التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)

المفردات :

(وُسْعَها) الوسع : ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر.

(إِصْراً) : حملا ثقيلا يشق علينا. الطاقة : مالا يدخل في مكنة الإنسان وطوقه ، وما يطاق هو ما يمكن أن يأتيه ولو بمشقة.

الربط :

بدأ الله السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين وأراد ـ سبحانه وتعالى ـ أن يختمها بالكلام عليهم ويبين حالهم ودعاءهم.

المعنى :

صدّق الرسول والمؤمنون بالذي أنزل إليهم من ربهم خصوصا ما في هذه السورة الكريمة من الآيات والأحكام. وما ذكر عن الرسل الكرام.

٢٠١

كل آمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وملائكته الكرام على أنهم السفرة البررة بين الله وبين رسله ، قاموا بتبليغ ما أنزل على الأنبياء من كتبه ـ جل شأنه ـ وآمن الكل بالرسل الكرام ، لا نفرق نحن المؤمنين بين رسله ، إذ كل الأنبياء المرسلين سواء في الرسالة والتشريع لا يختلف واحد عن واحد باعتبار تقدمه في الزمن أو تأخره أو كثرة أتباعه أو قلتهم مع إيمانهم بأن الله فضل بعض الرسل على بعض (في غير الرسالة والتشريع) كما سبق في قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ) وهذه مزية أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمنون بكل الأنبياء لا يفرقون بين الأنبياء.

آمنوا بما ذكر وقالوا : سمعنا وأطعنا ، أى : بلّغنا فسمعنا القول سماع وعى وقبول وأطعنا ما أمرنا به طاعة إذعان وانقياد معتقدين أن كل أمر ونهى إنما هو لخيرى الدنيا والآخرة.

ويسألون الله ـ تعالى ـ أن يغفر لهم ما عساهم يقعون فيه فيعوقهم عن الرقى في مدارج الكمال ومعارج الإيمان فهم يقولون : غفرانك ربنا وإليك المصير.

روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل : «إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه» فسأل إلى آخر السورة. (١)

لا يكلف الله أحدا فوق طاقته بل أقل من طاقته ، وهذا من لطف الله بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم. وهذه الآية هي الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ والموضحة لقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (٢) أى : هو وإن حاسب وسأل ولكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه وما في وسعه.

لكل نفس ما كسبت من خير ، وما اكتسبت من شر فعليها وزرها ، ويظهر لي ـ والله أعلم ـ أن السر في التعبير في جانب الخير (كسبت) وفي جانب الشر (اكتسبت) أن الخير لا يحتاج إلى عمل وجهد كثير ولا كذلك الشر فإنه يحتاج إلى تعمل ومخالفة للطبيعة.

علمنا الله هذا الدعاء لندعو به :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير.

(٢) سورة البقرة آية ٢٨٤.

٢٠٢

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما ينبغي تركه ، والنسيان ينشأ من عدم العناية بالشيء والاهتمام به ، والخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط.

والله علمنا أن ندعوه ألا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ ، وهذا يذكرنا بما ينبغي من العناية والاحتياط والتفكير والتذكر لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان ، وإن وقع بعد ذلك منا شيء غفره لنا ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». (١)

كانت الأمم السابقة لعنادهم وعتوهم تكاليفهم شاقة ، فتوبتهم بقتل التائب ، وإزالة النجاسة بقطع موضعها وهكذا.

فعلمنا الله أن ندعوه بألا يكلفنا بالأعمال الشاقة والأعباء الثقيلة وإن أطقناها كما فعل مع الأمم السابقة فنبينا نبي الرحمة وشرعه السهل السمح (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). (٢)

ربنا ولا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه من العقوبة والفتن ، واعف عنا فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا ، واغفر لنا فيما بيننا وبين عبادك فلا تطلعهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة ، وارحمنا بأن توفقنا حتى لا نقع في ذنب آخر ، روى مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله : نعم (٣). وعن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله : قد فعلت (٤).

أنت يا رب متولى أمورنا وناصرنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا ولا حول ولا قوة إلا بك ، فانصرنا على القوم الكافرين آمين يا رب.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي ٢٠٤٥.

(٢) سورة الحج آية ٧٨.

(٣) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس ٢ / ١٤٤.

(٤) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس ٢ / ١٤٥.

٢٠٣

سورة آل عمران مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)

المفردات :

(الم) في معناها ما قيل في أول سورة البقرة ، وتقرأ : ألف. لام. ميم كما تقول : واحد. اثنان :

(الْكِتابَ) : القرآن. (التَّوْراةَ) : كلمة عبرانية معناها الشريعة ، وتطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار : سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر الأخبار ، سفر العدد ، سفر التثنية. أما في عرف القرآن فهي : ما أنزل الله ـ تعالى ـ من الوحى على موسى ـ عليه‌السلام ـ ليبلغه قومه وفيها البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(الْإِنْجِيلَ) : لفظ يوناني ، ومعناه البشارة ، ويطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل ، وعلى ما يسمونه العهد الجديد ، والإنجيل الأربعة : كتب وجيزة في سيرة المسيح وشيء من تاريخه وتعليمه وليس لها سند متصل عند أهلها بل هم مختلفون في تاريخ كتابتها كثيرا ، وأما الإنجيل في عرف القرآن : فهو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى ابن مريم وفيه البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٠٤

(الْفُرْقانَ) : ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين ، وقيل : العقل ، وقيل : القرآن. (الْأَرْحامِ) : جمع رحم ، وهو مستودع الجنين من المرأة.

نزلت هذه الآيات في وقد نصارى نجران ، كانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم ، ولما قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم الحبرات ، تكلم منهم ثلاثة ، فمرة قالوا : عيسى ابن مريم إله لأنه يحيى الموتى ، وتارة هو ابن الله إذ لم يكن له أب ، وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله ـ تعالى ـ قلنا وفعلنا ولو كان واحدا لقال : قلت وفعلت ، وحاجهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدحض حجتهم ويزيل شبهتهم ، ولكنهم عاندوا حتى طالبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمباهلة فامتنعوا ، فأنزل الله من أول السورة إلى نيف وثمانين آية منها تقريرا لما احتج به النبي وبيانا لعنادهم وجحودهم.

المعنى :

بدأ الله السورة بإثبات التوحيد الذي هو أساس الدين ولرد اعتقادهم من أول الأمر ، الله لا معبود بحق في الوجود إلا هو ؛ إذ ليس في الوجود صاحب سلطة حقيقية على النفوس يبعثها على تعظيمه والخضوع له قهرا منها معتقدة أن بيده منح الخير ورفع الضر إلا الله وحده دون سواه ، الحي الدائم الحياة التي لا أول لها ، القيوم على خلقه بالتدبير والتصريف قامت به السموات والأرض قبل خلق عيسى ، فكيف تقوم قبل وجوده؟ إذا ليس إلها ؛ نزل عليك يا محمد القرآن بالحق لا شك فيه ، ولا ريب أنه من عند الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وكفى بالله شهيدا ، مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت وهو يصدقها لأنه جاء مطابقا لما أخبرت وبشرت.

وأنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل هداية للناس وإرشادا ، فأنتم ترون أن الله أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجود عيسى وبعده فلم يكن عيسى هو المنزل للكتب على الأنبياء ، وإنما كان نبيّا مثلهم فكيف يكون إلها؟

وأنزل الله الفرقان ووهب العقل والوجدان ليفرق الإنسان بين الحق والباطل ، وعيسى لم يكن واهب العقول والأفهام.

٢٠٥

فكيف يكون إلها وليس فيه صفة مما تقدم؟ وأما أنتم أيها المجادلون بغير حق فتعقلوا وتدبروا فقد جاوزتم حدود العقل والمنطق.

إن الذين كفروا بآيات الله الواضحة التي تدل على كمال وصفه وسمو نعته بكل صفات الجمال والجلال والألوهية والربوبية لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب بما كانوا يظلمون ومنهم أنتم أيها المجادلون.

وكانوا يقولون عيسى إله لإخباره عن بعض المغيبات فيرد القرآن عليهم!

إن الإله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) وعيسى لم يكن كذلك.

وقالوا : عيسى ليس كغيره ولد من غير أب فهو إله ... فرد الله عليهم : ليست الولادة من غير أب دليلا على الألوهية إذ المخلوق عبد كيفما خلق ، وإنما الإله هو الخالق الذي يصوّر في الأرحام كيف يشاء وعيسى لم يصور أحدا بل صوّر هو في رحم أمه كما يصور جميع الخلق ، أفيعقل أن يكون الذي صور في الرحم وخرج منه إلها ..؟ لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الوالد والولد ، العزيز الحكيم.

المحكم والمتشابه في القرآن

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)

٢٠٦

المفردات :

(مُحْكَماتٌ) : ظاهرات الدلالة لا خلاف في معناها. (مُتَشابِهاتٌ) يقال : اشتبه الأمر عليه : التبس ، فالمتشابهات التي لم يظهر معناها ويتضح بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد ، وقيل : ما استأثر الله بعلمه. (زَيْغٌ) : ميل عن الحق. (تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) : معرفة حقيقية وبيان ما يؤول إليه في الواقع. (الرَّاسِخُونَ) : الثابتون في العلم المتأكدون منه.

المعنى :

كان النصارى يستدلون ببعض آيات القرآن التي يفيد ظاهرها تميّز عيسى على غيره من البشر كقوله في شأن عيسى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [سورة النساء آية ١٧١] ، على أنه ثالث ثلاثة أو هو الإله أو ابنه ... إلخ فيرد الله عليهم : إن القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض آياته محكمات واضحات ظاهرات لا خلاف بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منها كقوله ـ تعالى ـ مثلا : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء آية ٢٣]. وكقوله في شأن عيسى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الزخرف الآية ٥٩] وكآيات الأحكام مثل : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام آية ١٥١] ، وهكذا المحكم كل ما لا يحتمل من التأويل المعتد به إلا وجها واحدا.

وهنّ ـ أى : المحكمات ـ أمّ الكتاب وعماده ومعظمه وأصله الذي دعى الناس إليه ويمكنهم فهمه ، وعنها يتفرع غيرها ويحمل عليها ، وهي أكثر ما في القرآن. فإن اشتبه علينا من الآيات آية ردت إلى المحكم وحملت عليه ، مثلا قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء ١٧١] ترد وتحمل على قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) [الزخرف ٥٩] وقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران ٥٩] بمعنى أننا نؤمن بأن الكل من عند الله وأنه لا ينافي الأصل المحكم.

وأما الآيات المتشابهات كقوله ـ تعالى ـ في عيسى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء ١٧١]. وكقوله : (مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران ٥٥] في شأن عيسى. وكقوله ـ تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه ٥] (يَدُ اللهِ فَوْقَ

٢٠٧

أَيْدِيهِمْ) [الفتح ١٠] إلخ. فهذه آيات متشابهات تحتمل عدة معان ، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد فهي مما استأثر الله بعلمه.

فليس لكم أيها النصارى أن تحتجوا بأمثال هذه الآيات فإنها من المتشابه الذي يحتمل عدة معان والله أعلم بها ، وكيف لا تدينون بقوله ـ تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة النساء آية ١٧٢]. وتتمسكون بآيات استأثر الله بعلمها هو.

فأما الذين في قلوبهم زيغ وميل عن الحق إلى الباطل فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم ابتغاء فتنة الناس وإضلالهم ، ولكن يؤولون القرآن تأويلا غير سائغ في العقل ولكنه موافق لأوهامهم وضلالهم .. وما يعلم تأويله وحقيقته إلا الله.

بعض القراء يقفون على (الله) والراسخون في العلم كلام مستأنف ، وحجتهم في ذلك أنه وصفهم بالتسليم المطلق ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.

على أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة أو ما خالف ظاهر اللفظ فيه المراد منه ، فهذا لا يعلم حقيقته إلا الله والراسخون في العلم كغيرهم وإنما خصوا بالذكر لأنهم يقفون عند ما يدركون بالحس والعقل ، ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة المغيبات وإنما سبيلهم التسليم قائلين ، آمنا به كل من عند ربنا.

وبعضهم لا يقف على لفظ الجلالة ، والراسخون معطوف عليه على معنى لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم وذلك أن الله ذم الذين يبتغون التأويل لذهابهم إلى ما يخالف المحكم يبتغون الفتنة وإضلال الناس ، والراسخون ليسوا كذلك فهم أهل اليقين الثابت يفيض الله عليهم فيفهمون المتشابه بما يتفق مع المحكم جاعلين المحكم أساسا ويؤمنون بأن الكل من عند الله ، وهذا ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ يقول فيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١) وإنما خص الراسخون في العلم بالذكر لئلا يقلدهم غيرهم في هذا الفهم.

بقي سؤال : لم نزل في القرآن المتشابه وقد نزل هاديا للناس جميعا والمتشابه يحول دون الهداية؟

__________________

(١) أخرجه أحمد ١ / ٢٦٦ وأصله في البخاري.

٢٠٨

والجواب : قد أنزل الله المتشابه ليميز الصادق الإيمان من ضعيفه ، على أن يكون هذا حافزا لعقل المؤمن على أن ينظر ويبحث حتى يصل إلى حد العلم ولا تنس أن الرسالة عامة وفي الناس خواص وعوام ، فكلّ خوطب بما يقدر على فهمه ، ولذلك يقول تعالى : الراسخون في العلم لا في الدين ، وما يتذكر بهذا إلا أولو العقول الصافية ، الذين يقولون : ربنا لا تمل قلوبنا بعد هدايتك لنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ترحمنا وتوفيقا يوفقنا إلى الخير والسداد إنك أنت الوهاب.

ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة يوم لا شك فيه ، فاغفر لنا ووفقنا واهدنا إنك لا تخلف الميعاد.

عاقبة الغرور بالمال والولد والأمثال على ذلك

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)

٢٠٩

المفردات :

(وَقُودُ النَّارِ) ما توقد به النار من حطب أو فحم. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) : الدأب : مصدر دأب يدأب ، أى : كدح ، ثم استعمل فيما عليه الإنسان من شأنه وحاله. (الْمِهادُ) : الفراش الممهّد.

المناسبة :

بعد بيان الحق والصفات الواجبة لله وما نزله من الكتب خصوصا القرآن ، وبيان فهم الناس لا سيما الراسخون من العلماء : شرع في بيان حال الكفرة بالقرآن المغرورين بالمال والولد.

والموصول في الآية يشمل وقد نجران واليهود أو كل كافر بالله.

المعنى :

يبين الله ـ سبحانه ـ حال الكفرة من النصارى واليهود والمشركين وسبب عنادهم وغرورهم الزائف في أموالهم وأولادهم : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [سورة سبأ آية ٣٥] فيرد الله عليهم في غير موضع في القرآن.

إن الذين كفروا بآياتنا وكذبوا رسلنا واجترءوا على كلامنا لن تكون أموالهم ولا أولادهم بدلا لهم من الله ورسوله تغنيهم عنه ، فإنهم إن تمادوا في غيهم وساروا في ضلالهم فأولئك البعيدون في درجات العتو والفساد هم وقود النار وأصحابها.

وذلك لأن حالهم كحال آل فرعون ومن قبله من المؤتفكات كقبائل عاد وثمود كان حالهم أنهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، والله سريع طلبه شديد عقابه ، قوى عذابه.

سبب النزول :

روى عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ـ رضى الله عنهم ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع وحذرهم أن

٢١٠

ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا : لا يغرنك أنك لاقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس ، فنزلت الآية.

قل لهم يا محمد : ستغلبون أيها اليهود عن قريب في الدنيا ولا يغرنكم مالكم وأولادكم فالأمر ليس بكثرتهم وإنما هو بيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقد تحقق هذا ، بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم ، وهذا من أوضح الشواهد على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته.

وستحشرون في الآخرة إلى جهنم وبئس المهاد ما مهدتم لأنفسكم.

وتالله لقد كان لكم آية عظيمة دالة على صدق ما يقوله القرآن لكم : من أنكم ستغلبون ؛ آية في جماعتين التقتا كانت إحداهما معتزة بكثرتها مغرورة بمالها وعددها كافرة بالله وتقاتل في سبيل الشيطان.

والأخرى فئة قليلة العدد صابرة مؤمنة بالله تقاتل في سبيل الله.

وقد كان الأمر كذلك في موقعة بدر فقد كان المسلمون ثلاثمائة رجل تقريبا والكافرون حوالى الألف.

ومع هذا فقد رأى المؤمنون الكافرين مثلهم فقط لأن الله قللهم في أعينهم حتى يقاتل الرجل المسلم رجلين (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [سورة الأنفال آية ٦٦]. ويصح أن يكون المراد أن المؤمنين يرون أنفسهم مثلي ما هم عليه من العدد حتى يطمئنوا وتقوى روحهم ، وجملة القول أن الآية ترشدنا إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها فقد غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين ، ولذلك قال : إن في ذلك لعبرة لأصحاب الأبصار الصحيحة التي تنظر فتفكر فتعتبر.

الإنسان وشهواته في الدنيا

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)

٢١١

المفردات :

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ) : حبب لهم. (الشَّهَواتِ) : جمع شهوة ، وهي انفعال النفس بسبب الشعور بالحاجة إلى ما تستلذه. (الْمُسَوَّمَةِ) : المعلمة ، وقيل : السائمة التي ترعى في المروج والمرعى. (الْقَناطِيرِ) : جمع قنطار ، وهو المال الكثير.

المعنى :

أن وفد نصارى نجران وغيرهم من صناديد الكفر عرف في خلال كلامهم أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ، وما يمنعهم من إظهاره إلا خوفهم على ما عندهم من رئاسة كاذبة أو مال زائل ، وذلك أنهم يحبون الدنيا حبا أعمى ، فبين الله حب الإنسان للدنيا ومظاهرها ثم بين ما هو خير من ذلك كله.

وهذه الأصناف المذكورة قد زين الله حبها للناس وغرسه في قلوبهم حتى صار غريزة عندهم ، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن ينفر منه ، ومن أحبه وزين له فلا يكاد يرجع عنه ولا يقبل فيه كلاما ولا يرى فيه عوجا ... ولقد عبر القرآن عن هذه الأشياء بالشهوة مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها وإيذانا بشدة تعلق الناس بها ، وللإشارة إلى أن حبها من طبيعة الإنسان الحيوانية ، فإن الشهوة من صفات البهائم ؛ حتى يعتدل الإنسان في حبه لها.

إن الإسلام دين ودولة ، وعمل واعتقاد ، واعتدال وتوسط (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف ٣٢] فليس ديننا دين رهبنة وتقشف وزهد يفهم بعض الناس ... فليس ممنوعا حب هذه الأصناف ولكن الممنوع المبالغة والإسراف فيها حتى تطغى على الناحية الدينية ومظاهرها.

والنساء والبنون زهرة الحياة ومتعة النفس ولكن إلى حد «الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ؛ [إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن غاب حفظته في نفسها وماله»].

وأما البنون فهم فلذة أكبادنا وقرة أعيننا.

٢١٢

والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والمراد بها المال الكثير وحبه غريزة في الإنسان ، ولقد صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب».

والمال يكون مذموما إذا جعل صاحبه يطغى ويختال ويتكبر ويمنع حقوق الله والناس وأما إذا أعطى به الحقوق وقام بالواجبات الدينية والوطنية فنعم المال هو عدة وصلة وقربى إلى الله.

والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك كله متاع الحياة الدنيا وزينتها ، وهذه الأصناف تذم إن كانت سببا في الشر والبعد عن الله وهذا هو المشاهد في الكثير الآن وعند ذلك تكون خطرا على صاحبها فإن كانت سببا في الخير ولم تمنع صاحبها من القيام بالواجب بل ساعدته كانت خيرا له.

ما هو خير من الدنيا وما فيها

قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)

المفردات :

(مُطَهَّرَةٌ) : طاهرات من دنس الفواحش والحيض والنفاس. (الْقانِتِينَ) :

٢١٣

الملازمين للطاعة مع الخضوع. (بِالْأَسْحارِ) : جمع سحر ، هو الوقت الذي يختلط فيه ظلام آخر الليل بضياء النهار.

المعنى :

قل لهم يا محمد : أأخبركم بما هو خير مما سبق من زينة الدنيا ومتاعها؟ وفي التعبير (بخير) إشارة إلى أن ما مضى من النساء والبنين ... إلخ فيه خير بلا شك ؛ بشرط أن يستعمل في حقه وألا يطغى حبه على غيره وعلى العمل لوجه الله.

وهو تفصيل لقوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) وإبهام الخبر أولا تفخيما لشأنه وتشويقا إليه ، ثم تفصيله وتوضيحه بقوله ـ تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ...) الآية ، أتم للبيان وأثبت للجنان.

للذين أخذوا لأنفسهم وقاية من عذاب الله لهم عند ربهم الذي رباهم وتعهدهم والإضافة إلى ضميرهم فيها مزيد لطف وعناية بهم ، لهؤلاء جنات تجرى من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا ، لا يبغون عنها حولا ؛ ولهم فيها أزواج مطهرة من دنس الحيض والنفاس طاهرات من دنس الفواحش والشوائب.

وقد جعل الله للمتقين نوعين من الجزاء : نوع مادى وهو الجنة ، ونوع روحي وهو رضوان الله وهو أكبر وأعظم من كل نعمة (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [سورة التوبة آية ٧٢].

والتقوى أمر لا يعلمه إلا الخبير البصير بعباده ، ولذا يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التقوى هاهنا» (ويشير إلى صدره) ويختم الله الآية بقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

ومن هم المتقون الله حقيقة؟؟ هم الذين يقولون : ربنا إننا آمنا بك وبرسلك وكتبك بقلوبنا إيمانا حقيقيا ، ومن كان هكذا استحق المغفرة والوقاية من عذاب الله ولذا قالوا : فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ؛ ومن صفاتهم أنهم الصابرون الذين حبسوا أنفسهم عن كل مكروه ومحرم وصبروا على تقوى الله وعلى قضاء الله ، ولا شك أن الصبر هو الذي يثبّت النفس عند زوابع الشهوات ولذا قرن التواصي بالصبر مع

٢١٤

التواصي بالحق (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر ٣] : وهم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١).

والقنوت : المداومة على الخشوع والضراعة ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله نفقة واجبة ومندوبة ، وهم المستغفرون بالأسحار ، وخص وقت السحر لأن العمل فيه شاق والنفس فيه صافية والدعاء مستجاب ، وأفضل صيغة للاستغفار ما رواه البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علىّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (٢).

الشهادة بالوحدانية والعدل وأن الدين الإسلام

شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)

__________________

(١) سورة الزمر آية ٣٣.

(٢) أخرجه البخاري ١١ / ٨٢ ، ٨٣ في الدعوات باب أفضل الاستغفار.

٢١٥

المفردات :

(شَهِدَ اللهُ) الشهادة : عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم والإظهار والبيان. (الدِّينَ) المراد به الملة والشرع. (بَغْياً) : حسدا أو ظلما.

المعنى :

أخبر الله ـ تعالى ـ ملائكته ورسله بأنه الواحد الأحد لا إله إلا هو ، أخبرهم على علم وبين ذلك لهم أتم بيان ، والملائكة أخبروا الرسل بتوحيد الله وبينوه لهم ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبينوه عالمين به ولا يزالون كذلك ... شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم شهد هذه الشهادة قائما بالعدل في الدين والشريعة والكون والطبيعة وفي العبادات والآداب والمعاملات ، فالله قد أتقن نظام الكون وأحكمه وعدل بين القوى الروحيّة والمادية ، وكانت الأحكام الشرعية مبنية على أساس التوازن الصحيح بين الفرد والأمة وبين الفرد والخالق وبينه وبين نفسه وبينه وبين أخيه وبين الغنى والفقير وهكذا ... إن الدين الذي ارتضاه الله وأحبه لعباده من يوم أن خلق الخلق إلى يوم الدين هو الإسلام ، ولا شك أن جميع الأنبياء والمرسلين لا يختلفون في جوهر الدين وهو الإسلام والتوحيد والعدل في كل شيء (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران ٨٥] وما اختلف الذين أوتوه من أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم اليقيني بأن محمدا هو خاتم الأنبياء وهو المبشر به عندهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [سورة البقرة آية ١٤٦].

اختلفوا في شأنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا بينهم وحرصا على الدنيا وما فيها.

ومن يكفر بآيات الله الدالة على صدق الأنبياء بعد هذا فإن الله سريع الحساب وشديد العقاب.

فإن حاجوك بعد هذا وجادلوك بعد أن جئتهم بالحق البين فقل لهم : إنى ومن معى من المؤمنين قد أسلمت وجهى لله وانقدت له وأقبلت عليه بعبادتي مخلصا لله وحده معرضا عما سواه ، فإن كنتم مسلمين لله مخلصين له فما يمنعكم من اتباعى؟

٢١٦

وقل لليهود والنصارى والمشركين الأميين فإنهم هم الحاضرون والمعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط.

قل لهم : أأسلمتم؟؟ فإن أسلموا لك فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم ، وإن تولوا وأعرضوا فقل لهم : إنما علىّ البلاغ فقط ، والله ـ سبحانه ـ البصير بخلقه العليم بحالهم فيحاسبهم ويجازيهم.

جزاء قتل الأنبياء ومن يأمر بالمعروف

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)

المفردات :

(فَبَشِّرْهُمْ) : من البشارة والبشرى ، وهي : الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه ، وإطلاق هذا على الخبر الذي سيلقى للكفار من باب التهكم لأن وجوههم ستنقبض له. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : بطلت.

المعنى :

إن الذين يكفرون بآيات الله بعد معرفتها ويقتلون النبيين لأنهم قالوا : ربنا الله ، يقتلونهم معتقدين أن قتلهم بغير حق ولا ذنب اللهم إلا قول الحق وتبليغ الرسالة ، وهؤلاء هم اليهود ، نسب إلى اليهود فعل آبائهم لأنهم راضون عنه ، على أنهم هموا بقتل

٢١٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمعانا في الفساد والضلال ، ويقتلون كذلك الذين يأمرون بالعدل والقسط ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كالعلماء وكل من نصب نفسه للدفاع عن الدين والحق لله ورسوله.

وقتل هؤلاء جريمة كبرى وخسارة عظمى لأممهم ، أما من قتل واستشهد في سبيل الله فقد وقع أجره على الله ، وفي هذا العصر يسجل التاريخ أن هناك من قتل في سبيل الدعوة إلى الله والوطن وقتلهم جريمة في (حق الوطن) والدين وتسجيل على هؤلاء السفاكين القتلة جرمهم وذنبهم ، وهؤلاء القتلة بشرهم بعذاب أليم وقعه شديد خطره ، أولئك البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم دنيا وأخرى وما لهم في الآخرة من ناصرين (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (١).

الإعراض عن حكم الله مع الغرور

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)

المفردات :

(نَصِيباً) : جزءا من التوراة. (كِتابِ اللهِ) قيل : هو التوراة ، أو القرآن (يَفْتَرُونَ) : يختلقون ويكذبون.

__________________

(١) سورة الشعراء آية ٨٨.

٢١٨

سبب النزول :

روى أنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أى دين أنت؟ فقال : على ملة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قالوا : إن إبراهيم كان يهوديا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها ، فأبوا ، وقيل : نزلت في حكم الزنى ، وقد اختلفوا لما زنى بعض أشرافهم واحتكموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكّم التوراة فأبوا ، وقيل اختلف أحبارهم لما أسلم البعض وظل البعض على دينه واحتكموا إلى التوراة ثم أعرض من لم يسلم منهم ، والوقائع تؤيد ذلك كله.

المعنى :

انظر يا محمد واعجب من هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من التوراة والباقي قد حرف وغيّر وضاع ، وقد بقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعجب من عدم إيمانهم بك مع وضوح الدلالة وإعراضهم عن الكتاب الذي يؤمنون به ، أو يعرضون عن القرآن ، فهم إذا اختلفوا وحكموا التوراة في الخلاف وعلموا أن الحكم فيها على خلاف أهوائهم أعرضوا وتولوا بعد تردد.

وفي التعبير ب (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) إشارة إلى أنهم كانوا يترددون في قبول الحكم ثم يعرضون ، وإلى بعد ما بين دعوتهم إلى كتاب الله وإعراضهم عنه ؛ وقوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) إشارة إلى دوام إعراضهم ، وأنه ديدن لهم وطبيعة فيهم ، وفي قوله : (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) إشارة إلى أن منهم أمة يهدون بالحق وبه يهتدون كعبد الله بن سلام وغيره ، وما شجعهم على هذا العناد والجحود إلا اعتقادهم الباطل أنهم لا تصيبهم النار إلا أياما قليلة ، فاليهودى يعتقد أنه مهما فعل لا يدخل النار إلا أياما وبعدها يدخل الجنة ، وغرهم ما كانوا يختلقونه في الدين كقولهم : إن الأنبياء ستشفع لنا ونحن أولاد الأنبياء وشعب الله المختار ، ولقد رد الله عليهم فريتهم في غير موضع من القرآن.

فكيف بهم وعلى أى شكل يكونون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه؟ يوم تنقطع فيه الأنساب ولا ينفع فيه مال ولا بنون ، يوم توضع فيه الموازين القسط فلا تظلم نفس شيئا وتوفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون.

٢١٩

من مظاهر قدرة الله وعظمته

قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)

المفردات :

(اللهُمَ) : يا الله. (الْمُلْكِ) : السلطة والتصرف في الأمور المادية والروحية.

(تَنْزِعُ) : تقلع وتخلع. (تُولِجُ) : تدخل.

كان المشركون ينكرون النبوة لشخص يأكل الطعام ويمشى في الأسواق ، وأهل الكتاب ينكرون النبوة في غير بنى إسرائيل.

والقرآن ملئ بما يسلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويذكره بأن الأمر كله بيد الله ما شاء فعله.

سبب النزول :

وفي رواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر قومه بملك كسرى والروم وقصور صنعاء ، فقال المنافقون : ألا تعجبون؟ يمنيكم ويعدكم الباطل. فنزلت الآية.

المعنى :

إذا تولوا عنك وأعرضوا فعليك أن تلجأ إلى الله مالك الملك وصاحب الأمر.

ولا عليك بأس في عناد وفد نجران ، بل توجه إلى الله وقل :

يا الله يا مالك الملك ، أنت المعطى والمانع ، ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ، تؤتى الملك والنبوة من تشاء من عبادك ، وأممك (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام آية ١٢٤] وتنزع

٢٢٠