الأمثلة التي وردت في القرآن لأموالهم التي ينفقونها في أغراض الدنيا للرياء والسمعة والمفاخرة وكسب الثناء لا يبغون بذلك وجه الله بل كان منهم من ينفق ماله ليصد عن سبيل الله.

مثل المال الذي ينفقونه هكذا كمثل ريح فيها برد شديد أتت على الزرع فأهلكته.

فأنت معى في أن المال الذي ينفق في لذاتهم وتأييد كلمة الباطل والصد عن سبيل الله

٢٦٩

يمنعهم من التخلق بالحق بل يمنعهم من النظر في دين الله بعين العدل والعقل السليم والروح المجردة من الشر.

أليس هذا المال كالريح المرسلة بالهلاك والبرد الشديد فتأتى على الزرع المرجو ثمرته ونفعه فتبيده وتهلكه؟!

فهم إذا أنفقوا المال للشيطان ورجوا منه الثواب والنفع ثم قدموا الآخرة فلم يروا إلا الحسرة والندامة كانوا كمن يزرع زرعا وتوقع منه خيرا ونفعا فأصابته ريح فأحرقته فوقف مبهوتا حائرا ؛ وحقّا إن الله يتقبل من المتقين ويثيب المخلصين.

وما ظلمهم الله بل جازاهم وكافأهم (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ولكن هم الظالمون لأنفسهم.

صداقة المؤمنين للكافرين وخطرها

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)

٢٧٠

المفردات :

(بِطانَةً) بطانة الرجل : خاصته وأهل مشورته ومستودع سره ، قد أشبهوا بطانة الثوب. (مِنْ دُونِكُمْ) : من غيركم. (لا يَأْلُونَكُمْ) : ألى في الأمر : قصر فيه ، ثم استعمل بمعنى منع ، فقيل : لا آلوك نصحا ، والمعنى هنا : لا يقصرون أبدا في إيصال الخبال لكم. الخبال : الفساد ، وقد يكون في الأفعال والأبدان والعقول. (الْعَنَتَ) : هو المشقة. (الْأَنامِلَ) : أطراف الأصابع. (عَضُّوا) عض الأنامل : يراد به شدة الغيظ أحيانا ، وأحيانا الندم. الكيد : الاحتيال للإيقاع في المكروه.

هذه الآيات وأشباهها كثير ، نزلت في قوم كانوا يتخذون مع الأعداء والكفار صلات وصداقات تبيح لهم إخبارهم بالأسرار والتحدث إليهم في شئون المؤمنين ، وفي هذا خطر كل الخطر على كيان الأمة الإسلامية بلا شك ، فنهوا عن هذا في غير موضع من القرآن.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا يليق بكم مع هذا الوصف الكريم ، والنعت الجليل وهو الإيمان بالله ورسوله ، لا يليق أن تتخذوا من غير المسلمين أخصاء وأصدقاء تؤثرونهم بالمودة وتطلعونهم على دخائلكم وأسراركم ؛ وكيف يكون منكم مودة لهم وهم كما وصف القرآن ونطق الواقع ؛ لا يقصرون في إيصال الفساد والخبال بكم وينفقون جهدهم كله في توفير الضرر لكم؟

وهم يتمنون لكم كل عنت ومشقة ؛ فإن لم يستطيعوا حربكم وإيذاءكم فهم يريدون من صميم قلوبهم كل فساد وألم لكم.

ألم تظهر البغضاء لكم والحسد عليكم من فلتات ألسنتهم وبين ثنايا حديثهم؟ وما في صدورهم من الحسد الكامن والداء الباطن كثير وكثير.

أيها المؤمنون قد بينا لكم الآيات والعبر التي ترشدكم إلى الخير وتهديكم إلى سواء السبيل ، إن كنتم تعقلون فاتبعوها.

٢٧١

ها أنتم أولاء مخطئون في حبهم ؛ إذ هم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بالكتب كلها ومنها كتابهم وتصدقون بكل الرسل ومنهم رسولهم ، ومع هذا فهم لا يحبونكم. عجبا كيف يتمسكون بباطلهم إلى هذا الحد؟ وأنتم تتهاونون في حقكم ؛ وهم إذا قابلوكم قالوا نفاقا : آمنا بالله وصدقنا برسالة محمد ، وإذا خلوا إلى أنفسهم وشياطينهم ـ من شدة الغيظ والحقد وعدم القدرة على إيصال الشر لكم بأى صورة ـ عضّوا على أناملهم ، فإن عض الأنامل فعل المغيظ المحنق الذي فاته ما لا يقدر على جلبه أو نزل به ما لا يقدر على دفعه!!

أخبرهم يا محمد أن أهل الكتاب ـ خاصة اليهود ـ لا يدركون ما يؤملون ، فإن الموت دون ذلك ، وهذا تقريع لهم أو دعاء بأن يديم الله غيظهم إلى الموت.

ولا غرابة في هذا فعداوتهم لكم شديدة وحسدهم لكم من عند أنفسهم ، فإن مستكم حسنة استاءوا بها وإن أصابتكم سيئة فرحوا لها ؛ ثم انظر إلى تعبير القرآن بإساءتهم عند مس الحسنة وبفرحهم عند إصابة السيئة فهم لا يفرحون حتى تتمكن الإصابة ويستاءون عند أدنى مس للحسنة ، ألا قاتلهم الله ولعنهم! وأما العلاج والمخلص الوحيد فهو دواء القرآن لكل هذا : الصبر والتقوى. فإن تصبروا في كل حال وتتقوا الله وتأخذوا الوقاية لكم من كيد عدوكم فإن الله ضمن لكم أنهم لن يضروكم شيئا من الضرر ، إن الله بما يعملون محيط ، وعليم خبير بكل خفاياهم وكيدهم فسيرده في نحورهم ويجازيهم على كل ذلك بشرط أن تصبروا وتتقوا.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) الآيات من هنا إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا سيما غزوة أحد ، لهذا رأينا أن نذكر شيئا من أخبار غزوة بدر وغزوة أحد حتى تستبين لنا الآيات وندرك حكمها وأحكامها.

غزوة بدر

كانت في السنة الثانية للهجرة ، وبدر اسم لبئر بين مكة والمدينة سميت باسم صاحبها ، وكانت هذه الواقعة نصرا مؤزرا للمسلمين وكارثة على المشركين ؛ زلزلت مكانتهم عند العرب بقدر ما مكنت للمسلمين في نفوس أهل الجزيرة.

٢٧٢

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أى : قلة وما ذاك إلا أن جيوش المسلمين قلتها متمسكة بدينها مطيعة لرسولها وقائدها لم يكن لهم اعتماد إلا على الله وحده ؛ وما أمرهم به من الثبات عند لقاء العدو (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لم يتعد واحد حدوده ، قد ملأ الإيمان قلوبهم وخلا النفاق منها ، وعلى العموم كانوا يدا واحدة صبها الله على عدوهم ، ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها دعاءه المشهور : «اللهم أنجز ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض». قال راوي الحديث : فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) (الآية).

غزوة أحد

كانت في السنة الثالثة للهجرة بعد غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون وهم قلة ، وذلك أن قريشا حينما عادت إلى مكة بعد غزوة بدر أجمعوا أمرهم ، وأنفقوا الكثير من أموالهم ليصدوا عن سبيل الله وجهزوا جيشا عدته ثلاثة آلاف مقاتل يقصدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة.

ولما وصل خبرهم إلى المدينة استشار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القائد والسياسى الموفق أصحابه ، فأما الشيوخ ومعهم عبد الله بن أبىّ زعيم المنافقين ورأس اليهود في المدينة ، فقالوا : نبقى في المدينة ونحصنها ونقاتلهم في الأزقة والدروب ، وترمى النساء والولدان من على الآكام والبيوت.

وأما الشباب ومن لم يكن له شرف القتال في بدر ، فأشاروا بالحرب وقالوا : هذه فرصة ، وكان عمرو بن عبد المطلب يرى هذا الرأى ؛ أما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان يميل إلى رأى الشيوخ ، وقد رأى في المنام أنه في درع حصينة وأن سيفه ذا العقال انكسرت ظبته (حده) وأنه رأى بقرة تذبح وأن معه كبشا ، وقد أول الرؤيا : الحصن : المدينة ، كسر السيف ، موت عزيز لديه من أهل بيته ، ذبح البقرة : قتل بعض أصحابه ، الكبش : للفتك بزعيم من زعماء الشرك ، ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع لرأى الأغلبية القائلين بالحرب والساعين إليه فلبس وتجهز ، وما قبل الرجوع بعد هذا وقال : «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يقاتل».

٢٧٣

كان هذا عصر الجمعة لست مضت من شوال وبات ليلتها ، وفي سحر السبت خرج مع الجيش ، وفي الطريق رجع عبد الله بن أبىّ متعللا بقوله : أيعصيني ويطيع الولدان (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) ومعه ثلاثمائة من أصحابه.

وهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار وكادوا ألا يخرجوا إلى أحد ، ثم وفقهم الله فخرجوا ، وذلك قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) (الآية).

فلم يبق بعد رجوع المنافقين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا سبعمائة رجل.

وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى.

وصفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فجعل الرماة خمسين رجلا عليهم عبد الله بن جبير ، وعلى أحد الجناحين الزبير بن العوام وعلى الآخر المنذر بن عمر. وجعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وكان اللواء مع مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول الله.

وأما المشركون فجعلوا على المينة خالد بن الوليد القائد المشهور وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل ومعهم مائتا فارس على رأسهم صفوان بن أمية ، وعلى رماتهم وكانوا مائة عبد الله بن أبى ربيعة ، ولواؤهم مع طلحة بن أبى طلحة من بنى عبد الدار.

وكان مع المشركين نساء بزعامة هند بنت عتبة ، يضربن بالدفوف ويمشين وراء الصفوف وأمامها قائلات :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وتقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرماة

فقال لهم : احموا ظهورنا فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، وإياكم أن تبرحوا مكانكم سواء قتلناهم أو قتلونا فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا ، اللهم فاشهد.

وقد خطب المسلمين خطبة طويلة حثهم فيها على الصبر والتقوى!!

وقامت الحرب وما لبث أن دارت دائرة الحرب وانهزم المشركون وسقط لواؤهم من يد طلحة بعد قتله فحمله ابنه ثم أخوه وهكذا أخذ المسلمون يفتكون بالمشركين!!

٢٧٤

وكاد النصر يتم للمسلمين نهائيا لولا أن الرماة الحارسين لظهور المسلمين خالفوا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآثروا الفانية على الباقية وانحدروا يجمعون الغنائم والأسلاب وتنازعوا في ذلك ولم يبق منهم إلا قليل.

فتنبه خالد بن الوليد ومن معه وانقضوا على المسلمين كالصاعقة وأشرعوا سيوفهم ورماحهم ، ودارت الدائرة على المسلمين وانفرط عقدهم وسمع مناد ينادى : إن محمدا قد قتل ، فأسرع المشركون واهتبلوا تلك الفرصة واختلط الأمر على المسلمين حتى صار يضرب بعضهم بعضا وولوا هاربين في الجبل ، والرسول يدعوهم في أخراهم ويقول : «إلىّ عباد الله إلىّ عباد الله أنا رسول الله». (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) وصار أبو سفيان يقول : يا معشر قريش أيكم قتل محمدا؟ فقال عمر بن قميئة : أنا قتلته.

وقد نجى الله رسوله ، وكان النبل يأتيه من كل جانب ، ولكن الله يعصمه من الناس ، وكان أول من بشر بنجاته كعب بن مالك.

وقد أصيب رسول الله يوم أحد فكسرت رباعيته وشج وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه وأصيبت ركبتاه.

وكان سالم مولى أبى حذيفة ـ رضى الله عنه ـ يغسل الدم عن وجه الرسول وهو يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ وهو يدعوهم إلى الله ـ عزوجل ـ؟» فنزل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ).

ورأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيف علىّ مختضبا فقال : إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم ابن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسيف أبى دجانة غير مذموم : ولا تنس الحباب بن المنذر وشماس بن عثمان وغيرهم ممن أبلوا بلاء حسنا.

ولم يقتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته سوى أبىّ بن خلف أحد الذين تعاقدوا على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه نزلت آية : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). [سورة الأنفال آية ١٧].

وفيها قتل من المسلمين سبعون منهم حمزة سيد الشهداء وحبيب رسول الله ، وقد بكى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا.

٢٧٥

ولعل السبب في هزيمة المسلمين بأحد ما يلى : كان بعضهم على مقربة من الفتنة ولذلك همت طائفتان أن تفشلا ، خروج الرماة عن أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطمعهم في الغنيمة ، وقد فشلوا وتنازعوا فضعفت أرواحهم عن تلقّى تأييد الملائكة لهم.

وأما الحكمة في الهزيمة فليمحص الله الذين آمنوا ويعلمهم أن الأسباب والمسببات لا بد منها في تحصيل النصر ، وأن قتل الرسول أو موته ليس سببا في ترك الدين والانقلاب على الأعقاب ، وما أصابهم فمن أنفسهم.

ما نزل من القرآن في غزوتى بدر وأحد

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ

٢٧٦

مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)

المفردات :

(غَدَوْتَ) : خرجت في الغداة ، وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. (تُبَوِّئُ) : تهيء وتعد. (مَقاعِدَ) : أماكن وأنظمة للقتال. (هَمَّتْ) الهمّ : حديث النفس واتجاهها إلى الشيء. (أَنْ تَفْشَلا) : تجبنا وتضعفا. (أَذِلَّةٌ) : قلة في العدد والعدد. (يَكْفِيَكُمْ) الكفاية : مرتبة دون الغنى وهي سد الحاجة. (يُمِدَّكُمْ) الإمداد : إعطاء الشيء حالا بعد حال. (بَلى) : كلمة جواب كنعم إلا أنها لا تقع إلا بعد نفى ، وتفيد إثبات ما بعدها. فوركم الفور : الحال السريعة. (مُسَوِّمِينَ) : معلمين. (يَكْبِتَهُمْ) من الكبت : وهو شدة الغيظ.

المعنى :

واذكر يا محمد وقت أن خرجت غدوة السبت لسبع خلون من شوال تبوئ المؤمنين وتنزلهم أماكن خاصة للقتال : فهؤلاء في موضع الرماة ، وهؤلاء في الميمنة ، وهؤلاء في الميسرة ، وهكذا.

والله سميع لكل قول عليم بكل نية وفعل ؛ فهو العليم بما دار حينما شاورت الناس وهل كان رأى البعض عن إخلاص ونفاق أو لا؟

واذكر إذ همت طائفتان من الأنصار هم بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج لما رأوا انخذال عبد الله بن أبى بن سلول حدثتهم أنفسهم بالفرار ولكن الله عصمهم من الذلة ومنعهم من الجبن والفشل ، وكيف لا والله وليهم ومتولى أمورهم؟ ... وعلى الله فليتوكل المؤمنون وليعتمدوا عليه لا على حولهم وقوتهم ، وليس هذا يمنع من الأخذ

٢٧٧

بالأسباب وإعداد العدة وتجهيز الجيوش بالسلاح والعدد الملائمة لكل عصر ، ومع التوكل على الله.

ولذلك ذكرهم الله بغزوة بدر حيث نصرهم على عدوهم لما كانوا متوكلين عليه ممتثلين أمره وأمر رسوله ، ولقد نصركم الله ببدر وأنتم قلة إذ كنتم ثلاثمائة ، والكفار ألف مقاتل ، فلا عدد معكم ولا عدد ، وهذا معنى الذلة.

فاتقوا الله بالثبات مع رسوله والصبر والوقوف عند أمره ، فإن هذا عدة الشكر والشكر سبب النعم والنصر.

واذكر يا محمد وقت قولك للمؤمنين يوم أحد ـ وقد رأوا العدو يفوقهم وانخذل عنهم عبد الله بن أبىّ وأصحابه ـ : ألن يكفيكم إمداد الله لكم بثلاثة آلاف من الملائكة؟؟ بلى يكفيكم الإمداد بهذا ، ومع ذلك إن تصبروا على الغنائم وشدة الجهاد ونزال العدو وتتقوا الله وتطيعوا أمر نبيكم ولا تتنازعوا ولا تختلفوا على الغنائم ويأتيكم المشركون من ساعتهم هذه بسرعة ، نعم إن حصل هذا وهو الصبر والتقوى بمعانيهما ، وإتيان العدو بسرعة يعجل الله نصركم وييسر أمركم ويمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مرسلين فاتكين بالعدو (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً).

الظاهر ـ والله أعلم ـ أن الله أمد المؤمنين يوم بدر بالملائكة لقوله ـ تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [سورة الأنفال الآية ٩].

وأما في غزوة أحد فقد وعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين أن الله سيمدهم بثلاثة آلاف بل بخمسة آلاف إن صبروا واتقوا ... ولم يتحقق الشرط وخالفوا النبي ، ولو أمدهم لهزموا الكفار من فورهم.

والإمداد بالملائكة يجوز أن يكون من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم ، أى : إمداد مادى ، وفي هذا روايات كثيرة ، ويجوز أن يكون من قبيل الإمداد المعنوي وهذا هو الظاهر ـ والله أعلم ـ فيكون عمل الملائكة بالجيش عملا روحيا معنويا كتثبيت القلوب وتقوية النفوس وإذاعة روح الطمأنينة فيقاتل الجيش عن عقيدة ، وفي جانب العدو يشيعون روح الهزيمة والانخذال ويكثرون سواد المسلمين في نظرهم.

٢٧٨

وها هو ذا اليوم في أحدث الحروب تنفق الملايين على الدعاية وتقوية الروح المعنوية إذ لها خطرها وأثرها.

وما جعل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية إلا بشرى لكم يبشركم بها كي تطمئن قلوبكم ويهدأ روعكم بوعده بالنصر لكم.

وما النصر على الأعداء إلا من عند الله وحده بقطع النظر عن العدو وعدده وعدده مهما كانت ؛ فالله هو العزيز الذي لا يغالب الحكيم في كل شيء يفعله.

وليس معنى هذا ترك الأخذ بالأسباب بل الواجب أن تأخذ بها معتقدا أن الله فوق هذه الأسباب وأنه خالقها وليست مؤثرة بطبعها ، فالاعتماد على الله والتوكل عليه بعد الأخذ بها ، ولعل انهزام المسلمين في أحد لعدم أخذهم بالأسباب كمخالفتهم للقائد ونزاعهم وخلافهم وغزوهم بأنفسهم.

فعل الله ما فعل من نصركم يوم بدر وإمدادكم بالملائكة ليقطع ويهلك طائفة من رءوس الكفر والشرك بالقتل والأسر أو يكبتهم ويغيظهم ويخزيهم فينقلبوا خائبين غير ظافرين (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) (١) أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والشقاق فإنهم ظالمون لأنفسهم.

وأما أنت يا محمد فليس لك من الأمر شيء (٢) إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فلا تبتئس ولا تتألم منهم وتدعو عليهم بقولك «كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا»! لا تفعل هذا فربما يتوب الله على بعضهم ، وقد تاب على أبى سفيان والحارث بن هشام وسهل بن عمر وصفوان بن أمية.

ثم أكد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن الأمر بيده بقوله : ولله ملك السموات والأرض وما فيهما يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله ، وهو الغفور الذي يستر الذنوب إن أحب ، الرحيم بالخلق حيث يترك العقاب بالحكمة التامة والسنن المحكمة.

__________________

(١) سورة الأحزاب آية ٢٥.

(٢) وعلى هذا فقوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معترض ، وما بعده معطوف على ما قبله.

٢٧٩

إرشادات المؤمنين وجزاؤهم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)

المفردات :

(أَضْعافاً) ضعف الشيء : مثله ، فإذا ضاعفت الشيء ضممت إليه مثله. (سارِعُوا) : أسرعوا ، والمراد : اعملوا ما به تحصلون على مغفرة من الله وجنة. (السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) : هما حالتا السرور والضرر ، أى : الرخاء والشدة

٢٨٠