التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا الله وطلبا لمغفرته وتثبيتا لأنفسهم وتمكينا لها على فعل الخير ، فإن المال شقيق الروح ، وإنفاقه شاق وعسير على النفس ، فإذا أنفقت بعض المال لله عودت نفسك على فعل الخير وثبّتّ بعضها ، أما البعض الآخر فيثبت بالجهاد بالنفس في سبيل الله كما قال ـ تعالى ـ في سورة الحجرات : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [سورة الحجرات آية ١٥].

مثلهم كبستان ذي أشجار ملتفة قد كست الأرض ، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء ينزل عليه المطر الغزير فيثمر ضعفين من ثمر أمثاله ، وإذا نزل عليه مطر بسيط أثمر وذلك لجودة تربته ونقاء منبته.

والمعنى في هذا التمثيل : أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على الخير كالجنة الجيدة التربة العظيمة الخصب ، فهو يجود بقدر سعته وما في يده فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا وإن أصابه قليل أنفق على قدر سعته ، فخيره دائم وبره لا ينقطع كالبستان يثمر مطلقا إذا نزل عليه مطر كثير أو قليل.

أما المثل الثاني : فهو لمن ينفق على عكس الأول وينفق في سبيل الشيطان ومرضاة لنفسه وهواه.

أيها المنفق لغير الله : أتود أن يكون لك جنة فيها النخيل والأعناب والزرع ومن كل صنف ولون تجرى من تحت جذورها الأنهار ، لك فيها من كل الثمرات التي تشتهيها وأنت رجل كبير مسن قد أدركتك الشيخوخة وأصابك ضعف الكبر ولك ذرية من ذكور وإناث ضعفاء وصغار لا يقدرون على الكسب وتصريف أمورهم ، وليس لك ولهم غير تلك الجنة ، فأصابها بأمر الله ريح شديد وسموم كالنار أو أشد ، أحرق الشجر وأباد الثمر وأنت في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك وجدك في شبابك؟؟!

فمن يرضى بهذا المصير الذي ينتظر كل من ينفق للرياء أو يتبع ما أنفقه بالمن والأذى.

إن من ينفق في سبيل الشيطان يظن أنه سينتفع بنفقته ، كلا إنه كهذا المسن صاحب تلك الجنة ، يأتى يوم القيامة فلا يجد لعمله إلا الحسرة والندامة.

١٨١

مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون وتتعظون بهذه الأمثال والمواعظ.

نوع ما ينفق منه ووصفه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)

المفردات :

(طَيِّباتِ) الطيب : المراد هنا الجيد الحسن. (تَيَمَّمُوا) : تقصدوا.

(الْخَبِيثَ) : الرديء. (تُغْمِضُوا) : تتساهلوا ، من أغمض عينه عن الشيء حتى لا يرى عيبه.

المعنى :

يبين الله ـ سبحانه وتعالى ـ وصف ما ينفق منه وبيان نوعه فيفتتح الكلام بهذا النداء الذي يهز القلوب ويلفت الأنظار : يا من اتصفتم بالإيمان أنفقوا الطيب الجيد ولا تقصدوا إلى الخبيث الرديء فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، ولا تجعلوا لله ما تكرهون.

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يؤيد هذا المعنى : روى أن بعضهم كان يقصد إلى الحشف من التمر فيتصدق به فنزلت الآية ، والمعنى : أنفقوا من جياد أموالكم ولا تقصدوا الخبيث فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيّد ، فهو نهى عن تعمد الصدقة من الخبيث دون الطيب (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [سورة آل عمران آية ٩٢].

١٨٢

وأما نوع ما ينفق منه فهو بعض ما يجنيه المرء من عمله وجده كالتجارة والصناعة والكسب الحلال بأى نوع كان ، وبعض ما يخرج من الأرض من غلات الحبوب والزروع والمعادن والركاز (وهو دفين الجاهلين) والإنفاق هنا الظاهر أنه عام يشمل الزكاة والصدقة.

الشيطان والإنفاق

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)

المفردات :

(بِالْفَحْشاءِ) : البخل ، والعرب تسمى البخيل فاحشا. (وَفَضْلاً) : رزقا وجاها في الدنيا. (الْحِكْمَةَ) : العلم النافع الصحيح. (الْأَلْبابِ) : العقول الراجحة الموفقة.

المعنى :

الشيطان عدونا من قديم أخرج أبانا آدم من الجنة وأقسم (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فالشيطان بما يوسوس للناس ويزين لهم أن الصدقة والإنفاق في سبيل الله يورث الفقر والحاجة (الجود يفقر والإقدام قتّال) يعدنا بالفقر ويأمرنا بالبخل ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ بما أودع في بعض الناس من الميل إلى التخلق بالخلق الكامل والإنفاق على الناس وبما يأمرنا به من النفقة في الكتب المنزلة يعدنا مغفرة بسبب الإنفاق فقد جعله كفارة لكثير من الذنوب ، ويعدنا به فضلا لأن صاحبه يفضل غيره ويأسر قلبه ويشترى حبه له ، والفضل : المال والخير ، ولا شك أن المال المنفق يخلفه الله على صاحبه (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سورة سبأ آية ٣٩].

١٨٣

وفي الصحيحين : «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» ولا غرابة فالله واسع الفضل بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.

عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للشيطان لمّة (خطرة تقع في القلب) وللملك لمّة ، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان» (١) ، ثم قرأ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)

يؤتى الله الحكمة والعلم الصحيح النافع ـ وعلى الأخص فهم القرآن والدين ـ من يشاء من عباده الذين يحبهم ويتولاهم بعنايته ورعايته ، ومن يؤت الحكمة بهذا المعنى فقد أوتى خيرا كثيرا ، وأى خير في الدنيا والآخرة بعد توفيق الله وهدايته في فهم الأمور على حقيقتها وإدراك الأشياء على وضعها الصحيح؟ وإنما يتذكر هذا أولو الألباب.

بعض أحكام الإنفاق

وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)

المفردات :

(مِنْ نَذْرٍ) النذر : التزام الطاعة قربة لله تعالى. (فَنِعِمَّا هِيَ) الأصل : فنعم ما هي ، بمعنى فنعم شيئا إبداؤها.

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب الزكاة باب قول الله [فأما من أعطى واقضى] حديث رقم ١٤٤٢.

١٨٤

المعنى :

وما أنفقتم من نفقة سواء كانت لله أو للرياء والسمعة أو أتبعت بمنّ وأذى أو لم تتبع ، أو نذرتم من نذر قربة لله أو نذر لجاج وغضب ، فالأول : هو التزام الطاعة قربة لله ، كقولك : لله علىّ أن أصوم أو أتصدق مثلا بشرط أو بغير شرط ، والثاني : كقولك : إن كلمت فلانا فعلى كذا أو كذا ، والأول يجب الوفاء به ، وفي الثاني خلاف ، قيل : يكفّر عنه كفارة يمين أو يفعل ما التزمه.

كل هذا الله عالم به مجاز عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، وما للظالمين من أنصار ينصرونهم يوم القيامة ، والمراد بهم هنا الذين بخلوا بالمال ولم يتصدقوا.

إن تظهروا الصدقات ويعلم بها الناس فنعم ما فعلتم ، وإن تخفوها وتكتموها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم.

والخلاصة هنا : أن إبداء الصدقة الواجبة خير بلا شك من إخفائها خصوصا في هذا الزمان ؛ فإن الناس يحتاجون إلى مرشدين عمليين يتقدمون الصفوف ويفعلون الخير قدوة للناس ، وأما المندوبة فإخفاؤها وإعطاؤها الفقراء بهذا القيد خير ؛ لأن ذلك أدعى لعدم الرياء وأحفظ لكرامة الفقير ، فإن كان لجهة عامة أو لمشروع خيرى فلا بأس من إعلانها ليكون ذلك أدعى للتسابق في الخير.

والله بما تعملون خبير وبصير فهو يعرف السّر وأخفى فحاذروه واخشوا عقابه ، وذلك لأن أمراض الرياء والنفقة لغير الله أمور قلبية لا يطلع عليها إلّا الله.

١٨٥

لمن تعطى الصدقة وبعض أحكامها

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)

المفردات :

(هُداهُمْ) : هدايتهم إلى الإسلام. (أُحْصِرُوا) أى : حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله. (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أى : سيرا فيها. (التَّعَفُّفِ) أى : العفة. (بِسِيماهُمْ) السيما : العلامة. (إِلْحافاً) : بالإلحاح.

١٨٦

المعنى :

قد أطلق الله في الآية السابقة إيتاء الصدقة للفقراء مسلمين وغير مسلمين ، وقد أرشدنا الله في هذه الآية إلى عدم التحرج في إعطاء غير المسلمين بحجة عدم الاهتداء إلى الدين فإن الهداية من الله ، والشفقة تقتضي إعطاء الإنسان المحتاج مطلقا بقطع النظر عن دينه.

وقد ذكروا في أسباب النزول روايات كثيرة كلها تدور حول هذا ، فعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأمرنا بألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية.

وإذا كان الله يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : ليس عليك هدايتهم ولكن الله يهدى من يشاء إلى دينه فالمسلمون من باب أولى.

ولا يصح أن يكون الباعث على الإنفاق الرغبة في دخول الناس في الإسلام وإنما الباعث عليه هو أن الإنفاق لنا (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) نعم هو لنا في الدنيا إذ لا ينكر أحد ما للإنفاق من الأثر البين في جذب القلوب وسلّم السخائم والأحقاد ونشر الأمن والطمأنينة ومنع السرقة وقطع الأفكار السامة والمبادئ الهدامة ، وأما في الآخرة فجزاؤه يوفى إلينا ، ولا يصح أن يكون الإنفاق إلا في الخير ابتغاء وجه الله لا وجه الدنيا والشيطان ، وعلى ذلك فلا منّ ولا إيذاء لأنك ما فعلت لأحد شيئا وإنما قدمت لنفسك ما ينفعها ولا رياء ولا سمعة حيث تقصد وجه الله.

وما تنفقوا من مال قل أو كثر يوف إليكم أجره في الآخرة وأنتم لا تظلمون شيئا فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [سورة الأنبياء آية ٤٧].

علم مما مر أن الإنفاق يكون للفقراء عامة ولا حرج على من ينفق على غير المسلم ، ثم بين هنا أحق الناس بالصدقة وهم الفقراء بأوصافهم.

الصفة الأولى : الذين أحصروا في سبيل الله ، أى : منعوا أنفسهم من الكسب وحبسوها على الجهاد في سبيل الله. نزلت هذه الآية في أهل الصفة وهم فقراء المهاجرين الذين هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركوا مالهم وكان عددهم حوالى أربعمائة رجل.

١٨٧

ولم يكن لهم مأوى فكانوا يأكلون عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعند غيره ثم يبيتون في المسجد تحت جزء مسقوف يقال له الصّفّة ، وقد كان عملهم الجهاد وحفظ القرآن الكريم والخروج مع السرايا التي يرسلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهكذا من يشاكلهم ممن حبس نفسه على الجهاد في سبيل الله ، فالجنود وطلبة العلم بشرط أن لا يمكنهم الكسب ممن يدخل تحت هذا.

الصفة الثانية : لا يستطيعون سفرا ولا سيرا في الأرض للتجارة والكسب وذلك بأن يكونوا ممنوعين لعجز أو كبر أو ضرورة.

الصفة الثالثة : يحسبهم الذي يجهل حالهم أغنياء من عفتهم وصبرهم وقناعتهم فعندهم عزة المؤمنين وتوكل المتوكلين.

الصفة الرابعة : تعرفهم بسيماهم وعلامتهم ، فعلامتهم الضمور والنحول والضعف ورثاثة الثياب ، وفي الواقع هذا متروك لفراسة المؤمن ، فرب فقير له مظهر وغنّى رث الثياب لحوف في السؤال.

الصفة الخامسة : لا يسألون الناس أصلا ، أو لا يسألون الناس ملحين وملحفين ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ، اقرءوا إن شئتم قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) والسؤال في الإسلام محرم إلا لضرورة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسألة لا تحل إلا لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع» (١).

وما تنفقوا من خير قل أو كثر فإن الله به عليم ومجاز عليه.

ويشير القرآن الكريم في آخر آية في الإنفاق إلى عموم الأحوال والأزمنة في الصدقة فبين أن الذين يتصدقون بأموالهم ليلا أو نهارا ، سرّا أو علانية هؤلاء لهم الأجر الكامل عند ربهم الذي ربّاهم وتعهدهم في بطون الأرحام ، ولا خوف عليهم أصلا في الدنيا ولا في الآخرة ولا هم يحزنون أبدا ، وهكذا كل من سار بسيرة القرآن واهتدى بهديه أولئك هم المفلحون.

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب [لا يسألون الناس إلحافا] حديث رقم ٤٥٣٩.

١٨٨

الرّبا وخطره على صاحبه وعلى الأمة

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)

١٨٩

المفردات :

(يَأْكُلُونَ) : يأخذون ، وعبر بالأكل عن الأخذ لأنه الغرض الأساسى منه ، واللباس والانتفاع والنفقة داخلة فيه ، وللإشارة إلى أن ما يأخذ لا يرجع أصلا. (الرِّبا) في اللغة : الزيادة ، وفي عرف الشرع يطلق على مال يؤخذ بلا عوض ولا وجه شرعي. (يَتَخَبَّطُهُ) الخبط : السير على غير هدى وبصيرة ، ومنه قيل : خبط عشواء. (الْمَسِ) : الجنون والصرع. (مَوْعِظَةٌ) أى : وعظ. (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) : ينقصه ويذهب ببركته. (وَيُرْبِي) : يزيد ويبارك. (أَثِيمٍ) : مصرّ على الإثم ومبالغ فيه. (ذَرُوا) : اتركوا. (فَأْذَنُوا) : فاعلموا ، من أذن بالشيء : علم به. (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) : فانتظار إلى يسر ورخاء.

المناسبة :

ما تقدم كان في ذكر النفقة والمنفقين بالليل والنهار وفي السر والعلن ينفقون لوجه الله ولتثبيت أنفسهم على الإيمان فهم ينفقون المال بغير عوض ولا منفعة دنيوية.

وفي الآية هنا الكلام على المرابين الذين يستحلون مال الغير بغير حق ولا عوض ، فالمناسبة بينهما التضاد ، ولا غرابة فالضد أقرب خطورا بالبال.

المعنى :

الذين يأخذون الربا ويستحلونه من غير وجه شرعي ويأكلون أموال الناس بالباطل قد أذلتهم الدنيا وسخرهم حب المال وركبهم الشيطان والهوى ، فتراهم في حركاتهم وسكناتهم وقيامهم وقعودهم يتخبطون خبط عشواء كالصرعى الذين مسهم الجن ، وإنما خص القيام لأنه أبرز مظاهر النشاط في العمل ؛ ولقد جاء التعبير القرآنى (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) موافقا لاعتقادهم وأنهم كانوا يؤمنون بالجن وتأثيره على الإنسان.

والعرب قديما ينسبون كل ما استعصى عليهم فهمه وإدراك سره إلى الجن ، فلا غرابة

١٩٠

في أن يأتى القرآن موافقا لفهمهم ، لأن المقصود تصوير آكل الربا بأبشع صورة وأقبح منظر.

ولقد درج جمهور المفسرين على أن المراد أن آكل الربا يقوم يوم القيامة يتخبط كالذي مسه الجن استنادا إلى روايات كثيرة وردت في وصف قيامه يوم القيامة ، ولعل آكل الربا يبعث يوم القيامة على الحالة التي كان عليها في الدنيا فنجمع بين الرأيين.

وذلك الذي كان يفعله المشركون في الجاهلية من أكل الربا بسبب أنهم يستحلونه ويجعلونه كالبيع والشراء ، فكما يجوز لك أن تبيع الشيء الذي قيمته قرش بقرشين!

فلم لا يجوز أن تأخذ درهما في وقت العسرة والشدة وتدفع في وقت الرخاء درهمين؟ ولقد بالغوا في هذا حتى جعلوا البيع كالربا.

وقد أحل الله البيع إذ فيه معاوضة وسلعة قد يرتفع ثمنها في المستقبل وما زيد في الثمن إنما هو في مقابلة شيء ستنتفع به في الأكل أو اللبس أو غيرهما.

وحرم الربا إذ لا معاوضة فيه ، والزيادة ليست في مقابلة شيء ، بل كانوا إذا حل الدين فإن دفع المدين وإلا أجل الدائن في نظير زيادة الدين ، فأخذ هذه الزيادة ظلم وأى ظلم واستحلالها كفر وإثم.

فمن جاءه وعظ من ربه يتضمن تحريم الربا لمصلحة الأمة والجماعة فانتهى عما كان يفعله ، فله ما سلف أخذه في الجاهلية وأمره يوم القيامة إلى الله ، والله يحاسبه على ما أخذه بعد التحريم أما قبله فقد عفا عنه.

ومن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه ووقف على ضرره فأولئك البعيدون في الضلال والظلم أصحاب النار الملازمون لها هم فيها ماكثون مكثا الله أعلم به.

وكيف تقعون في الربا وخطره وتبتعدون عن الصدقة وبرها ، والربا يمحقه الله فلا بركة فيه ولا زيادة ، فالمال وإن زاد بسببه ونما في الظاهر فهو إلى قل وضياع ، والواقع الذي نشاهده شاهد على ذلك ، أليس المرابى مبغوضا من الله والناس أجمعين؟! فلا أحد يعاونه ولا إنسان يعطف عليه بل الكل حاسد شامت يتربص به الدوائر ، وهذا كله مما يساعد على ضياع المال ونقصانه.

١٩١

وأما الصدقة فالله ينميها ويبارك فيها ، وما نقصت زكاة من مال قط ، والمتصدق محبوب عند الله والناس أجمعين ، فلا حسد ولا بغضاء ولا سرقة ولا إكراه ولا إيذاء ، وهذا كله مما يساعد على الزيادة والنمو في المال (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) والله لا يرضى عن المستحل للربا والمقيم على الإثم المبالغ فيه.

شأن القرآن إذا ذكر بعض المعاندين الظالمين الذين يفعلون فعل الكفار الآثمين ، أن يعقب بذكر المؤمنين العاملين حتى يظهر الفرق واضحا فيكون ذلك أدعى للامتثال وأقرب للقبول ولذا يقول الله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة ... الآية والمعنى.

«إن الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالحا يقيهم من عذاب النار ، خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإن الأعمال الصالحة مطهرة للنفس ومرضاة للرب ومجلبة لمحبة العبد في الدنيا ، هؤلاء لهم أجرهم الكامل عند من رباهم وتعهدهم وأنشأهم من العدم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا».

ثم بعد هذا التمهيد القيم الذي أظهر الله فيه آكل الربا بتلك الصورة الفظيعة وجزاءه في الدنيا والآخرة وما استتبع ذلك من ذكر المؤمنين الصالحين وجزائهم ناسب أن يأمر أمرا صريحا بترك الربا فيقول : يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان الذي يتنافى مع الربا والتعامل به.

فالإيمان والإسلام سلام ورحمة وعطف وصلة ، أما الربا فجشع واستغلال ونصب واحتيال ومعاملة دنيئة تتنافى مع أخوة الإنسانية مطلقا.

يا أيها الذين آمنوا خذوا لأنفسكم الوقاية من عذاب الله وذروا ما بقي لكم من الربا حالا ، أى : اقطعوا المعاملة به فورا ، فضلا عن إنشاء المعاملة من جديد إن كنتم مؤمنين ، وإلا فلستم مؤمنين كاملين لأنه لا إيمان مع المعاصي خصوصا الربا فإن لم تفعلوا ما أمرتم به فاعلموا واستيقنوا بحرب من الله ورسوله ، أما حرب الله فغضبه وانتقامه ، وما الآفات الزراعية والاضرار التي تصيبنا في هذه الأيام إلا من أكل الربا واستحلاله ، وأما حرب رسوله والمؤمنين فمناصبتهم العداء واعتبارهم خارجين على الشرع وأحكامه.

روى أن هذه الآية نزلت في ثقيف كان لها ربا على قوم من قريش فطالبوهم به فأبوا واختصموا إلى والى مكة عتّاب بن أسيد ، فنزلت الآية وكتب بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فلما علمت ثقيف بذلك قالت : لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله.

١٩٢

وإن أقلعتم عن التعامل بالربا ورجعتم إلى الله فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون أحدا بأخذ الربا ولا تظلمون بنقص أموالكم .. وإن تعاملتم مع فقير معسر فانتظار منكم إلى يسر ورخاء عسى الله أن يفرج عليكم جميعا «فمن نفّس عن مؤمن كربة نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (١) حديث شريف ، وأن تتصدقوا بالتأجيل أو بترك الدّين أو بعضه فهو خير لكم وأحسن.

واتقوا يوما تتركون فيه الدنيا وزخارفها ومشاغلها وترجعون إلى الله فيشغل بالكم وتفكيركم ، في هذا اليوم العصيب توفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وتوضع الموازين فلا تظلم نفس شيئا.

الربا نوعان :

ربا النسيئة : أى التأخير في أجل الدفع والزيادة في الدين كما كان يحصل في الجاهلية إذا حل الدين فإما أن تدفع وإما أن تؤجل ويزيد الدين.

وربا الفضل : هو الزيادة المشروطة للدائن بغير مقابل كما إذا أقرض محمد عليا مائة جنيه على أن يدفع على له في العام القادم مائة وعشرين ، ومثل النقدين في ذلك المطعومات من قمح وشعير وذرة ودخن وتمر وملح ، عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطى فيه سواء» (٢) وفي حديث عبادة بن الصامت : «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد» (٣).

الحكمة في تحريم الربا :

الدين الإسلامى دين تعاطف وتراحم وبر وخير وعون ومساعدة وأخوة صادقة في الله ، يحافظ على الصلات بين الناس ، وأن تحل المروءات محل القوانين ؛ لهذا أوجب الصدقة والتعاطف من القوى على الضعيف والرحمة من الغنى على الفقير والمعاملة بالحسنى ، وحرم الربا والإيذاء بأى نوع من أنواعه كما حرم انتهاز الفرصة واستغلال الحاجة.

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الذكر حديث رقم ٢٦٩٩.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم ١٥٨٧.

(٣) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم ١٥٨٧.

١٩٣

وقد جعل الله النقدين أو ما يقوم مقامها كأوراق البنكنوت لتقويم السلع ، ولم يخلقهما للاستغلال عن طريق الحاجة ؛ فإن هذا يؤدى إلى تكديس الثروة بسبب الربا في أيدى جماعة من الأمة ، وفي هذا خسران الأمة والمجتمع ، ومثل النقدين في ذلك المطعومات الأساسية التي ذكرناها ، والتعامل بالربا يقطع الصلة بين الناس ويوجد الحقد والحسد ويولد البغضاء في النفوس وغير ذلك مما يجعل الناس تتعامل مع بعضها كالذئاب الجائعة كلّ ينتهز الفرصة ويتربّص بأخيه الدائرة وفي هذا هلاك الأمة بلا شك ... وكيف تجيز لنفسك أن تستولى على مال الغير بغير حقّ شرعي وهذا هو عين الظلم لنفسك ؛ وما شاع الربا في قوم إلا عمّهم الفقر ونزلت عليهم الآفات وحبسوا القطر ومنعوا من الخير وقانا الله شره فهو صفة اليهود وعملهم.

أليس كل من تعامل بالربا ذهبت ماليته وضاعت فهو عاجز عن سداد الدين فكيف يسدده هو والربح.

أيليق بنا كأمة إسلامة أن نبيح الربا وروسيا تحرمه؟؟

آية الدّين والسر في طولها ووضوحها

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ

١٩٤

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)

المفردات :

(تَدايَنْتُمْ) : داين بعضكم بعضا ، أى : تعاملتم بدين مؤجل. (بِدَيْنٍ) الدين : هو المال الذي يكون في الذمة. (أَجَلٍ) : هو الوقت المضروب لانتهاء شيء. (مسمّى) والمسمى : المعلوم بيوم أو شهر أو سنة ويدخل في الدين المؤجل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى أجل. (بِالْعَدْلِ) : بالحق في كتابته لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص. (وَلا يَأْبَ) : يمتنع : (وَلْيُمْلِلِ) الإملال والإملاء واحد. (لا يَبْخَسْ) : لا ينقص. (سَفِيهاً) : ناقص العقل مبذرا. (ضَعِيفاً) : صبيا أو شيخا مسنّا. (وَلا تَسْئَمُوا) : لا تملوا وتضجروا. (أَقْسَطُ) : أعدل. (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) : أثبت لها وأعون على إقامتها. (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) : أقرب إلى انتفاء ريبكم في الدّين وأجله. (فُسُوقٌ بِكُمْ) : خروج عن الطاعة.

المناسبة :

لما ذكر الإنفاق وجزاءه والربا وخطره ناسب أن يذكر التعامل بالدّين المؤجل

١٩٥

وحفظه بالكتابة والشهود ، ففي الصدقة والإنفاق منتهى الرحمة ، وفي الربا كامل القسوة والغلظة. وفي أحكام الدين والتجارة نهاية العدل والحكمة ، والدين قد أمرنا ببذل المال حيث ينبغي البذل ، وبترك الزيادة في المال إذا كان فيه ربا ، ثم أمرنا هنا بحفظ المال وتوثيقه في البيع والشراء والقرض والتجارة ، ومن هنا نعلم أن الإسلام دين ودولة ، وحكم وحكمة فبينا هو يهدينا إلى الإنفاق يحرم علينا الربا ، ثم يرشدنا في البيع والشراء حتى لا يضيع مال ولا يحصل شقاق ونزاع ولا غرابة إنه صراط الله العزيز الحكيم.

وليس ديننا دين رهبنة وفقر ، وقناعة وذل ، بل هو دين علم وعمل وجد واجتهاد ، وغنى وعزة حتى يتحقق قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١).

فقانون الإسلام أن تجمع المال وتنميه ، ولكن من طريق الحلال ، وتحافظ عليه وتستوثق له بالكتابة والشهود ، ولعل ذلك هو السر في طول الآية ووضوحها وتكرار أحكامها حتى يفهم أحكامها العامة والخاصة.

وهاك أحكامها :

١ ـ يا من اتصفتم بالإيمان ودخلتم في الإسلام : إذا تعاملتم بالدّين المؤجل في الذمة بيعا أو سلما أو قرضا فاكتبوه وقيدوه فذلك خير لكم وأجدى ، والأمر هنا للإرشاد والندب.

٢ ـ وليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته ، لا يميل ولا يحيد عن الحق فهو القاضي بين الدائن والمدين ولتحقق عدالته يشترط أن يكون عالما بشروط الكتابة ملما بأصولها.

٣ ـ لا يصح أن يمتنع كاتب عن الكتابة ما دام يمكنه ذلك وليكتب كتابة كما علمه الله فلا يزيد ولا ينقص ولا يضر أحدا ، والكتابة نعمة من الله عليه فمن الشكر عليها أن لا يمتنع عنها ما دام قد أخذ أجره بالعدل والرحمة.

٤ ـ والذي يملى الكاتب من عليه الحق ، أى : المدين ليكون إملاؤه حجة عليه ، وليتّق الله ربه في الإملاء ، وقد جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة في التحذير ؛ ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا عند الإملاء ، وأنت ترى أن الكاتب أمر

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٤٣.

١٩٦

بالعدل فلا يزيد ولا ينقص ، ومن عليه الحق نهى عن النقص فقط ؛ لأن هذا هو الذي ينتظر منه.

٥ ـ فإن كان الذي عليه الحق سفيها لا يحسن التصرف في ماله لنقص عقله أو تبذيره أو كان ضعيفا لصغر سنه أو شيخوخته أو لا يستطيع الإملاء لجهله أو لكنة في لسانه فالذي يملى على الكاتب هو وليه الذي يلي أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم يملى بالعدل والإنصاف.

٦ ـ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ممن حضروا ذلك بشرط البلوغ والعقل والإسلام والحرية.

٧ ـ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون شهادتهم لدينهم وعدالتهم وإنما جعل الشرع المرأتين بمنزلة رجل واحد خوف أن تخطئ إحداهما فتذكرها الثانية لقلة ضبط النساء للأمور المالية وقلة عنايتهن بمثل ذلك ؛ لأن المرأة جبلت على الاشتغال بالمنزل والبيئة المنزلية وتربية الأولاد فكان تذكرها للمعاملات قليلا وهذا حكم غالبى والأحكام الشرعية تنظر للمجموع.

٨ ـ ولا يأب الشهود إذا ما دعوا للشهادة فإن كتمانها معصية (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) إذ بالشهادة العادلة تتضح الحقوق ويمنع الظلم والجور ، والأحسن أن يكون النهى شاملا لأدائها وتحملها.

٩ ـ والدّين مهما كان صغيرا أو كبيرا لا تملوا من كتابته حتى يقطع النزاع والشقاق.

١٠ ـ ذلك البيان السابق الشامل لجميع الأحكام أعدل في الحكم وأحرى بإقامة العدل بين المتعاملين ، وأقوم للشهادة وأعون على إقامتها على وجهها وأقرب لانتفاء الريبة والشك.

١١ ـ ما تقدم في المبايعات المؤجلة وفي الديون والسلم ، أما في التجارة الحاضرة التي يأخذ المشترى ما اشترى والبائع الثمن فلا ضرورة للكتابة وليس عليكم جناح ألا تكتبوها إذ لا شك ولا نسيان يخاف منه ، وفي نفى الجناح إشارة إلى استحباب ضبط

١٩٧

الإنسان لماله وإحصائه للداخل والخارج ، انظر : أرقى النظم التجارية يأتى بها القرآن من أربعة عشر قرنا.

١٢ ـ وأشهدوا إذا تبايعتم في التجارة الحاضرة ؛ والشهود تكفى في مثل ذلك.

١٣ ـ لا ينبغي لكاتب أو شاهد أن يضر أحدا من المتعاملين بزيادة أو نقص ولا يليق بكم أيها المتعاملون أن تضروا كاتبا أو شهيدا بأى نوع من أنواع الضرر ، إذ الدّين الإسلامى دين سلام وأمن ورحمة وعدل.

وإن تفعلوا ما نهيتم عنه فإنه خروج بكم عن الطاعة وحدود الإيمان.

١٤ ـ واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه ، والله يعلمكم ما به تحفظون أنفسكم وأموالكم وتقوون رابطتكم ، فشرعه شرع الحكيم الخبير العليم البصير.

جواز الرهن

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)

المفردات :

(فَرِهانٌ) جمع رهن. وهو احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها عند تعذر أخذه من الغريم.

هذا تقييد للأمر بالكتابة السابق.

١٩٨

المعنى :

وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب ، أو لم تجدوا أدوات الكتابة فرهان مقبوضة للدائن يستوثق بها حتى يصل إليه حقه ، هذا الرهن يقوم مقام الكتابة وكونهم في السفر لجواز عدم الكتابة ، وفي الحضر ثابت بالسنة فقد رهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم درعه عند يهودي ومات عنها.

فإن اتفق أن أحدكم ائتمن آخر على شيء فعلى المؤتمن أن يؤدى الأمانة كاملة في ميعادها ، وليتق الله ربه فلا يخون في الأمانة فالله هو الشاهد الرقيب عليه وكفى به شاهدا.

ولا تكتموا الشهادة فإن كتمان الشهادة وشهادة الزور من الكبائر ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ، وخص القلب بالذكر لأنه أمير الجسد متى صلح صلح الجسد كله.

وكل ما تقدم من أعمال إيجابية كتأدية الأمانة والوفاء بالعهد ، أو سلبية ككتم الشهادة ، فالله به عليم وبصير يجازى عليه.

إحاطة علمه وتمام ملكه وقدرته

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)

المناسبة :

تقدم الكثير من الأحكام خصوصا الأحكام القريبة المتعلقة بالدين والشهادة وختمت الآية السابقة بقوله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فناسب أن يذكر شواهد علمه والأدلة عليه إذ مالك الشيء وخالقه لا بد أن يعلمه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ).

١٩٩

المعنى :

لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما ، فهو العليم بكل شيء ، وإن تظهروا ما استقر في نفوسكم وثبت من الخلق الكامن والداء الباطن أو تكتموه وتخفوه فالله محاسبكم عليه ومجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وهو يغفر لمن يشاء ذنبه بتوفيقه إلى التوبة والعمل الصالح الذي يمحو السيئة. ويعذب من يشاء لأنه لم يعمل خيرا يكفر عنه سيئاته ولم يتب إلى الله ، والله على كل شيء أراده قدير.

روي أن هذه الآية حين نزلت اشتد ذلك على الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فأتوا النبي وقالوا : يا رسول الله : كلفنا من الأعمال ما نطيق كالصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتريدون أن تقولوا : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» ونزلت الآية التي بعدها. (١)

من هذه الرواية فهم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) حيث فهم أن ما في نفوسكم هو الوساوس والخواطر التي لا يتأتى للإنسان دفعها.

والظاهر من النظم الكريم أن ما في نفوسكم أى : ما استقر في نفوسكم من الخلق الراسخ الثابت كالحب والبغض وكتمان الشهادة وقصد الخير والسوء .. إلخ.

أما الهواتف والخواطر فإن استرسلت فيها حسبت عليك وكانت من أعمالك وإن شغلت نفسك بغيرها وطردتها لم تحسب عليك ، وهي في أولها مما لا يمكن دفعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، والآية الآتية ليست ناسخة ولكنها موضحة ، أما قول الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ فتأويله أنهم الأطهار الأبرار الذين يريدون أن يتطهروا من الإثم ومقدماته بل كل شيء يتعلق به ، ولذا قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فرضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس ٢ / ١٤٤.

٢٠٠