التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

الملك ممن تشاء من الأمم والأفراد كما نزعت من بنى إسرائيل النبوة ببعثة النبىّ العربي.

والله يعطى من يشاء من عباده الملك إما مع النبوة كما حصل لآل إبراهيم (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) والنبوة (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [سورة النساء آية ٥٤] او ملكا فقط كما هو عند الملوك المعاصرين ، وتنزع الملك ممن تشاء من الأفراد والأمم بسبب ظلمهم وفساد حكمهم وسوء سياستهم كما نزعت الملك والنبوة من بني إسرائيل لما خرجوا على الدين وأساءوا الحكم واستعملوا الرشوة والظلم (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). [سورة الأحزاب آية ٦٢].

وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، والعزة والذلة لا تتوقفان على الملك أو المال فكم من ملك ذليل ، وفقير عزيز الجانب مهاب الطلعة.

بيدك وحدك الخير ، فكل ما كان أو يكون لا يخلو من خير ونعمة لصاحبه أو للمجموعة ، إنك يا رب على ما تشاء قدير.

ومن مظاهر القدرة وتمام الملك والعظمة أن الله يدخل الليل في النهار فيزيد ، ويدخل النهار في الليل فيزيد ، بيده الأمر والكون في قبضته والسموات والأرض مطويات بيمينه.

ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وهل المراد الحياة والموت المعنويان؟ وعلى ذلك فالمثال يخرج العالم من الجاهل والجاهل من العالم والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

وإن أردنا حياة مادية فمثالها إخراج البيضة من الفرخة والفرخة من البيضة وإن قال الأطباء : إن في النطفة والبيضة حياة أجيب عن ذلك بأنها حياة بالعرف الخاص وأما العرف العام السائد فيفهم أن البيضة ليس فيها حياة.

ولعل المثال الذي يتفق عليه الكل خروج النبات من الحبة اليابسة والعكس ، وما المانع أن يقال : إن الحيوان يخرج من الغذاء بمعنى أنه يتكون منه ، ولا شك أنه ليس فيه حياة ، وإذا كان هذا شأن المولى ـ جل شأنه ـ فلا مانع أن يخرج من العرب الجاهلين محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخرج من الأنبياء الإسرائيليين هؤلاء المفسدين.

ويرزق الله من يشاء بغير حساب يطلب منه ولا رقيب ، وبغير تعب ولا مشقة فله خزائن السموات والأرض ـ سبحانه وتعالى ـ

٢٢١

موالاة المؤمنين للكافرين والتحذير من يوم القيامة

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)

المفردات :

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) : إلا أن تخافوا. (تُقاةً) اتقاء ، أو شيئا يجب اتقاؤه. (مُحْضَراً) أى : حاضرا. (أَمَداً) الأمد : المسافة ، وقيل : مدة من الزمان قد تنحصر إذا قلت : أمد كذا.

سبب النزول :

روى أن بعض المؤمنين كانوا يغترون بقوة الكفار ويعتزون بهم ، وقد وقعت حوادث لبعض المؤمنين كانوا يوالون فيها اليهود أو المشركين لقرابات وصلات.

٢٢٢

أما المناسبة :

فبعد ما أثبت القرآن أن الأمر بيد الله وأنه المعطى والمانع ، وأنه على كل شيء قدير. فيجب الالتجاء إليه وحده ، وإذا كانت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فمن الخطأ الالتجاء إلى غير أوليائه.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء تلقون إليهم بالمودة وتسرون إليهم بأسراركم مؤثرين مصلحة الكفار على مصلحة المؤمنين ، وإن كان في ذلك مصلحة جزئية فمصلحة المسلمين العامة أولى وأحق (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ) [المجادلة ٢٢] ومن يفعل ذلك ويوالى الكافرين من دون المؤمنين فيعمل ضد مصلحتهم من حيث كونهم مؤمنين ، أى : يكون جاسوسا مخلصا للكفار ، فليس من ولاية الله في شيء ، أى : يكون بينه وبين الله غاية البعد مطرودا من رحمته ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم.

إذن موالاة الكافرين أمر ينفر منه الشرع ولا يقره الدين في حال من الأحوال إلا في حال أن تخافوا منهم أمرا يجب اتقاؤه كالقتل مثلا ، وهذا إذا كنت في دارهم فدارهم باللسان فقط (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [سورة النحل آية ١٠٦].

ويحذركم الله عقابه ، وفي ذكر (نفسه) إشارة إلى أن الوعيد صادر من ذاته ونفسه وهو القادر على كل شيء وإلى الله المصير والمرجع.

قل لهم يا محمد : إن تخفوا ما في صدوركم وتكتموه أو تبدوه وتظهروه فالله يعلمه ويجازى عليه وهو يعلم ما في السموات لأنه يعلم بذات الصدور ومنها الميل إلى الكفار أو البعد عنهم ، والله على كل شيء قدير.

واحذروا يوم تجد كل نفس ما عملت في الدنيا من خير مهما قل أو كثر وما عملت من شر مهما صغر أو كبر حاضرا أمامها تأخذ جزاءه وفائدته أو يحلق بها ضرره وخطره فإن كان العمل خيرا سرت له وتلقته باليمين ، وإن كان شرا ودت لو يكون بينها وبين عملها بعد ما بين المشرقين ، ولكن أين لها هذا؟

٢٢٣

ويحذركم الله نفسه وعقابه والله بهذا التحذير الشديد وذكر العقاب الصارم رءوف بعباده فإنهم حينما يعرفون جزاءهم ومصيرهم لا شك يرجعون عن غيهم ، أليس هذا من باب الرحمة؟

يؤخذ من الآية الشريفة وما لا لابسها من أسباب النزول :

١ ـ أن الله حرم إفشاء الأسرار للكفار التي تضر الجماعة الإسلامية من حيث هي جماعة (الجاسوسية).

٢ ـ معاملة الكفار غير الحربيين لا مانع أن تكون حسنة ما داموا لم يظاهروا علينا أحدا أو يضرونا بضرر.

٣ ـ الكفار الذين آذونا أو ظاهروا على إخراجنا أو إخراج المسلمين من بلادهم كفلسطين مثلا فلا تحل موالاتهم بل تجب معاداتهم (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

والذى ينطبق عليهم هذا هم اليهود والإنجليز والفرنسيون والأمريكان وكل من يقف في سبيل استقلالنا.

محبة الله باتباع رسوله وطاعته

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)

نزلت هذه الآية خطابا لوفد نجران فإنهم كانوا يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، والخطاب فيها عام ، وقيل : نزلت ردا على جماعة ادعوا أمام الرسول ـ عليه‌السلام ـ أنهم يحبون ربهم.

٢٢٤

المعنى :

قل لهم يا محمد : إن كنتم تحبون الله حقيقة فاتبعوني ؛ فإن ما جئت به من عنده مبين لصفاته وأوامره ونواهيه ، والمحب الصادق حريص على معرفة المحبوب ومعرفة أمره ونهيه ليتقرب إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه ، فإن اتبعتمونى يحببكم الله ويوفقكم ويهديكم إلى سواء السبيل ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل لهم ، أطيعوا الله باتباع كلامه ، والرسول باتباع سنته والاهتداء بهديه واقتفاء أثره ، فإن تولوا وأعرضوا ولم يجيبوك لدعوتك غرورا منهم بدعواهم محبون لله وأنهم أبناؤه فاعلم أن الله لا يحب الكافرين الذين لا ينظرون في آيات الله ويهتدون إلى الدين الحنيف.

اصطفاء الأنبياء وسلالتهم

إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)

٢٢٥

المفردات :

(اصْطَفى) : اختار. (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) الذرية : تطلق على الأولاد ، والمراد ذرية شبه بعضها بعضا. (مُحَرَّراً) : معتقا خالصا للعبادة وخدمة المسجد. (أُعِيذُها) العوذ : الالتجاء إلى الغير ، ومعنى الاستعاذة بالله : الالتجاء إليه ، وتكون بالدعاء والرجاء.

المناسبة :

لما بين الله أن محبته متوقفة على اتباع الرسول وأن طاعة الله مقرونة بطاعة الرسول ، ناسب أن يبين الرسل ومن اصطفاهم من الخلق.

المعنى :

إن الله اختار آدم أبا البشر : خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له وأسكنه الجنة وهبط منها لحكمة ، الله يعلمها ، واصطفى نوحا وجعله أول رسول بعث إلى الناس لما عبدوا الأوثان. وانتقم له بإغراقهم ونجاته هو ومن اتبعه ، واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء ، واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران ، وعمران هذا هو أبو مريم وجد عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

فالله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وخيارهم وجعل النبوة والرسالة فيهم.

ذرية بعضها يشبه بعضا في الفضل والمزية فهم خيار من خيار من خيار.

واذكر وقت أن قالت امرأة عمران ـ قيل : كان اسمها حنة وكانت عاقرا لا تلد ـ رب إنى نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك ولعبادتك لا يشتغل بشيء آخر سوى خدمة بيتك ، ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر ، إنك يا رب أنت السميع لكل قول ودعاء العليم بنية صاحبه ، وقد كان الله سميعا لقول امرأة عمران عليما بنيتها. ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى ، فلما وضعتها قالت متحسرة حزينة : إنى وضعتها أنثى وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور لأن الأنثى تحيض وتلد فلا تصلح

٢٢٦

لهذا ؛ والله أعلم بما وضعت وبمكانتها وأنها خير من كثير من الذكور ، وقد بين ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ) الذي طلبت كالأنثى التي وضعت ، بل هذه الأنثى خير مما كنت ترغبينه من الذكور.

قالت امرأة عمران : إنى سميتها مريم خادمة الرب آمل أن تكون بأمرك من العابدات وإنى أستعيذ بالله وأدعوه أن يقيها هي وذريتها (عيسى) من الشيطان وسلطانه عليهما فاستجاب الله دعاءها ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسه إلا مريم وابنها» (١) والمعنى في الحديث أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها ، فالحديث من باب التمثيل لا الحقيقة ، وهذا لا يمنع أن إبليس كان يوسوس لعيسى ـ عليه‌السلام ـ كما ثبت في إنجيل مرقص ، ومع هذا ما كان يطيعه ، فقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن ، ورضى أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت ورباها تربية عالية تشمل الجسد والروح وكفاها فخرا بهذا.

وجعل زكريا (وكان رجلا معروفا بالخلق والتقوى وكان زوج خالتها) كافلا لها وراعيا حتى شبت وترعرعت وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها خيرا كثيرا وفضلا من الرزق فيقول لها : يا مريم أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض ، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب.

العبرة من القصة :

المشركون وأهل الكتاب كانوا ينكرون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبوته لأنه بشر مثلهم وليس من بنى إسرائيل فيرد الله عليهم : إن الله اصطفى آدم أبا البشر ونوحا الأب الثاني واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم ومن آل ابراهيم آل عمران.

والمشركون يعترفون باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم لأنهم من سلالته ، وبنو إسرائيل يعترفون بهذا ، واصطفاء آل عمران لأنهم من سلالة بنى إسرائيل حفيد إبراهيم ، وإذا كان الله اصطفى هؤلاء على غيرهم من غير مزية سبقت فما المانع له من اصطفاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى بنى إسرائيل على غيرهم.

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء حديث رقم ٣٤٣١.

٢٢٧

ومن هذه الأدلة قصة مريم فكما ولدت من أم عاقر على خلاف المعهود وقبلت أنثى في خدمة البيت كذلك فلم لا يجوز أن يرسل نبي عربي على خلاف المعهود (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (١).

قصة زكريا ويحيى

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)

المفردات :

(سَيِّداً) السيد : الذي يسود قومه ويفضلهم في الشرف والعلم والخلق. (وَحَصُوراً) الحصر : المنع ، والمراد : منوعا نفسه من ارتكاب ما يعاب عليه. (آيَةً) : علامة. (رَمْزاً) : إشارة. (بِالْعَشِيِ) : الوقت من الزوال إلى الليل. (وَالْإِبْكارِ) : من طلوع الشمس إلى الضحى.

__________________

(١) سورة الأنعام آية ١٢٤.

٢٢٨

المعنى :

عند ما رأى زكريا حال مريم وما هي عليه من التوفيق والهداية ، وما يتفضل الله به عليها من الخير والكرم.

هنالك دعا زكريا ربه وتوجه إليه أن يرزقه ولدا صالحا طيبا طاهرا من نسل يعقوب ـ عليه‌السلام ـ إنك يا رب سميع لكل قول ودعاء.

فنادته الملائكة وهو قائم يدعو الله ويصلى في المحراب وقالت له : إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى موصوفا بأنه يصدق بعيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ وسمّى كلمة الله لأنه نشأ بكلمة الله كن لا على السنة الطبيعية من الولادة بين أب وأم.

وهذا ـ ولا شك ـ دليل على أنه مهدى موفق حيث إنه أول السابقين المصدقين بعيسى وهكذا السابقون إلى تصديق الرسل ـ عليهم‌السلام ـ.

وسيكون يحيى سيدا في قومه يفضلهم في الشرف والخلق والأدب ، وسيكون منوعا لنفسه من كل ما يشينها ويحط من شأنها ، ولا غرابة فهو في الدنيا نبي وإنه في الآخرة لمن الصالحين.

قال : رب أنى يكون لي غلام؟

قال الشيخ محمد عبده ما معناه : إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم وتوفيقه لها في الإجابة عن سؤاله. غاب عن حسه وهام في ملكوت الله ، واستغرق قلبه في ملاحظة الله وحكمته ونطق بهذا الدعاء وهو على تلك الحال.

ولما آب من سفره وعاد من مشاهداته العليا إلى عالم الأسباب والمسببات سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة وهي على غير السنن الكونية إذ هو شيخ مسن وامرأته عاقر.

قال تعالى : مثل ذلك الخلق على غير السنة الطبيعية مع امرأة عمران يفعل الله ما يشاء في الكون ، ومنه إيجاد ولد لك وامرأتك عاقر.

وهكذا يا أهل الكتاب لا تعجبوا من نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالله يفعل ما يشاء ولا تخلو أفعاله من حكم عالية قد تخفى على الناس.

٢٢٩

قال زكريا : رب اجعل لي علامة تتقدم هذه المكرمة وتؤذن بها ، أى : اجعل لي عبادة أتعجل بها شكرك ويكون إتمامها علامة على حصول المقصود ، فأمره ألا يكلم الناس ثلاثة أيام بل يشغل نفسه بالعبادة والتسبيح طول الوقت خصوصا في الصباح والمساء والعشىّ والإبكار.

مريم وفضل الله عليها

وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)

المفردات :

(اقْنُتِي) : الزمى الطاعة مع الخضوع. (أَقْلامَهُمْ) : قداحهم التي يستهمون بها ويقترعون.

المعنى :

عدّ الله مريم من أصحاب النفوس الطيبة الطاهرة التي إذا أكرمت بالغت في الطاعة ، وإذا مدحت استماتت في العمل والاجتهاد.

فقالت الملائكة : يا مريم إن الله اختارك خالصة لخدمة البيت وسدانته ، وقبلك وما كان يصلح لهذا إلا الرجال ولكنه طهّرك من كل دنس ورجس وعيب يمنع من

٢٣٠

المكث في المسجد ، واصطفاك على نساء العالمين بولادة عيسى ابن مريم وخطاب الملائكة وكمال الهداية والتوفيق وتقوى الله ؛ يا مريم الزمى الطاعة وتجملى بالالتجاء إليه وحده واسجدي لله مع الخشوع والخضوع ، واركعى مع الراكعين ولا تصلى وحدك.

ذلك القصص المنزل عليك يا محمد وفيه أخبار مريم وزكريا من أنباء الغيب وأسرار الخلق التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك وإنما توحى إليك بالروح الأمين جبريل ، وما كنت معهم حينما جاءت امرأة عمران وألقت مريم في بيت المقدس ، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها فهي بنت سيدهم وكبيرهم. واستهموا في ذلك فنال شرف رعايتها زكريا ، وما كنت يا محمد لديهم إذ يختصمون.

ولقد نفى الله حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك المشاهد على سبيل التهكم بهم فلم يبق إلا الوحى من الله ـ تعالى ـ وأما تعليم البشر كما قالوا فرد الله عليهم بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١) وهو النبي الأمى لم يقرأ ولم يكتب فلم تبق إلا المشاهدة وقد نفيت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قصة عيسى عليه‌السلام

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)

__________________

(١) سورة النحل آية ١٠٣.

٢٣١

وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)

المفردات :

(بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) المراد بها : عيسى ابن مريم ـ عليه‌السلام ـ. (وَجِيهاً) : ذا وجاهة وكرامة في الدارين. (كَهْلاً) : الرجل التام السوىّ. (قَضى) : أراد شيئا. (الْحِكْمَةَ) : العلم النافع. (الْأَكْمَهَ) : من ولد أعمى.

هذا شروع في قصة عيسى بعد قصة أمه وقصة زكريا ويحيى أقاربه.

المعنى :

واذكر يا محمد لقومك وقت أن قالت الملائكة (والمراد بهم جبريل) : إن الله يبشرك يا مريم بعيسى ، وعبر عنه (بكلمة منه) إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادى استحقّ أن يوصف وحده بقوله : (كلمة منه) وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات بكلمة الله (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

٢٣٢

اسمه المسيح الذي جاء فرفع الظلم وأنار لقومه الطريق وحملهم على الأخوة الصادقة وكانت مملكته روحانية لا جسدية ، والمسيح لقب لعيسى ابن مريم من ألقاب المدح ؛ وإنما وصف عيسى بابن مريم مع أن الخطاب معها ؛ تسجيلا لوصفه بهذا في كل وقت وزمان وردّا على من ألّهه من أول الأمر ، ولبيان أنه ولو كان من غير أب فهو منسوب لها تكريما وبيانا لمكانتها وهو ذو وجاهة في الدنيا عند أتباعه والمؤمنين به ، وفي الآخرة عند الله من النبيين أولى العزم والرسل المقربين.

ومن أوصافه أنه يكلم الناس في المهد رضيعا حتى يدافع عن أمه وعند تمام رجولته ؛ وكلامه تام موزون موفق في كل حال ؛ وهو من الصالحين الذين أنعم الله عليهم وأصلح حالهم.

ولما بشر الله مريم بعيسى الفذ في تكوينه وخلقته الموصوف بما ذكر قالت مريم مستفهمة : أيكون هذا عن طريق الزواج أم لا؟ ويجوز أنها تكون سألت متعجبة مستعظمة قدرة الله القادر على كل شيء كيف يكون لي ولد وأنا لم أتزوج؟

قال تعالى : مثل ذلك الخلق البديع يخلق الله ما يشاء وقد خلق الخلق كما ترى وخلق السماء والأرض وخلق أبانا آدم من تراب بلا أب ولا أم ثم قال له كن فيكون.

وانظر إلى بلاغة القرآن حيث عبر في جانب زكريا كذلك يفعل الله ما يشاء ، وهنا كذلك يخلق الله ما يشاء ؛ للإشارة إلى أن إيجاد ولد من شيخين عجوزين ليس كإيجاد ولد من أم فقط بلا أب فكان الخلق والإبداع أنسب بعيسى من يحيى.

ولذلك عقبه ببيان كيفية الخلق فقال : وإذا أراد أمرا من الأمور قال له كن فيكون والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني لا الأمر التكليفي كما في قوله ـ تعالى ـ أقيموا الصلاة ، مثلا.

وهذا تمثيل لعظمة الله ونفاذ أمره وسرعة إنجازه ما يريد حيث شبه حدوث ما يريد عند تعلق إرادته به حالا بطاعة المأمور القادر على الفعل للأمر المطاع ، ومما يشبه هذا قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أى : أراد أن يكون فكانتا.

٢٣٣

وما لنا ننكر أن يكون عيسى من غير أب وقد خلق الله آدم من غير أب وأم؟! (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقد خلق الله السماء والأرض بل وجميع المخلوقات في الأصل ابتداء من غير تلقيح ؛ فالأسباب الظاهرة ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا ، ونحن نرى كل يوم خوارق للعادات وفلتات للطبيعة فنحار في تعليلها.

وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ويعده مستحيلا عادة ويذهب في تأويله المذاهب.

ومن أوصاف عيسى أن الله يعلمه الكتابة بالخط والعلم النافع والتوراة وقد كان عيسى عالما بها واقفا على أسرارها ويقيم الحجج على قومه بنصوصها ، وقد علمه الله وأنزل عليه الإنجيل.

وكذلك يرسله رسولا إلى بنى إسرائيل كافة ناطقا ومحتجا على صدق رسالته بأنى أخلق ـ بمعنى أقدر وأصور لا أنشئ وأخترع ـ من الطين هيئة كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأمره لا بإذنى وأمرى ؛ فأنا مخلوق لا أقدر على هذا ، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله ، وقد أنكروا عليه ذلك فقال لهم : وأخبركم بما تأكلون في بيوتكم وما تدخرون وتحفظون وهكذا مما لا سبيل إلى إنكاره.

إن في ذلك لآية لكم على صدقى وصدق رسالتي إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين بقدرته الكاملة على كل شيء.

وقد أرسل عيسى ابن مريم مصدقا لما تقدمه من التوراة ولم يأت ناسخا لها بل متفقا معها في الأصول العامة في الدين كالتوحيد والبعث ... إلخ.

وإن يكن أرسل ليحل لكم بعض ما حرم عليكم بسبب ظلمكم وعنادكم يا بنى إسرائيل فقد حرم عليهم بعض الطيبات كالسمك والشحم فأحلها عيسى ـ عليه‌السلام ـ وجئتكم بآية من ربكم.

فاتقوا الله وخافوه وأطيعونى إن الله ربي وربكم فاعبدوه.

ترى أنه أمرهم بالتقوى والطاعة فيما جاء به عن ربه وختم ذلك بالتوحيد والاعتراف

٢٣٤

منه بالعبودية له ـ تعالى ـ والربوبية ، وقال : هذا هو الصراط المستقيم والقول الحق في مريم وابنها فمن تعدى ذلك فهو في ضلال مبين.

قصة عيسى مع قومه

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)

٢٣٥

المفردات :

(أَحَسَ) يقال : أحسّ الشيء : أدركه بإحدى الحواس الخمس ، وإدراك الأمور المعنوية بها مجاز. (الْحَوارِيُّونَ) : هم أصحاب عيسى وأنصاره ، والحور : البياض وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم. (مَكَرُوا) المكر : التدبير الخفى المفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب. (مُتَوَفِّيكَ) التوفي : أخذ الشيء تماما.

شروع في قصة عيسى مع قومه حيث دعاهم للإيمان به فآمن به البعض وكفر به البعض ، ولم يتعرض القرآن الكريم هنا إلى ولادته ونشأته إيجاز واختصارا ، وإنما ذكر هنا ما يفيد تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان أن الآيات الكونية مهما عظمت لا يتوقف عليها الإيمان وإنما الإيمان يتوقف على هداية الله وتوفيقه.

المعنى :

فلما تحقق كفرهم عنده تحقّق ما يدرك بالحواس ، وعلم علما أكيدا بأن منهم الجاحدين والمنكرين توجه إلى البحث عن المستعدين لقبول الدعوة ومن في قلوبهم نور الإيمان فقال : من ينصرني ملتجئا إلى الله؟ ومن الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرتي ويكونون حزبى وجماعتي؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله ومن ينصر الرسول فقد نصر الله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء ٨٠] نحن أنصار الله آمنا به إيمانا صادقا واتبعنا رسله واشهد بأنا مسلمون ؛ إذ الإسلام في جوهره لا يختلف فيه دين عن دين.

ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم ، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق.

ومكر كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وهموا بقتله وجمعوا جموعهم للفتك به وأبطل الله مكرهم فلم ينجحوا فيما دبروا وعبر عن ذلك بقوله : ومكر الله للمشاكلة ، والمكر سيّئ وحسن ، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله والله خير الماكرين.

مكر الله بهم إذ قال الله يا عيسى : إنى موافيك أجلك كاملا ولن يعتدى عليك معتد أبدا ، فهذه بشارة له بنجاته من مكرهم وتدبيرهم ، ورافعك في مكان علىّ. فالرفع رفع مكانة لا مكان ، كما قال تعالى في شأن إدريس ـ عليه‌السلام ـ : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [سورة مريم آية ٥٧] وكقوله في المؤمنين : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)

٢٣٦

المعنى ـ والله أعلم به ـ أن عيسى رفع إلى السماء وأنه سينزل إلى آخر الدنيا ويستوفى أجله ثم يموت.

ومن إكرام الله لعيسى ـ عليه‌السلام ـ أنه قد جعل الذين اتبعوه في الدين وآمنوا به فوق الذين كفروا ، والمراد أنهم أعلى منهم روحا وأحسن خلقا وأكمل آدابا ، وقيل : فوقهم في الحكم والسيادة وإن يكن هذا غير مطرد بالنسبة لليهود والنصارى.

والمعروف الذي يحدثنا به التاريخ أن كل جماعة تتمسك بدينها وآدابه وأخلاقه لا بد أن تكون فوق الجميع هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فالمرجع لله وحده ، فأما الذين كفروا فيعذبون العذاب الشديد الملائم لما اقترفوا من ذنب في الدنيا وما لهم في الآخرة من ناصر ومعين.

وأما الذين آمنوا وعملوا صالحا فأولئك يوفيهم الله حقهم ويعطيهم أجرهم والله لا يحب الظالمين ولا يهديهم إلى الخير أبدا.

ذلك الذي تقدم من خبر عيسى نتلوه عليك يا محمد وهو من الآيات الواضحات الدالة على صدق نبوتك وهو من الذكر الحكيم.

الرد على ألوهية عيسى وقصة المباهلة

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)

٢٣٧

المفردات :

(حَاجَّكَ) : جادلك. (نَبْتَهِلْ) ابتهل الرجل : دعا وتضرع ، وابتهل القوم : تلاعنوا ، والبهلة : اللعنة.

سبب النزول :

روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك تشتم صاحبنا؟ قال : ما أقول؟ قالوا : تقول : إنه عبد الله. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول ، فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله ، فنزلت هذه الآية : إن مثل عيسى عند الله : وحقا صدق الله إذ يقول : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [سورة الفرقان آية ٣٣].

المعنى :

إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم كلاهما خلق خلقا غريبا غير عادى فآدم خلق من غير أب ولا أم خلقه من تراب وقدره جسدا من طين ثم قال له كن فكان وعيسى خلق من غير أب فقط.

فقد شبه الغريب بالأغرب منه.

البيان الحق والقول الصدق من ربك بلا مراء ولا شك فلا تكن يا محمد أنت وأمتك من الممترين الشاكين وهذا الأسلوب يثير في النبي الكريم وأمته معاني اليقين والاطمئنان إلى الأخبار السماوية.

روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حاجوه بعد هذا طلب منهم المباهلة وخرج هو والحسن والحسين وفاطمة وعلى فلما طلب منهم المباهلة قالوا : أنظرنا.

ثم تشاوروا وقالوا : ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فلما كان الغد صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجزية وهي ألفان من الثياب ألف في صفر وألف في رجب ومعها دراهم.

وقد روى غير ذلك إلا أن الكل قد أجمع على أنهم طولبوا بالمباهلة فأبوا وقد خرج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآل بيته الكرام لمباهلتهم.

٢٣٨

وهذا من الأدلة على صدق النبي محمد وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ألا لعنة الله على الظالمين.

فمن حاجك في شأن عيسى بعد هذا فقل لهم : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته.

فما أمكنهم أن يقدموا على المباهلة كما روى سابقا إن هذا لهو القصص الحق لا مرية فيه ولا جدال وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم في كل شيء.

فإن تولوا بعد هذا فإن الله عليم بالمفسدين الذين هم منهم وسيجازيهم على ذلك.

كلمة التوحيد وملة إبراهيم

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)

٢٣٩

المفردات :

(سَواءٍ) السواء : العدل والوسط. (أَرْباباً) : جمع رب ، وهو السيد المربى المطاع فيما يأمر. (تُحَاجُّونَ) : تخاصمون وتجادلون. (حَنِيفاً) : مائلا عن الباطل. (مُسْلِماً) منقادا لله وحده.

المعنى :

بين الله القصص الحق والخبر الصدق في عيسى وأن أهل الكتاب قد أفرط البعض فجعله إلها وفرط البعض الآخر فنعته بما لا يصح ، وانتهى أمرهم إلى المباهلة فغلبهم الرسول فيها بالعاطفة بعد الحجة والبرهان.

ثم أراد القرآن أن يسلك بهم سبيلا آخر حيث دعاهم إلى شيء لا يمكن أن يفلتوا منه ويتملصوا وهو : تعالوا إلى العدل والوسط والكلمة السواء : ألا نعبد إلا الله وألا نشرك وشيئا وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من غير الله فكل دين لا يختلف عن الآخر في إثبات الوحدانية والربوبية لله تعالى.

وإذا كان الأمر كذلك فهيا بنا جميعا إلى الأمر الوسط المسلّم من الجميع.

وإن اعترضنا شيء وجب أن نرده إلى أصل التوحيد وكلمته فلا نقول إذن : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ؛ فإن تولى اليهود والنصارى بعد هذا وأعرضوا فقولوا لهم : اشهدوا بأنا مسلمون حقا منقادون لله نعبده وحده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، أما أنتم فلا!!!

المحاجة في إبراهيم :

روى أن اليهود قالوا : إن إبراهيم كان يهوديا ، وقال النصارى : إنه كان نصرانيا وتحاكموا إلى رسول الله فنزلت الآية : يا أهل الكتاب لم تتخاصمون في شأن إبراهيم وشريعته وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده فكيف تدعون أنه كان يهوديا أو نصرانيا أعميتم عن إدراك أبسط الأشياء فلا تعقلون.

٢٤٠