التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود ، وإنما البر شيء آخر ليس في تولية الوجه جهة المشرق والمغرب ، إنما هو إيمان بالله ورسوله إيمانا قلبيا صادقا كاملا مقرونا بالعمل ، إيمان تطمئن به القلوب وتهدأ به النفوس ، إيمان يحول بين النفس ودواعي الشر ومزالق الشيطان ، فإذا وقع في المحرم سارع إلى التوبة الصادقة.

فالبر : الإيمان الكامل بالله واليوم الآخر على أنه محل للجزاء والثواب ، فيكون هذا أدعى للقرب من الرحمن والبعد عن الشيطان ، والإيمان بالملائكة على أنهم خلق من خلق الله سفراء بينه وبين رسله حملة الوحى وسدنة العرش ، دأبهم الطاعة ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

والإيمان بالكتاب المنزل سواء كان زبورا أو توراة أو إنجيلا أو قرآنا يؤمن بما فيه كله لا يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض كما يفعل أهل الكتاب.

والإيمان بالنبيين جميعا لا فرق بين نبي ونبي.

هذا أساس الاعتقاد الصحيح والإيمان الكامل ، ثم لا بد معه من عمل يهذب النفس ويقوى الروح ويربط المجتمع برباط الألفة والمحبة والاتحاد والتعاون ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى الأمور العملية فيما يأتى :

إيتاء المال المستحق مع حبه له كما قال ابن مسعود : «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت : لفلان كذا» نعم إيتاء المال مع حبه ذوى قرباه عصبا أو رحما لأنهم أحق من غيرهم ما داموا محتاجين : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وآتى اليتامى الذين فقدوا آباءهم ولا عائل لهم إلا الله ، وآتى المساكين ، والفقراء من باب أولى ، وأعطى ابن السبيل الذي انقطع به الطريق حتى كأنه لا أب له ولا أم إلا الطريق ، وآتى السائلين الذين يسألون بدون إلحاف مع الحاجة إلى المال : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أما من يتخذ السؤال حرفة ويجمع بسببه المال فلا يعطى ، بل إن كان صغيرا أو قادرا على العمل ذكرا كان أو أنثى كان على الحكومة أن توجد له عملا ، وبدل أن تعطيه قرشا ويظل فقيرا ساعده على إيجاد عمل له.

ومن البر العملي إنفاق المال في الرقاب الأسيرة بالرق أو الأسيرة بالحرب ؛ بأن يعين

١٠١

من يريد الخلاص : بماله أو جاهه ، فالدين شغوف جدّا بالحرية الكاملة لكل فرد ، ولكل أمة.

ومنه إقامة الصلاة كاملة مقومة تامة الأركان والشروط مع الاستحضار القلبي الذي يبدأ بقولك : الله أكبر ، وينتهى بالسلام.

ومنه البر والوفاء بالعهد ؛ فإنه من آيات الإيمان ، وضده من آيات النفاق كما ورد : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان».

ونهاية الصفات وأعلى درجات البر والإيمان : الصبر : في البأساء والضراء وحين البأس ، فالصبر نصف الإيمان ، بل الدليل على الإيمان الكامل أن يصبر الإنسان ويحتسب أجره عند الله في الفقر وشدته ، والضر وإصابته ، وحين القتال وقوته ، ولا شك أن هذه هي المواقف التي يظهر فيها الإيمان الكامل.

أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في الإيمان ، وأولئك البعيدون في درجة الكمال ، هم المتقون عذاب الله الفائزون بثوابه.

حق الله في المال

الله ـ سبحانه وتعالى ـ جمع في هذه الآية صورتين للإنفاق : صورة فيها إعطاء لمال محددا معينا على كيفية مخصوصة ، وهو ما يعبر عنه بالزكاة المقيدة (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ).

وصورة أخرى وهي إعطاء المال من غير تقييد ولا تحديد بل ترك تقييده وتحديده لحال الأمة ، وهو ما عبر عنه : (آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) ويسمى بالزكاة المطلقة ، وفي هذا إشارة إلى أن المال يتعلق به حق معلوم ، وآخر يترك للظروف وما تستدعيه الحال.

أليس هذا علاجا للأزمات النفسية التي بين الفقراء والأغنياء ، أليس هو الدواء الناجع لبطر الأغنياء وشحهم بالمال؟ أليس معناه أن هناك حقا في يد الحاكم يفرضه على الأغنياء للفقراء حتى تهدأ نفوسهم وتسكن؟ أليس الدين بهذا قد حل المشكلة من ثلاثة عشر قرنا : المشكلة بين الرأسمالية والشيوعية!!

١٠٢

ألا يا قوم والله لا خير إلا في هذا الدين فإنه دواء من حكيم عليم ، في الرأسمالية عيوب لا تحصى ، وفي الشيوعية عيوب لا تحصى ، ولكن الحال الوسط والرأي المعتدل في الجمع بين الناحيتين بلا إفراط ولا تفريط (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران آية ١١٠].

القصاص وأثره

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)

المفردات :

(الْقِصاصُ) والقود : هو أن يفعل بالجانى مثل ما يفعل بالمجني عليه. (فِي الْقَتْلى) : بسبب القتلى. (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) : فمن عفى له من أخيه وهو ولى الدم شيء من العفو. (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) : فليكن اتباع للجاني بالمعروف من غير شطط. (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) : وتأدية من جهة الجاني إلى المجنى عليه من غير تعب ولا مماطلة.

سبب النزول :

كان بين حيين من العرب نزاع وقتال ، وكان أحدهما يتطاول على الآخر فحلف ليقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، واحتكموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية.

١٠٣

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم القصاص بسبب القتلى ، يقتص من القاتل بمثل ما فعل مع ملاحظة الأوصاف ، فيقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وقد بينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى ، أما الحر بالعبد ففيه خلاف : فالشافعي ومالك أن الحر لا يقتل بالعبد أخذا بهذه الآية. ويقولون : إنها مفسرة لما أبهم في آية المائدة : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) (١) وعند أبي حنيفة هذه الآية منسوخة بآية المائدة ، القصاص ثابت بين العبد والحر والذكر والأنثى بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (٢) والجماعة تقتل بالواحد باتفاق (٣).

ويشترط في القصاص التوافق في الدين فلا يقتل المسلم بالكافر ، وهذا الحكم عند ما يحتكمون إلى القاضي ، وإلا فلوليّ الدم أن يعفو عن القصاص ويأخذ الدية أو يعفو عنهما معا ، بل إذا عفا الولي عن بعض الدم للقاتل ، أو عفا بعض الورثة عن القصاص سقط ووجبت الدية ، وعندئذ يطالب بها بالمعروف من غير شدة ولا عنف ، وعلى القاتل الأداء بالمعروف من غير مماطلة ولا تسويف.

وجواز القصاص والدية والعفو عن كليهما تخفيف من الله لنا ورحمة بنا ، فمن اعتدى بعد ذلك بأن يطالب بالقصاص والدية. أو إذا طولب القاتل بالدية ماطل واعتدى. فلمن فعل هذا نوع من العذاب مؤلم غاية الألم.

ولكم في القصاص حياة عظيمة للجماعة ، تشيع فيها الطمأنينة والهدوء والسكينة فكل شخص يعرف أنه إذا قتل غيره قتل فيه امتنع عن القتل ، فيحيا القاتل والمقتول وهذا القصاص يمنع انتشار الفوضى والظلم في القتل ، وهو سبب في منع الجرائم والحزازات ، وحدّ للشر وسلّ للسخيمة.

وهذه العبارة أبلغ من قول العربي : (القتل أنفى للقتل) وأدل على المقصود وأظهر في الموضوع ، وكل قصاص فيه حياة سامية ، والقتل إذا كان فيه عدل كان أنفى للقتل ، وإن كان فيه ظلم يكون أدعى للقتل.

__________________

(١) سورة المائدة آية ٤٥.

(٢) أخرجه الترمذي وغيره كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث رقم ٢١٢٢ وقال حسن صحيح.

(٣) أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب الوصايا ص ٢٧٣٨.

١٠٤

الوصية

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

المفردات :

(الْوَصِيَّةُ) : أن يوصى من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه. (بَدَّلَهُ) : غيّره. (جَنَفاً) : ميلا عن الحق والعدل. (خَيْراً) : المراد : المال الكثير كما فسرته السيدة عائشة.

المعنى :

فرض الله عليكم فيما فرض : إذا أشرف أحدكم على الموت ، وقد ترك مالا كثيرا أن يوصى للوالدين والأقارب وصية عادلة ، فلا يزيد على ثلث ماله.

ولا يفضل غنيا لغناه ، ويعدل في الوصية فلا يميز أصلا إلا لضرورة كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم ، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والنزاع بين الورثة ، فمن غيّر الوصية بعد ما سمعها وشهد عليها فإنما ذنب هذا التغيير عليه ، والله سميع لكل قول عليم بكل فعل ، فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه ، فمن علم من موص ميلا عن الحق خطأ أو عمدا. فله أن يصلح بين الموصى والموصى له أو بين الورثة والموصى لهم ؛ بأن يجعل الوصية شرعية عادلة لا ظلم فيها ، ولا ذنب عليه في ذلك والله غفور رحيم.

١٠٥

ملاحظة :

هذه الآية منسوخة بآية المواريث وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» بقي الأقارب غير الوارثين يستحب أن يوصى لهم من الثلث استئناسا بهذه الآية ولشمولها وتوكيدها ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه».

الصيام وفرضه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)

١٠٦

المفردات :

(الصِّيامُ) في اللغة : الإمساك ، وفي عرف الشرع : إمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس احتسابا لوجه الله. (يُطِيقُونَهُ) لا يقال : هو يطيق حمل نواة أو ريشة وإنما هو يطيق حمل قنطارين من الحديد مثلا إذا كان يحملها بمشقة وشدة ، فالذين يطيقون الصوم هم الذين يتحملونه بمشقة وجهد ، ويؤيد هذا قراءة يطوقونه ، وذلك كالكبير المسن والحامل والمرضع والعامل في العمل الشاق الشديد وهو مضطر إليه. (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) : لتعظموه وتشكروه.

المعنى :

الصيام رياضة روحية ، وعمل سلبي للنفس ، وتهيئة للتقوى بالمراقبة في السر والعلن ، وتربية للإرادة ، وتعويد للصبر وتحمل المشاق ، ولذا قيل : الصوم نصف الصبر ، وهو شاق على النفس حقيقة ، شديد عليها أن تحرم مما في يدها ، ولذا نرى القرآن الكريم يتلطف في الأمر منه.

إذ ناداهم بوصف الإيمان المقتضى للامتثال والمسارعة فيه ، ثم قال : إنه فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم من الأمم ، فاقبلوه كما قبله غيركم ، ثم هو مطهرة للنفس ومرضاة للرب فرضه عليكم لعلكم به تتقون الله ، وهو أيام معدودات قلائل في العام شهر واحد : «لو علمت أمتى ما في رمضان من الخير لتمنت أن يكون السنة كلها» (١).

وليس واجبا إلا على القادر والمستطيع الصحيح ، وأما المسافر والمريض فلا حرج عليهما في الفطر ؛ لأن المرض والسفر مشقة والمشقة تجلب التيسير ، وعليهما القضاء ، ولم يحدد القرآن السفر ولا المرض لأن هذا يختلف باختلاف الأحوال ، ولو علم الله خيرا في التحديد لحدد ، ولكنه متروك لضميره ودينه.

وقيل : السفر الذي يصح فيه الفطر وقصر الصلاة قدر بحوالى ثمانين كيلو مترا.

ومن يتحمل الصوم بمشقة شديدة كالشيخ المسن والمريض مرضا مزمنا لهما الفطر وعليهما الفدية ، وهي طعام المسكين يوما من القوت الغالب الشائع في البلد ، والحامل

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى والطبراني وغيرهما مجمع الزوائد ٣ / ١٤١.

١٠٧

والمرضع إن خافتا على أولادهما فقط لهما الفطر ، وعليهما القضاء والفدية ، وإن خافتا على أنفسهما ولو مع أولادهما لهما الفطر ، وعليهما الفدية أو القضاء.

فمن تطوع وأطعم أكثر من مسكين لليوم الواحد فهو خير له وأحسن.

وصيامكم أيها المتحملون للصوم بمشقة خير لكم إن كنتم تعلمون أن الصوم خير وأجدى.

ثم أراد القرآن أن يحببنا في الصوم أكثر فقال : هذه الأيام القليلة هي شهر رمضان ، وهو شهر مبارك ميمون ، فيه ابتدأ الله نزول القرآن الذي هو هدى للناس وآيات بينات واضحات لا غموض فيها من جملة ما هدى الله به وفرق بين الحق والباطل.

وبعضهم فسر نزول القرآن في شهر رمضان ، وأنه أنزل في ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر. بأن القرآن نزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وليلة القدر في شهر رمضان.

أما وقد ظهر أن الصوم نعمة من الله وتكليف لمصلحة العباد ، فمن حضر منكم الشهر وهو سليم معافى لا عذر له من سفر أو مرض فالواجب عليه الصيام ، إذ هو ركن من أركان الدين ، ثم أعاد الله الرخصة في الإفطار مرة ثانية خوفا من أن يفهم الناس بعد هذا الواجب الصريح : (فَلْيَصُمْهُ) أنه لا يجوز الفطر لعذر وخاصة بعد هذه المرغبات الكثيرة.

شرع لكم الرخصة في جواز الإفطار مع العذر الشرعي لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وأمركم بالقضاء والفدية لأنه يريد أن تكملوا عدة هذا الشهر ، وإنما أباح الفطر مع الفدية أو القضاء ، وعلمنا كيف نخرج من الحرج مع الوفاء ، لنكبر الله ونعظمه ونشكره على تلك النعم ، وفقنا الله للخير.

١٠٨

بعض أحكام تتصل بالصيام

وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)

المفردات :

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) : فليلبّوا دعوتي إياهم للإيمان. (يَرْشُدُونَ) : يهتدون. (الرَّفَثُ) : الفحش من الكلام ، أو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، أطلق على الجماع لأنه لا يخلو منه غالبا. (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) : الزوجان كل منهما لباس للآخر لأنه يستر صاحبه كما يستر اللباس ويمنعه من الفجور. (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) : تخونونها.

١٠٩

المعنى :

١ ـ روى أن أعرابيا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه؟ فنزلت الآية. ولا تنس الحكمة في وضعها بعد آيات الصوم ..

سبب النزول :

وإذا سألك يا محمد عبادي عنى فإنى قريب منهم أعلم أعمالهم ، وأرقب أحوالهم وهو تمثيل لحالة القرب : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أجيب دعوة من دعاني مخلصا لي قد شفع دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله.

وإذا كان الأمر كذلك فليلبوا دعوتي لهم بالإيمان بي ، أجيب دعوتهم وأجازيهم على ذلك أحسن الجزاء لعلهم بهذا يهتدون إلى الخير النافع لهم.

٢ ـ روى أنهم كانوا في بدء الإسلام إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء أو يرقدوا ، فإذا صلوها أو رقدوا حرم عليهم كل هذا ، ثم إن عمر ـ رضى الله عنه ـ باشر زوجته بعد العشاء ، وندم بعد ذلك ندما كثيرا ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما حصل واعترف بالذنب ، فنزلت الآية : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ).

أحل الله لكم في الليلة التي تصبحون فيها صائمين مباشرة نسائكم والاجتماع بهن ، وقد سمى القرآن الجماع رفثا وخيانة لقبح ما حصل منهم قبل نزول الآية.

والحكمة في الترخيص بهذا أن النساء مخالطون للرجال مخالطة الثوب للجسد بل أشد ، كل يستر صاحبه ويقيه من السوء ، وقد علم الله أن صبركم عنهن مع أنهن كاللباس أمر عسير وشاق ، وقد كنتم تخونون أنفسكم بمباشرتهن فتاب عليكم وعفا عنكم ، فالآن جامعوهن ليلا ، وكلوا واشربوا حتى يظهر لكم نور الفجر المعترض في الجو مع ظلام الليل فهو أشبه بالخيط الأبيض مع الخيط الأسود ، ثم أتموا الصيام إلى دخول الليل.

ولا تباشروا نساءكم بالجماع أو اللمس مع الشهوة وأنتم معتكفون في المساجد فإن ذلك يبطل الاعتكاف ، إذ في الاعتكاف لا فرق بين الليل والنهار.

تلك حدود الله ومحارمه التي تشبه الحدود الفاصلة فلا تقربوها فضلا عن تخطيها وانتهاك حرمتها.

١١٠

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا وإن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (١).

مثل ذلك البيان الفاصل يبين الله آياته للناس لعلهم بهذا يهتدون إلى طريق الخير والرشاد.

الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)

المفردات :

(تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) : تلقوا بها إليهم. (بِالْإِثْمِ) : شهادة الزور واليمين الفاجرة أو ما هو أعم من ذلك.

المعنى :

نهانا الله أن نأكل أموال بعضنا بالباطل وبدون وجه حق ، ونهانا أن نلقى بالأموال إلى الحكام مستعينين في ذلك بالدفاع الباطل ، والرشوة التي تعطى لبعض أصحاب النفوس القذرة الحقيرة من الحكام ليصل صاحبها إلى غرضه.

ولا شك أن كثرة التقاضي بالباطل وشيوع الرشوة في الأمة مقبرة لها بل خطرها على الأمة أشد من اليهود.

وكيف يجوز لمسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالإثم والزور والبهتان والرشوة وهو يعلم أنه حرام ولا يأكل في بطنه إلا النار.

واعتبروا أيها الحكام والقضاة والمتخاصمون بقول الرسول الأمين للمتخاصمين :

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب الايمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم ٥٢.

١١١

«إنما أنا بشر مثلكم ، وأنتم تختصمون الىّ ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضى له على نحو ما سمعت ؛ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضى له قطعة من نار» (١) فبكى المتخاصمان وقال كل واحد منهما : حقّى لصاحبي.

اختلاف أشكال القمر

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)

المفردات :

(الْأَهِلَّةِ) : جمع هلال ، وهو القمر في بعض حالاته. (مَواقِيتُ) جمع ميقات ، والوقت : هو الزمن المضروب لأمر من الأمور ، كوقت الصلاة والصيام مثلا ، روى أنهم سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العلة في أن القمر يبدو دقيقا كالخيط ثم لا يزال يكبر حتى يصير بدرا ثم يصغر حتى ينمحى ، وهذا سؤال وجه من بعض الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لا يليق ؛ لأن النبي لم يبعث معلما للرياضة والعلوم الكونية التي منها أسباب أطوار الهلال ، على أن الطاقة العقلية التي كانت موجودة حينئذ تعتبر الكلام في مثل هذا الموضوع ضربا من الجنون ، ولذلك أجيب السائل بما يصح أن يسأل عنه في هذا الموضوع تنبيها له وإرشادا. وليس معنى هذا أن الدين لا يحب البحث ولا العلم ، فالله يقول : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٠١ سورة يونس). إلى غير ذلك من الآيات التي توجب النظر والفكر والتعليم. وإنما القرآن له مهمة جاء لها وهي تكوين الفرد المسلم ذاته وتكوين مشاعره وسلوكه وروابطه وبناء شخصيته وضميره ووجوده

__________________

(١) أخرجه البخاري وغيره كتاب الأحكام باب عن قضى له بحصر أخيه رقم ٧١٨١.

١١٢

على أسس إسلامية سليمة ، وتكوين المجتمع الإسلامى على دعائم قويمة ، ومتى وجدا طالب المسلم بالنظر والعلم والبحث الدقيق ، إذا فليس من مهمة القرآن الكلام في المسائل العلمية وإن أتى بنظريات علمية فهي عارضة ولا تتعارض مع العلم في شيء.

فمن سأل هذا السؤال كمن يأتى البيوت من ظهورها ؛ ولذا كان الجواب على طريقة الأسلوب الحكيم : قل لهم يا محمد : إنها معالم يؤقت بها الناس أعمالهم وتجارتهم ومزارعهم وعبادتهم من صوم وحج وعدة ... إلخ.

والتوقيت بالسنة القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب ، وقد كان أناس من الأنصار إذا أحرموا بالحج لم يدخلوا الدور من الباب فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته وإن كان من أهل الوبر دخل من خلف الخباء ، فقيل لهم : ليس البر هذا ، ولكن البر من اتقى الله وخاف عقابه ، ثم أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها ويتقوا الله في كل شيء رجاء أن يكونوا من المفلحين.

١١٣

القتال في سبيل الله

وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)

المفردات :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) القتال في سبيل الله : هو القتال لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. (ثَقِفْتُمُوهُمْ) : وجدتموهم ، وثقفه : أخذه وظفر به. (الْفِتْنَةُ) : مصدر [فتن الصائغ الذهب والفضة] : إذا أذابهما بالنار ليستخرج الصالح ، ثم استعملت الفتنة في كل اختبار ، وأشده الفتنة في الدين ، والمراد بها : إيذاء الكفار للمسلمين في الحرم وتعذيبهم وإخراجهم من الوطن. (التَّهْلُكَةِ) : الهلاك.

١١٤

سبب النزول :

نزلت الآية في صلح الحديبية ، لما صد المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيت الحرام ، وصالحوه على أن يرجع في عامه القابل ، ويخلوا مكة له ثلاثة أيام للنسك والطواف. فلما كان العام القابل تجهز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا ألا تفي لهم قريش وأن تصدهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم كما فعلوا في العام السابق ، وكره الصحابة قتالهم في الحرم والأشهر الحرم فأنزل الله هذه الآية.

المعنى :

أيها المؤمنون : قاتلوا في سبيل الله فإنى أذنت لكم في قتال المشركين : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [سورة الحج الآية ٣٩]. فإنهم فتنوكم عن دينكم وأخرجوكم من دياركم ، وقاتلوكم ونكثوا عهودهم ، وقاتلوهم على أنه دفاع في سبيل الله للتمكن من عبادته في بيته ، ولتربية هؤلاء المفتونين والمغرورين ، ولا تعتدوا بالقتال فتبدأوهم ، ولا تعتدوا في القتال بأن تقتلوا الصغار والعجزة والشيوخ أو من ألقى إليكم السلاح ، إن الله لا يحب الخير للمعتدين فكيف بمن يعتدى في الحرم والأشهر الحرم؟

اقتلوهم إذا نشب القتال بينكم أينما أدركتموهم على أى حال كما سيأتى في الآية قريبا ، وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم ، وظاهروا على إخراجكم ، أليست فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب ومصادرة الأموال والإخراج من الوطن أشد قبحا من القتال في الحرم؟! إذ لا بلاء أشد على نفس الحر من الإيذاء والاضطهاد لأجل عقيدة تمكنت في قلبه ، واستحوذت على عقله ورأى السعادة في الدنيا والآخرة موقوفة عليها ، وحقا : الفتنة أشد من القتل.

ثم استثنى القرآن الكريم من وجوب قتال هؤلاء المحاربين في كل زمان ومكان قتالهم في المسجد الحرام لأن من دخله كان آمنا ، فإن قاتلوكم فقاتلوهم ، ولا تستسلموا لهم أبدا ؛ فالشر بالشر والبادي أظلم ، وكذلك جزاء الكافرين.

فإن انتهوا عن القتال وكفوا عنه ، أو دخلوا في دين الله ، فإن الله غفور لهم ، رحيم يمحو من العبد ما سلف إذا هو تاب وأناب.

١١٥

فاقتلوهم إذا هم بدءوكم واعتدوا عليكم ، واستمروا في قتالهم حتى لا تكون لهم قوة أصلا تمكنهم من أن يفتنوكم عن دينكم أو يفتنوا غيركم ، واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين خالصا لله لا دخل للشيطان فيه ، وحتى يأمن المسلم في الحرم فيظهر دينه فيكون الدين لله فقط.

وقد كان الكفار بمكة في أمن وطمأنينة يقيمون الباطل ويعبدون الأصنام ، والمسلمون مطرودون منها ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه ولا يجاهر به.

فإن انتهوا بعد هذا فلا اعتداء منكم إلا على من ظلم تأديبا لهم وإصلاحا. وذلك بإقامة الشرع وأحكامه فيهم.

ولقد وضح الله الحكمة في أمر المسلمين بالقتال في الأشهر الحرم بهذه الآية ، وذلك أن المشركين قاتلوهم في ذي القعدة عام الحديبية ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهيتهم القتال في الأشهر الحرم : الشهر الحرام بالشهر الحرام ، وهتكه بهتكه ، والقتال فيه كالقتال في السابق ، والحرمات التي يجب المحافظة عليها واجب فيها القصاص والأخذ بالمثل ، فالممنوع الحرب الهجومية والبدء بالقتال ، أما الدفاع والأخذ بالثأر فليس ممنوعا.

فمن اعتدى عليكم بحرب أو غيره فجازوه بمثله ، واعتدوا عليه اعتداء مماثلا ، واتقوا الله ولا تظلموا ، ولا تعتدوا ، واعلموا أن الله مع المتقين بالمثوبة والتأييد والنصر : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (سورة الحج : ٣٨).

والقتال في سبيل الله يتوقف ـ كغيره ـ على المال ، ولذلك أمرهم الله بالإنفاق في سبيله ؛ إذ الإنفاق في الحروب وسيلة النصر وطريق الفوز ، واحذروا عدم الإنفاق فإنه مهلكة للأمة مضيعة للجماعة ، ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك بالإمساك وعدم الإنفاق ، وكذلك الدخول في الحرب بغير بصيرة ولا استعداد ، بل أنفقوا المال وأعدوا الرجال ، وحصنوا أنفسكم بالعلم والخلق ، وأبعدوا ضعفاء النفوس الذين يقبلون الرشوة ويبيعون الأمة والجيش لقاء مال زائل وعرض فان ، فهؤلاء أشد خطرا من العدو ، وأحسنوا كل شيء يتعلق بالحرب ، واعلموا أن الله يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء.

١١٦

يؤخذ من الآيات السابقة :

(أ) أن القتال في سبيل الله كان لرد العدوان وحماية الدعوة وحرية الدين.

(ب) شرع القتال الدفاعى لا الهجومى مع عدم الاعتداء على غير المقاتلين.

(ج) وظاهر الآيات السابقة وغيرها في القرآن أن القتال لم يكن لإكراه الناس على الدخول في الدين : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (من سورة يونس ٩٩).

الحج وبعض أحكامه

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)

١١٧

المفردات :

(رَفَثَ) : المراد به الجماع. (فُسُوقَ) الفسوق : العصيان والخروج عن طاعة الله. (جِدالَ) : مجادلة ومماطلة وخصام.

المعنى :

الحج هو المؤتمر الإسلامى العام الذي يعقد كلّ عام في مكة المكرمة محط أنظار المسلمين وقبلتهم ، يعقد في أشهر معلومة ، ويأتى إليه الناس من كل فج عميق رجالا وركبانا متجردين عن الدنيا ومظاهرها ، حتى لا يعرف أمير من حقير ، فيتذكر الناس الآخرة وموقف الحشر فيها ، وهو بحق من مفاخر الإسلام وقد فرص سنة ست من الهجرة.

وفي هذه الآيات بعض أحكام نسردها والباقي في كتب الفقه والسنة ، وقد أمرنا الله بإتمام الحج والعمرة كاملين بشروطهما وآدابهما متغلبين على العقبات التي تصادفنا ، قاصدين عملنا هذا رضا الله ورسوله لا للرياء ولا لأغراض الدنيا ، وأما أصل الوجوب ففي قوله ـ تعالى ـ في سورة آل عمران : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

وهنا بعض أحكامه المأخوذة من الآيات :

١ ـ لو منع الحاج من إتمام الحج والعمرة فواجب عليه إذا أراد التحلل ما تيسر من الهدى بأن يذبح ناقة أو بقرة أو شاة سليمة ، فإن لم يجد ما يذبح قوّم الحيوان واشترى بقيمته طعاما وتصدق به ، فإن لم يجد صام عن كل مدّ من الطعام يوما.

٢ ـ الدخول في الحج أو العمرة يكون بالإحرام ولبس غير المخيط ، والخروج منهما وما يعبر عنه بالإحلال يكون بحلق الرأس أو التقصير ، فقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) خطاب للمحصرين الذين يريدون التحلل فنهوا عنه قبل بلوغ الهدى مكان ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعى.

١١٨

٣ ـ لا يصح في الحج الحلق أو التقصير وقتل الهوام ، فإذا كان الحاج مريضا ينفعه الحلق ، أو به أذى من رأسه من قمل وغيره فله أن يحلق ، وعليه فدية صيام ثلاثة أيام أو صدقة هي إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة ، وهذه الفدية تجب كذلك في تقليم الأظافر والقبلة والطيب والدهن ... إلخ ، ما هو مفصل في كتب الفقه.

٤ ـ فإذا أمنتم العدو والحصار فمن تمتع بسبب فراغه من أعمال العمرة يعنى أنه أتمها وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحرم من مكة فعليه ما تيسر من الهدى ؛ لأنه أحرم بالحج من غير الميقات ، فيذبح الهدى ، وأقله شاة سليمة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله بالفعل ، ويصح الصوم إذا شرع في الرجوع ، تلك عشرة كاملة.

ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج تخفيف ورخصة للذين حضروا من الآفاق البعيدة دون أهل الحرم ؛ لأن الغريب يتحمل المشاق في السفر إلى الحج وحده ، ثم السفر إلى العمرة وحدها ، واتقوا الله بالمحافظة على أمره ، واعلموا أن الله شديد العقاب ، ولك في أداء الحج والعمرة ثلاث صور.

(أ) التمتع : أن يحرم بالحج من مكة.

(ب) الإفراد : أن يحرم بالحج وحده ثم بالعمرة بعد انتهائه.

(ج) القران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها أو بالعكس ، والله أعلم بأفضلها ، والمهم الإخلاص.

٥ ـ هذه الفريضة لها أيام معلومة : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، فنية الحج لا تصح إلا في هذا الوقت ، وأعماله تنتهي في أيام التشريق الثلاثة.

٦ ـ فمن أوجب على نفسه الحج وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته ، والكلام فيه فإنه رفث ، ويبتعد عن الفسوق والخروج عن طاعة الله بفعل أى شيء محرم كالصيد والطيب والزينة ولبس المخيط ، والتنابز بالألقاب ، والجدال ، والمراء والخصام كل ذلك محرم على الحاج ؛ لأن الشرع يريد منه أن يتجرد عن الدنيا ومظاهرها ، وأن يكون إنسانا كاملا خاصة هنا ، وأما الجماع وما حوله فلا يليق به ؛ لأنه في طاعة ، ولذا يفسد الحج لو فعل الجماع قبل الوقوف بعرفة. وأما غيره من المحرمات فيجبر بدم.

١١٩

وما تفعلوا من خير فالله يعلمه ويجازى به ، وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم فإن خير الزاد التقوى ، واتقوا الله يا أولى الألباب.

بعض أحكام الحج

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)

١٢٠