التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

١

٢

الإهداء

إلى الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ، إلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، إلى إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أهدى هذا وأحتسب أجرى عند الله.

محمد محمود حجازي

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

أما بعد :

فقد سعد كثيرون من القدامى والمحدثين بالتصدى للكشف عما في الكتاب الكريم من معان وأسرار بلغت الذروة في الكمال ونحا كل منهم نحوا يغاير الآخر : فمن باحث عن الوجوه البلاغية إلى مفصل للأحكام الشرعية إلى ذكر بدائع لغوية وتراكيب تأخذ بالألباب ، إلى محدث عن القراءات ووجوهها ، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحيط به الحصر ، أطال هؤلاء الأعلام حتى كان كلامهم مراجع وموسوعات ، كالفخر والشهاب والآلوسي والطبري والقرطبي ، فموسوعاتهم هذه لا تغيث من يرغب أن يعرف ما يريده إن لم يكن ملما بقدر كبير من اللغة والأدب والأحكام والاصطلاحات العلمية ، ومنهم من اتجه ناحية الإيجاز والاختصار فكان كلامه أشبه بالبرقيات حتى أنه قد يترك ربط الآية ومناسبتها وما تمس إليه الحاجة كالشيخين الجليلين المحلى والسيوطي ومن ألف إلفهما.

وهؤلاء الأعلام ـ رضى الله عنهم ـ أقل ما نقوله فيهم أن الله أيدهم بروح من عنده حتى يسهل فهم كلامه ، وغاية ما نصل إليه أن نفهم كلامهم ونقف على إشاراتهم ، وسبحان من اتصف بالكمال.

والشيء الجديد في هذا العصر كثرة التعليم والمتعلمين ، وتشعب أنواع تعليمهم فأدى هذا إلى أمرين :

أولهما : تشعب البحوث من هؤلاء في علاقة الناس بعضهم ببعض حتى كثر الخلاف بين الناس في تفهم القانون الذي وضعوه ، ولا نزال نرى ونسمع أنهم اجتمعوا ليغيروا ويبدلوا ، ثم لا يمر عام أو بعض عام حتى يعيدوا الكرة فيزيدوا وينقصوا والأمر في ذلك الخلاف أشبه شيء بالبديهيات.

٥

والأمر الثاني : أن أكثر الناس اتجهوا إلى القرآن الكريم وكأنهم سئموا هذا التخبط الشائن والاضطراب المعيب ، ورأوا بأنفسهم أن القوانين الوضعية لم تفلح في منع الجرائم وفي الحفاظ على الحقوق ، بل كأنهم شبعوا حتى أتخموا من هذه الحياة المادية الصرفة ، فتلفتوا حيارى إلى منقذ لهم مما هم فيه إلى طريق يكون لهم فيه نور وهدى ، فتذكروا أن القرآن العظيم فيه المخلص ، وهو المنقذ والموصل إلى ما يبتغون من استقرار ، فبه ضمان لحياة نافعة تقوم على أن يؤدى كل واجبه كاملا ويأخذ حقه غير منقوص.

أليس القرآن هو الدستور الذي أنقذ الأمة العربية من جاهلية حمقاء إلى أمة إسلامية لها كيان معترف به ولها عزة وحضارة وعلم.

ولم لا يكون كذلك؟ وقد كفل القرآن أن يسعد الناس في حاضرهم ومستقبلهم ولم يترك شأنا فيه خير لهم إلا قال فيه وفصل القول بما لا يدع شبهة لمبطل أو ادعاء لمتطاول ، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

وبعد : فهذا هو القرآن الكريم ، بل هو الهدى والنور ، كتب شرحه بلغة سهلة واضحة لا تعمق فيها ولا إبعاد ، خالية من الاصطلاحات العلمية الفنية ، تفسر للشعب كل ما فيه من صوغ المعنى الإجمالى للآية ، بلغة العصر ، مع البعد عن الحشو والتطويل والخرافات الإسرائيلية. والاعتدال في الرأى ، فلم يهدم كل قديم ، ولم يرفع كل جديد «وإن يكن لكل فارس كبوة».

ولا طاقة للناس الآن بالإطالة فيما لا شأن له بأصل الغرض من التفسير ، إذ المهم أن يفهم القرآن أكبر عدد ممكن من المسلمين.

ألم يأن للحق أن يدحض الباطل كما دحضه في صدر الإسلام؟ وقد يكون ما تراه من الجمعيات الإسلامية والمؤاخاة الدينية جذوة فيها ضوء يسطع ليبصر من أراد أن يسعد عاجلته وآجلته ، وفيها نار تحرق هؤلاء الشياطين الذين لم يستحوا من الله ولا من الحق ؛ فجعلوا من جاههم ونفوذهم حربا على الإسلام إبقاء على زخرف كاذب وفرارا من حقوق إخوانهم في الدين والإنسانية قبلهم.

وها نحن الآن قد عزمنا ـ والعون من الله وحده ـ على الكتابة في التفسير على أن يخرج الجزء الأول ثم الذي يليه وهكذا ، فإن كان في العمر بقية ومن الله تأييد تم هذا العمل الذي نقصد به وجه الله.

٦

ولا أنكر أنه عمل ضخم ليس لمثلي أن يتعرض له ، ولكن :

وأكذب النفس إذا حدثتها

إن صدق النفس يزرى بالأمل

وسنظل ـ والحمد لله ـ ندفع بأيدينا وبألسنتنا وبأقلامنا عن حمى هذا الدين حتى يظهره الله أو نهلك دونه ، ولن يضيعنا الله.

وصدق الله إذ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) .. (١)

__________________

(١) سورة محمد آية رقم ٧.

٧

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

ومعناه : أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني ، أو دنياى ، أو يصدني عما أمرت ، أو يحثني على ما نهيت ؛ فإنه لا يكفه إلا أنت يا رب العالمين ، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٦ ـ ٩٨ من سورة المؤمنون).

فأنت ترى أن القرآن جعل دفع السيئة بالحسنة علاجا لشيطان الإنس ، والاستعاذة علاج شيطان الجن.

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٩٨ من سورة النحل).

٨

سورة الفاتحة

مكية وآياتها سبع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)

تسمى سورة الفاتحة. لافتتاح القرآن بها ، وأم الكتاب لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله ـ عزوجل ـ والتوحيد ، والتعبد بأمره ونهيه ، وبيان وعده ووعيده ، والأخبار والقصص ، وكذا الحكم العملية كسلوك الصراط المستقيم ، وتسمى السبع المثاني لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة ، أى : تعاد.

المفردات :

(اللهِ) : علم على الذات العلية (الرَّحْمنِ) : المتصفة ذاته بالرحمة وهي صفة

٩

خاصة به (الرَّحِيمِ) : من يرحم غيره بالفعل (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وهما في الأصل صفتان مأخوذتان من الرحمة ، وهي رقة في القلب تقتضي الإحسان والتفضل بالنعم ، والمراد هنا : الإحسان والتفضل بالنعم. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد : الثناء بالجميل على الجميل الاختياري. (رَبِ) الرب : المالك والسيد ، وفيه معنى الربوبية والتربية والعناية (الْعالَمِينَ) : جمع عالم ، وهو ما سوى الله ، وهو أنواع كعالم الإنسان والحيوان والنباتات ... إلخ. (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : المراد أن الأمر في قبضة قدرته يوم القيامة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) العبادة : الطاعة مع غاية الخضوع الناشئ من استشعار القلب عظمة المعبود ، والمعنى : لا نعبد غيرك. (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الاستعانة : طلب المعونة منه ، أى : نخصك بطلب المعونة. (اهْدِنَا) : عرفنا ووفقنا (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : الطريق المعتدل ، والمراد طريق الإسلام. (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) : المبعدون عن رحمة الله المعاقبون أشد العقاب لأنهم عرفوا الحق وتركوه ، وقيل : هم اليهود (الضَّالِّينَ) : الذين ضلوا الطريق ، وقيل : هم النصارى. (آمِّينَ) : تقبل منا واستجب دعاءنا ، وليست من القرآن ولكن يسن ختم الفاتحة بها.

المعنى :

ابتدأ الله ـ سبحانه ـ بالبسملة ليرشدنا إلى أن نبدأ كل أمورنا بها متبركين مستعينين باسمه الكريم ، ولا حول ولا قوة إلا به ، ثم قال : الثناء بالجميل لله ـ سبحانه ـ الواجب الوجود المنزه عن كل نقص ، فالحمد ثابت لله. فاحمدوه دون سواه ، لأنه مالك الملك ورب العالمين ؛ قد تولاهم بعنايته ورعايته ، وتفضل على كل موجود بنعمه التي لا تحصى ، لا لنفع يعود عليه بل لأنه الرحمن الرحيم ، مالك الأمر يوم الجزاء والحساب والقضاء. ومن كانت هذه صفاته ـ جل شأنه ـ وجب أن تكون العبادة له دون سواه ، ومن تمام عبادته والخضوع له ألا نطلب المعونة من غيره ، بل علينا أن نطرق الأسباب الظاهرة بكل ما أوتينا من حيلة وعلم وتجربة ، ثم بعد هذا لا نستعين إلا به ولا نتوكل إلا عليه ، وفي الحديث : «اللهمّ أعنّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» تقولها دبر كل صلاة.

١٠

ثم أرشدنا إلى طلب الهداية والتوفيق منه حتى نسير على الطريق المستقيم : طريق الحق والعدل ، ولما كان الطريق المستقيم : طريقا لا يسلكه إلا القليل (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) وفيه من الوحشة ما فيه ، أرشدنا إلى أننا سنكون مع المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء ، فهو طريق الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان والهداية ، ولا شك أنهم غير من عرفوا الحق وابتعدوا عنه كفرا وعنادا أو جهلا وضلالا ، فهؤلاء هم المغضوب عليهم الضالون عن طريق الهدى والسداد.

اللهم اقبل منا هذا الثناء ، واستجب منا هذا الدعاء ، واجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم.

هذه السورة مكية.

والفرق بين السورة المكية والمدنية يمكن إجماله فيما يلي :

١ ـ المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل في المدينة أو ضواحيها أو في مكة عام الفتح أو في غزوة من الغزوات.

٢ ـ المكي أكثر إيجازا لأن المخاطبين به أبلغ العرب ومعظمه تنبيهات وزواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال ، اقرأ إن شئت : الحاقّة ، والقارعة ، والواقعة ... إلخ.

٣ ـ المدني في أسلوبه شيء من الإسهاب ، وفيه كثير من خطاب أهل الكتاب ، وفيه بيان الأحكام العملية في العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والسياسية والحربية وأصول الحكومة الإسلامية والتشريع فيها ... إلخ.

__________________

(١) سورة سبأ آية رقم ١٣.

١١

سورة البقرة

نزلت بالمدينة إلا آية ٢٨١ فنزلت بمنى في حجة الوداع

أول سورة في ترتيب المصحف ، وأطول سورة في القرآن ، إذ عدد آياتها ٢٨٦ آية ، وفيها أطول آية في القرآن : «آية الدّين».

وهذه السورة الكريمة اشتملت على منهجين عظيمين :

الأول جاء في صدرها إلى آية ١٤٢ وطابعه أنه خطاب عام لجميع الناس فقد بدئت السورة بالكلام على القرآن ، وأثره ، ثم بيان موقف الناس منه ، فمنهم المؤمن المسالم ، والكافر المجاهر ، والمنافق المخادع. ثم اتجهت لخطاب أمة الدعوة ـ الناس جميعا ـ حيث دعاهم الله إلى الإيمان الصحيح ، مبينا لهم إعجاز القرآن وصدق الرسول. ثم ذكر قصة خلق الإنسان وتكريمه ، وموقف الشيطان منه.

ثم التفت إلى بنى إسرائيل ـ الطبقة الواعية في المجتمع المدني ـ فدعاهم إلى ما فيه خيرهم وذكرهم بنعم الله عليهم ، وحذرهم من نقمه ، وبين لهم قبائحهم وسيئات آبائهم ، وأطال في ذلك ، وتعرض لأبى الأنبياء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وإلى علاقته بالعرب ، وإلى موقفهم منه ، وكل هذا لا يعرفه الرسول إلا عن طريق الوحى.

أما المنهج الثاني فطابعه أنه خطاب للمسلمين ـ أمة الإجابة ـ وهو واقع في عجز السورة وقد بدئ بالكلام على أول حادثة دينية تمس المسلمين وأهل الكتاب ـ تحويل القبلة ـ ثم عالجت السورة المجتمع الإسلامى فذكرت الكثير من التشريعات والقوانين ، وما يجب أن يكون عليه المجتمع المثالي المسلم.

وكان الأساس الأول الدعوة إلى التوحيد الخالص لله ، وتعرضت لأحكام القصاص والوصية والقتال والإنفاق في سبيل الله ، ولبيان بعض العبادات كالصيام والحج ، وظهرت أحكام الخمر ، ونكاح المشركات والعدة والإيلاء والطلاق والرضاع ، والربا وأحكام التداين والمعاملات وخاصة الرهن ، وفي خلال ذلك قصص وحكم ، ثم ختمت السورة بالدعاء الإسلامى الكامل.

١٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)

المفردات :

(لا رَيْبَ فِيهِ) : لا شك في أنه من عند الله. (هُدىً) : هداية وإرشاد. (لِلْمُتَّقِينَ) الذين أخذوا لأنفسهم وقاية من النار.

المعنى :

استفتاح عجيب لأول سورة من القرآن الكريم ، وابتداء حيز الأفهام وزلزل العقول على بساطة تركيبه من حروف هجائية.

فقال جماعه بعد البحث وطول الفكر : هذا مما استأثر الله بعلمه فهو من المتشابه الذي نؤمن به على أنه من عند الله ـ والله أعلم ـ واعلم أنه أمر مفهوم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه خوطب به ، وهو أشبه ما يكون (بالشفرة) بين الله ورسوله ؛ وقال آخرون : لا بد أن يكون لذكره معنى ، والظاهر أنه إيماء إلى إقامة الحجة على العرب بعد أن تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله.

فكأنه يقول لهم : كيف تعجزون عن الإتيان بمثله؟! مع أنه كلام عربي من حروف هجائية ينطق بها كل أمى ومتعلم ومع هذا فقد عجزتم.

وذلك الذي نزل على محمد هو الكتاب الكامل في كل ما يتعلق به من معنى شريف وقصد نبيل وقصص فيه عبرة وعظة وتشريع صالح لكل زمان ومكان.

١٣

كتاب هذا حاله لا ينبغي من العاقل أن يشك في أنه من عند الله خصوصا وقد تحدى الله به العرب وهم أهل البيان واللسن تحداهم بأسلوب مثير : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فارجعوا إلى الحق وآمنوا به.

وقد وصفه الله بعد هذين الوصفين بوصف ثالث أنه مصدر هداية وإرشاد لمن أراد أن يأخذ الوقاية لنفسه من عذاب ربه ، وإنما خصهم بالهداية لأنه لا يهتدى به إلا من تخطى عقله وقلبه حواجز المادة فآمن بالغيب ـ ما وراء المادة ـ وبعمل الخير. وآمن بالسفارة بين الله والخلق ، وبالحياة الآخرة.

المتقون وجزاؤهم

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)

المفردات :

الإيمان : هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها ، وسلامة العمل. (بِالْغَيْبِ) : ما غاب عنهم من حساب وجزاء وجنة ونار وغير ذلك. (يُقِيمُونَ

١٤

الصَّلاةَ) إقامتها : الإتيان بها مقومة معتدلة كاملة ، والمقصود استيفاء أركانها وشروطها. (يُوقِنُونَ) اليقين : هو الاعتقاد الذي لا يقبل الشك.

المعنى :

إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يكشف عن صفة المتقين الذين ينتفعون بالقرآن وهديه فيقول : هم الذين يؤمنون بالأمور الغيبية متى قام الدليل عليها ، ولا يقفون عند الماديات والمحسوسات ، يؤمنون بما وراء المادة ، وهؤلاء يسهل عليهم فهم القرآن والانتفاع به ؛ لأن نور الإيمان شع في قلوبهم فامتلأت طاعة ورحمة ، ولذا كان من صفاتهم إقامة الصلاة ؛ إذ هي مظهر الطاعة ، وإقامة الصلاة : الإتيان بها كاملة مقومة بشروطها وآدابها فالصلاة عبادة بدنية وروحية لا عمل بدني فحسب. وإقامتها : عبارة عن استيفاء ناحيتي البدن والروح.

والإنفاق في سبيل الله من زكاة وصدقة مظهر من مظاهر الرحمة بالإنسان ، وركن مهم جدّا من أركان الإسلام كالصلاة التي هي عماد الدين ، فالزكاة أساس بناء المجتمع كما أن الصلاة أساس بناء الفرد.

وهم الذين يؤمنون بالله وما أنزل عليك ، وما أنزل على من قبلك من الأنبياء والمرسلين ، وآمنوا كذلك بالآخرة إيمانا يقينا لا شبهة فيه ولا شك.

ولا غرابة في أن يكون هؤلاء ذوى مكانة عالية عند الله يشار إليهم ، متمكنين من هدايته ، وأولئك البعيدون في مرتبة الكمال هم الفائزون في الدارين.

الكافرون وجزاؤهم

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

١٥

المفردات :

(أَأَنْذَرْتَهُمْ) الإنذار : الإعلام مع التخويف. (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) : طبع عليها بالخاتم ، وإنما يفعل هذا على الأبواب لمنع الدخول إليها ، والمراد أغلقت قلوبهم فلا يدخلها إيمان ولا تصح. (غِشاوَةٌ) الغشاوة : الغطاء ، والمقصود التعامي عن النظر إلى آيات الله.

المناسبة : ابتدأ الله هذه السورة بالكلام عن القرآن الكريم وموقف الناس منه ، وذكر أنهم أنواع : فمنهم من آمن به وعمل صالحا وأولئك هم المفلحون ، ومنهم من كفر واستكبر عن الحق قولا وعملا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

المعنى :

إن الذين كفروا بالله عنادا وجاهروا بتكذيب القرآن فهؤلاء يستوي عندهم الإنذار وعدمه إذ لا ينتفعون به ولا يتجهون إليه فلا نتأثر بهم ولا نأسى عليهم. فقلوبهم مغلقة لا يصل إليها النور الإلهى الممثل في الآيات ، وأسماعهم لا يعرفها صوت الحق لأنها تنبو عنه ، وأبصارهم لا تراه لأن عليها حجابا كثيفا هو حجاب التعامي عن آيات الله ، أولئك لهم عذاب من نوع خاص ليس مألوفا : عذاب عظيم.

ولقد بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ بهذه الآيات أنه إذا وجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس لتقصير في هدايته ولا لعيب فيه ، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب ، والختم على قلوبهم وعلى سمعهم بسبب كفرهم (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٥٥ من سورة النساء). ولقد صدق الله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٠٥ من سورة يوسف).

١٦

المنافقون وصفاتهم

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)

المفردات :

(يُخادِعُونَ اللهَ) الخداع : صرف الغير عما نقصده بحيلة ، والمراد هنا إظهار الإسلام وإضمار الكفر. (مَرَضٌ) المرض : العلة ، والمراد هنا : شك ونفاق

١٧

(السُّفَهاءُ) : ضعفاء العقول ، والمقصود هنا الجهلاء وضعفاء النفوس. (شَياطِينِهِمْ) المراد : إخوانهم في الكفر. (مُسْتَهْزِؤُنَ) الاستهزاء : الاستخفاف والسخرية ، وهو من اليهود بهذا المعنى ، ومن الله بمعنى أنه لا يعبأ بهم لحقارتهم وسوء إدراكهم ، أو بمعنى أنه سيجازيهم عليه. (يَمُدُّهُمْ) : يزيدهم. (طُغْيانِهِمْ) الطغيان : مجاوزة الحد. (يَعْمَهُونَ) العمه : ضلال البصيرة ، والمراد : التحير والتردد. (اشْتَرَوُا) : استبدلوا.

المعنى :

الصنف الثالث من الناس هم المنافقون ، وهؤلاء أشد خطرا على الإسلام من الكفار صراحة ؛ ولذا تكلم عليهم في ثلاث عشرة آية ، وليس المراد بهم المنافقين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط بل كل من ينطبق عليه الوصف في كل عصر ووقت.

بعض الناس آمن بالله واليوم الآخر قولا باللسان فقط ، وقلبه ملئ بالكفر والضلال ، فيرد الله عليهم دعواهم وأنهم ليسوا بمؤمنين وإن تظاهروا به ، ولا شك أنهم في إظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر في صورة المخادعين لله ، ولأن الله ـ سبحانه ـ يعلم عنهم ذلك وأنهم ليسوا بمؤمنين ، بل أشد ضررا من الكفار ، ومع ذلك يأمر بإجراء أحكام الإسلام الظاهرة عليهم كأنه يخادعهم ، وهكذا المسلمون حيث امتثلوا أمر الله فيهم كأنهم مخادعون لهم ، فهذا كله من باب التشبيه والتمثيل.

وإلا فالله عالم بهم لا تجوز عليه مخادعتهم وقادر على إيقاف المسلمين على حالهم حتى لا ينخدعوا بهم ، وليس خداعهم وعاقبته إلا وبالا عليهم ، وما يشعرون بذلك لأن قلوبهم قد ملئت غيظا وحسدا وشكّا ونفاقا حتى عموا عن إدراك أبسط الأشياء ، زادهم الله من هذه الأمراض ، ولهم عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة.

والواقع أن المنافقين في كل زمان ودولة هم الخطر الداهم على أممهم والسهم الذي يصوب في ظهر وطنهم ، وكثيرا ما لاقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النفاق والمنافقين.

والنفاق واليهودية شيئان متلازمان ؛ لأنه ينشأ عن جبن حقيقى ولؤم طبيعي ، فالمنافق يلتوى مع الناس في أقواله وأفعاله ، وكم للمنافق في المجتمعات من أضرار بالغة ومخادعات هادمة.

١٨

لو أن كل إنسان أظهر نفسه على حقيقته ، وأدى واجبه دون أن يخادع أو يخاتل ودون أن يوقع الآخرين لتكون عندنا المجتمع الصالح والدولة العزيزة الجانب.

ومن صفاتهم أيضا أنه إذا قيل لهم : إن إثارتكم الفتن والتجسس لحساب الكفار وتأليب القبائل على المسلمين فساد ، وأى فساد بعد الحرب وما تجره؟ فكفوا عن الفساد ، قالوا : ليس الأمر كما زعمتم فإنما نحن مصلحون ، لا نتعدى الصلاح إلى غيره أبدا ، فرد الله عليهم بعبارة أبلغ في إسناد الفساد لهم وقصره عليهم ، وأنهم كاذبون على أنفسهم في دعوى الإصلاح وأنه لا يتعداهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ولكن المنافقين لا يدركون المحسوس فلا يشعرون بحالهم. وما كان المسلمون يقفون معهم موقف الإنكار فقط ، بل كانوا يدعونهم كذلك إلى الإيمان بشتى الوسائل.

فإذا قالوا لهم : ادخلوا في الإيمان كما دخل فيه غيركم من الناس أجابوا متهكمين منكرين : أنؤمن بالقرآن والنبي ، كما آمن به ضعفاء الناس من العبيد والفقراء وضعفاء العقل من الأميين والجهلاء؟! وجهلوا أن ضعيف العقل من يرى طريق الخير والنور أمامه فلا يسلكه ، فانظروا يا أيها المنافقون من أى نوع أنتم؟ ألا إنكم أنتم السفهاء وحدكم ليس عندكم إدراك صحيح للإيمان فتعلموا مقداره!!

وروى أن أبا بكر وعمر وعليّا ـ رضى الله عنهم أجمعين ـ توجهوا إلى ابن أبىّ وأصحابه من اليهود فلما رآهم ابن أبى قال لأصحابه : انظروا كيف أراد هؤلاء السفهاء عنكم بمعسول القول ، فلما حضروا أخذ يمدحهم الواحد بعد الآخر في الدين والسبق فيه ثم قال لأصحابه بعد أن انصرف الصحابة : كيف رأيتمونى؟ فأثنوا عليه خيرا فنزلت الآية.

وليست تكرارا مع ما سبق بل السابق بيان مذهبهم وما استكن في نفوسهم جميعا من النفاق ، وفي هذه الآية بيان موقف بعض المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المؤمنين ومع زعمائهم في اليهودية والفساد ، الذين هم كالشياطين بل أشد ، وإذا خلوا إلى بعضهم قالوا : إنا معكم ، ولكنا نستهزئ بهم ونسخر بدينهم ، فيرد الله عليهم زعمهم الباطل : الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي يعبأ وسيجازيهم على فعلهم أيما جزاء ، ويزيدهم في الطغيان والضلال حتى يصيروا مثلا في الوصول إلى أقصى درجات الحيرة والتخبط.

١٩

بعد هذا الوصف السابق أشار لهم بإشارة البعيد فقال : إن أولئك المنافقين بتركهم الطريق المستقيم والأدلة الظاهرة والواضحة على صحة هذا الدين ـ بتركهم هذا حسدا وبغيا ـ كأنهم دفعوا الهدى ثمنا للضلالة والخسارة في الدنيا والآخرة ، وما ربحوا في هذا التجارة ، وما أظهر خسارتهم في هذه الصفقة! وهكذا كان شأنهم دائما.

ضرب الأمثال لهم

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)

المفردات :

(المثل) : الصفة والقصة الغريبة ، والمراد أن حالهم تناهت في الظهور والوضوح حتى أضحت كالمثل الذي لا ينكر. (الصّيّب) : المطر الكثير النازل. (رَعْدٌ) الرعد : هو صوت احتكاك الهواء. (الْبَرْقُ) : نور خاطف ينشأ من شرارة كهربائية : (الصَّواعِقِ) : جمع صاعقة ، وهي : الرعد الشديد ، وقيل : إنها من آثار الكهرباء في الجو ينشأ عنه احتراق بعض الأجسام.

٢٠