التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)

المفردات :

(أَلَمْ تَرَ) : تركيب فيه استفهام ونفى ، وترجمته : يجب أن ينتهى علمك إلى الملأ. (الْمَلَإِ) : اسم للجماعة من الناس ، كالقوم والرهط ، سموا بذلك لأنهم

١٦١

يملؤون العيون رهبة إذا اجتمعوا. (اصْطَفاهُ) : اختاره. (بَسْطَةً) : سعة. (التَّابُوتُ) : الصندوق المحفوظ فيه التوراة ، ويروى أنه مصنوع من خشب مموه بالذهب. (سَكِينَةٌ) : فيه شيء تسكن به قلوبكم وتطمئن له. (بَقِيَّةٌ) الظاهر أنها قطع الألواح وعصا موسى وعمامة هارون. (فَلَمَّا فَصَلَ) أى : انفصل بهم عن البلد. (مُبْتَلِيكُمْ) : ممتحنكم. (يَطْعَمْهُ) : يذقه.

المعنى :

ألم ينته علمك إلى القوم من بنى إسرائيل؟ وقد وجدوا بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ حين قالوا لنبيهم ، ولم يسمه القرآن ، وقيل : إنه (صمويل) حين قالوا له : اختر لنا قائدا يقود زمامنا ، ولا شك أن طرد العدو من البلاد قتال في سبيل الله.

ولكن نبيهم قد عرفهم معرفة المجرب الحكيم ، فقال لهم : يا قوم أتوقع منكم عملا يخالف أقوالكم ، والزمان كفيل بتصديق نظريتى أو تكذيبها ، قالوا ردا عليه : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله؟ أى شيء دهانا واستقر عندنا حتى لا نقاتل في سبيل الله؟ وهذا هو مقتضى القتال حاصل فقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ومنعنا من أبنائنا.

فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا لم تكن الحوادث قد عركتهم ولم تكن نفوسهم طاهرة صادقة ، ولم تكن أرواحهم قد ملئت بالنور والإيمان كما فهم فيهم نبيهم ، ولذا تولوا وأعرضوا إلا قليلا منهم ، وانتحلوا المعاذير وعللوا أنفسهم بالتعاليل. وهكذا الأمم الميتة ، والله عليم بالظالمين لأنفسهم بتركهم الجهاد في سبيل الله دفاعا عن وطنهم وردّا لحقهم المغصوب.

وهذا تفصيل لما وقع بين النبي ـ عليه‌السلام ـ وبين قومه حين طلبوا منه ملكا عليهم.

وقال لهم نبيهم : إن الله قد اختار لكم طالوت ملكا وقائدا فانظر إلى الأمم الضعيفة التي لم تشب بعد عن طوق الصبيان في التفكير فهي تشغل نفسها بالعرض عن الجوهر والشكل عن الموضوع ؛ أين هذا من الصحابة الأجلاء ـ رضى الله عنهم أجمعين ـ وقد

١٦٢

أمر عليهم أسامة بن زيد وهو شاب حدث ، وفي الجيش أبو بكر وعمر وعلى وغيرهم!! ألا حيّا الله البطولة والرجولة!!

وها نحن الآن نشغل أنفسنا برئيس الوزراء شغلا أكثر من شغلنا بأنفسنا ولا علينا بعد هذا شيء أقام الغاصب في بلادنا قرنا أم قرنين!! بما ذا رد هؤلاء القوم على نبيهم؟ قالوا متعجبين لقصور عقولهم : كيف يكون ملكا علينا؟ ونحن أحق بالملك والرياسة منه إذ فينا الملك قديما ، وطالوت فقير ليس غنيّا.

كأنهم فهموا أن الملك حق يورث وأن الغنى شرط أساسى فيه ، فقال لهم نبيهم : إن الله قد اختاره واصطفاه وما عليكم إلا الامتثال فالله لا يختار إلا ما فيه الخير لكم وقد زاده الله بسطة في العلم حتى يكون واسع الإدراك نافذ البصيرة ، وبسطة في الجسم حتى يقوى على القيادة وأعمال الحرب وحتى يكون مهابا يملأ العين والنظر ، والله ـ سبحانه ـ يؤتى ملكه من يشاء فلا اعتراض عليه وهو أعلم بخلقه من يستحق ومن لا يستحق.

لم يقتنع القوم بما ساق لهم نبيهم من الحكمة في اختيار طالوت ملكا عليهم وظلوا معاندين ، فأوحى الله إليه أن يسوق دليلا ماديا على صحة ملكه وقيادته ، وآية ملكه أن يأتيكم التابوت ـ وقد كان له شأن في بنى إسرائيل عظيم ولما فرطوا أخذ منهم زمنا ثم جعل لهم نبيهم عودته في بيت طالوت دليلا من الله على صحة الملك ـ وفيه سر تسكن إليه نفوسكم وتطمئن إليه ضمائركم ، خاصة عند ما تحملونه في القتال وفيه بقية مما ترك موسى وهارون ، وسيأتى محمولا من الملائكة تشريفا وتكريما له ، أفلا يدل كل هذا على أن الله اختار طالوت قائدا لكم ولكنهم اليهود قديما وحديثا هكذا يفعلون!! إن في ذلك القصص لعبرة وعظة وأى عبرة وعظة؟!!

وفيه آية لكم أيها المخاطبون في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يقص عليكم هذا القصص وهو نبي عربي أمى لم يقرأ ولم يكتب فمن أين له هذا؟!

وإذا علمت ما تقدم فلما انفصل طالوت بالجنود أراد أن يختبرهم بشيء ليعلم صدق نيتهم في القتال وهكذا القائد الحكيم إذ ظن في جنده ظنّا فاختبرهم ليقف على حالهم.

فقال لهم : إن الله مختبركم ـ وهو الأعلم بكم ـ بنهر يعترضنا في الطريق ، فمن شرب منه فليس من أتباعى وأشياعى ، ومن لم يتذوقه فإنه من حزبى وأنصارى إلا من

١٦٣

اغترف غرفة بيده ، فكانت نتيجة الاختبار أن شربوا منه جميعا إلا قليلا منهم (إن الكرام قليل). وهكذا من يحكم عقله في هواه ويؤمن بالله ، فئة قليلة العدد كثيرة الإيمان والخطر ، فأنت ترى أن مراتب الناس ثلاثة : منهم من شرب وعب بفمه ، ومنهم من لم يتذوقه أصلا ، ومنهم من اغترف بيده غرفة.

فلما جاوز النهر هو والذين معه من المؤمنين الصادقين (أما غيرهم فقد استهواهم الماء العذب فأخذوا يشربون ويطربون ثم لحقوا بهم آخر الأمر).

قال بعض الجيش ممن شرب لما رأى جند الأعداء وكثرة عددهم وتفوقهم : لا قدرة لنا اليوم ولا طاقة بمحاربة الأعداء ومناضلتهم فضلا عن التغلب عليهم ، وقال المؤمنون الذين يظنون أنهم ملاقو الله فمجازيهم على أعمالهم الذين ينتظرون إحدى الحسنيين : إما شهادة في سبيل الله ، وإما نصر على الكافرين ، فإن عاشوا عاشوا آمنين وإن ماتوا ماتوا شهداء مكرمين.

قالوا : لا تغرنكم أيها القوم كثرتهم ، فكثيرا ما غلبت فئة قليلة العدد فئة كثيرة العدد غلبت بقوة إيمانها وإرادة ربها ، وإذنه والله مع الصابرين بالتأكيد والمعونة (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ، (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت وجنوده وشاهدوا أمامهم من العدد والعدد وحانت ساعة الالتجاء إلى الله حقيقة حيث تتلاشى قوة البشر قالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وهنا تجلت عظمة الله وقدرته بأجلى مظهر حتى يعتبر الناس ويتعظوا.

هزمت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله وإرادته وقتل داود (وكان فتى في الجيش قويّا جلدا) جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء من العلوم إنه على كل شيء قدير.

والحرب سنّة طبيعية في الخلق من يوم أن اقتتل ابني آدم وهي على ما فيها من ضرر وخطر لا تخلو من نفع وخير ؛ إذ لو لا أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض ، ويسلط جماعة على جماعة لفسدت الأرض وعمت الفوضى ، وانتشر الظلم وهدّمت أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله ، ولكن الله ذو فضل على الناس جميعا حيث يسلط على الظالم من يبيده ويهلكه ، فإذا نبت ظالم آخر أرسل له من يفتك به ، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب.

تلك آيات الله نتلوها عليك يا محمد دالة على صدقك وأنك رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين ، والله أعلم.

١٦٤

درجات الأنبياء وطبيعة الناس في اتباعهم

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)

المفردات :

(الْبَيِّناتِ) : الآيات الواضحات الدالات على رسالته. (وَأَيَّدْناهُ) : قويناه. (بِرُوحِ الْقُدُسِ) : هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ وقيل : المراد روحه ، على معنى : وأيدناه بالروح المقدسة ، أى : الطاهرة.

ضرب الله الأمثال وقص بعض القصص وختم ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ثم استأنف كلاما جديدا يظهر به فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأنبياء مع تسليته ببيان طبائع الناس في اتباع الأنبياء قديما وحديثا.

المعنى :

أشار القرآن الكريم إلى من تقدم الكلام عليهم من الرسل الكرام بإشارة البعيد لعلو مكانتهم وسمو درجتهم ، وقد فضل بعضهم على بعض بتخصيصه بمفخرة ليست لغيره.

١٦٥

منهم من شرفه بالكلام مشافهة كموسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [سورة النساء آية ١٦٤]. (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [سورة الأعراف آية ١٤٣].

ورفع بعض الأنبياء على من عداه درجات في الفضل والشرف ـ الله أعلم بها ـ وآتى الله عيسى ابن مريم الآيات الواضحات : كتكليمه في المهد وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وأيده بروح القدس جبريل مع روحه الطاهرة ونفسه الصافية.

وإنما خص عيسى ـ عليه‌السلام ـ بهذه الأوصاف لاختلاف اليهود والنصارى فيه ، فاليهود حطت من شأنه واتهمته واتهمت أمه ، والنصارى رفعته إلى درجة الألوهية ، فقيل ردا عليهم ولبيان أنهم فرّطوا وأفرطوا : عيسى ابن مريم مرّ بأدوار الطفولة والحمل وغيره يأكل ويشرب ، أفيليق أن يكون إلها؟ ، ولكنه مؤيد من عند الله بالآيات الواضحات وروح القدس ولذا تكلّم في المهد (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [سورة المائدة آية ١١٠] فهو نبىّ مرسل كريم على الله فلا يليق بكم أيها اليهود أن تنالوا منه وتحطوا من شأنه.

أما من رفعه إلى درجات الفضل فالظاهر أنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعموم رسالته وأنه أرسل رحمة للعالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين وأن معجزته القرآن ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا ، ونصرت بالرعب من مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ، وأعطيت الشفاعة».

والذي يؤيد هذا أن القرآن خاطب أمم الأنبياء ولم يكن هناك إلا أمة اليهود والنصارى والمسلمين ؛ فهذا موسى نبي اليهود ، وهذا عيسى ، وبقي الفرد العلم الذي لا يحتاج إلى ما يعيّنه والذي رفعه الله درجات ودرجات ولا حرج على فضل الله.

ولو شاء الله عدم قتال الذين جاءوا من بعد الرسل من بعد ما جاءتهم البينات والمعجزات ما اقتتلوا ، ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنه خلق الإنسان وكرّمه بالعقل والإدراك ، وكل إنسان يختلف عن الآخر ، ولم يجعل قبول الدين ومبادئه بالطبيعة والفطرة من غير تفكير ونظر ، وإلا لكان الناس أمة واحدة كلهم مؤمنون أو كلهم كافرون ، ولهذا اختلفوا اختلافا بينا في قبول الدين ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

١٦٦

فاقتضت الحكمة الإلهية مشيئة اقتتالهم فاقتتلوا بما ركب فيهم من دواعي الاختلاف والشقاق.

ولو شاء عدم قتالهم بعد اختلاف ميولهم ونزعاتهم ما اقتتلوا ، ولكن الله يفعل ما يريد ويحكم بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، وهو على كل شيء قدير وهو العزيز الحكيم.

وقد اختلف اليهود واقتتلوا ، وكذلك النصارى ، وها هم المسلمون بعد أن كانوا يدا واحدة أصبحوا فرقا متنازعين متقاتلين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء آية ٥٩].

في الحث على الإنفاق

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)

المفردات :

(بيع) البيع المراد به : الكسب بأى نوع من أنواع المبادلة والمعاوضة. (خُلَّةٌ) الخلة : الصداقة والمحبة ، والمراد لازمها من الكسب كالصلة والهدية والوصية. (شَفاعَةٌ) الشفاعة : المراد لازمها من الكسب.

المعنى :

سبق أن تعرض القرآن الكريم للإنفاق بأسلوب فيه لطف كثير وبلاغة لقوم يؤثر فيهم

١٦٧

أمثال هذا الكلام (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (١) وهناك من يفعل الخير خوفا من عقابه وطلبا لثوابه ، فهؤلاء خوطبوا بتلك الآية وأمثالها.

يا أيها الذين آمنوا واتصفوا بهذا الوصف العالي وهو الإيمان : بادروا إلى الإنفاق في سبيل الله مما تناله أيديكم ابتغاء مرضاة الله وطلبا لرضوانه ، وأنتم الآن في فسحة من العمل وغدا سيأتى يوم لا تتمكنون فيه من الإنفاق أصلا مع أنه مطلوب ؛ إذ لا بيع في ذلك اليوم ولا شراء ولا كسب بأى نوع من أنواع المبادلة ، ولا يوجد ما يناله الإنسان من الصداقة والخلة والشفاعة ، فهذا هو يوم الجزاء والثواب والعقاب يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، يوم يظهر فيه فقر العباد إلى الواحد القهار ؛ والكافرون نعمة الله الجاحدون حقوق المال المشروعة هم الظالمون لأنفسهم فقط ، هم الذين يمهدون للأفكار السامّة والمذاهب الهدامة حتى تغزو الشرق المسلم ، ألم يقل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حصنوا أموالكم بالزكاة» (٢) ولا حصن لها أقوى من أن يعرف الفقير أن له حقّا معلوما في مال الغنى.

والمراد الإنفاق الواجب بدليل الوعيد الشديد ، والدين يطالب بإنفاق القليل مما جعلكم مستخلفين فيه ، فإنه ما آل إليكم إلا بعد أن خرج من يد غيركم أساءوا التصرف فيه ولم يحصنوه ، فكانوا كافرين بنعمة الله ظالمين لأنفسهم.

أمن الحكمة أن يرى الأغنياء الأمة وقد تكاتفت عليها الأعداء الثلاثة من فقر وجهل ومرض ، ثم هم يبذّرون المال ذات اليمين وذات اليسار في الخارج وعلى موائد القمار وفي الليالى الحمراء ويعرف الجميع هذا؟ ثم يقول الناس : إنهم يحاربون الأفكار الهدامة كالشيوعية وغيرها.

لا يا قوم إن أسلحة الحرب لهؤلاء الأعداء هي القوانين الإسلامية والحدود الشرعية ، والإنفاق في سبيل الله أمضى سلاحا (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٤٥.

(٢) رواه البيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٨٢.

(٣) سورة البقرة آية ٢٧٢.

١٦٨

آية الكرسي

اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)

المفردات :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : لا معبود بحق في الوجود إلا هو. (الْحَيُ) : ذو الحياة وهي مبدأ الشعور والإدراك والنمو والحركة ، والمراد هنا بالحياة مبدأ العلم والإرادة والقدرة. (الْقَيُّومُ) : دائم القيام بتدبير خلقه وحفظهم ورعايتهم. (سِنَةٌ) السنة : ما يتقدم النوم من الفتور. (نَوْمٌ) النوم : حالة تعرض للحيوان تمنع من الحس والشعور. (كُرْسِيُّهُ) الكرسي : ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد. (يَؤُدُهُ) : يثقله ويشق عليه.

المعنى :

الله لا إله يعبد بحق في الوجود إلا هو ، إذ الإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد ، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جدّا ، فالله منفرد بالألوهية موصوف بالحياة الأبدية ، واجب الوجود ، الحىّ الذي لا يموت ، القائم بذاته على تدبير خلقه ، المخالف لهم في كل صفاتهم مما يعترى الحوادث ، لا تغلبه ولا تستولى عليه سنة ولا نوم ، مالك الملك

١٦٩

والملكوت ذو العرش والجبروت ، له ما في السموات والأرض ، ذو البطش الشديد ، فعال لما يريد ، يوم يأتى لا تكلم نفس إلا بإذنه ، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره ، فعال لما يريد ، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره ، والمناعة؟ العالم وحده بالخفيات يعلم الكليات والجزئيات ، ولا يطلع على علمه أحدا إلا من شاء ، ولا يحيط بعلمه أحد إلا بما شاء ، ولقد صدق الخضر ـ عليه‌السلام ـ فيما روى عنه إذ قال لموسى ـ عليه‌السلام ـ حيث نقر العصفور في البحر : «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر».

واسع الملك والقدرة ، والأرض جميعا في قبضته والسموات مطويات بيمينه ، فلا الكرسي ولا القبضة ولا اليمين وإنما هو تصوير وتمثيل لعظمته ، وقدرته ، وتمام ملكه وسعة علمه ، سبحانه وتعالى!! لا يشغله شأن عن شأن ولا يشق عليه أمر دون أمر ، متعال عن الأوهام والظنون القاهر لا يغلب ، العظيم لا تحيط به الأفهام والعقول ، جل شأنه لا يعرف كنهه إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ

وهذه آية الكرسي وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة ، روى عن على بن أبى طالب : سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعواد المنبر وهو يقول : من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله.

الدخول في الدين والولاية على الناس

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)

١٧٠

المفردات :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) : لا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين. (الرُّشْدُ) : رشد يرشد رشدا إذا بلغ ما يجب ، والرّشد : الهدى ، ومثله الرشاد مستعمل في الخير ، وضده الغىّ ، يقال : غوى يغوى : إذا ضل في معتقد أو رأى. (بِالطَّاغُوتِ) من الطغيان : مجاوزة الحد في الشيء ، ويطلق على الشيطان ، وعلى كل ما يعبد من دون الله لأنه أساس الطغيان ومجاوزة الحد. (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) العروة من الدلو والكوز : المقبض ، ومن الشجر : الملتف ، والوثقى : مؤنث الأوثق ، وهو ما يعول الناس عليه عند المحل والأقرب أن يراد بالعروة الوثقى الشجر الملتف ؛ فهي التي لا ينقطع مددها عند القحط والجدب. (لَا انْفِصامَ لَها) : لا انقطاع لها. (وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) : يتولى أمورهم بالرعاية والعناية.

سبب النزول :

روى أن أبا الحصين من بنى سالم بن عوف كان له ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدما إلى المدينة فلزمهما أبوهما وقال : لا أدعكما حتى تسلما ، فاختصما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال أبوهما : أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت الآية ، فخلّى سبيلهما.

المعنى :

بعد ذكر هذه الصفات الجليلة التي لا تكون إلا لله الواحد الأحد والنعوت الموجبة للإيمان به وحده ، لا يصح أن يكون هناك إلجاء وقسر على الدخول في الدين (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩ من سورة يونس) ، الآن حصحص الحق وظهر ، وتبين الرشد من الغي ووضح ، فلا إكراه ولا إلجاء لأن الإيمان اعتقاد قلبي ولا سبيل لأحد على قلوب الناس وقد وضحت الآيات الدالات على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يدعيه عن ربه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فقولهم : إن الإسلام قام بالسيف دعوى باطلة ؛ إذ المسلمون قبل الهجرة كانوا يخفون صلاتهم ولا يقدرون على مجاهرة الكفار ، وقد نزلت هذه الآية بعد الهجرة بثلاث سنين تقريبا وهي تثبت أنه لا إكراه في الدين.

١٧١

وما حصل من الحرب فهو من النوع الدفاعى حتى يكف المشركون عن فتنة المسلمين ويتركوا الناس أحرارا ، ولذلك رضى المسلمون بإظهار الإسلام أو دفع الجزية ؛ وفتح مصر وبعض البلاد بالسيف كان لإيصال حجة الإسلام إلى الشعب بدون إكراه بدليل قبول الجزية أو الدخول في الإسلام ؛ فمن يكفر بالأصنام وكل ما يعبد من دون الله ويؤمن بالله الواجب الوجود فقد بالغ في التمسك بالعروة الوثقى المأمون انقطاعها ، فكأنه يقول : إن المبالغ في التمسك بهذا الحق والرشد كمن يأوى بإبله إلى ذلك الشجر الملتف الكثير الذي لا ينقطع مدده ولا يفنى غذاؤه ؛ والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب ، ولذا كان تذييل الآية : سميع بالأقوال ، عليم بالمعتقدات والأفعال.

الله ولى الذين آمنوا يتولى أمورهم ويهديهم طريقهم ، ولا ولى لهم ولا سلطان لأحد على اعتقادهم إلا المولى ـ جل شأنه ـ فهو يرشدهم إلى الصراط المستقيم ويخرجهم من ظلمات الشك والشبهة إلى نور العلم والمعرفة واليقين ؛ والذين كفروا بالله ورسوله أولياؤهم الطاغوت ، فإن مس قلوبهم شيء من نور اليقين والتوفيق أسرع الشيطان وما يعبدونه ـ إن كان حيا أو سدنته وخدمه إن كان صنما ـ أسرعوا جميعا إلى إزالة النور والحق وإخراج الكفار من النور إلى ظلمات الكفر والنفاق والشك والضلال ، أولئك الذين بعدوا جدا في الضلال وأولئك أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون.

من غرور الكافرين بالله أو قصة نمرود

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)

١٧٢

المفردات :

(أَلَمْ تَرَ) : تركيب فيه استفهام ونفى ، والمعنى : يجب أن ينتهى علمك إلى الذي حاج فإن أمره من الظهور بحيث لا يخفى على أحد من المخاطبين. (فَبُهِتَ) : تحير ودهش.

المعنى :

الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، وهاك بعض القصص التي تثبت ذلك بوضوح.

ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى الذي أعطاه الله الملك فلم يحسن الشكر بل أبطرته النعمة وجعلته يطغى (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١) فما كان سببا في الطاعة جعل سببا في المعصية ، هذا نمرود اتخذ الطاغوت وليّا وحاج إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في ربه حيث قال له : من ربك الذي تدعو إليه؟ قال إبراهيم : ربي الذي يفيض على الخلق نعمة الحياة والموت فهو الذي يحيى ويميت ، أى : ينشئ الحياة والموت ، فما كان منه إلا أن قال : أنا أحيى بعض الخلق بالعفو عنهم وأميت البعض الآخر بالقتل ؛ وأحضر رجلين عفا عن أحدهما وقتل الآخر ، وهذا كلام لا يعبأ به ولا يلتفت إليه ، إذ المراد إنشاء الحياة وتكوينها لا التسبب فيها ، لذا مثل له بمثال أوضح وأظهر فقال : ربي أبدع الكون ونظمه وجعل الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب فأت بها أنت أيها المغرور المدعى من المغرب إن كنت قادرا على ذلك؟ فغلبه إبراهيم وأسكته حتى بهت والله لا يهدى الظالمين لأنفسهم إلى طريق الخير أبدا ؛ لأنهم لم يتخذوا الله وليّا ، وهذه من الآيات على وجود الله.

__________________

(١) سورة الواقعة آية ٨٢.

١٧٣

قصة العزير وحماره

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)

المفردات :

(قَرْيَةٍ) القرية : الضيعة ، وفيها معنى الاجتماع. (خاوِيَةٌ) : خالية ، أو ساقطة. والعروش : السقوف. (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) : استبعاد منه للإحياء بعد الموت ، والمراد بالإحياء : عمارتها بالبناء والسكان ، وبموتها خرابها. (لَمْ يَتَسَنَّهْ) : لم يتغير. (نُنْشِزُها) : نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد.

المعنى :

قصة أخرى تثبت كيف يتولى الله بعض الخلق فيهديه إلى الطريق المستقيم.

أو رأيت إلى الذي مر على قرية وهي خالية من السكان قد سقطت حيطانها على عروشها ولم يبق بها أثر لحياة.

١٧٤

قال : مستبعدا عمارتها بعد خرابها مستعظما قدرة الله متشوقا لعمارتها : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) ولما دخل القرية وهي خالية من سكانها وقال ما قال وكانت أشجارها قد أثمرت تينا وعنبا ربط حماره وأكل من ثمرها ونام.

لما حصل منه هذا أماته الله مائة عام ثم رد له الحياة وبعثه على سبيل السرعة والسهولة حتى كأنه كان نائما ثم استيقظ ، قيل له : كم وقتا لبثته؟ وإنما سئل هذا السؤال ليظهر عجزه عن إحاطته بشئونه تعالى.

قال : لبثت يوما أو بعض يوم بناء على التقريب وتقليل المدة ، فقيل له : ما لبثت هذا القدر بل لبثت مائة عام ، فانظر لترى دلائل قدرتنا : انظر إلى طعامك وشرابك الذي بقي مائة عام لم يتغير ولم يفسد مع سرعة فساد أمثاله ، وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطعت أوصاله لترى كيف تطاول الزمن عليك وعليه وأنت نائم ، فعلنا ما فعلناه لتعاين ما استبعدته من الإحياء ، ولنجعلك آية دالة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ). (١)

وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء في غيرك ، فها هي العظام نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد فنركبها تركيبا وثيقا محكما ، ثم نكسوها لحما طريا يسترها كما يستر الثوب الجسد ، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير.

وهذا المثال من آيات الله الدالة على البعث

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٨.

١٧٥

المفردات :

(بَلى) : حرف يجاب به (فَصُرْهُنَ) : أملهنّ إليك واضممهن.

المعنى :

مثال ثان لولاية الله للمؤمنين ولهدايتهم إلى الطريق المستقيم ، وهو من الآيات الدالات على البعث ، وإنما ذكر في القرآن مثالان للبعث ومثال لوجود الله لأن منكري البعث أكثر من منكري وجود الله.

واذكر وقت قول إبراهيم : رب أرنى كيف تحيى الموتى وقد تأدب مع مولاه أدبا يليق به حيث بدأ سؤاله برب الذي يشعر بالعناية والتربية لخلقه ، قال ـ تعالى ـ له وهو أعلم به : ألم يوح إليك ولم تؤمن بذلك؟ قال إبراهيم مجيبا : يا ربي قد أوحيت إلىّ وآمنت بذلك ولكن تاقت نفسي وتطلعت لأن تقف على كيفية الإحياء للموتى ليطمئن قلبي بمشاهدة العيان مع الوثوق والإيمان ، ولا غرابة في ذلك ؛ فكلنا يؤمن بالأثير وعمله في نقل الأخبار والصور ، وكثير منا لا يعرف كيفية ذلك وتتوق نفسه للمعرفة.

وفي رد الله عليه بقوله : أو لم تؤمن؟ إشارة إلى أن الإنسان لا يكلف بأكثر من الإيمان بأخبار الغيب الصادرة عن المولى ـ جل شأنه ـ في ذاته وصفاته ويوم القيامة وغيره.

قال تعالى : فخذ يا إبراهيم أربعة من الطير فأملهن إليك وضمهن وقطعهن قطعا ثم اجعل عل كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك ساعيات كما كانت ، وهكذا يحيى الله الموتى ، واعلم أن الله عزيز حكيم. هذا رأى الجمهور في الآية ، وقد رأى بعضهم رأيا رجحه تفسير المنار ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه المناسب بطلب إبراهيم ، وها هو الرأى :

خذ أربعة من الطير فأملهن إليك (والطير شديد النفور من الإنسان) حتى يأنسن بك ويمتثلن أمرك ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، أى : واحدا من الطير ثم ادعهن يأتينك ساعيات ممتثلات بمجرد الدعوة ، وهكذا يحيى الله الموتى فيقول : كونوا أحياء فيكونوا. (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ١١] (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس آية ٨٢].

١٧٦

الإنفاق في سبيل الله وآدابه وشروطه

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)

المفردات :

(بِالْمَنِ) : هو أن يعتدى على من أحسن إليه ويريه أنه أوجب بإحسانه حقّا عليه. (الْأَذى) : أن يتطاول عليه بسبب إنعامه. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : رد جميل تقبله القلوب ولا تنكره. (رِئاءَ النَّاسِ) : رياء لهم ، يفعل الفعل لأجل أن يروه فيحمدوه. (صَفْوانٍ) : حجر أملس. (وابِلٌ) : مطر شديد. (صَلْداً) : أملس ليس عليه تراب.

١٧٧

الإنفاق في سبيل الله ركن أساسى من أسس الدين ودعامة من دعائم الدولة ، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذل والاستعباد ، وسلط الله عليها الأعداء من كل جانب يتكاثرون عليها كما تتكاثر الأكلة الجياع على المائدة.

والإنفاق في سبيل الله واجبا كان أو مندوبا. ما دام في وجوه الخير ومحاربة الجهل والفقر والمرض ونشر الدين وخدمة العلم ، فهو مما يطلبه الدين ويحث عليه الشرع ، ولذا ترى القرآن الكريم قد تكلم عنه في عدة مواضع وحث عليه بأساليب شتى وضرب الأمثال ورغّب ورهّب وبيّن ووضّح.

المعنى :

مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته وإسعاد الوطن وأهله كمثل حبة أنبتت سبع سيقان في كل ساق سنبلة في كل سنبلة مائة حبة ، وذلك يكون في أخصب أرض وأجود تربة وأحسن بذر ، ولا غرابة في ذلك ، فهذا القمح والأرز تنبت الحبة فيه هذا القدر.

وهذا تصوير وتمثيل للأضعاف والإضافة في الزيادة والأجر ؛ يضاعف هذه المضاعفة أو أكثر منها لمن يشاء إذ هو الواسع الفضل الغنى الكريم العليم بكل شيء.

الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وهذا جزاؤهم في الدنيا والآخرة إنما يستحقون ذلك بشرط ألا يتبعوا ما أنفقوا منّا على الفقير بأن يعتدّ عليه بما فعل به وألا يتبعوا ما أنفقوا بالأذى والضرر فلا يتطاول عليه المنفق ويطلب جزاء عمله.

وعدم المن والأذى مطلوب منك أيها المنفق وقت الصدقة وبعدها وإذا حرم عليك بعد الصدقة فوقتها من باب أولى ، وهذا هو السر في التعبير بثم.

هؤلاء المنفقون في سبيل الله الذين لم يمتنّوا ولم يؤذوا أحدا لهم أجرهم الكامل عند ربهم ولا هم يحزنون وقت أن يحزن البخيل ويندم على إمساكه (رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة المنافقون آية ١٠].

كلام جميل تهدأ به نفس السائل وتردّ به ، ومغفرة لإساءته في الإلحاف ، خير للسائل والمسئول من صدقة يتبعها أذى وضرر إذ الصدقة شرعت لتقريب الناس بعضهم من بعض

١٧٨

وتخفيف حدة الحسد والحقد بين الطبقات ، والمن والأذى يخرجها عن وضعها الصحيح ، والله واسع الفضل غنى لا يحتاج إلى عطاء الغنى ، بل أوجبها تأكيدا للصلة وجلبا للمحبة والتعاطف ، حليم لا يعاجل بالعقوبة لمن يستحقها.

والمن والأذى طبيعة في النفوس وغريزة في بنى الإنسان ولذا حرمهما الله بأن شرط في النفقة الشرعية خلوّها من المن والأذى وبيّن أن العدول عن الصدقة التي يتبعها أذى إلى قول معروف خير من تلك الصدقة.

ثم بعد هذا كله خاطب المؤمنين بوصف الإيمان ليكون ذلك أدعى للقبول والامتثال ، وحرم عليهم المن والرياء صراحة فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تحبطوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى.

أفسدت بالمن ما أسديت من حسن

ليس الكريم إذا أسدى بمنّان

فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم كمن ينفق ماله للرياء والسمعة ، والمرائى يظهر للناس أنه يريد وجه الله ، وفي الواقع هو يريد وجه الناس ليقال عنه : إنه كريم وجواد وغير ذلك من أغراض الدنيا ، ولذا وصفه الله بقوله : لا يؤمن بالله واليوم الآخر.

فمثل الذي يمن ويؤذى والذي يرائى كمثل حجر أصم عليه تراب وقد نزل عليه مطر شديد فذهب التراب وبقي الحجر أملس ، وهكذا الذي يمن أو يرائى يلبس ثوبا غير ثوبه ثم لا يلبث أن ينكشف أمره ويتهتك ستره فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل فلا يبقى من أثره شيء.

ثوب الرياء يشف عما تحته

فإذا اكتسيت به فإنك عار

فالذي يمن أو يرائى مذموم في الدنيا من الناس أجمعين. وأما في الآخرة فلا ثواب إلا للمخلصين الذين ينفقون ابتغاء مرضاة الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا رياء ، والله لا يهدى القوم الكافرين.

١٧٩

مثل من ينفق للرحمن والذي ينفق للشيطان

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)

المفردات :

(وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أى : تثبيت أنفسهم وتمكينهم ، وقيل : تصديقا مبتدأ من عند أنفسهم. (جَنَّةٍ) الجنة : البستان ، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ففيها معنى الاستتار. (وابِلٌ) : مطر كثير غزير. (ضِعْفَيْنِ) الضعف : المثل. (فَطَلٌ) الطل : المطر الخفيف. (أَيَوَدُّ) الهمزة فيه للإنكار ، ويود بمعنى يحب ويتمنى. (وَأَعْنابٍ) الأعناب : ثمر شجر الكرم. (إِعْصارٌ) : ريح عاصفة تستدير في الأرض بشدة ثم ترتفع إلى السماء حاملة الغبار. (نارٌ) المراد : ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر.

المعنى :

ما تقدم في الذي ينفق مع المن والإيذاء أو السمعة والرياء ، وما هنا أمثلة للذي ينفق في سبيل الله أو سبيل الشيطان.

١٨٠