التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

ها أنتم هؤلاء تحاجون فيما لكم به نوع من العلم والمعرفة وهو عيسى ـ عليه‌السلام ـ فعلى أى أساس تحاجون في شأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وليس لكم به علم يصلح أساسا للمحاجة والمخاصمة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك بالله والوثنية. فلم يقل : عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله بل كان مسلما منقادا لله ـ سبحانه وتعالى ـ وما كان من المشركين كأهل الكتاب والمشركين من العرب وما لكم ولإبراهيم؟؟

إن أولى الناس وأحقهم بإبراهيم من اتبعوه من المؤمنين به خصوصا هذا النبي محمد والذين معه من المؤمنين ، إذ الكل متفق معه في الوحدانية والألوهية لله تعالى ، والله ولى المؤمنين.

من مواقف أهل الكتاب

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ

٢٤١

عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)

المفردات :

(يُضِلُّونَكُمْ) : يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له ، والضلال : نوع من الهلاك. (تَلْبِسُونَ) : تخلطون. (وَجْهَ النَّهارِ) : أول النهار.

المعنى :

روى أن معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر دعاهم اليهود إلى دينهم فنزلت هذه الآية ، ودت جماعة من أهل الكتاب لو يصدونكم عن دينكم ويخرجونكم من شرعكم بشتى الأساليب وكل الطرق ، أحبوا ذلك حبا عميقا من قلوبهم وبذلوا لردتكم عن دينكم كل مرتخص وغال ، وفي الواقع ما يضلون إلا أنفسهم إذ قد شغلوها بما لا يجدي بل بما يضر ويلهى عن النظر فيما ينفع وما يشعرون بذلك لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، وأما جزاؤهم على ذلك فالله أعلم به.

يا أهل الكتاب قد أرسلت لكم رسل ومعهم كتب فيها ما فيها من العقائد والأعمال والبشارة بالنبي المبعوث من ولد إسماعيل وهو عربي أمى ، فلم تكفرون بآيات الله التي نزلت في التوراة والإنجيل؟ لأنكم لم تعملوا بمقتضاها ، والآيات التي في القرآن لأنكم لم تؤمنوا بها ، والعجب العجاب أنكم تقرون وتشهدون بصدق رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق بشارته التي في كتبكم.

يا أهل الكتاب لم تخلطون الحق بالباطل وتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وتخلطون كلام الله المنزل بكلامكم المخترع الباطل وتكتمون الحق الصريح الواضح وهو ما يتعلق بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الغريب أنكم تعلمون خطأكم وخطر هذا العمل.

٢٤٢

روى أن جماعة من أهل الكتاب قالوا لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار واكفروا آخره ، فإن سئلتم في ذلك قولوا : آمنا حتى إذا رجعنا إلى التوراة والإنجيل عرفنا أنه ليس النبي المبشر به في التوراة فلعل ذلك يكون مدعاة لرجوع من آمن بمحمد. ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الرسالة والنبوة إلا لمن تبع دينكم ، أى : لا تعترفوا أمام العرب مثلا بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بنى إسرائيل وهذا مبنى على أنهم ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا اعتقادا ، وأنهم كانوا لا يصرحون باعتقادهم المستكن في أنفسهم إلا لمن آمنوا له من قومهم وهذا مكرهم وخداعهم لئلا يزداد المسلمون ثباتا على الدين ، والمشركون دخولا فيه ، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم لأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم يوم القيامة ويغالبونكم عند الله بالحجة ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراض على معنى : ليس إظهاركم أو إخفاؤكم له دخل في الهداية بل الهداية من الله والتوفيق ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

الأمانة والوفاء بالعهد عند اليهود

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)

٢٤٣

المفردات :

(قنطار) القنطار : العقدة الكبيرة من المال ، أى : المقدار الكبير منه ، وقيل : هو اسم للمعيار الذي يوزن به كالرطل والأوقية. (الْأُمِّيِّينَ) : العرب. (سَبِيلٌ) : ذنب وتبعة. (بِعَهْدِهِ) العهد : ما تلتزم الوفاء به لغيرك. (وَأَيْمانِهِمْ) : جمع يمين ، وهو في الأصل يطلق على اليد المقابلة للشمال ، ثم أطلق على الحلف بالله لأن المتعاهد يضع يمينه على يمين صاحبه ويحلف على العهد.

المعنى :

تقدمت صفة ثابتة لبعض أهل الكتاب خصوصا اليهود وهي حبهم العميق لفتنة المسلمين وإضلالهم.

ومنهم من يتصف بالخيانة وعدم الوفاء واستحلال أكل أموال غير اليهود.

ولقد أنصفهم القرآن حيث قال : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) بقطع النظر عن دينك ، كالسموءل بن عاديا اليهودي.

وكل جماعة فيهم الصالح والطالح ، وإن تكن الجماعة اليهودية أغلبها طالح فاسد.

وانظر إلى تعبير القرآن الكريم يقول : ومن أهل الكتاب بدل ومنهم للإشارة إلى أن هذه الصفات يعتمدون فيها على الكتب المنزلة عليهم فهم يستحلون أكل مال غير اليهود باسم التوراة التي حرفوها ، فهم قد زعموا أن التوراة لم تنههم إلا عن خيانة إخوانهم الإسرائيليين وأما الأميون فليس عليهم ذنب في أكل أموالهم إذ هم شعب الله المختار ومن سواهم لا حرمة له عند الله ، فهو مبغوض ولا حق له ولا حرمة وعند ذلك يحل أكل ماله ومثل الأميين غيرهم مما عدا اليهود.

وهم يقولون على الله الكذب ويفترونه إذ كل الشعوب والأمم سواء لا فضل لعربي على عجميّ إلا بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [سورة الحجرات آية ١٣].

والذي سول لهم هذا الزعم وأباح لهم هذا الكذب شياطينهم وأحبارهم فهم الذين حرفوا التوراة وبدلوها.

٢٤٤

بلى : ردّ عليهم في زعمهم وبيان من الله لكذبهم الصريح وأن القانون الإلهى أن من أوفى بعهده واتقى الله فأولئك الذين يحبهم الله ويعاملهم بالرحمة والعطف ويجازيهم على عملهم أحسن الجزاء ؛ والعهد يشمل كل عهد في بيع أو شراء وكل معاملة.

وإذا كان هذا جزاء الذين يوفون بعهدهم في المعاملات الدنيوية أفلا يكون الجزاء أوفى لمن يوفى بعهد الله في الدين والمعاملة بينه وبين ربه.

ثم بيّن الله ـ تعالى ـ جزاء أهل الغدر والحلف مع بيان السبب الذي يحملهم على ذلك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ...) الآية ، روى أنها نزلت في اليهود كتموا ما أنزل الله وبدلوا وحلفوا على ذلك أنه من عند الله ، وقد أضاف العهد هنا إلى الله لأنه عهد إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء فيما يتعاهدون ويتعاقدون ، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها كما عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فعهد الله يشمل كل هذا.

ولما كان الناكث للعهد لا بد أن يأخذ شيئا في مقابل نكثه العهد ، عبر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة في الجملة وسمى ذلك العوض قليلا لأنه مهما كان كثيرا فهو في الواقع قليل بالنسبة لجرمه وذنبه.

أولئك الناقضون العهد لا نصيب لهم في الآخرة أصلا ولا يكلمهم الله يوم القيامة غضبا عليهم ، ولا ينظر إليهم نظرة عطف ورحمة ولا يزكيهم بالثناء عليهم أصلا ولهم عذاب أليم.

من كذبهم وافترائهم على الله أيضا

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)

٢٤٥

المفردات :

(يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) من اللّىّ : وهو اللف ، أى : يفتلون ألسنتهم ليميلوها عن الآيات المنزلة إلى العبارات المحرفة.

المعنى :

وإن منهم لجماعة من أحبارهم وعلمائهم يفتلون ألسنتهم ويميلونها عن الآيات المنزلة بأن يزيدوا في كلام الله أو ينقصوا أو يحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويقرءون كلامهم بنغم وترتيل فيوهمون الناس بأنه من التوراة وأن الكتاب جاء بذلك (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) والواقع أنه ليس منه ، ويقولون على الله الكذب ويفترونه وهم يعلمون أنه ليس من عند الله ولكن من عند الشيطان والهوى.

فهم لا يعرّضون ولكن يصرحون بذلك لقسوة قلوبهم وفرط جرأتهم وغرورهم.

الرد على أهل الكتاب في إشراكهم بالله

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)

المفردات :

(رَبَّانِيِّينَ) : نسبة إلى الرب ، وهو المتشدد في الدين الملتزم طاعة الله. (أَرْباباً) جمع رب.

٢٤٦

سبب النزول :

قيل : إن رافع القرظي من اليهود ورئيس وقد نجران من النصارى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرنى فنزلت هذه الآية.

المعنى :

لا يصح لبشر يمن الله عليه بالكتاب ويهديه إلى الحكمة والصواب في فهم ما أنزل عليه ، ويؤتيه النبوة والرسالة ثم بعد هذا يقول للناس : كونوا عبادا لي من دون الله ، أى : اعبدوني وحدي أو اعبدوني مع الله ، فهذا هو الشرك بعينه ، ولكن يقول : كونوا ـ أيها الناس ـ ربانيين متمسكين بالدين مطيعين لله أتم طاعة بسبب كونكم تعلّمون الكتاب لغيركم وبسبب كونكم تدرسونه وتتعلمونه ، ولا يعقل أن يأمركم باتخاذ الملائكة والأنبياء آلهة تعبد من دون الله كما فعلت اليهود مع عزير والنصارى مع المسيح ، أيأمركم هذا النبي بالكفر والفسوق والعصيان بعد أن أرسل هاديا لكم وكنتم مسلمين منقادين لله بالطبيعة والفطرة التي فطر الناس عليها.

ويؤخذ من هذه الآية أن التعليم الديني والدراسة للإسلام إن لم تكن مصحوبة بالعمل والطاعة كانت وبالا على صاحبها ، بل كان السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.

الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب

وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)

٢٤٧

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)

المفردات :

(أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ) : قبله ، الميثاق : العهد المؤكد. (أَقْرَرْنا) الإقرار قر الشيء : إذا ثبت ولزم قرارة مكانه ، وأقر بالشيء إذا نطق بما يدل على ثبوته. (إِصْرِي) الإصر : العهد المؤكد الذي يمنعه من التهاون.

هذه السورة الكريمة من أولها إلى هنا يدور معناها على إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يجب أن يؤمن به الكل. وأن دينه هو الحق وهو الإسلام ، وكل من تقدمه من الأنبياء والأمم قد أخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به إذا أدركوه فما بال أهل الكتاب اليوم قد نقضوا العهد والميثاق وأعرضوا عن هذا الدين.

المعنى :

واذكر يا محمد وقت أن قبل الله الميثاق المأخوذ على الأنبياء وتدخل أممهم معهم تبعا لهم ؛ مهما آتيناكم أيها المخاطبون من كتاب وحكم ونبوة ثم جاءكم رسول هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله مصدقا لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه.

قال الله ـ تعالى ـ لمن أخذ عليهم الميثاق : أأقررتم وقبلتم ذلك الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصرته ؛ أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟

قالوا : أقررنا ، ونطقوا بما يدل على ثبوته قال تعالى : فليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم جميعا لا يغيب عن علمي شيء.

فمن تولى بعد هذا الميثاق المأخوذ قديما ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان المصدق لمن تقدمه ولم ينصره كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأولئك هم الفاسقون الخارجون من ميثاق الله الناقضون عهده.

٢٤٨

وإذا كان الدين واحدا ، والرسل متفقون في الأصول العامة للأديان فما بال أهل الكتاب المعاصرين؟

أيتولون بعد هذا البيان فيبغون غير دين الله الذي هو الإسلام؟! ولله استسلم من في السموات والأرض وخضعوا له وانقادوا لتصرفه بالتكوين والإيجاد هنا إذ هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون له ، فكل ما يحل بالناس إن كان عن رضا فهم طائعون وإن كان عن غير رضا فهم كارهون ، وإلى الله المرجع والمآب.

إيمان المؤمنين بكل الأنبياء

قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)

المعنى :

قل يا محمد أنت وأمتك : آمنّا بالله الواحد الأحد وما أنزل علينا نحن الأمة المحمدية ، وقدم الإيمان بالله على الإيمان بالمنزل لأنه الأصل والأساس ، وقدم المنزل علينا على المنزل على الأنبياء السابقين لأنه هو الأصل فهو مصدر المعرفة وما سواه قد غير وبدل فلا يصلح أساسا للمعرفة ، والمنزل علينا هو القرآن الكريم ، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وأولاده وما أوتى موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل والنبيون كداود وسليمان وغيرهم مما لا يعلمهم إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ.

أمرنا بشيئين : الإيمان بالله والنبيين إيمانا لا نفرق فيه بين أحد منهم بل نؤمن بالكل على أنه نبي مرسل من قبل المولى ـ جل شأنه ـ لأمته يهديها إلى سواء السبيل ،

٢٤٩

ولا نفعل كما فعل أهل الكتاب يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ونحن له مسلمون ومنقادون.

ومن يبتغ غير الإسلام الذي هو دين الأنبياء والدين الذي ارتضاه الله لعباده ومن يبتغ غيره دينا فلن يقبل منه قطعا وهو في الآخرة من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ولم يزكوها بالإسلام.

حكم الكفر بعد الإيمان

كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)

المفردات :

ما في هذه الآيات تقدم شرحه.

المعنى :

ورد في سبب النزول أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم وأقروا بذلك وشهدوا أنه حق ؛ ولذا كانوا يستفتحون به على المشركين ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب وأنكروه وكفروا به بعد إيمان ، وروى في أسباب النزول عدة روايات أخرى في الذين ارتدوا بعد إسلامهم.

٢٥٠

كيف يهدى الله قوما كهؤلاء اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حق وجاءتهم الآيات الواضحات على صدقه وصدق رسالته؟!!

والله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم فهم قد عرفوا الحق وتنكبوا عنه ، فلا أحد أظلم لنفسه منهم وأولئك جزاؤهم أنهم مطردون من رحمة الله وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فالملائكة يدعون عليهم بالطرد من رحمته وكذلك الناس كلهم.

خالدين في النار لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يمهلون بل سيأخذون أخذ عزيز مقتدر.

هذا جزاؤهم إلا من تاب منهم بعد ذلك ورجع إلى الله وأصلح عمله وقلبه فإن الله غفور لما سبق ، رحيم بعباده حيث يقبل توبة التائب.

أصناف الكفار

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)

المفردات :

ما فيها من المفردات قد تقدم.

المعنى :

هؤلاء الكفار ثلاثة أصناف : صنف كفر بعد إيمان ثم تاب توبة صادقة من بعد ذلك فأولئك يقبل الله توبتهم إنه هو الغفور الرحيم.

٢٥١

وصنف كفر بالله ثم تاب ورجع ثم عاد إلى الكفر فلن تقبل توبته ، وقيل : هم الكافرون يتوبون عن بعض الذنوب مع بقائهم على الكفر. وهذا هو معنى (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

وصنف كفروا بالله وماتوا وهم كفار ، فلن يقبل من هؤلاء فدية مهما كثرت ولو كانت ملء الأرض ذهبا ، أولئك لهم عذاب أليم وما لهم في الآخرة من ناصر ولا شفيع.

الإنفاق أيضا

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)

بعد أن حاج الله أهل الكتاب وأبان أنهم يلبسون الحقّ بالباطل وأنهم لم يؤمنوا بالله حقا ، بل يكتمون الحق وهم يعلمون أن محمدا رسول الله قد بشر به في التوراة والإنجيل.

بعد هذا أراد أن يدلل على عدم إيمانهم بشح نفوسهم وبخلهم بالإنفاق في الخير ، والإنفاق لعمري أكبر دليل على صدق الإيمان.

وإنهم لن يصلوا إلى البر ولن يكونوا بارين بالله إلا إذا أنفقوا ما يحبون من كريم ما يملكون ، أما وقد شحت نفوسهم برديء المال فضلا عن كريمه فهم بعيدون عن الصدق في دعواهم الإيمان والطاعة لمولاهم ، وما تنفقون من شيء سواء كان كريما أو رديئا فإن الله به عليم ولا يخفى عليه إخلاصكم ورياؤكم.

٢٥٢

فرية اليهود في تحريم بعض المطعومات

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)

المفردات :

(الطَّعامِ) المراد به : المطعومات كلها ، وكثر استعماله في الخبز والبرّ.

(حِلًّا) : حلالا. (إِسْرائِيلَ) : لقب يعقوب بن إبراهيم ، ومعناه الأمير المجاهد مع الله ، ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته ، وهو المراد هنا. (افْتَرى) : اختلق وكذب. (حَنِيفاً) : مائلا عن الباطل إلى الحق.

المناسبة :

ما تقدم من أول السورة إلى هنا في إثبات التوحيد ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما استتبع ذلك من محاجة أهل الكتاب وبطلان شبههم.

وهنا رد عليهم في شبهتين ، الأولى : في قولهم : كيف تدعى يا محمد أنك على ملة إبراهيم والنبيين من بعده وأنت تستحل ما كان محرما عندهم من الطعام كلحم الإبل وغيره؟ فنزلت الآية : (كل الطعام) ردا عليهم في دعواهم أن تحريم بعض المطعومات كان من الله على لسان إبراهيم ويعقوب. والثانية تتعلق بمكة وتعظيمها.

٢٥٣

المعنى :

كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما استثنى (وهو ما حرم إسرائيل على نفسه) ؛ إذ كل الطعام كان حلالا من قبل أن تنزل التوراة ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم على أفعالهم (١) ، قال ـ تعالى ـ : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) [النساء ١٦٠] (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [سورة الأنعام آية ١٤٦].

وفي هذا رد على اليهود في دعواهم البراءة مما نسبه إليهم القرآن من الظلم والصد عن سبيل الله كثيرا ، وبيان أن تحريم ما حرم على إسرائيل لم يكن إلا تأديبا على جرائم ارتكبوها وسيئات اجترحوها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته لم يرتكبوا هذا السيئات ، فكيف تحرم عليهم هذه الطيبات؟ وبيان أن إبراهيم لم يكن محرما عليه شيء من هذا ؛ إذا التحريم حصل بعد نزول التوراة وكل الطعام كان حلالا قبلها.

وهنا سؤال : ما المراد بإسرائيل؟ وما الذي حرمه على نفسه؟

وفي الإجابة على هذا خاض كثير من المفسرين ، ونقل بعضهم روايات الله يعلم أنها إسرائيليات مدسوسة ، كلها تدور على أن إسرائيل هو يعقوب وقد حرم لحوم الإبل على نفسه ، وقيل : شحومها ، وقيل : العرق الذي على الفخد.

ولكن يرد هذا أن يعقوب بينه وبين نزول التوراة زمن كثير فأى فائدة في التقييد بقوله من قبل أن تنزل التوراة؟

والظاهر أن المراد من إسرائيل بنو إسرائيل ، أى : الشعب نفسه وقد حرم على نفسه بعض الأشياء ؛ وذلك بسبب أعماله كما مر ، وكما وصفهم القرآن بقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) [سورة النساء آية ١٦٠].

__________________

(١) هذا المعنى يستقيم إذا أريد بإسرائيل شعب إسرائيل لا يعقوب نفسه ، ولأن التحريم كان بسبب أفعالهم نسب إليهم (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ).

٢٥٤

فما حرمته التوراة فبسبب أعمالهم ، ومن قبل نزول التوراة لم يحرم الله عليهم شيئا. ومن باب أولى لم يكن عند إبراهيم محرم.

قل يا محمد : فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم لا تخافون تكذيبها لكم.

روى أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا ، وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه يعلم ما في التوراة وأنها مؤيدة لما في القرآن ، وأن النبي أولى بإبراهيم ، وملته لا تختلف عن ملته إذ كل منهما مائل عن الباطل إلى الحق وما كان حلالا عند إبراهيم فهو حلال عند المسلمين.

فمن افترى على الله الكذب ، وادعى ما لم ينزل الله في كتاب ، فأولئك هم الظالمون بتحويل الحق ، والكذب على الله.

قل يا محمد : صدق الله فيما أنبأنى به من أنى على دين إبراهيم وأنا أولى الناس به ، وإنه لم يحرم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة وقامت الحجة عليكم بذلك ، وإذا كان الأمر كذلك فاتبعوا ملة إبراهيم التي أدعوكم إليها فهي الطريق الوسط لا إفراط فيه ولا تفريط ، وما كان إبراهيم من المشركين مع الله غيره.

شرف بيت الله الحرام ، والحج

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)

المفردات :

(بِبَكَّةَ) أى : مكة ، والعرب كثيرا ما تبدل الباء ميما وبالعكس.

٢٥٥

(مُبارَكاً) : كثير الخيرات والبركة. (مَقامُ إِبْراهِيمَ) موضع قيامه وعبادته (حِجُ) الحج : القصد ، وفي الشرع : قصد بيت الله الحرام للنسك.

وهذه هي الشبهة الثانية التي أثارها أهل الكتاب تكذيبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوى أنه على ملة إبراهيم. كيف تدعى أنك على ملة إبراهيم وأنك أولى الناس به ، وإبراهيم وإسحاق والأنبياء بعدهم كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه ، فلو كنت على ما كانوا لعظمته ، ولما تحولت إلى الكعبة فخالفت الجميع؟ والآية الكريمة تزيل الشبهة بأوضح بيان.

المعنى :

إن البيت الحرام الذي هو قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء ، وإليه تتجه أنظارهم وتهفو قلوبهم ، أول بيت وضع معبدا للناس وأسس لذكر الله فيه ، بناه إبراهيم وإسماعيل (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون ، بناه سليمان بن داود.

فصح بهذا أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ملة إبراهيم وإسماعيل ويتوجه كما يتوجهون.

فالبيت الحرام أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربهم ، وهذه الأولية في الزمان يلزمها الأولية في الشرف والمكانة. ولهذا البيت مزايا :

فهو مبارك كثير الخيرات. إذ هو بصحراء وتجبى إليه ثمرات كل شيء ، ففيه الفواكه ؛ وفيه من خيرات الله الشيء الكثير ، ولا مانع أن يكون كثير البركة في الثواب والأجر وهو هداية للناس. ويتوجهون إليه في صلاتهم وتهواه أفئدتهم ، على أنه مصدر لهداية النفوس التي تحجه وتعتمر فيه (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [سورة ابراهيم آية ٣٧] ، وفيه آيات واضحات لا تخفى على أحد. منها مقام إبراهيم للصلاة والعبادة ، تعرف ذلك العرب جميعا بالتواتر.

ومن دخل حرمه كان آمنا على نفسه مطمئنا على ماله حتى ولو كان مطلوبا للثأر ، يعرف ذلك العرب في الجاهلية ، وقد أقرهم الإسلام على ذلك.

٢٥٦

وما حصل لمكة أثناء الفتح الإسلامى فليس مما نحن فيه ، إذ كان المنادى ينادى من قبل الرسول : من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).

وما حصل في أيام الحجاج فهو من أفاعيل السياسة ، وما كان أحد في الجيش يعتقد حل ذلك.

ومن مزاياه العالية وجوب الحج إليه على المستطيع من المسلمين.

فواجب الله على الناس أن يحج المستطيع منهم ، فهو ركن من أركان الدين ، وفريضة من فرائض الإسلام ، وقد مضت بعض أحكامه في الجزء الثاني ؛ واستطاعة الحج أمر موكول للإنسان وضميره ودينه ، أما تفسيرها بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق والقدرة على السفر فهذا كله يرجع إلى الدين ، ومن جحد ما تقدم وكفر ولم يمتثل أمر الله في الحج وغيره فإن الله لم يوجبه لحاجته إذ هو الغنى عن العالمين جميعا.

أهل الكتاب وعنادهم وما يضمرونه للإسلام

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)

المفردات :

(شَهِيدٌ) الشهيد : العالم بالشيء المطلع عليه. (تَصُدُّونَ) : تصرفون. (تَبْغُونَها) : تطلبونها. (عِوَجاً) العوج : الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين مثلا ، والمراد هنا : الزيغ والتحريف.

٢٥٧

المعنى :

بعد أن ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأدلة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتراضهم على ذلك ومناقشتهم حتى أفحموا ، وبخهم الله على ذلك وعلى كفرهم فقال

(قُلْ) لهم يا محمد : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي دلتكم على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وعلى أى أساس تسيرون؟ قل : هاتوا برهانكم إن كان عندكم برهان ، وإذا لم يكن عندكم دليل ولا برهان فاعلموا أن الله شهيد عليكم وسيجازيكم على ما تعملون.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) بمحمد؟ قاصدين بصدكم أن تكون سبيل الله معوجة في نظر من يؤمن لكم ويصدق كلامكم ، فأنتم تطلبون لدين الله اعوجاجا وميلا عن القصد ـ وهي أقوم طريقا وأهدى سبيلا ـ بتغييركم صفة محمد وكذبكم على الله والحال أنكم تشهدون بصدقه في أعماق نفوسكم ، وأنتم الشهود العدول عند قومكم الذين يستأمرونكم ويهتدون بهديكم ، ولكن قاتل الله الحسد الكامن والداء الباطن الذي تغلغل في نفوس زعماء وعلماء اليهود والنصارى ، وما الله بغافل عن خباياكم وسيجازيكم عليها.

توجيهات وعظات

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ

٢٥٨

فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)

المفردات :

(يَعْتَصِمْ) اعتصم بالشيء : تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك. (حَقَّ تُقاتِهِ) : تقاته وتقواه بمعنى واحد ، والحق ، أى : الواجب الثابت ، وأصل الكلام : اتقاء حقا ، والمراد : اتقوه التقوى الواجبة. (بِحَبْلِ اللهِ) : هو العهد أو القرآن. (شَفا حُفْرَةٍ) : طرفها ، وأشفى على الشيء : أشرف عليه. (أُمَّةٌ) : جماعة متحدة مؤتلفة. (إِلَى الْخَيْرِ) أى : المنافع في الدنيا والآخرة. (تَبْيَضُ) : تشرق وتسر. (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) : تكتئب وتحزن. (ظُلْماً) الظلم : وضع الشيء في غير موضعه.

٢٥٩

سبب النزول :

روى أنه مر شاس بن قيس اليهودي ـ وكان شديد الكفر كثير الحسد على المسلمين ـ مر بنفر من الأنصار يتحدثون فغاظه ذلك حيث اتحد الأوس والخزرج ، واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية ، وقال اللعين : ما لنا معهم إذا تجمعوا من قرار ، فأمر شابا من اليهود كان معه : أن اذهب إليهم وذكرهم بيوم بعاث ـ كان بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ـ وما قيل فيه من الأشعار فتنازع القوم وتصايحوا : السيوف السيوف.

وجمع كل فريق منهم جموعه ، فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا فخرج إليهم ومعه المهاجرون والأنصار وقال : أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم؟ فعرف القوم أنها نزعة الشيطان وكيد العدو فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن جرير : نزل قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) الآية في شأن شاس اليهودي.

ونزلت الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا ...) في الأنصار [آل عمران ١٤٩].

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب فيما يكيدون لكم ويوقعون بينكم من العداوة والبغضاء ، يردوكم بعد أن منّ الله عليكم بالإيمان والمحبة والصفاء كافرين بالله والدين والخلق الكريم (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [سورة البقرة آية ١٠٩].

وكيف تكفرون بالله؟ وكيف تطيعونهم فيما يأمرون به ويشيرون؟ والحال أنكم تتلى عليكم آيات الله. وهي روح الهداية وجماع الخير وحفاظ الإيمان تتلى غضة ندية. وبين أظهركم رسول الله إمام المرسلين ورسول المحبة والخير والألفة والرشاد ، فهل يليق بمن أوتوا هذا أن يتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل؟

٢٦٠