تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٩

وقال بعضهم : ذلك في كل مؤمن دعا الخلق إلى طاعة الله تعالى وعمل بنفسه ، والله أعلم.

وعن الحسن (١) أنه تلا قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً) قال : هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله تعالى ، أجاب في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، قال إنني من المسلمين لربّه ، هذا خليفة الله تعالى.

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ).

قيل : و «لا» الأخير هاهنا زائدة كأنه قال : ولا تستوي الحسنة والسيئة ، وقد يزاد حرف «لا» في الكلام وقد ينقص ؛ فعلى ذلك هذا.

ثم جائز أن يكون قوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) ، وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كل واحد منها موصولا بالآخر ، يقول : لا تستوي الحسنة ، وجائز أن يكون كل واحد منها مقطوعا من الآخر على الابتداء ، فإن كان أحدهما موصولا بالآخر يقول : لا تستوي الحسنة والسيئة في جلب حب القلوب واللين والعطف لها ، بل الحسنة تجلب حب القلوب والميل إليها لا السيئة.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : ادفع بالحسنة دون السيئة ؛ وهو كقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...) الآية [آل عمران : ١٥٩] ؛ فعلى ذلك يقول هاهنا أن : لا تستوي الحسنة والسيئة في الطاعة والميل وجلب حب القلوب ، بل هما مختلفان مفترقان فادفع سيئتهم بالحسنة ، والله أعلم.

وجائز أن يكونا جميعا على الابتداء لا اتصال لأحدهما بالآخر ، فإن كان الابتداء فمعناه ـ والله أعلم ـ : أنكم تعلمون بعقولكم أن لا استواء بين الحسنة والسيئة ولا بين المحسن والمسيء ، وكذا لا استواء بينهما في الحكمة ، وقد رأيتم أنهما قد استويا في هذه الدنيا في جميع منافعها ولذاتها ، وجمع بينهما في هذه ، وفي الحكمة والعقول التفريق بينهما ، دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما في الجزاء والثواب فيهما ـ والله أعلم ـ وهو

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٠٥٣٩).

٨١

ما ذكر في آية أخرى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم : ٣٥ ، ٣٦] ، وقوله : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨] أي : لا نجعل هذا كهذا في هذه الحياة الدنيا ؛ فدل ذلك على أن هناك دارا أخرى فيها يقع ذلك التمييز والتفريق ، فعلى ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

صرف عامة أهل التأويل ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أبي جهل ـ لعنه الله ـ أنه أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدفع سيئة أبي جهل بالحسنة ، لكن هذا لا يحتمل ؛ لأنه لم يذكر أن أبا جهل صار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ذكر حيث قال : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، بل دامت عداوته إياه إلى أن خرج على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وأغرى الناس عليه ، فرجع ذلك الإغراء إليه فقتل في ذلك اليوم ؛ فدل أنه لا وجه لصرف الآية إلى هذا.

ثم يخرج قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على وجهين :

أحدهما : ادفع سيئتهم في حادث الوقت بحسنة تكون منك إليهم ، أي : إذا أحسنت إليهم كفوا هم عن الإساءة إليك في حادث الوقت ـ والله أعلم ـ فيكون كقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].

والثاني : أي ادفع سيئتهم بالعفو والصفح عنهم ، أي : لا تكافئهم بمساويهم ولكن تجاوز عنهم واصفح ، فإذا فعلت ذلك يصير الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، أي : لا يعاد ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) :

على أمر الله تعالى والقيام بجميع أموره ، أو يقول : لا يعطى ولا يؤتى المعاملة التي ذكر ولا يوفق لذلك إلا من عزم على الصبر على ما أمر الله تعالى والصبر على ذلك.

وقوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

يقول : ولا يعطى هذه المعاملة التي ذكر من الدفع بالحسنة والصفح عن المجرم إلا من كان له حظ ونصيب عظيم عند الله تعالى ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : جائز أن يكون الاستعاذة التي ذكر هي مباشرة الأسباب التي بها يدفع نزغ الشيطان ووساوسه ، أمره أن يأتي بالأسباب التي يتهيأ له أن يدفع بها نزغاته وغمزاته ،

٨٢

وهذا كالاستغفار الذي أمره به ، ليس هو أمرا بأن يقولوا : نستغفر الله بألسنتهم ، ولكن أمر بمباشرة أسباب يقع ويجب لهم المغفرة بها ؛ فعلى ذلك الاستعاذة.

والثاني : جائز أن يكون أمره بالاستعاذة إياه أمرا له بسؤال لطف من عند الله يدفع به نزغاته وهمزاته ، والله أعلم.

وعلى قول المعتزلة لا يصح الاستعاذة منه ؛ لأنهم يقولون : إنه قد أعطى كلاما به يدفع نزغاته وهمزاته متى لم يبق عنده شيء يملك إعطاءه إياهم من اللطف وغيره ، والله الهادي.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : إن الشمس والقمر آيتان من آيات ألوهيته تعالى ووحدانيته كالليل والنهار أنهما آيتان من آيات الله تعالى ، فإذا لم تعبدوا الليل والنهار فكيف عبدتم الشمس والقمر؟! والله أعلم.

أو نقول : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى ، سخرهما لمنافع الخلق كالليل والنهار مسخرات للخلق والمنافع التي جعل فيها للخلق إن لم يكن أكثر لم يكن دون منافع الشمس والقمر ، فإذا لم تعبدوا الليل والنهار فكيف عبدتم هاتين؟! يذكر هذا لأن منهم من كان يعبد الشمس ومنهم من كان يعبد القمر ونحوه ، يذكر سفههم بعبادة غير الله تعالى.

وقوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ).

أي : اسجدوا لله الذي أنشأ هذه الأشياء وسخرها لكم.

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

أي : إن كنتم بعبادتكم هذه الأشياء تقصدون القربة عند الله تعالى ، أو إن كنتم بعبادتكم هذه الأشياء إياه تريدون ؛ لأنهم كانوا يعبدون هذه الأشياء دون الله تعالى رجاء القربة عنده والزلفى لقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] يقول : إن كنتم إياه تقصدون بعبادة هذه الأشياء فاسجدوا له واعبدوا ؛ لما أمركم بالسجود له والعبادة ، والله الموفق.

٨٣

وقوله : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا).

قد ذكرنا فيما تقدم أن لا أحد يقصد قصد الاستكبار على الله تعالى. ثم يخرج هذا على وجهين :

أحدهما : أنهم قد أمروا بطاعة الرسل ـ عليهم‌السلام ـ فاستكبروا عن الائتمار لهم لما دعوهم إليه ؛ فيصير استكبارهم عليه كالاستكبار على الله تعالى.

والثاني : لما تركوا عبادة الله تعالى وجعل في أنفسهم دلالة العبادة لله تعالى ؛ فإذا تركوا العبادة لله تعالى فقد تركوا الائتمار بأمره ، لم يعتقدوا الائتمار لذلك الأمر فيكون استكبارا عليه ، والله أعلم.

وقوله : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : فإن استكبر هؤلاء على عبادة الله تعالى فأوحشك ذلك ، فاذكر عبادة من عنده من الملائكة بالليل والنهار حتى تستأنس بذلك ، والله أعلم. وهو كقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) [الأنعام : ١٠] كان يستوحش باستهزائهم به ؛ فذكر له استهزاء أولئك بإخوانه ليقلّ ذلك فيه ؛ لما علم أنه ليس أول من استهزئ به ، فهذا مثله.

والثاني : فإن استكبر هؤلاء على عبادة الله وقد عبدوا الملائكة والأصنام وغيرهم ، فالذين هم عند ربك ممن عندهم هؤلاء لم يستكبروا ؛ بل هم مسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية [الإسراء : ٥٧] ؛ وكقوله ـ تعالى ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] يقول : إن استنكف هؤلاء عن أن يكونوا عبدا لله ، فالمسيح ومن ذكر لم يستنكفوا عن ذلك.

وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ).

يخبر أنهم لا يسأمون عن عبادته كما يسأم البشر أحيانا عن عبادته ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ...) الآية.

وقال فيما تقدم : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فيما ذكر من الآيات آيات وحدانيته ، وآيات قدرته وعلمه وتدبيره ، وآيات حكمته :

أما آيات وحدانيته في الليل والنهار والشمس والقمر : هو أنه إذا كان سلطان أحدهما ليل أو نهار أو شمس أو قمر لم يمنع عن كون الآخر ، ولو كان ذلك فعل عدد لكان منع الآخر عن إتيان ما يذهب سلطانه ؛ فإذا لم يكن دل أنه فعل واحد.

٨٤

ودل جريان ما ذكر من الليل والنهار والشمس والقمر على سياق واحد وسنن واحد من أول ما كانا إلى آخر ما يكونان على أن منشئهما عليم مدبر علما ذاتيّا وتدبيرا ذاتيّا ليس بمستفاد ولا مكتسب.

ودل سيرهما وجريانهما في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة كذا وكذا عاما على أن منشئهما قادر له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء ؛ إذ القدرة المستفادة والمكتسبة لا تبلغ ذلك.

وكذلك في إحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات منها دلالة ذلك كله : من دلالة الوحدانية ، ودلالة العلم الذاتي والقدرة الذاتية والحكمة والتدبير ؛ لأنه لما أحياها بعد موتها ، وأماتها بعد إحيائه إياها دل أنه فعل واحد لا عدد ؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أحيا هذا منع الآخر عن الإماتة ، وهكذا إذا مات هذا منع الآخر على أن يكون من فعل ذي عدد من ملوك الأرض ؛ فإذ لم يمنع ذلك دل أنه فعل واحد ، ودل جريان ذلك كله في كل عام على مجرى واحد وسنن واحد وعلى مقدار واحد من النبات وغيره على أنه إنما كان بعلم ذاتي وحكمة ذاتية ، ودلت القدرة على إحيائها بعد موتها وإماتتها بعد حياتها أن له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء من البعث وغيره.

ثم جعل ـ جل وعلا ـ في الماء معنى ، يوافق ذلك المعنى جميع النبات الخارج من الأرض على اختلاف أجناسها وجواهرها ؛ حتى يكون حياة كل شيء من ذلك به : أن ذلك كان كذلك بلطف منه لا يبلغه فهم البشر ولا علمهم ، ثم ذلك النبات مع لينه وضعفه ورقته يشق تلك الأرض مع شدتها وصلابتها ويخرج منها ما لا يتوهم خروج أشد الأشياء منها بفعل أحد سواه [، دلّ] ذلك على قدرته ولطفه ، والله أعلم.

ثم قوله : (تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) أي : ميتة.

(فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي : تحركت نباتها وتزينت وصارت حية.

وقوله : (وَرَبَتْ) أي : تربو ويزيد ما عليها من النبات.

قال القتبي : اهتزت بالنبات ، ربت : علت وانتفخت.

وقال أبو عوسجة : اهتزت أي : فرجت ، وربت : من الزيادة.

وقوله : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى).

هو ما ذكرنا : أن الذي ملك وقدر على إحيائها لقادر على إحياء الموتى بعد موتهم.

(إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، أي : لا يعجزه شيء.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ

٨٥

عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا).

قرأ بعضهم : يلحدون برفع الياء ، وقرأ بعضهم بنصبها :

فمن قرأ بالرفع ، تأويله : إن الذين يميلون عن قبول آياتنا ، قال أبو عوسجة : الإلحاد : الميل ، وأخذ اللحد من هذا.

ومن قرأ بالنصب يقول : يعملون في آياتنا ، إن الذين يعملون في دفع آياتنا وإبطالها.

(لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وعيد منه لهم ، يقول : لا يخفون هم وما يفعلون علينا فيجزيهم بذلك ، والله أعلم.

وقوله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ).

يشبه أن يكون هذا صلة لآيتين تقدم ذكرهما :

إحداهما : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ...) الآية هذه في المؤمنين ، وقال في الكافرين : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) الآية [فصلت : ٢٧].

والآية الثانية : قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : ٣٤] يقول : أفمن يلقى في النار بأعماله السوء خير أمّن يأتي آمنا عن ذلك بأعماله الحسنة؟! أي : يعلمون أن من يلقى في الآخرة في النار ليس كالذي يأتي آمنا عن ذلك كله ، والله أعلم.

وقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : على التخيير ؛ لأنه جل وعلا بيّن السبيلين جميعا على المبالغة بيانا شافيا واضحا ، وبين عاقبة كل سبيل من سلكه إلى ما ذا يفضي ، ثم قال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) أي : اسلكوا أي سبيل شئتم ، فإن سلكتم طريق كذا فلكم كذا ، وإن سلكتم طريق كذا فلكم كذا ، والله أعلم.

والثاني : على الوعيد.

وكذا قوله : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) على الوعيد.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ).

٨٦

سمى القرآن ذكرا ، وهو يحتمل وجوها :

أحدهما : سماه ذكر ؛ لأن من اتبعه وعمل بما فيه صار مذكورا شريفا.

أو سماه ذكرا ؛ لما يذكر لهم ما نسوا من أحكام الله.

أو يذكر ما لله عليهم وما لبعض على بعض.

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ).

يحتمل قوله : (لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي : عزيز لا يذله جحود الجاحدين ولا تكذيب المكذبين ، أو يقول : عزيز عند الله تعالى أكرم به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعزيز يعز من اتبعه وعمل به ، كما ذكرنا أنه يشرف من اتبعه وعمل بما فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

قال بعض أهل التأويل (١) : أي : لا ينزل كتاب من بعده يكذبه أو يبطله ، ولا قبله كتاب يكذبه أو يبطله ، بل خرج موافقا لما قبله من الكتب.

ويحتمل أن يكون قوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي : إبليس لا يستطيع أن يبطل منه حقّا ، أو يحق منه باطلا ، أو ينقص منه حقّا ، أو يزيد فيه باطلا ، بل هو على ما ذكرنا : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

وقال بعضهم ما ذكرنا : لا تكذبه الكتب التي كان قبله.

وقوله : (وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

أي : لا يجيء من بعده كتاب يكذبه ، ومعنى هذا : أنهم كانوا يردون ذلك ويدفعونه ، وليست لهم حجة من الله في ردهم إياه ولا في دفعه ، بل يدفعونه بلا حجة ولا برهان (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

وعن الحسن (٢) قال في قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) : إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حفظه من الشيطان فلا يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقّا ، ثم قرأ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

ودل قوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) على أن كل ما أضيف إليه [من] اليدين والخلف لا يفهم منه بذكر اليدين : الجارحتان ، أو بذكر الخلف : بقوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ؛ فعلى ذلك ما أضيف إلى الله تعالى من اليدين ومن بين يديه ، لا

__________________

(١) قاله مقاتل كما في الدر المنثور (٤ / ١١٦).

(٢) وعن قتادة أيضا ، أخرجه ابن جرير (٣٠٥٧١) ، وعبد بن حميد وابن الضريس كما في الدر المنثور (٥ / ٦٨٩).

٨٧

يفهم اليدان حقيقة الجارحتين ، والله الموفق.

وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

أي : هذا القرآن هو تنزيل من حكيم حميد ، الحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره أو في حكمه ، والحميد : هو الذي لا يلحقه الذم في فعله ، والله الموفق.

ثم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) لم يخرج له جواب في هذا الموضع ، ثم قال بعضهم : جوابه ما ذكر في آية أخرى بعد هذا ، وهو قوله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، وقال بعضهم : بل جوابه ما ذكر في «حم المؤمن» حيث قال الله ـ تعالى ـ : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) يعزّي النبي ويصبّره ليصبر على ما كانوا يقولون له : إنه كذاب وإنه ساحر ، وإنه مجنون ، وإنه إنما يعلمه بشر ، وإنه مفتر ، وغير ذلك من أنواع الأذى ، كانوا يؤذونه وكان يشتد عليه ذلك ويثقل ؛ لأنه كان يدعوهم إلى ما به نجاتهم وهم كانوا يستقبلونه بما ذكر ، فقال الله ـ تعالى ـ له عند ذلك :

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) من التكذيب والنسبة إلى السحر والجنون وغير ذلك ، يصبّره على ذلك ؛ وهو كقوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...) الآية [الأحقاف : ٣٥].

ويحتمل أنه إنما ذكر ذلك له ؛ ليسلّى به عن بعض ما يلحقه من الضجر والوحشة بالذي قالوا فيه ؛ بما علم أنه ليس بأول مكذّب من الرسل ، ولا بأول متأذّ في ذات الله تعالى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ).

يقول ـ والله أعلم ـ : على أن ذلك إن ربك لذو مغفرة لو تابوا ، ورجعوا عن ذلك ، وذو عقاب أليم لو ثبتوا وداموا على ذلك.

أو يقول ـ والله أعلم ـ على الصلة لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي : إنه لذو مغفرة يغفر لهم ما كان منهم من التكذيب لك والتكذيب للقرآن لو تابوا ورجعوا وصدقوا ، وذو عقاب أليم إن لم يتوبوا وثبتوا على ذلك ، والله أعلم.

أو يذكر هذا ، أي : ليس إليك مكافأتهم ومجازاتهم بما كان منهم ، إنما ذلك إلينا إن شئت غفرت لهم إذا رجعوا عنه ، وإن شئت عاقبتهم ؛ وهو كقوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ...) الآية [آل عمران : ١٢٨].

وقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ).

وقال في آية أخرى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)

٨٨

[الشعراء : ١٩٨ ، ١٩٩] ، وقال في موضع آخر : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام : ٧] يذكر في هذه الآيات كلها سفه أهل مكة وشدة تعنتهم ؛ يقول : لو أنزلنا عليك الكتاب جملة في قرطاس بحيث يرون نزوله من السماء ويعاينونه ، قالوا : ما هذا إلا سحر مبين.

ويقول أيضا ـ والله أعلم ـ : ولو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعجميين بلسان ، فقرأه عليهم ـ أي على أهل مكة ـ بلسان العرب بحيث يفهمون ـ ما كانوا به مؤمنين ؛ لأن قراءة الأعجمي إياه بلسان العرب أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من قراءة العربي بلسان العربية ، أي : قراءة كل أحد شيئا بغير اللسان الذي هو لسانه أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من القراءة بلسان هو لسانه. يقول : لو نزلنا على من لسانه لسان العجم والقرآن عربي ، فقرأ الأعجمي ذلك على أهل مكة بلسان العرب ؛ فهو أكبر أعجوبة وأعظم في الآية ـ لكانوا لا يؤمنون به.

فعلى ذلك يقول ـ والله أعلم ـ : ولو جعلناه قرآنا أعجميّا وعاينوا نزول ذلك على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهمه وأداه وقرأه عليهم بلسان العرب (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌ) يعنون القرآن (وَعَرَبِيٌ) أي محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقولون : القرآن أعجمي ومحمد عربي كيف يكون؟! أي : لا يكون هذا ويكذبونه ولا يؤمنون به ؛ وذلك لما ذكرنا : أن أداءه بلسان ليس ذلك لسانه وقراءته بعين ذلك اللسان ، أكثر في جعله آية وأعظم في الأعجوبة ؛ إذ يمكن الاختلاف من نفسه باللسان الذي هو لسانه ، وموهوم ذلك إذا لم يكن ذلك لسانه ، يخبر عن سفههم وشدة عنادهم في تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به ، والله أعلم.

وقال بعض أهل التأويل (١) : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أحيانا يدخل على رجل أعجمي يقال له أبو فكيهة ، فقالوا : إنما يعلمه بشر فأنزل الله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) بلسان أعجمي ، لقال كفار مكة : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) بالعربية ، أي : بينت حتى نفقهها ونعلمها ما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقالوا : أعجمي أنزل عليه القرآن ومحمد عربي ؛ فأنزله عربيّا ليفقهوه ؛ فلا يكون لهم الاعتلال والاحتجاج.

وقال بعضهم : لو لا فصلت آياته حتى يفقهها ، أعجميّ القرآن وعربيّ الرجل؟! وقال أبو معاذ : يكون معنى هذا : أن الله تعالى يستفهم قرآنا أعجميّا على رجل عربي فلا

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٤ / ١١٧).

٨٩

يفهمون ؛ فيكون الحجة لهم بذلك ، وهو مثل الأول.

وقال بعضهم (١) : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) استفهام من قريش ، يكون معناه : لو أنزلناه قرآنا أعجميّا على رجل عربي لقالوا : أعجمي وعربي كيف يفهم هذا وكيف يعقله؟! لكنّا قد ذكرنا أن هذا في الدلالة أكثر وفي الأعجوبة أعظم ، والوجه فيه ما ذكرنا بدءا.

وقال القتبي : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أنزلت عربية مفصلة بالآي كان التفصيل للسان العرب ، لكن لسنا ندري ما يريد بهذا الكلام أن التفصيل للسان العرب.

وقال بعضهم : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي : هلا فرقت آياته حتى جعل من كل لسان من لسان العجم ولسان العرب ؛ حتى يفهمها أهل كل لسان ، والله أعلم.

وفي هذه الآية دلالة على أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآنا ، وأن اختلاف اللسان لا يغيره ولا يحوله عن أن يكون قرآنا ـ والله أعلم ـ فيكون دليلا لقول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ : إنه إذا قرأ بالفارسية في صلاته يجوز ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى).

وصف الله تعالى هذا القرآن بالشفاء وللرحمة والهدى ، وسماه مرة عزيزا كريما مجيدا حكيما ، ونحوه ، فهو هدى من الضلالة والحيرة والشك وكل شبهة ، وشفاء لكل داء وسقم يكون في الدين والأنفس جميعا ، هو شفاء لذلك كله وهو هدى. ثم يحتمل الهدى وجهين في هذا الموضع :

أحدهما : هو هدى لكل ضلالة ، أي : دعاء إلى الذي يضاد الضلال.

والثاني : هدى ، أي : جعل بيانا لكل حيرة وشك وشبهة ، من اتبعه وقبله ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل دعاه إلى سبيله ودينه ويخرجه من الضلال ، ويكون بيانا لكل من فيه الحيرة والشك والشبهة ، ويخلى له الطريق ويوضح له السبيل ويخرجه من الشبهات ، فهو للمؤمنين من الهدى والشفاء ؛ لأنهم قبلوه واتبعوه وتكلفوا العمل بما فيه ، وأما الكفرة فهو عليهم عمى وحيرة وشك ؛ لأنهم لم يقبلوه ولم يتبعوه ونظروا إليه بالاستخفاف والهوان ؛ ونبذوه وراء ظهورهم فلم يبصروا ما فيه ؛ فهو صار لهم عمى وما ذكر ، والله أعلم.

وكذلك قال تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) سماهم غيبة وإن كانوا بأنفسهم حضورا شهودا ، وسماهم موتى ، وإن كانوا في الحقيقة أحياء ، وسماهم صمّا وبكما

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٤ / ١١٧).

٩٠

وعميا وإن كانت لهم هذه الجوارح في الحقيقة ؛ لما لم ينتفعوا بهذه الجوارح بالذي جعلت هذه الجوارح له وأنسيت فنفاها عنهم ؛ ليعلم أن المقصود ما يشاهده الجوارح والأنفس ، لا نفس هذه الجوارح والأنفس ولكن طلب ما غاب عنها وخفي ؛ إذ أنفسهم في الحقيقة كانت شهودا وحضورا ؛ سماهم : ميتة وأحياء وبصراء ، وسماهم موتى وعميا وما ذكر ؛ ليعلم أنها إنما جعلت ؛ ليكتسبوا بها الحياة الدائمة ، والبصر الدائم ، وما ذكر من كل شيء من السمع وغيره ، وكذلك هذه النعم التي جعلت ؛ في الدنيا جعلت ليكتسبوا بها النعم الدائمة ، فإذا لم يستعملوها فيما جعلت صاروا كما ذكر ، والله أعلم.

وقال بعضهم : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) ، أي : عموا عنه.

وقال بعضهم : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) ، أي : في الآخرة ، جزاء بما نسوه في الدنيا ؛ كقوله تعالى : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه : ١٢٥ ، ١٢٦].

وقيل : قوله : (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) عبارة عن قلة أفهامهم ؛ يقال للرجل الذي لا يفهم : أنت تنادى من مكان بعيد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ).

كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : إنا قد آتينا موسى الكتاب ما عرفوا أنه إنما نزل من عند الله تعالى ؛ حيث شاهدوا نزوله جملة ، ومع أنهم عرفوا ذلك ، اختلفوا فيه حتى كذبه بعضهم ؛ فعلى ذلك يقول والله أعلم ـ : لو أنزلنا القرآن عليك أعجميّا ، فأديته إليهم بلسانك العربي ، لكذبوك ، ولا يصدقونك ، وإن كان ذلك في الدلالة أكثر في الأعجوبة [و] أعظم على ما فعل قوم موسى بالكتاب الذي أنزل على موسى عليه‌السلام ، يذكر سفههم وتعنتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).

ظاهر هذه الآية على أن ما ذكر من المنة والرحمة في تأخير العذاب إنما هو لقوم

٩١

موسى ، وهو قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، لكن أهل التأويل قد أجمعوا على صرف هذه المنة والرحمة في تأخير العذاب إلى هذه الأمة ، وكذا ظهر فيهم المنة في العفو عن الإهلاك في الدنيا دون سائر الأمم ، والله أعلم.

ثم ظاهر قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) استدلال واحتجاج لأهل الإلحاد ؛ لأن مثل هذا في الشاهد إنما يقال لأحد معنيين : أما لجهل بالعواقب ، أو لعجز عن وفاء ما وعد ، لكن الله يتعالى عن الوصف بالجهل بعواقب الأمور والوصف بالعجز عن شيء مما أقام من الآيات والبراهين على العلم والقدرة.

ثم قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل الكلمة : الحجة ؛ كقوله تعالى : (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) [يونس : ٨٢] ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] ، أي : لحجج ربي ، وتكون الكلمة منه : الدين ؛ كقوله تعالى : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) [التوبة : ٤٠] ، ونحوه.

وقيل : الكلمة : هي الساعة التي هي آخر عذاب هذه الأمة ، فقال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦] ، والله أعلم.

وجائز أن تكون الكلمة هاهنا ما سبق من المنة لهذه الأمة ألا يعذبها وقت استحقاقهم العذاب.

أو سبق منه المنة والرحمة بتأخير الهلاك عن وقت اكتسابهم أسباب الهلاك ، وهذا على المعتزلة والخوارج ؛ لقولهم : إن ليس لله أن يعفو أو يؤخر العذاب عمن وجب عليه أو استحقه أو كلام نحوه ، حيث منّ ورحم هذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى وقت ، ولو لم يستحقه العذاب ، لم يكن لذكر المنة والرحمة في ذلك معنى ؛ وهو كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).

يخبر ـ عزوجل ـ أنه إنما امتحنهم لا لمنافع فيه يجرّ إلى نفسه ، أو لمضار يدفعها عن نفسه ، ولكنه إنما امتحنهم وأمرهم ونهاهم ؛ لمنافع يكتسبون لأنفسهم ، ولمضار يدفعون بذلك عن أنفسهم ، وليس كملوك الأرض أنهم يمتحنون الخلق ويأمرون وينهون ويستعملونهم لمنافع أنفسهم ، ولمضار يدفعونها بذلك عن أنفسهم ، فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإنما يمتحن الخلائق لمنافع يجرون إلى أنفسهم ولمضار يدفعون به عن أنفسهم ، فلهم حصول منافع ذلك الامتحان والأمر والنهي ، وعليهم حصول ضرر ذلك ؛ فلأنفسهم يعملون ما يعملون من الخير والطاعة ، وعليهم ما يعملون من الشر ؛ ولذلك

٩٢

قال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ...) الآية ، قد بين السبيلين جميعا بيانا شافيا ، وأقام لكل ذلك حججا وبراهين ، وبين أن من سلك سبيل كذا ، أفضاه إلى كذا في العاقبة : إما نعيم دائم وسرور دائم ، وإما عذاب دائم وشرور دائمة ، فمن سلك السبيل الذي عاقبته النار والحزن ، فمن قبل نفسه أتى ذلك ، وهو الذي أوقع نفسه في ذلك ، ومن سلك السبيل الذي جعل عاقبته الجنة والنعم الدائمة فيه ، واختياره وصل ذلك ، فهو تفسير قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ).

أجمع من آمن بالله تعالى ، وصدق رسله ـ عليهم‌السلام ـ من أهل السماء وأهل الأرض أن ليس عندهم علم بوقت الساعة ؛ فإن ذلك خفي عليهم لا يعلمونه ، وأن علم ذلك عند الله تعالى ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ...) الآية [الأعراف : ١٨٧] ؛ غير الباطنية والروافض ؛ فإن علم ذلك عندهم على مذهبهم وفي زعمهم :

أما الروافض : فإنهم يعدون الأئمة ويقولون : إن الساعة على إمام كذا ، وفي زمان كذا.

وأما الباطنية يقولون : إن اسم الساعة والقيامة ونحو ذلك إنما هو اسم قائم الزمان وإنه فلان ، فعلى قولهم يظهر وقت قيامها ، فهو خلاف ما ذكر في الكتاب ، وما أجمع عليه أهل السماء والأرض ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).

جائز أن يكون ما ذكر من إخراج الثمرة من الأكمام وما ذكر من حمل الأنثى ووضعها ، وهو موصول بقوله : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، فإن كان على ذلك ، فمعناه لا يعلم [ذلك] كله إلا هو ، لا يعلم وقت خروجها ولا حدها ، وأنها تخرج أو لا ، وكذلك الولد لا يعلم كيفية علوقه ولا وقته ولا مقداره ، وأنه يعلق أو لا ، علم ذلك إلى الله تعالى كعلم الساعة ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) على الابتداء ، ليس على الصلة بالساعة ، ولكن موصول بما تقدم من قوله : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ، (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ...) إلى [آخر] ما ذكر ؛ فعلى ذلك يقول ـ والله أعلم ـ : ومن آيات ألوهيته ووحدانيته وآيات

٩٣

قدرته وعلمه وتدبيره أن يخرج الثمرات من أكمامها ، ومن آياته أن تحمل الأنثى وتضع ، وهو أن الله تعالى أنشأ تلك الثمرة في الأكمام ، وكذا الولد في البطن في حجب وسواتر ورباه في تلك الحجب والسواتر ، وغذاه بأغذية ، ودفع عنه جميع الأذى من البرد والحر وجميع ما يؤذيه ؛ لضعفه ولطافته ؛ لطفا منه ورحمة ، وصوّره في تلك الحجب والسواتر بأحسن صورة ؛ ليعلم ألوهيته ووحدانيته وأن له علما ذاتيا وقدرة ذاتية أزلية لا مكتسبا مستفادا ؛ إذ العلم المستفاد والقدرة المستفادة لا تبلغ ذلك ، والله أعلم.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ أَكْمامِها) أي : المواضع التي كانت فيها مستترة ، وغلاف كل شيء كمه ، كما قيل : كم القميص.

وقال أبو عوسجة : أكمامها : غطاؤها التي يكون فيها قبل أن يتعيق ، والتعيق : التشقق ؛ يقال : تعيقت الأكمام عن الثمرة ، أي : تشققت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي).

يذكرهم ، ويخبر عما يسألون يوم القيامة وما يكون من جوابهم لذلك السؤال ؛ لعلهم يمتنعون عن ذلك ، ويحذرون ؛ يقول : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أي : أين الذين تزعمون أنهم شركائي في الدنيا؟ أو أين الذين تعبدون في الدنيا وتزعمون أنها آلهة ، وأنها شفعاء لكم عندي؟ وإلا لا يحتمل أن يقول لهم الرب ـ جل وعلا ـ : أين شركائي؟ ولا شريك له ولا إله غيره ، ولكن ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ).

قال بعضهم : (آذَنَّاكَ) : أسمعناك.

وقيل : أعلمناك.

والأشبه أن يكون معنى (آذَنَّاكَ) : أخبرناك ؛ إذ الله تعالى كان عالما بذلك ، وإعلام العالم لا يتحقق ، أما الإخبار للعالم عن الشيء يتحقق بما علم به ، والله أعلم.

ثم اختلف في ذلك أنه قول من؟ : قال بعضهم : هو قول أولئك الكفرة الذين نودوا يومئذ يقولون : أخبرناك أن لم يكن منا أحد شهيدا بذلك ، أو يقولون بالشريك ، أو بإله سواك ، يخرج على الإنكار والجحود والكذب أنهم لم يقولوا ذلك ، ولم يفعلوا ، وهو كما ذكر عنهم في آية أخرى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا ...) الآية [الأنعام : ٢٢] ، فقالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، أنكروا ما كان منهم من الإشراك ؛ فعلى ذلك قوله : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) ، أي : لم نشرك بك أحدا ، ولم نتخذ من دونك إلها ، والله أعلم.

٩٤

وقال بعضهم : قوله : (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) هذا من قول الأصنام والذين عبدوهم من دون الله في الدنيا ، يقولون : ما منا من شهيد على عبادة أولئك إيانا ، ولا أمرناهم بذلك ؛ وهو كقوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) [يونس : ٢٨] ، وقولهم : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) [غافر : ٧٤] ، أخبروا أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم إياهم ، وأنهم ما أمروهم بها ؛ فعلى ذلك قوله تعالى : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي : أخبرناك.

وقوله تعالى : (آذَنَّاكَ) على هذا التأويل هو ما ذكروا : أن كنا عن عبادتكم لغافلين ، والله تعالى أعلم.

ثم إن الكفرة في يوم القيامة مرة أنكروا عبادتهم غير الله ، وأحيانا أقروا بها وتبرءوا منها ، ومرة سألوا الرجوع إلى المحنة والرد إلى الدنيا على اختلاف الأحوال والأوقات في ذلك اليوم ؛ إذ لا تكون هذه إلا الأسئلة المختلفة في وقت واحد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ).

هو ما ذكر في آية أخرى (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) [غافر : ٧٣ ، ٧٤] ؛ وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام في الدنيا ؛ رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وتقربهم إلى الله زلفى ، فلما أيسوا ما رجوا منها ، وقمعوا ، قالوا : (ضَلُّوا عَنَّا) ؛ فعلى ذلك قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) من قبل في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ، أي : أيقنوا وعلموا أن لا محيص لهم ولا نجاة.

وقال أبو عوسجة : (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ، أي : مهرب.

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٥١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) ، وقال في آية أخرى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ، هاتان الآيتان في ظاهر المخرج : إحداهما : مخالفة للأخرى ؛ لأنه ذكر في إحداهما الإياس والقنوت إذا مسه الشر ، وفي الأخرى كثرة الدعاء إذا مسه الشدة والبلاء ، ومن طباع الخلق والعرف فيهم أنهم [إذا] أيسوا وقنتوا لا يدعون ولا يسألون ، بل يتركون

٩٥

سؤالهم ، وإذا طمعوا ورجوا عند ذلك سألوا ودعوا ، هذا هو العرف فيهم ؛ فدل أن بينهما مخالفة من حيث الظاهر ، لكن نقول : إن الآية تخرج على وجوه :

يحتمل : أن كل واحدة من الآيتين في إنسان بعينه يشار إليه سوى الآخر ، كان عادة أحدهما ـ على الإياس والقنوط من الخير ـ ترك الدعاء والسؤال ، وكان عادة الآخر الدعاء والتضرع إليه والسؤال عن كشف ذلك عنه ، فأخبر ـ جل وعلا ـ رسوله عليه الصلاة والسلام ما أضمر كل واحد منهما : في نفس أحدهما الإياس والقنوت ، والآخر الدعاء والسؤال والطمع في الخير ؛ ليكون له عليهم دلالة الرسالة وآية النبوة إذ أنبأه عن ضمير كل واحد منهما وما في نفسه ؛ ليعلم أنه رسول ، وإنما علم ذلك بالله جلا وعلا ، والله أعلم.

والثاني : أن الكفرة كانوا فرقا ، وكانوا على مذاهب شتى مختلفة :

فرقة كانت تطمئن في حال الرخاء والسعة ، وتيأس وتنقلب في حال البلاء والشدة ؛ كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ...) الآية [الحج : ١١].

وفرقة كانت تفزع إلى الله تعالى وتقبل إليه عند إصابة الشدة والبلاء ، وتعرض عنه عند كشف ذلك عنهم وتوسيع النعم عليهم ؛ نحو قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ...) الآية [العنكبوت : ٦٥] ونحوه كثير في القرآن.

وفرقة كانت في الحالين جميعا على الإعراض عنهم ، وترك الإقبال إليه والطاعة له ، لا يفزعون ولا يقبلون لا في حال الرخاء والسعة ولا في حال البلاء والشدة ؛ كقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام : ٤٣].

وفرقة كانت ترى الحسنة والخير من أنفسهم ، وإذا صارت سيئة وشدة تطيروا بالرسل عليهم‌السلام ؛ كقوله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] ، وقوله تعالى : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) [النمل : ٤٧].

وإذا كانت الكفرة على هذه المذاهب المختلفة وكانت أجناسا شتى ، فيكون كل آية منهما في جنس غير الجنس الآخر ، وفي أهل مذهب غير أهل مذهب آخر ، فأما المسلمون فيكونون في الحالين جميعا على التوحيد والإقبال إلى الله تعالى في حال الرخاء والسعة ، وفي حال البلاء والشدة ، وهو على ما استثناهم الله تعالى عند ذكر الكفرة ؛ حيث قال : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١٠ ، ١١] ، وقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية [العصر : ١ ، ٢] ، وأمثال ذلك من الآيات ، وصفهم ـ جل وعلا ـ بالثبات والقرار على دينهم في الأحوال كلها ، والله أعلم.

٩٦

والثالث : جائز أن يكون ما ذكر من الآيتين على ما ذكر إخبارا عما طبع عليه البشر وأنشئ ، وإنما أنشئ البشر وطبع على الرغبة في الخير والسعة والنفار عن الشدة والبلاء والكراهة له ؛ فهذا إخبار عما طبعوا عليه وأنشئوا ، ليس على حقيقة إظهار ذلك منهم قولا أو فعلا ، [ولكن] على ما طبع كل إنسان ؛ راغبا حريصا في السعة والرخاء ، وأنه ما ذكر لا يسأم من دعاء الخير ، كارها نافرا عن البلاء والشدة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي).

قال بعضهم : (هذا لِي) ، أي : أعطانيه من خير علمه مني.

وجائز أن يكون ما ذكرنا أنهم كانوا يتطيرون بالرسل عند البلاء والشدة ، والسعة يرونها من أنفسهم ؛ حيث قال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ...) الآية [الأعراف : ١٣١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً).

كانوا ينكرون البعث والجزاء لما عملوا في الدنيا ، ثم يقولون : ولئن كان يذكر محمد من البعث والجزاء للأعمال والجنة ؛ إن ذلك لنا دونهم ، وهو قوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] أي : إن رجعت إلى ربي على ما يقوله محمد : (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وهو على ما قالوا في الدنيا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] لما رأوا السعة لأنفسهم في الدنيا دون المؤمنين ؛ فعلى ذلك في الآخرة قالوا لنا دونهم ، والله الهادي.

ثم أخبر تعالى عما ينزل بهم بأعمالهم في الآخرة ، وهو قوله تعالى : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ).

أي : ننبئنهم بخبر ما (١) عملوا ؛ لأن ذلك كان منهم تمنيا وتشهيا بمن يذيقهم العذاب الغليظ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)

هو ما ذكرنا من دعائهم وسؤالهم الخير وطمعهم ذلك.

وقوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ، قال أبو عوسجة : (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي : تباعد عما أمر به ، (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي : كثير الدعاء لا يمل ولا يسأم ، وكذا قال القتبي.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ

__________________

(١) في أ : أنما.

٩٧

عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

يقول : إن كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به ، وجائز أن يكون على الابتداء ليس بجواب لقوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ويكون كأن لم يذكر جواب (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ؛ لما عرفوا أن من عاند وعادى ما كان من عند الله أنه ما يعمل بهم وما يصنع ؛ وهو كقوله تعالى : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ* فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الصافات : ٨٦ ، ٨٧] يذكر له جواب ؛ لما عرفوا أن من تريدون عبدوا دون الله بعد معرفتهم أنه إفك وأنه كذب وليس بإله ، أن الله ما ذا يفعل بهم ، فلم يذكر لهذا جواب ؛ لمعرفتهم بما يفعل بهم ؛ فعلى ذلك قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) يجوز أن لم يذكر له جواب ؛ لما عرفوا أنه ما يفعل بهم وما يستوجبون منه بما عاندوه وعادوه بعد معرفتهم أنه من عند الله جاء ثم كفروا به ، والله أعلم.

وإن كان موصولا فجوابه ما ذكر من قوله : (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) ؛ فيكون كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به ، فإذا كفرتم ضللتم ، فمن أضل ممن هو في شقاق بعيد؟!

أي : في خلاف وبعد ؛ فيكون جوابه كأنه قال : لا أحد أضل ممن عرف أنه من عند الله ثم خالفه وتباعد عنه ، على ما ذكرنا في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ٢١] أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) أي نريهم عذابنا الذي نزل بالأمم المتقدمة في بلاد عاد وثمود وقوم لوط ، كانوا يمرون عليها ويعرفون أنه لما ذا نزل بهم ذلك وتكذيبهم الرسل وعنادهم ، ونريهم عذابنا أيضا في أنفسهم ببدر حيث قتل فراعنتهم يومئذ ؛ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ؛ يقول : إن القرآن هو الحق من الله ؛ لأن فيه الإخبار عن العذاب للذين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم (٢) : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) هو ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على البلاد والقرى

__________________

(١) قاله مجاهد بنحوه ، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير كما في الدر المنثور (٥ / ٦٩١).

(٢) قاله المنهال ، أخرجه ابن جرير (٣٠٦٠٣).

٩٨

النائية وفتحها عليه ، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي : فتح مكة وظهوره عليهم ، على ما وعد له ربه ـ جل وعلا ـ من النصر له وفتح البلاد والقرى.

فيكون هذان التأويلان آية لرسالته ونبوته ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) آيات وحدانيته وألوهيته :

أما في الآفاق فما جعل منافع البلاد النائية والقرى المتباعدة متصلة بمنافع أنفسهم ومنافع البلاد القريبة ، ومنافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما ؛ ليعلم أنه تدبير واحد وفعل فرد لا عدد ، أو أن يكون آياته في الآفاق رفع السماء مع غلظها وكثافتها وسعتها بلا سبب ولا تعليق من أعلاها ولا عماد من أسفلها.

وفي أنفسهم : ما حوّلهم وقلّبهم في الأرحام من حال النطفة إلى حال العلقة ، ومن حال العلقة إلى حال المضغة ، ثم من حال المضغة إلى حال الإنسان والتصوير والتركيب ، إلى آخر ما ينتهي إليه أمره ؛ ليعلم أنه صنع واحد وتدبير فرد لا تدبير لأحد سواه في ذلك.

فهذان التأويلان في آية الألوهية والوحدانية ، والأولان في إثبات الرسالة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

كأنه يقول : أو لم يكف ربّك شاهدا أنه من عنده على ما تقول أنت ، أو يقول : أو لم يكف ربك ناصرا ومعينا ، أو يكون قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ) أي : أو لم يكفهم ما جاء من عند الله من البينات والقرآن ؛ كقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ...) الآية [العنكبوت : ٥١] ؛ فعلى ذلك يحتمل هذا. ويحتمل : أو لم يكفهم آية على رسالتك أو آية على وحدانية الله تعالى ما جاء من عند الله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ).

ألا إن شكهم ومريتهم في البعث هو الذي حملهم على تكذيب ما جاء من عند الله وإنكاره ، والله أعلم بالصواب.

* * *

٩٩

سورة «حم عسق» مكية إلا آيات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٥)

قوله ـ عزوجل ـ : (حم. عسق).

قال بعضهم (١) : (حم) هو اسم من أسماء الله تعالى.

وقيل : هو اسم من أسماء القرآن.

وقال بعضهم : (حم) أي : قضى ما هو كائن. وقد ضعف هذا القول ابن عباس ، رضي الله عنه.

والصحيح من الأقوال : أن (حم) خبر مبتدأ محذوف ، و (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبره (مِنَ اللهِ) صفة الكتاب ، والتقدير : هذا (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ)(٢)(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

وقال بعضهم في (حم. عسق) : عين عبارة عن عذابه ، والسين عن المسخ ، والقاف كناية عن القذف ، يقول صاحب هذا القول : يخرج عين من الأرض فيها عذاب ، ويمسخ رجل من هذه الأمة بالبادية فيقذفه الناس بالحجارة ، والله أعلم.

وقال بعضهم ـ وهو قول ابن عباس ـ : حم سق على إسقاط حرف العين ، ثم يقول : السين كل فرقة تكون ، والقاف كل جماعة تكون.

وذكر : كان يعلم علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ حساب العين ، وكذلك ذكر في ابن مسعود وأبي ـ رضي الله عنهما ـ وحم سق على طرح العين.

وقال بعضهم : العين عبارة عن العذاب ، والسين عبارة عن سيكون ، والقاف عبارة عن الوقوع ، أي : قضى ما سيكون ذلك ، والله أعلم. وذكر عن جعفر بن محمد بن علي ـ رضي الله عنهم ـ قال : العين عبارة عن العذاب ، والسين عبارة عن سيكون ، ولم يفسر القاف وقال : عجب أو كلام نحوه ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٣) : العين عبارة عن علمه ، والسين السلام ، والقاف عبارة عن القدرة ، وكذا محتمل.

__________________

(١) ـ قاله ابن عباس ، أخرجه أبو يعلى وابن عساكر بسند ضعيف كما في الدر المنثور (٥ / ٦٩٢).

(٢) كذا في أ ، وهو تقدير يوافق أول «غافر».

(٣) ـ قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي. (٤ / ١١٩).

١٠٠