التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

المفردات :

(أَفَضْتُمْ) يقال : أفضت الماء : إذا دفعته بكثرة ، ثم استعمل في الإفاضة من المكان ، والمراد الدفع منه بكثرة ، أصله : أفضتم أنفسكم. (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) : جبل بالمزدلفة يقف عليه الإمام يسمى قزحا ، وسمى مشعرا لأنه معلم للعبادة ووصف بالحرام لحرمته. (قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) : أديتموها ، والمناسك : أعمال الحج. (خَلاقٍ) : نصيب. (حَسَنَةً) : توفيقا وصحة وكفافا في الرزق. (أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) : أيام التشريق. (تُحْشَرُونَ) : تجمعون يوم القيامة للحساب.

المعنى :

بعد أن بيّن الله ـ سبحانه ـ أن الزاد زاد التقوى ، وأن أولى العقول هم الذين يتزودون ليوم الحساب ويخافون الله ، أشار إلى أن الحج لا يمتنع معه البحث عن الرزق والتجارة كما فهم الناس ، فليس عليكم حرج ولا جناح في أن تطلبوا الرزق الحلال من طريق البيع والشراء والكراء. سئل ابن عمر : إنا نكري (الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج؟ فقال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذا السؤال فلم يجب حتى نزلت تلك الآية ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السائل وقال له : «أنتم حجاج» أى : لا يضر البيع ، والشراء ، وإنما الممنوع الحج للتجارة والانتفاع ، أما إذا كان الحج لله والتجارة تأتى عرضا فلا مانع.

الوقوف بعرفة أهم ركن في الحج لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحج عرفة» (١)

ولأنه وقف في حجة الوداع على عرفات بعد صلاة الظهر إلى أن غربت الشمس و

قال ما معناه : «خذوا عنّى مناسككم» (٢).

فإذا أفضتم من عرفات مندفعين كالسيل بعد الوقوف بها فاذكروا الله بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء عند الجبل الذي يقف عليه الإمام وهو المسمى بالمشعر الحرام ، فقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما صلّى الفجر بالمزدلفة ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر جدّا ، أى : دخل السفر وهو بياض النهار.

__________________

(١) رواه أحمد ٤ / ٣١٠ وأصحاب السنن وغيرهم.

(٢) رواه مسلم كتاب الحج حديث رقم ١٢٩٧.

١٢١

واذكروا الله ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة وعلمكم كيف تذكرونه ، وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين الذين لا يعرفون كيف يذكرونه.

ـ كانت قريش وبعض القبائل يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف بعرفة مع الناس فأمر الله نبيه أن يأتى المسلمون جميعا عرفات ، ثم يقفون بها ويفيضون منها إبطالا لما كانت قريش تفعله. ثم إذا باتوا بالمزدلفة أمرهم أن يفيضوا منها جميعا لا فرق بين قبيلة وقبيلة ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.

فإذا أديتم مناسك الحج وقمتم بها فاذكروا الله ذكرا حسنا كما كنتم تذكرون آباءكم في الجاهلية ، أو اذكروه أشد من ذكر آبائكم.

ومن الناس من يدعو الله لأمر دنيوى فقط ، وهذا لا نصيب له في الآخرة ، ومنهم من يدعو الله أن يؤتيه في الدنيا رزقا حلالا وصحة وفي الآخرة ثوابا ، وأن يجنبه الأعمال التي تؤدى إلى النار ، أولئك حزب الله لهم نصيب كبير بما كسبوا والله سريع الحساب.

واذكروا الله في أيام التشريق الثلاثة وهللوا وكبروا عقب الصلاة وعند رمى الجمار ، عن عمر ـ رضى الله عنه ـ (أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق).

فمن تعجل ورمى في يومين من أيام التشريق الجمرات فلا إثم عليه ومن تأخر ورمى في الأيام الثلاثة فلا إثم عليه وإن كان أفضل.

ذلك التخفيف ونفى الإثم لمن اتقى الله ... واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون وتحاسبون.

١٢٢

من علامات النفاق أيضا

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)

المفردات :

(يُعْجِبُكَ) : يروقك ويعظم في قلبك ، ومنه الشيء العجيب. (الْخِصامِ) : الخصومة والعداوة. (تَوَلَّى) : ذهب. (الْحَرْثَ) : الزرع. (النَّسْلَ) : ما تناسل من الحيوان. (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) : حملته العزة الكاذبة على الإثم. (يَشْرِي نَفْسَهُ) : يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله.

ذكر الله الحج وبين أن فيه من يدعو الله للدنيا ومن يدعوه للآخرة ، فهذان صنفان آخران منافق ومؤمن ، قلب مضيء بالإيمان وقلب مظلم بالنفاق.

المعنى :

بعض الناس يروقك قوله ويعجبك طلاقة لسانه وقوة بيانه في الحياة الدنيا مع أنه

١٢٣

لا يتكلم إلا ليحظى بشيء من الدنيا الفانية وأعراضها الزائلة ، وهو يشهد الله على ما في قلبه ، فكلما قال قولا شفعه بقوله : يعلم الله هذا ، ويشهد أنى صادق.

ويعلم الله أنه أشد الناس خصومة ، وأقواهم جدلا ، وأكثرهم عداوة للمسلمين.

سبب النزول :

نزلت في الأخنس بن شريق : كان إذا قابل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدحه ، وأشاد بالإيمان ؛ يقول هذا لينال في الحياة الدنيا ما ينال ، وكان يقسم أنه صادق ، ويشهد الله أنه كاذب ، وكان شديد الخصومة للمسلمين ففيه الخصال الثلاث.

وإن ذهب عنك وتولى ظهرت نفسه الحقيقية ؛ وأخذ يسعى في الأرض فسادا فيهلك ما ينتجه الحرث ويقضى على النسل ، وقيل : إذا تولى أمرا من الأمور سعى في الأرض بالفساد فيصب الله عليه وعلى أمته التي رضيت به إماما عليها أشد العذاب ؛ فيمتنع الخير حتى يهلك الحرث ويفنى النسل والحيوان ، وكيف لا؟ والله لا يحب الفساد وصحبه!

وإذا قيل له نصحا وإرشادا : اتق الله حملته الحمية الجاهلية ، والعزة الشيطانية على ارتكاب الإثم المنهي عنه شرعا ، وجزاؤه هذه اللعنة وحسبه جهنم ولبئس المهاد مهاده.

الصنف الثاني من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله في الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

سبب النزول :

نزلت في صهيب بن سنان ومن على شاكلته أراده المشركون على الكفر فأبى وأخذ ماله وفر بدينه إلى المدينة ، والله رءوف بالعباد حيث كلفهم الجهاد في سبيل الله فعرضهم بذلك لثواب الشهداء.

١٢٤

من لا يتبع جميع أحكام الدين وجزاؤه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)

المفردات :

(السِّلْمِ) : الاستسلام والانقياد والإسلام. (كَافَّةً) : جميعا. (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : جمع خطوة ، والمراد : تزيينه ووساوسه. (زَلَلْتُمْ) : ملتم عن الدخول فيه. (ظُلَلٍ) : جمع ظلة ، وهي ما أظلك. (يَسْخَرُونَ) : يهزئون.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب استسلموا لله ـ تعالى ـ وأطيعوه ظاهرا وباطنا ، وادخلوا في الإسلام كله ، ولا تخلطوا به غيره ، فإنه روى أن عبد الله بن سلام استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته في الليل.

١٢٥

ويجوز أن يكون المعنى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في حظيرة الإسلام كله على أن يكون المؤمنون مأمورين بجميع فروع وأحكام الإسلام ، أما إذا آمنوا ببعض الأحكام ففعلوها كالصلاة والصيام مثلا ، ولم يعملوا ببعض الأحكام كالزكاة والصدقة والحكم بكتاب الله وحدوده ، ومنع الخمر والزنى : وما إلى ذلك مما نراه الآن فتكون هذه الآية من باب الإخبار بالمغيبات بالنسبة للمسلمين في هذه الأيام ، وما دمنا على هذا الحال فنحن الظالمون ، الذين نتبع خطوات الشيطان ونقلده ، مع أنه العدو اللدود الظاهر في العداوة ، والله يقول لنا : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

فإن ملتم عن الحق وابتعدتم عن الإسلام من بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات ، فاعلموا أن الله غالب على أمره ولا يعجزه الانتقام منكم ، حكيم لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المذنب. ويقول كثير من المفسرين : هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر ، ومالوا عن الحق بعد ظهوره.

ألسنا أولى منهم بهذه الآيات نطبقها على أنفسنا؟ ونعتقد أن ما نحن فيه من الاستعباد والضعف جزاء ترك العمل ببعض أحكام الدين المهمة في تكوين الجماعة وتشييد أركانها.

ما ينتظر هؤلاء الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم عذاب الله وأمره من حيث ينتظرون الخير تنكيلا بهم وتشديدا عليهم ، وتأتيهم الملائكة بما قدره الله وأراده لهم ، وقضى الأمر وإلى الله لا إلى غيره ترجعون يوم القيامة.

سل يا محمد بنى إسرائيل تبكيتا وتقريعا عن المعجزات الدالة على صدقك وعن الآيات التي جاءت على أيدى الرسل الكرام السابقين خاصة موسى وعيسى فإنها كثيرة ، ومن يغير نعمة الله التي توصل إلى الهداية والخير. فيستعملها في الكفر والعصيان من بعد ما جاءت إليه ووضحت عنده ، لا جزاء له إلا العقاب الصارم ، فالله شديد العقاب.

حسنت الدنيا في أعين الكفار ، وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها ، وفتنوا بها أيما فتنة ، وهم يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون بهم ، مع أن الذين آمنوا واتقوا الله فوقهم يوم القيامة ، إذ هم في أعلى عليين والكفار في أسفل سافلين ، هذا هو الجزاء

١٢٦

في الآخرة ، أما الدنيا فليست محل جزاء بل محل ابتلاء واختبار وعمل ، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء. ولذا فالله يبسط الرزق لمن يشاء ولو كان كافرا فاسقا ، ويقتر الرزق على من يشاء ولو كان مؤمنا طائعا ، فهو يرزق من يشاء بغير حساب ولا نظر إلى دينه.

الحاجة إلى الرسل

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)

المفردات :

الأمّة : الجماعة من الناس ، وقد تطلق على الملة. (بَغْياً) : حسدا.

المعنى :

يقول الله ـ سبحانه ـ ما معناه ـ وهو الأعلم بمراده ـ : كان الناس يعيشون بفطرتهم في هذه الدنيا يحدوهم عقلهم ، وتسوقهم رغباتهم وغرائزهم البشرية ، إلى سكنى الدنيا وعمارتها ، وهذا الحال يقتضى التنازع والتدافع والخروج عن جادة الطريق والاختلاف ، فتسوء حالهم ، فينعم الله عليهم بإرسال مبشرين ومنذرين يخرجونهم من الظلمات إلى النور لئلا يكون للناس على الله حجة بعد إرسال الرسل ، وأنزل مع كل

١٢٧

واحد منهم ممن له كتابه الخاص به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق ، ومن هنا نعلم أن العقل وحده لا يكفى في إدراك الخير والاهتداء إلى الحق ، ولذا أرسلت الرسل.

أنزل الله الكتاب على الرسول متلبسا بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور دنياهم ودينهم ، وما اختلف في الحق أو في الكتاب إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الخلاف وإزاحة الشقاق ، فاختلفوا فيه اختلافا آخر أو ازدادوا اختلافا ، كل هذا من بعد ما جاءتهم البيّنات الواضحات ، وما اختلفوا إلا حسدا وبغيا منهم ، أما الذين آمنوا وعملوا صالحا من أنفسهم فيهديهم ربهم للذي اختلفوا فيه من الحق بإذنه وإرادته ، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

ما يلاقيه الرسول والمؤمنون في دعوتهم

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤)

المفردات :

(أَمْ) معناها : بل التي تفيد افتتاح كلام جديد. (الْبَأْساءُ) : الفقر وكل ما يصيب الإنسان في غير ذاته. (الضَّرَّاءُ) : المرض وكل ما يصيب الإنسان في نفسه. (زُلْزِلُوا) : أزعجوا بأنواع البلايا.

المعنى :

خوطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين بهذه الآية حثّا على الثبات والمصابرة على مخالفة الكفار ، وتحمل المشاق إثر اختلاف الأمم على الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مع بيان عاقبة الصبر.

١٢٨

أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين مضوا من قبلكم من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين؟ ـ فأنتم لم تبتلوا مثل ابتلائهم ، مستهم الشدة والخوف والفقر والألم والأمراض ، وأزعجوا إزعاجا شديدا حتى اضطرهم الألم الممضّ إلى أن يقول الرسول ـ وهو أعلم الناس بالله ـ تعالى ـ وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون به المقتفون أثره ـ متى يأتى نصر الله؟ حيث نفد صبرهم من هول ما لاقوا ، فأجيبوا : ألا إن نصر الله قريب الحصول!! وهكذا كل قوم لهم دعوة ومنهج لا بد أن يبتلوا ويختبروا ، ويمتحنوا ، وفي هذا كله خير لهم وأى خير؟ (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) (١).

النفقة وأحق الناس بها

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)

المفردات :

(مِنْ خَيْرٍ) : من مال كثير طيب.

المعنى :

سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مقدار ما ينفقون وعن بيان الجهة التي ينفقون فيها ، والمراد هنا : نفقة التطوع لا الزكاة الواجبة ، أما الجواب عن الشق الأول من السؤال فهو : أى مقدار تنفقونه كثيرا أو قليلا من المال فهو لكم وثوابه خاص بكم ، وعن الشق الثاني أنه يعطى للوالدين والأولاد لأنهم القرابة القريبة وكذا الأقارب ، ويكون التفضيل في الإعطاء والترتيب للأقرب فالأقرب ، واليتامى والمساكين وابن السبيل يعطون من المال وما تنفقوا من خير مطلقا فإن الله سيجازى به لأنه عليم بكل شيء.

__________________

(١) سورة آل عمران ١٤١.

١٢٩

حول القتال في الإسلام

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)

المناسبة :

إن ذكر القتال بعد الإنفاق للمال ظاهر المناسبة فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال ، وعلى كل مسلم ضريبتان الدم والمال.

١٣٠

المعنى :

فرض عليكم القتال لمن اعتدى عليكم من المشركين ، وهو مكروه لكم لأنكم تخافون إن دارت رحى الحرب بينكم وبينهم أن يفتك القتل بكم ، وأنتم الطائفة القليلة العدد التي تحمل لواء العدل والحق في هذه الجزيرة ، وقيل في تعليل كراهيتهم للقتال : إن الإسلام أوجد في قلوبهم رأفة ورحمة وروحانية تبغض القتل والقتال الذي دعوا إليه وهم يرجون أن يثوب الكفار إلى رشدهم ، وأن يصل نور الإسلام قلوبهم بالحجة والبرهان.

فيا أيها المؤمنون لا يصح منكم أن تكرهوا الحرب والقتال لهذا السبب أو ذاك ؛ فعسى أن تكرهوا شيئا والواقع أنه خير لكم ، إذ في الحرب إعلاء لكلمة الإسلام ودفع الظلم ورفع لمنارة الحق والعدل ، وعسى أن تحبوا شيئا والواقع أنه شر عليكم مستطير.

فالذي فرض عليكم القتال هو العليم بالنفوس التي ختم على قلبها وعلى سمعها وعلى بصرها غشاوة ، فهؤلاء لا ينفع معهم إلا الإبادة والإزالة شأن الدم الفاسد في الجسد لا ينفع معه إلا عملية الإزالة ، وهذا خاص بقتال المشركين الذين فتنوهم عن دينهم وقاتلوهم ، لا في قتال الكفار مطلقا.

والله يعلم وحده وأنتم لا تعلمون.

بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية على رأسها عبد الله بن جحش بكتاب منه : امض حتى تنزل بطن نخلة فتأتينا من أخبار قريش ما يصل إليك. وكان ذلك في جمادى الثانية وصادف أن مر بهم عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان وغيرهم مع عير تحمل تجارة لقريش ، فائتمر بالعير عبد الله بن جحش ومن معه وقتلوا ابن الحضرمي وآخر وأسروا رجلين واستاقوا العير ، وفي الواقع أنهم قتلوا ظنا منهم أنهم في آخر جمادى لا في أول رجب.

فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، وأوقف توزيع الغنيمة. وفي هذا حصل هرج ومرج ، واستغل المشركون هذا الحادث في الدعاية ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت الآية.

١٣١

إن يسألوك عن القتال في الشهر الحرام هل هو حلال أم حرام؟ فقل لهم : نعم القتال فيه كبير الإثم والجرم ، ولكن اعلموا أن صد الكفار عن سبيل الله وطريقه الموصل إلى الإسلام بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم ، نعم صدهم عن سبيل الله كفرهم به وصدهم عن المسجد الحرام ومنع المسلمين من الحج والعمرة وإخراج أهله منه ، وهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

كل واحدة من هذه الجرائم التي فعلها المشركون أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام فكيف بهم وقد فعلوها كلها؟

ألم تعلموا أن الفتنة أشد من القتل؟! وما حوادث التعذيب والفتنة التي فعلوها مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم ببعيدة عن الأذهان!! هذا بعض ما كان من المشركين قبل الهجرة وبعدها ، وصاروا يقاتلونهم لأجل الدين ويحرضون القبائل ضدهم (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) إن مكن لهم واستطاعوا فهم يريدون ردّتكم وفتنتكم عن الإسلام ، ولكن اعلموا أن من يدخل في الإسلام ثم يخرج مرتدا ويموت فهو كافر بالله وأشد من المشرك ، وأولئك الموصوفون بالردة البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم وصارت هباء منثورا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، هذا جزاء الكافرين المرتدين.

وأما جزاء المجاهدين في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأضرابه فها هو ذا :

إن الذين آمنوا بالله ورسله وفارقوا الأهل والأوطان لإعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ولحقوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاهدوا في الله مع ذلك حق جهاده.

أولئك المذكورون البعيدون في درجات الكمال قد فعلوا ذلك رجاء رحمة الله ، فالله يكافئهم ويجازيهم أحسن الجزاء ، وهو يغفر لهم بعض الزلل ويرحمهم بفضله وإحسانه وهو الغفور الرحيم.

١٣٢

الخمر والميسر وحكمهما

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)

المفردات :

(الْخَمْرِ) هذا اللفظ منقول من مصدر خمر الشيء : إذا ستره وغطاه ، وخمرت الجارية : ألبستها الخمار ، وهو النّصيف ، أى : غطاء الوجه ، والمناسبة في إطلاق هذا اللفظ على الشراب المخصوص أنه يستر العقل ويغطيه ، وقيل : سميت خمرا لاختمارها وتغير رائحتها ، والخمر : يطلق على عصير العنب والتمر والذرة وكل نبات ينتج ذلك المشروب.

(الْمَيْسِرِ) : كان للعرب في جاهليتها أقداح وأزلام عشرة ، سبعة لكل منهما نصيب معلوم ، وثلاثة لا نصيب لها ، يجعلون العشرة في كيس يجلجلها عدل منهم ويدخل يده فيخرج منها الأقداح ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يشترك معهم ، فهذا هو الميسر عند العرب. (الْعَفْوَ) : الفضل والزائد عن الحاجة للإنسان ومن يعوله سنة على الأصح.

المعنى :

يجيب الله ـ سبحانه وتعالى ـ على الأسئلة الواردة من الصحابة سؤالا تلو سؤال تبعا للوقت المناسب للإجابة.

١٣٣

والخمر قد نزلت فيه آيات أربع تدرجت بالعرب حتى وصلت إلى آية التحريم ، وعالج الله الحكيم في هذه الآيات داء عضالا ، علاجا يشهد بإعجاز القرآن حقّا ، والمشاهد أن القرآن عند ما يعالج مرضا اعتقاديا أو عمليا ليس فيه للعادة مدخل يعالج كالشرك والزنى مثلا فإن كان للعادة فيه مدخل كالخمر مثلا تدرج فيه. أولى الآيات : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل ٦٧] ولقد سألني سائل عن سر وضع هذه الآية في تحريم الخمر ، والجواب أنه وصف الرزق بالحسن وترك السكر. وفي ذلك إيهام بأن السكر ليس فيه خير ، وهذا تنبيه للناس بعيد ، ثانيا آياتنا هذه : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فشربها قوم وامتنع بعدها آخرون ، ثالثا : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [سورة النساء آية ٤٣].

فامتنع الصحابة عن شربها وقت الصلاة ، والصلاة أوقاتها الخمسة تشمل أغلب النهار وجزءا من الليل ، ولكن مع هذا حدثت حوادث بسبب شرب الخمر أم الخبائث ، مما دعا عمر أن يقول : اللهم ربنا أنزل لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية الرابعة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [سورة المائدة الآيتان ٩٠ و ٩١].

وإطلاق اللغويين الخمر على كل ما خامر العقل ، أى : ستره ، وفهم الصحابة مدلول (الخمر) وهم أدرى باللغة والقرآن ، على أنها تطلق على المسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره ، ولما ورد في السنة : «كلّ مسكر خمر ، وكلّ خمر حرام» و «ما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام» يجعلنا مع القائلين بهذا الإطلاق خلافا لبعض الأحناف الذين يطلقون الخمر على عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبدة ، أما غيره فإذا طبخ حتى ذهب ثلثاه حل شربه ما دون السكر (أى : القليل إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب).

على أن تحريم الخمر كان بالمدينة وكان المشروب نبيذ البر والتمر.

والميسر كما عرفته آنفا.

أما الخمر ففيها إثم كبير : مهلكة للمال ، مذهبة للعقل مضيعة للصحة ، أم الكبائر ، يكفى أنها تسوى بين الإنسان والحيوان الثائر ، وقد أثر الطب ضررها وبعض الدول المسيحية حرمها.

١٣٤

وفي الميسر إثم كبير : غرم مجهد ، وعداوة بلا سبب ، وحقد وكراهية ، وضياع للوقت فيما يضر ، وصرف للعقل عن جادة التفكير ، ومع ذلك فهو داع للكسل والخمول.

وفيهما منافع للناس ففي الخمر ربح وتجارة لمن يتاجر فيها ، وفي الميسر يسار وغنى طارئ من غير تعب ولا مشقة ، وإن يكن لا بركة فيه ، وإثمهما أكبر من نفعهما بكثير جدا بدليل تحريمهما.

وقد أجيبوا عن سؤال النفقة بأنهم ينفقون الزائد عن حاجتهم ، وبعد معرفة ما ينفقه الإنسان عن نفسه ومن يعوله من غير إفراط ولا تفريط ، هذا في النفقة المندوبة والتي يجوز للحاكم الإسلامى العادل أن يفرضها على الأغنياء بشرط أن تنفق على فقراء المسلمين إذا دعت الضرورة بذلك.

مثال ذلك البيان في تحريم الخمر والميسر ووجوب الإنفاق فيما فضل عن الحاجة يبين الله الآيات الواضحات في الدستور القرآنى التي تكفل السعادة للمجتمع في الدنيا والآخرة لو تفكر الناس ونظروا بعين البصيرة والفكر السليم.

ما يؤخذ من الآية :

١ ـ كل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع المال والصحة وتقضى على الشخصية فهي حرام كالخمر ، وذلك كالأفيون والحشيش ، وكل مادة يخترعونها فيها هذا الهلاك.

٢ ـ كل لعب فيه غرم بلا عوض وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق فهو حرام كالميسر ، وعلى ذلك فالقمار ولعب الموائد والسباق على اختلاف أنواعه حرام كالميسر ، وأوراق اليانصيب كذلك ؛ لما يترتب عليها من ضياع المال أو كسب من غير طريق شرعي مع ما فيه من الضرر الممنوع شرعا.

١٣٥

الولاية على مال اليتيم

فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)

المفردات :

(اليتيم) : من فقد أباه. (تُخالِطُوهُمْ) : تخلطوا أموالكم بأموالهم.

(لَأَعْنَتَكُمْ) العنت : المشقة والإحراج.

المعنى :

كان العرب يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ، ولما نزل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ) [سورة النساء آية ١٠].

تحاشى الصحابة عن اختلاط أموالهم بأموال اليتامى وجنبوها وحدها ، وكان في ذلك ضرر لمال اليتيم في بعض الأحوال ؛ لذلك سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيخالطونهم أم يجنبون أموالهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجيبا : إن كان في التجنب إصلاح لأموال اليتامى فذلك خير ، وإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة فذلك خير لأنهم إخوانكم في الدين والنسب ، فعليكم أن تراعوا أموالهم بالإحسان ، فالله ـ سبحانه ـ يعلم المحسن من المسيء وسيجازى كلّا على عمله.

ولو شاء الله أن يضيق عليكم ويشدد بأنه يوجب التجنب أو المحافظة لفعل ذلك ولكنه ينظر لمصلحة اليتيم ، ولا يشدد عليكم ، وهو العزيز لا يغالب ، الحكيم في أحكامه وتصرفاته جل شأنه.

١٣٦

زواج المسلم بغير المسلمة

وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)

المفردات :

(المشركة) : من ليس لها كتاب.

روى أن مرثد بن مرثد أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة في مهمة فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة اسمها عناق ، وكانت خليلة له فأتته وقالت ألا تخلو؟ فقال : ويحك إن الإسلام فرق بيننا ، فقالت : ألا تتزوج؟ فقال : نعم بعد استئذان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية.

والعلامة السيوطي يقول : إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ويريدون توضيح معناها ، أى : إن معناها يتناول أمثال ما ذكر ، وإن ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها ولذا نراهم يذكرون حادثة أخرى في سبب النزول ، وكل ما ذكر يدور حول الآية الكريمة.

المعنى :

ينهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ المسلم عن أن يتزوج المشركة التي لا كتاب لها حتى تؤمن بالله ورسوله ، ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وضعف الشخصية خير من امرأة مشركة أعجبتك بمالها وجمالها وحسبها ونسبها ، ولو لم تعجبك فالنهي عنها من باب

١٣٧

أولى ، ولا تزوجوا المؤمنات ـ سواء كن حرائر أو إماء ـ المشركين حتى يؤمنوا ويتركوا ما هم عليه من الشرك ، والعبد المؤمن ـ حرا كان أو رقيقا ـ خير من مشرك مع ما له من العز والجاه أعجبكم بما له من فضل أو لم يعجبكم.

والسر في التحريم أن أولئك المشركين يدعون إلى الكفر وكل ما هو شر يوصل إلى النار ؛ إذ ليس لهم دين يردعهم ، ولا كتاب يهديهم ، مع منافاة الطبيعة بين الاثنين فهذا قلب فيه نور وذاك قلب فيه ظلام وضلال.

والله يدعو بوساطة عباده المؤمنين الذين ينهاهم ويرشدهم إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها ، وإلى المغفرة بإذنه وبإرادته ، وقد بين الله ـ سبحانه ـ آياته وأحكامه النافعة للمسلمين في دنياهم وأخراهم ، ومن هذه الآيات التي نحن بصددها يبينها للناس لعلهم يتذكرون ويتعظون فلا يخالفون أمره أبدا ولا يجرون وراء الشيطان.

ما يستنبط :

١ ـ المرأة المشركة لا يصح بحال التزوج منها أما الكتابية كاليهودية والنصرانية فقد أباح الشرع التزوج بها.

٢ ـ فرق الشرع الشريف بين نكاح المسلم للكتابية حيث أجازه وبين نكاح الكتابي للمسلمة حيث منعه.

ولعل السر في ذلك أن الرجال قوامون على النساء ولهم التأثير عليهن ، والمرأة عاطفية ، فلو تزوج الكتابي مسلمة أمكن التأثير عليها فربما تركت دينها ، وغالبا يلحقها ضرر وإيذاء منه لأنه لا يؤمن بكتابها ولا نبيها ، وأما المسلمون فيؤمنون بعيسى على أنه نبي وبكتابه ، على أن أصله من عند الله ، وعلى العكس لو تزوج المسلم الكتابية ورأت حسن المعاملة التي يأمر بها الإسلام وسماحة الدين وخالطت الإسلام عن قرب كان ذلك مدعاة لتصورها الإسلام على حقيقته ، والمسلمون مأمورون بالإحسان إلى الزوجات في المعاشرة وأنه لا إكراه في الدين فلا ضرر يلحقها ، ولا تنس أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، والعزة تأبى علينا أن تكون المسلمة تحت كتابي مهما كان.

وأما الفرق بين المشركة والكتابية فظاهر إذ نحن مع الكتابيين نؤمن بالله والحياة الأخروية وندين بوجوب عمل الخير والبعد عن الشر.

١٣٨

الحيض وحكمه

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)

المفردات :

(الْمَحِيضِ) : الحيض ، وهو دم فاسد يخرج من رحم المرأة كل شهر ، أقله يوم وليلة ، وغالبه ستة أو سبعة ، وأكثره خمسة عشر يوما ، وله أحكام في كتب الفقه كثيرة. (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) : كناية عن عدم الجماع. (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) : في المكان المأمور به وهو القبل لا الدبر. (حَرْثٌ لَكُمْ) : موضع حرثكم.

المعنى :

كان اليهود يتشددون في معاملة الحائض فيعتزلونها في الأكل والشرب والنوم ، وإذا لامسها أحد تنجس ... إلخ. وكانت النصارى لا تفرق بين الحيض وغيره ، فكان هذا داعيا لتساؤل المسلمين عن الرأى الوسط والحل الرشيد ، فأجيبوا من الله : أن الحيض أذى يضر الرجل والمرأة على السواء ، والطب يشهد بهذا ، فاحذروا الجماع فقط في الحيض ولا حرج عليكم في غير الجماع ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اصنعوا كلّ شيء إلّا الجماع» وسئل الرسول : «ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض؟ فقال : لك ما فوق الإزار».

١٣٩

ولا تقربوهن حتى يطهرن من الحيض فإذا تطهرن باغتسال فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله به ، وهو القبل لأنه محل استيلاد الولد واستبانته ، بعكس الدبر ، إن الله يحب التوابين الذين يتوبون عن فعلهم المخالف للشرع لأن عادة إتيان النساء في الدبر وفي الحيض قد تسربت عند البعض ، والله يحب المتطهرين الذين يتطهرون من دنس الفواحش وارتكاب المعاصي ، ومن كل دنس مادى كالحيض والنفاس.

نساؤكم الطاهرات من الحيض مواضع حرثكم ، فالنطفة التي تلقى في الرحم أشبه شيء بالبذر الذي يلقى في الأرض المحروثة ، والشارع الحكيم يشير بلفظه الموجز البليغ (حَرْثٌ) إلى أن المقصود من النكاح هو الاستيلاد لا اللذة البهيمية فوجب العناية به ، ومن هنا وضع قوله ـ تعالى ـ : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) إذ في غير القبل لا يمكن الاستيلاد.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) معناه : لا حرج عليكم في إتيان النساء بأى كيفية شئتم ما دام في القبل الذي هو موضع الحرث.

وقدموا لأنفسكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم واتقوا الله ، واعلموا أنكم ملاقوه فمجازيكم على عملكم ، وبشر يا محمد المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله بالجنة.

الحلف بالله

وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)

المفردات :

(عُرْضَةً) : هي المانع المعترض دون الشيء ، وعلى هذا فالمراد بقوله : (لِأَيْمانِكُمْ) : ما حلفتم عليه من البر والتقوى والإصلاح بيّن. (بِاللَّغْوِ) : هو

١٤٠