تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٩

يلحق الويل للمشرك آتى الزكاة أو لم يؤت ، آمن بالآخرة أو كفر بها ـ فنقول : قال بعض أهل التأويل (١) : معناه : وويل للمشركين الذين لا يؤمنون بإيتاء الزكاة ، ولا يؤمنون بالآخرة ، وخصهم بذكر جحود الزكاة والآخرة ؛ لما كان سبب كفرهم مختلفا : منهم [من] كان سبب كفره بخله في المال وشحه ، حمله ذلك على إنكار الزكاة والامتناع عن الإيتاء ، [و] منهم من كان كفره إنكاره جزاء الأعمال ، حمله ذلك على إنكار الآخرة ، ومنهم من كان سبب كفره الخضوع لمن دونه أو مثله في أمر الدنيا ، حمله ذلك على إنكار الرسالة والجحود لها ، وغير ذلك من الأسباب (٢) التي حملتهم على الكفر والضلالة وهي مختلفة.

ويحتمل قوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لا على زكاة الأموال ، ولكن على زكاة الأنفس ؛ كأنه يقول : وويل للمشركين الذين لا يعلمون ولا يسمعون فيما به تركوا أنفسهم ويشرف ذكرها ويصلح أعمالهم به ولا ما يجزون به في الآخرة ، أي : ويل لمن لا يعمل ذلك ، والله أعلم.

وهذان الوجهان جواب عمّن تعلق بظاهر هذه الآية على أن الكفار يخاطبون بالشرائع ؛ حيث ألحق الوعيد بهم بترك إيتاء الزكاة ، والزكاة من الشرائع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

أي : غير مقطوع وذلك في الآخرة.

وقال بعضهم (٣) : أي : غير ممتن عليهم ، وذلك في الآخرة أيضا ، ومعناه ـ والله أعلم ـ : أنه يزاد لهم في الآخرة على قدر أعمالهم ، ولا يمن عليهم في تلك الزيادة ، وقال بعضهم (٤) : (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير منقوص ولا ممنوع ، وذلك ـ والله أعلم ـ أن من كان يعمل في حال شبابه وقوته الصالحات والطاعات ، ثم كبر وعجز عن إتيانها أنه لا يمنع ولا ينقص منه الأجر الذي كان مجرى عليه ويكتب له في حال شبابه وقوته ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٤٢٤).

(٢) ثبت في حاشية أ : أسباب الكفر والعياذ بالله تعالى. م.

(٣) انظر تفسير ابن جرير (١١ / ٨٧) ، وتفسير البغوي (٤ / ١٠٨).

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠٤٢٧) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور (٥ / ٦٧٥) ، وهو قول السدي أيضا.

٦١

اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (١٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ).

تأويل هذه الآية كما ذكرنا في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢٨] ، وهو يخرج على وجوه :

أحدها : كيف تنكرون وحدانيته وتكفرونه ، وهو الذي أحياكم لا الأصنام التي تعبدونها؟!

والثاني : تنكرون قدرة الله في البعث ، وقد رأيتم قدرته في ابتدائه إنشاءكم وتقليبكم من حال إلى حال؟!

والثالث : كيف تكفرون رسوله وقد خلقكم الله تعالى وامتحنكم بأنواع المحن ، وكلفكم وأمركم بأوامر ونواه ما لو لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمكنكم القيام بأكثرها وكان خلقه إياكم عبثا؟! فعلى هذه الوجوه يخرج قوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الآية ، أي : أإنكم لتكفرون وحدانية الله تعالى وقد خلق الأرض في يومين وما ذكر.

والثاني : إنكم لتكفرون وتنكرون قدرته على البعث وقد خلق الأرض في يومين على بعد أطرافها وسعتها ، فكيف تنكرون قدرته على البعث وقد رأيتم قدرته على خلق ما ذكر؟!

والثالث : أإنكم لتكفرون نعمة الله التي أنعمها عليكم من خلق ما ذكر من الأرض وغيرها وما أنعم عليكم من بعث الرسول ، فكيف تصرفون شكرها إلى الذي لم يفعل ذلك

٦٢

بكم وتنكرون رسالة رسوله ، ولا بد من رسول يرسل إليكم ، وذلك من أعظم النعم وأجلها؟! فيخرج تأويل الآية على هذه الوجوه التي ذكرنا :

أحدها : في إنكار وحدانية الله وألوهيته.

والثاني : إنكار قدرته على البعث.

والثالث : في إنكارهم رسالة الرسول ، وصرفهم شكر نعمه إلى غيره بعبادتهم غير الله.

ثم الحكمة في خلق الأرض وجعله الحد الذي ذكر يومين (١) ، وإن كان قادرا على خلق كل شيء بلا تحديد ولا توقيت ـ فقال بعضهم : فيه تعريفه الخلق والتعليم لهم الأناة ـ أي : التأني ـ في الأمور وترك الاستعجال فيها.

والأصل في ذلك عندنا : أن الله ـ جل وعلا ـ جعل أمر الدنيا وأمر هذا العالم على التحديد والتقليب من حال إلى حال نحو ما ذكر من تقليبه وتغييره من حال النطفة إلى حال العلقة ، ومن حال العلقة إلى حال المضغة ، ومن حال المضغة إلى حال تركيب الجوارح ثم إلى حال الإنسان ، ثم من تلك الحال إلى أن يكبر يقلبه من حال إلى حال أخرى ؛ وكذلك أمر الدنيا وما فيها من الفواكه والنبات وغير ذلك ينشئها ويحدثها في كل عام ، وإن كان لو شاء أحدثها في عام واحد وأبقاها إلى آخر الأبد ، لكن لم يفعل ذلك ؛ لما بنى أمر هذا العالم على الفناء والفساد ؛ فيستدل بطريان هذه الأحوال عليها على أصل الوضع ؛ ولذلك ركب فيهم المرض والسقم والسلامة والصحة ، وبنى أمر الآخرة على البقاء والدوام ؛ فعلى ذلك من التحديد والتوقيت في خلق الأرض.

ويحتمل أن يقال : جعل ذلك على التحديد والتقدير ؛ لأنها دار محنة وابتلاء ، والابتلاء إنما يقع على التوقيت والتقدير في أوقات متباينة وأسباب مختلفة ، فأما الآخرة فلا محنة فيها ولا بلية ، فهي على الدوام والبقاء ؛ لذلك كان ما ذكر.

وقوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها).

أي : جعل في الأرض جبالا أرسى بها الأرض وأثبتها ؛ لأنه ذكر أن الأرض كانت على الماء وكانت تميد بأهلها ، لكنه أرساها بالجبال وأقرها بها.

وفيه نوع [لطف منه] ؛ لأنه معلوم أن الجبال التي أثبت بها الأرض ، وأقر بها كانت تزيد في ثقل الأرض ، فالسبيل في التسرب في الماء والانحدار فيه لا الإثبات بها

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : في حكمة خلق الأرض في يومين. م.

٦٣

والإقرار ، لكنه جعل الجبال سبب إثبات الأرض وإقرارها ؛ تعليما منه الخلق تعليق الأشياء بعضها ببعض ، وتعليقها بالأسباب من غير أن يكون الأسباب معونة له على ذلك ، ولو شاء أثبتها وأرساها بلا سبب ولا شيء علقه به ، لكنه علق الأشياء بالأشياء والأسباب ، لما ذكرنا من تعليم الخلق تعليق الأشياء بالأسباب (١).

وقوله : (وَبارَكَ فِيها).

يحتمل (وَبارَكَ فِيها) أي : في الجبال ، فقد جعل الله فيها البركات الكثيرة : منها المياه التي أخرجت منها والعيون ، ومنها الذهب والفضة وغيرهما ، ومنها الثمار والأشجار التي ينتفع بها وأنواع النبات التي تصلح للأدوية ، وغير ذلك من المنافع التي يكثر عدها وإحصاؤها.

ويحتمل قوله : (وَبارَكَ فِيها) أي : في الأرض ، فقد جعل الله تعالى في الأرض البركات والخيرات من المياه التي تخرج منها وأنواع النبات والثمار وغير ذلك مما به قوام الخلق جميعا وغذاؤهم من البشر والدواب ، والله أعلم.

والبركة : هي اسم كل خير يكون أبدا على الزيادة والنماء.

وقوله : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ).

أي : قدر في الأرض أقوات أهلها وأرزاقهم في أربعة أيام سواء للسائلين.

قال الزجاج في قوله : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) ثلاث لغات : النصب والرفع والخفض.

فمن خفضه : (سَواءً) صيره صفة ونعتا للأيام ، كأنه قال : في أربعة أيام سواء ، أي : مستويات ليس بعضها أطول من بعض.

ومن قرأ بالنصب : سواء صيره مصدرا ، أي : سواء وتسوية.

ومن قرأ بالرفع صيره على الابتداء ، يقول ـ والله أعلم ـ : أي ذلك الأقوات التي قدرها سواء للمحتاجين ، أي : كفاية لهم على قدر حاجتهم.

ثم اختلف في قوله : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) :

عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «من سأل عن ذلك وحده كما قال الله تعالى ، ويقول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : وأنا من السائلين» فكأن قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ما ذكرنا ، أي : كفاية للسائلين المحتاجين على السواء.

وقال بعضهم : عدلا للسائلين ، والعدل يخرج على وجهين :

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : غرض الحفظ في الأنساب ، وتعليق الأشياء بالأسباب. م.

٦٤

أحدهما : العدل الذي يناقض الجور ، أي : عدل للسائلين ليس بجور.

والثاني : عدلا للسائلين ، أي : سواء ، يقول لمن يشاء الرزق من السائلين.

وقال الحسن : في أربعة أيام سواء لمن يسأل عن خلقه في أربعة للسائلين أو كلام نحوه.

وقال بعضهم : هو من تقاديم الكلام يقول : قدر فيها أقواتها سواء في أربعة أيام للسائلين تلك الأقوات والأرزاق سواء ، والله أعلم.

ثم في هذا مسألتان :

إحداهما : في تكوين الخلق وإحداثه وما ذكر من تقدير الأقوات في الأوقات ، فعندنا أن الله ـ تعالى ـ لم يزل مكونا محدثا ، وأن ما كان ويكون إلى آخر الأبد إنما يكون بتكوين كان منه في الأول ، لا بتكوين يحدث منه في كل وقت يحدث المكون والخلق ، والأصل في ذلك ما ذكرنا فيما تقدم : أنه إذا أضيف الأوقات إلى فعله فتكوين التوقيت للخلق أعني : المفعول لا لفعله ؛ لما ذكرنا أنه لا حاجة تقع له في المعونة بشيء مما ذكر من التوقيت ، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم قدم المفعول والخلق ، وليعلم أنه محدث.

ومسألة أخرى في ذكر التحديد والتوقيت في خلق ما ذكر ؛ لحكمة جعل في ذلك من غير أن يصعب عليه خلق ذلك في ساعة أو طرفة عين ؛ إذ المعنى في خلق ما ذكر في أيام وأوقات ذلك غير موجود على السواء ، وهو أن الله تعالى عالم بذاته قادر بذاته له قدرة ذاتية وعلم ذاتي لا مستفاد ، فالأوقات إنما يحتاج إليها من كان يعمل بقدرة مستفادة وعلم مستفاد استعانة له بذلك ، فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ ما يكون منه إنما يكون بقدرة ذاتية وعلم ذاتي لا حاجة تقع إلى الاستعانة بشيء من ذلك ؛ لذلك كان ما ذكرنا.

ثم قوله : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ).

الأربعة الأيام التي ذكر هي مع خلق الأرض : يومين لخلق الأرض ، ويومين لتقدير الأقوات لأهلها والأرزاق فيكون أربعة ، ثم ذكر لخلق السموات يومين ، فإذا جمع يكون ستة أيام ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الفرقان : ٥٩] ، فكان تمام ذلك في ستة أيام ، وقد ذكرنا معنى ستة أيام في غير موضع.

وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، يخرج على وجهين :

أي ثم استوت المنافع والأقوات التي قدرها في الأرض وجعلها معايش أهلها بالسماء ؛ لأنه جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ، ما لو لا السماء لم يستو منافع الأرض وما قدر لهم فيها ، فبالسماء استوى ذلك لهم ، أي : تم بذلك ، والله أعلم.

٦٥

والثاني : قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، أي : ثم استوى الهواء والجو الذي بين الأرض والسماء إلى السماء ما لو لا ذلك الهواء لم تستو ؛ لأن السماء لو كانت ملتزقة بالأرض لا هواء بينهما لكانت لا تخرج ما جعل في الأرض من الأقوات والمعايش ، فبالهواء استوى ذلك ، والله أعلم.

ومنهم من يصرف الاستواء إلى الله ـ عزوجل ـ ومعنى ذلك : استوى أمره وملكه بخلق السماء ، أو استوى المقصود بخلق الأرض وأهلها وما فيها بخلق السماء.

وأما التأويلان اللذان ذكرناهما يتوجهان إلى غير ذلك : أحدهما : رجع إلى استواء الهواء ، والثاني : إلى استواء ما جعل في الأرض ، وعلى هذا يخرج ما سئل ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ عند ما روي أن رجلا سأل ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فقال : «قرأت آيتين إحداهما تخالف الأخرى ، فقال له : من قبل رأيك أتيت ، ما هما؟ فقال ذلك السائل : قوله ـ تعالى ـ : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، وقوله تعالى : (السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠]» ، فمراد السائل أن ظاهر الآية الأولى أنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء ، وفي ظاهر الآية الثانية : أنه خلق السماء ثم خلق الأرض ، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ، فدحى الأرض بعد ما خلق السماء ، والله أعلم» ، أراد به : بسط الأرض بعد خلق السماء ، فأما خلق أصل الأرض قبل خلق السماء.

وعندنا أن ليس [بين] ظاهر هاتين الآيتين مخالفة ، ولا فيه بيان أنه خلق الأرض قبل السماء ولا هذا بعد هذا ؛ لأنه ذكر هاهنا أنه خلق الأرض في يومين ثم قال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ذكر الاستواء إلى السماء ليس فيه أنه خلقها بعد خلق الأرض ، بل فيه أنما استوى إليها بعد خلقها وليس فيه إثبات خلقها قبل ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَهِيَ دُخانٌ).

قال بعضهم : دل قوله : (وَهِيَ دُخانٌ) على أنه كان هناك نار حتى خلق السماء بدخانها ، لكن لا نعلم ذلك إلا بالسمع.

ويحتمل أن يكون قوله : (وَهِيَ دُخانٌ) ، أي : شبه الدخان ، لا حقيقة الدخان ، ومنه خلق السماء والأرض.

وقوله : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)

قال بعضهم (١) في قوله : (ائْتِيا) : أعطيا ما جعل فيكما من المنافع والأقوات طوعا أو

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠٤٥٣).

٦٦

كرها. ثم اختلف فيه أنه على التكوين والتسخير ما ذكر من الطوع والكره ، أو على حقيقة القول والأمر في ذلك؟!

قال بعضهم : ذلك على التكوين والتسخير خلقه ، أي : إنشاؤهما وخلقهما على إخراج ما فيهما من المنافع والأقوات والأرزاق التي جعل فيهما ، وكذلك ما ذكر من الطوع والكره لا قولا منه لهما وأمرا ، لكنه طبعهما وأنشأهما كذلك على حقيقة القول والأمر منه لهما ؛ نحو ما ذكر لكل شيء من الجبال وغيرها : أنه يسبح لله ـ تعالى ـ على الوجهين ، لكن شرط خلق الحياة التي لا بد منها للنطق والسماع ؛ فعلى ذلك هاهنا.

وقال بعضهم في قوله : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) : أي ائتيا عبادتي ومعرفتي ، وذلك أن الله تعالى حين خلقهما عرض عليهما الطاعة والشهوة واللذات على الثواب والعقاب (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها ...) الآية [الأحزاب : ٧٢] ، فهذا الإباء والإعطاء هو إعطاء الخلقة والتكوين على ما ذكرنا.

وقوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ).

أي : خلقهن في يومين ، هو موصول بقوله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) ، وقد ذكرنا الوجوه في ذلك.

ثم الأعجوبة في خلق السموات ورفعها أعظم وأكبر من خلق الأرض ، وقد ذكر في خلق السموات من الوقت مثل الوقت الذي ذكر في الأرض ، وهو يومان ؛ ليعلم أن الوقت الذي ذكر في ذلك ، ليس لما يتعذر عليه ذلك ، ويصعب بدون ذلك الوقت ، ولكن لحكمة جعل في ذلك لم يطلع الخلق على ذلك أو كانت الحكمة فيه ما ذكرنا.

وقوله : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها).

وهم الملائكة الذين جعلهم أهلا لها.

وقال قائلون : أي : أمر كل أهل سماء أمرها وامتحنهم بمحنة.

وقال بعضهم : هو مما أمر به وأراد ؛ وهما واحد.

وقوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ).

أي : بالكواكب ، وقوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) التي دنت منكم هي مقابل القصوى من الدنو ، ليس أن هذه السماء التي نراها ونشاهدها مزينة بالكواكب هي سماء الدنيا فانية وغيرها من السماء الآخرة لا يفنى ، بل كلها تفنى يعني : هذه وغيرها بقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] ، وقوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)

٦٧

[الزمر : ٦٧] ، فهن كلهن دنيويات فانيات ، دل أن قوله : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي : التي دنت منكم وهي مقابل القصوى ، لا مقابل الآخرة ، والله أعلم.

وقوله : (وَحِفْظاً) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : حفظناها وجعلناها محفوظة بما ذكر من أن يسترق الشياطين والجن أسماعهم إلى خبر السماء ، وما يتحدث به الملائكة فيما بينهم فيلقون ذلك على أسماع أهل الأرض ، على ما كانوا يفعلون من قبل ، أي : حفظناها بالكواكب التي جعل فيها ؛ لترميهم الكواكب وتقذفهم ؛ ليكون سماع ذلك من جهة الوحي عن لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون إلقاء من ذكر ، وهو كما ذكر في آية أخرى حيث قال : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ...) الآية [الصافات : ٦ ـ ٨]. ويحتمل وجها آخر : (وَحِفْظاً) أي : حفظناها على ما هي حتى لا تسقط على الخلق ؛ كقوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] ، وقوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) [الحج : ٦٥] ونحوه.

وقوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

يقول : ذلك الذي ذكر كله وصنع هو تقدير العزيز العليم ، أي : تقدير من لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.

ويحتمل قوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي : تقدير من له العز الذاتي والعلم الأزلي ، لا أنه قدر ذلك وصنع ليستفيد بذلك العز أو العلم ؛ إذ هو عزيز بذاته وعليم بذاته ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ).

كانت معروفة عندهم ظاهرة أنها نزلت بهم ؛ دل قوله تعالى : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أن صاعقة عاد كانت معروفة عندهم ظاهرة أنها نزلت بهم ؛ لتكذيبهم الرسل وتركهم إجابتهم إلى ما دعوا إليه ، حيث خوف هؤلاء بذلك كأنه يقول : أنذرتكم بتكذيبكم إياه وترككم إجابتي إلى ما دعوتكم إليه بالذي نزل بعاد وثمود ، وتكذيبهم الرسول الذي أرسل إليهم وتركهم الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والله أعلم.

وقوله : (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) لم يرد به عين عذاب أولئك ومثله في رأي العين ، ولكن مثله في الهلاك والاستئصال ؛ ألا ترى أن عذاب عاد وثمود كان مختلفا في رأي العين : عذاب عاد خلاف عذاب ثمود [و] هما في المعنى واحد؟! فعلى ذلك ما أوعد هؤلاء بمثل عذاب عاد وثمود ، لم يرد مثله في رأي العين ، ولكن في المعنى ، وهو

٦٨

كما ذكر في قوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨] ، وقوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) [التوبة : ٣٠] لم يرد به التشابه والمضاهاة على أن نفس القول منهم وعين الكلام كان واحدا ، بل كان سبب كفرهم مختلفا ، وقول هؤلاء خلاف قول أولئك ، وما كان من هذا الفريق خلاف ما كان من الفريق الآخر ، لكن لما كان التكذيب من هؤلاء له كالتكذيب من أولئك والرد له من هؤلاء كهو من أولئك في أن كان كفرا واحدا سواء ، فمن هذه الجهة وصف قلوبهم بالتشابه وأقوالهم بالمضاهاة ، وهذا يدل على أن الاستواء من جهة واحدة يوجب التشابه والتماثل.

وقوله : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ، هذا يحتمل وجوها :

أحدها : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بنبأ من كان [قبلهم] ونبأ من كان بعدهم أنهم جميعا قالوا لقومهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ).

والثاني : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بالوعيد والتخويف بعذاب ينزل بهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) ، أي : من حيث يرونه ويعلمونه (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ، أي : من حيث لا يرونه ولا يعلمون ؛ وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ* أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف : ٩٧ ، ٩٨] ونحوه.

وقيل : يبعث الله الرسل قبلهم وبعدهم بالذي ذكر ، وهو الدعاء إلى توحيد الله وجعل العبادة له ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

هذا القول منهم يناقض قولهم وتكذيبهم الرسل وإنكارهم رسالة البشر وطمعهم رسالة الملائكة ؛ لأنهم ما عرفوا الملائكة ولا عاينوا ، فإنما عرفوا الملائكة وعلموا بمكانهم برسل البشر ، فكيف أنكروا رسالتهم مع ما لو كان الرسل إليهم الملائكة ، لم يعرفوا أنهم ملائكة إلا بقولهم ؛ لما لم يتقدم لهم المعرفة بالملائكة ، فهذا يناقض إنكارهم الرسل من البشر؟!

والثاني : ما قالوا : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قد أقروا رسالتهم حيث قالوا : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ؛ لأنهم لم يقولوا : إنا بما [أرسلتم] إلينا كافرون ، ولكن قالوا : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ) فذلك مما يناقض قولهم ويرد تكذيبهم ، وإنما قالوا ذلك ـ أعني : قولهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ـ تعنتا منهم وعنادا ، وإلا قد علموا أنهم رسل الله فيناقضون بما قالوا على التعنت منهم ، والله أعلم.

٦٩

وقوله : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).

جائز أن يكون استكبارهم في الأرض بغير الحق على أهل الأرض بما ذكروا من فضل القوة لهم وشدتها من بين غيرهم ؛ كقوله تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) فهم ذكروا ذلك ، فجائز أن يكون استكبارهم على أهل الأرض بغير الحق ؛ لشدة بطشهم وقوتهم على غيرهم.

ويشبه أن يكون استكبارهم [رفض] اتباع الرسل ، فلم يروا أنفسهم أن يجعلوها تحت تدبير الرسل وأمرهم ، وأن يخضعوا لهم ويستسلموا لما دعوهم إليه ، وقالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).

ثم قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

هذا استفهام على طريق التقرير ، معناه : قد رأوا وعلموا أن الله الذي خلقهم هو أشد قوة ، والرسل ـ عليهم‌السلام ـ لم يكونوا يوعدونهم بقوى أنفسهم ولا بعذاب يكون منهم حتى قالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، ولكن إنما كانوا يوعدونهم ويخوفونهم بعذاب ينزل من عند الله ، وبقوته وسلطانه يوعدونهم وقد عرفوا قوته وسلطانه ؛ لذلك قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ).

وقوله : (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

دل هذا على أنهم قد كذبوا هودا ، وأنكروا آياته ، وذلك قولهم : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [هود : ٥٣] وإنه قد أتاهم بآيات رسالته.

وقوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً).

ذكر ما أهلكهم من العذاب ، وهو الريح الصرصر الباردة ؛ كذا قال أبو عوسجة.

وقوله : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ).

وهو ما ذكر في سورة الحاقة حيث قال : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ* سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧] ، وقال في موضع : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) [القمر : ١٩]. ثم اختلف في تأويلها :

قال بعضهم (١) : (نَحِساتٍ) مشومات نكدات ؛ وهذا قول القتبي.

وقال بعضهم (٢) : (نَحِساتٍ) أي : شداد.

وقيل : (نَحِساتٍ) من النحس ، يقال نحس يؤمنا ، والنحس : الغبار في الأصل.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٤٧٠) ، وهو قول مجاهد والسدي.

(٢) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير (٣٠٤٧٣).

٧٠

وقوله : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

أي : عذابا يذلهم ويفضحهم عند الخلق جميعا.

وقوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ).

عليهم أذل وأفضح وأشد من عذاب الدنيا.

وقوله : (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ).

يحتمل : لا ينصرون بقوتهم التي كانت لهم ، واعتمدوا عليها (١) بقولهم : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).

ويحتمل : لا ينصرون بالأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم والشفاعة.

وقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ).

يحتمل ما ذكر من الهداية لهم حقيقة الهدى ، وهو التوفيق ، وحقيقة خلق الاهتداء فيهم ، فصاروا مهتدين ، وهو ما سألوا من الآية ، وهي الناقة ، فلما أتاهم على ما سألوا ، آمنوا به وصدقوه ، ثم كفروا به بعد ذلك وكذبوه وعقروا الناقة على ما ذكر.

ويحتمل قوله : (فَهَدَيْناهُمْ).

أي : بينا لهم غاية ما يبين الحق من الباطل بما يعرفه كل ذي لب وعقل أنها آية ، وأنها من الله تعالى ؛ حيث جاءتهم الآية التي سألوها على الإشارة والتعيين وهي الناقة.

وقوله : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

أي : اختاروا الكفر على الهدى ، واختاروا ما به يعمون على ما يبين لهم.

ثم أخبر عما نزل بهم من العذاب باختيارهم العمى على الهدى ، وهو [ما] قال : (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ).

أي : عذاب يهانون فيه ، وهو من الهوان والإذلال ، وكل عذاب الله صاعقة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

أي : أنجينا الذين اختاروا الهدى على العمى ، وكانوا يتقون اختيار العمى على الهدى.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ

__________________

(١) في أ : واعتمدت عليهم.

٧١

يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)(٢٤)

وقوله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ).

أي : نجمع ، والحشر : الجمع ، يجمعون في النار ؛ وهو كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ) [الصافات : ٢٢ ، ٢٣].

وقوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ).

أي : يساقون ؛ كقوله ـ تعالى ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الزمر : ٧١].

وقال بعضهم (١) : (يُوزَعُونَ) أي : يدفعون ؛ كقوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] ، والوزع : الدفع.

وقال بعضهم (٢) : (يُوزَعُونَ) أي : يحبسون ، أي : يحبس أولهم على آخرهم ، حتى إذا اجتمعوا جميعا فعند ذلك يجعلون في النار ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...) الآية [الأنفال : ٣٧].

وقوله : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

كأنهم يوقفون ويحبسون في مكان ، فيعاينون النار ، فيسألون عما كانوا يعملون ؛ وهو كقوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] ، فينكرون ما كان منهم ؛ كقوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] وقوله : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) [غافر : ٧٤] ، فعند ذلك ينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بما عملوا وما كان منهم ، وهو قوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال بعضهم : (جُلُودُهُمْ) : كناية عن الفروج ؛ وهو قول الحسن.

وقوله : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ينطق ، إذ لا كل شيء ينطق ، ذكروا (كُلَّ شَيْءٍ) ، وأرادوا به الخاص لا العام ، والله أعلم.

وكأن غير هذا أقرب ، يقولون : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يعصون [به] الله تعالى ، وهو ما ينطق الله الأشياء التي بها عصوا ربهم ، وهي الأصنام التي عبدوها وغيرها مما عبدوا دون الله ؛ كقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) الآية [الفرقان : ١٧] ، وقوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) [يونس : ٢٨] ، وما ذكر من إخبار الأرض وحديثها بما عملوا عليها بقوله : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة : ٤] ،

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٧٩).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه الطبراني كما في الدر المنثور (٥ / ٦٧٩) ، وهو قول قتادة والسدي ومجاهد وأبي رزين وعكرمة وابن جريج.

٧٢

وغير ذلك من الآيات التي فيها بيان : أنه ينطق الله تعالى الأشياء التي عبدوها وعصوا بها ربهم ؛ فعلى ذلك ينطق الله الجوارح التي بها عصوا ربهم ؛ فتشهد عليهم بجميع ما كان منهم.

وقوله : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ).

اختلف فيه :

قال بعضهم : أي : ما كنتم تعلمون وتستيقنون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ، الظن هاهنا على هذا التأويل : حقيقة الظن ، أو الجهل ، أي : ولكن جهلتم أن الله يعلم كثيرا مما تعملون ، فلو كان تأويل الآية ما ذكر هؤلاء ففيه دلالة أن العذاب قد يلزم ويجب وإن جهل ذلك ولم يتحقق عنده العلم به (١) ، إذا كان بحيث إمكان الوصول إلى علم ذلك ومعرفته بالنظر والتأمل والتفكر بغير ذلك من الأسباب ، لكنه ترك التأمل فيه ، فلم يعلم ذلك ؛ فلم يعذر بجهله ، وهكذا الحكم أنّ من مكن له العلم وأسباب المعرفة فلم يتكلف معرفته ، لم يعذر في جهله ؛ ولهذا قال أبو حنيفة في الأطفال أن : لا علم لي بهم ؛ لما لا يعلم أنهم قد بلغوا المبلغ الذي يدركون الأشياء بالتأمل والتفكر أم لا (٢)؟!

وقال بعضهم : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ، أي : كنتم لا تقتدرون أن تستتروا من سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، فأحد لا يستطيع أن يستتر من نفسه إذا عمل شيئا ، فذلك ظنكم أن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون في السر.

وقوله : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ).

أي : وذلكم جهلكم على ما ظننتم بأن الله ـ تعالى ـ لا يعلم ذلك ، وهو لا يخفى عليه خافية ، فظنكم ذلك أرداكم ، أي : أغواكم وأضلكم عن الهدى.

وقال قتادة : يا ابن آدم ، إن عليك لشهودا غير متهمة : من بدنك ، فراقبهم ، واتق الله في سر أمرك وعلانيتك ؛ فإنه لا يخفى عليه خافية : الظلمة عنده ضوء ، والسر عنده علانية ، ومن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن ولا قوة إلا بالله.

ثم قال : الظن ظنان : ظن منج ، وظن مرد (٣) ، فأما المنجي فقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) الآية [البقرة : ٤٦] ، وما قال : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] ، وأمّا الظن المردي فقوله : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ، وقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : في عدم الغدر بالجهل. م.

(٢) ثبت في حاشية أ : توقف الإمام الأعظم في الأطفال. م.

(٣) ثبت في حاشية أ : ظن منج ، وظن مهلك. م.

٧٣

ظَنًّا) [الجاثية : ٣٢] ونحوه.

قال : وذكر أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول ويحدث ذلك عن ربه تعالى : «عبدي ، أنا عند ظنك بي ، وأنا معك إذا دعوتني» (١).

وقال الحسن : إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم ، فأما المؤمن فأحسن بربه الظن ، فأحسن العمل ، وأما الكافر والمنافق ، فأساء به الظن ؛ فأساء العمل ، ثم تلا قوله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ...)(٢) الآية ، وقال : الجلود : كناية عن الفروج.

وفي حرف حفصة : وما كنتم تخشون ، وفي حرف أبي وابن مسعود : ولكن زعمتم أن الله لا يعلم كذا ؛ وكذلك في حرفهما : فذلكم زعمكم الذي زعمتم والزعم في كلام العرب : الكذب (٣) ، وفيه يستعمل.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَرْداكُمْ).

قال بعضهم (٤) : أهلككم ، والردى : الهلاك ، وقيل : أورد المهالك.

ويحتمل (أَرْداكُمْ) أي : أغواكم وأضلكم على ما ذكرنا.

وقوله : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ، هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : أي : فإن يصبروا على ما هم عليه من الأعمال إلى أن ختموا به ، فالنار مثوى لهم في الآخرة.

والثاني : أي : فإن يصبروا في الآخرة فالنار مثوى لهم ، أي : لا ينفعهم الصبر على ذلك ، ولا يكون الصبر سبب الفرج عن ذلك ؛ وهو كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ خبرا عنهم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١] ، فيكون أحد التأويلين في الدنيا والثاني في الآخرة.

وقوله : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ).

معناه ـ والله أعلم ـ : وإن يستقيلوا ما كان منهم فما هم من المقالين ، أي : أثقال ذلك منهم ولا يرضى عنهم وإن استرضوا.

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد (١٣ / ٣٩٥) باب قول الله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٧٤٠٥) وانظر : (٧٥٠٥ ـ ٧٥٣٦ ـ ٧٥٣٧) ، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (٤ / ٢٠٦١) باب الحث على ذكر الله تعالى (٢٦٧٥).

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٠٥٠٠).

(٣) ثبت في حاشية أ : الزعم في كلام العرب. م.

(٤) قاله السدي أخرجه ابن جرير (٣٠٤٩٩).

٧٤

قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)(٢٩)

وقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ).

كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ...) الآية [الزخرف : ٣٦].

ثم اختلف في قوله : (وَقَيَّضْنا) :

قال بعضهم (١) : هيأنا لهم في الدنيا قوما من الشياطين وغيرهم.

وقال بعضهم : أي : مكنا للشياطين حتى يقذفوا في قلوبهم من الوساوس وغيرها أو كلام نحوه.

وقال بعضهم : أي : خلينا بينهم وبين الشياطين حتى عملوا بهم ما ذكر.

وقوله : (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ، اختلف في قوله : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ؛ قال بعضهم : (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : حسنوا لهم التكذيب بالآخرة والحساب والثواب والعقاب ، أن ليس ذلك.

وقوله : (وَما خَلْفَهُمْ) ، أي : حسنوا لهم أمر الدنيا وأنها دائمة باقية.

وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ، أي : ما عملوا ، (وَما خَلْفَهُمْ) أي : وما يريدون أن يعملوا من بعد.

والثالث : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : ما عملوا بأنفسهم ، (وَما خَلْفَهُمْ) ما سنوا لغيرهم من بعدهم ، كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥] ، والله أعلم.

وقوله : (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ.)

يحتمل : وجب عليهم القول بالعذاب أو السخط.

وقوله : (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).

أي : مع أمم ، وذلك جائز.

وقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من قبل هؤلاء من الإنس والجن من الأمم الخالية (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

__________________

(١) قاله مقاتل كما في تفسير البغوي (٤ / ١١٣).

٧٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ).

أي : لا تسمعوا أنتم بأنفسكم والغوا فيه ؛ لئلا يسمع منه قراءته ولا صوته ، دل هذا القول على أنهم قد عرفوا أنه حجة ، وأنه من عند الله جاء ، وأن من سمع ذلك أذعن له وأطاع إذا لم يكابر عقله ؛ ولهذا قالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) ؛ لئلا يذعن [له] ولا يطاع (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

وقال بعضهم (١) : قوله : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) بالمكاء والتصدية ، وكانوا يفعلون ذلك ؛ ليخلطوا عليه صلاته وقراءته لعلكم بالمكاء والتصدية لقولهم : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥].

وقوله : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

أي : يذيقن الذين كفروا وداموا على الكفر حتى ماتوا على ذلك ، فأما من كفر في وقت ثم ترك ذلك ، وأسلم ، فليس له ذلك.

ثم من الناس من يقول : إن قوله : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) أراد به في الدنيا ، وقوله : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) ، في الآخرة ، يجعل أحد العذابين في الدنيا و [الآخر] في الآخرة.

وجائز أن يكون كله في الآخرة.

ثم دل قوله : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : لهم محاسن في الدنيا ، لكن تلك المحاسن تبطل ولا يجزون بها شيئا ، وإنما يجزون على المساوئ التي عملوها في الدنيا ؛ لأن المحاسن إنما تثبت وتبقى ويستوجب بها الجزاء إذا أتوا بالإيمان والتوحيد ، فأما إذا لم يأتوا به لم ينتفعوا بتلك المحاسن ، ولم يجزوا بها ، وقد ذكر للمؤمنين مقابل ذلك : أن يكفر عنهم سيئاتهم ويجزوا بأحسن ما كانوا يعملون ، وهو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) [الأحقاف : ١٦].

وقوله : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [الزمر : ٣٥] وعد للمؤمنين تكفير المساوئ التي عملوا في الدنيا والجزاء لهم بالمحاسن التي عملوها ، ووعد للكافرين إسقاط محاسنهم والجزاء على مساوئهم لما لم يأتوا بالإيمان ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ).

هذا يدل على أن ذلك في الآخرة.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠٥٠٧ ـ ٣٠٥٠٨).

٧٦

وقوله : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

قوله : (دارُ الْخُلْدِ) ، أي : دار البقاء يبقون فيها أبدا ، فيكون اسما للجنة ، ويحتمل أن يكون في الجنة دار أو موضع يسمى : دار الخلد فيكون اسم موضع خاص ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).

قال بعضهم (١) : الذي أضلهم من الجن هو إبليس ؛ لأنه أول من عصى الله تعالى وسن لهم ذلك ، ومن الإنس ولد آدم الذي قتل أخاه ؛ لأنه أول من سن القتل ، ولكن عندنا أنهم سألوا أن يريهم الذي أضلهم كل جني يوسوس ويقذف في قلوبهم الوساوس والمساوي ، وكل إنسي يدعوهم ظاهرا إلى الضلال ، وهكذا كل ضال وكافر إنما كان ذلك الضلال والكفر لوساوس من جني أو تلقين من إنسي بلسانه. سألوا الله تعالى أن يجعلهم ظاهرين فيجعلوهم تحت أقدامهم ؛ لما يكون العذاب في كل ما كان أسفل أشد ؛ لذلك سألوا ذلك وهو ما سألوا ربهم زيادة العذاب لهم في آية أخرى حيث قال : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨].

وقوله : (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٦١] فعلى ذلك سؤال هؤلاء.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٣٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا).

روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية قال : «أمتي أمتي ؛ لأن اليهود قالوا : ربنا الله ، ثم قالوا : عزيز ابن الله ، وأن النصارى قالوا : ربنا الله ، ثم قالوا : المسيح ابن الله ، وأن أمتي قالوا : ربنا الله ، ولم يشركوا به أحدا» ، وكذلك روي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : «هم الذين لم يشركوا بالله شيئا» (٢) فإن ثبت ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فهو تفسير الاستقامة التي ذكر ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله علي بن أبي طالب أخرجه ابن جرير (٣٠٥١١ ـ ٣٠٥١٢ ـ ٣٠٥١٣ ـ ٣٠٥١٤).

(٢) أخرجه ابن جرير (٣٠٥١٧ ـ ٣٠٥٢٠) ، وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٨١).

٧٧

وقال بعضهم (١) : أي قالوا ربنا الله ، ثم استقاموا في إخلاص العمل له والقيام بذلك.

وقال بعضهم (٢) : ثم استقاموا على أداء الفرائض والشرائع والحدود.

وقيل (٣) : ثم استقاموا في الطاعات له.

والاستقامة وجوه ثلاثة :

أحدها : في الاعتقاد ، اعتقدوا ألا يعصوه ويجتنبوا جميع ما يخالف أمره ونهيه.

والثاني : استقاموا في اجتناب جميع ما يخالف ما أعطوا بلسانهم : أنه ربنا الله ، وقاموا بوفاء ما أعطوا بلسانهم قولا وفعلا.

والثالث : قاموا في جميع الأعمال مخلصين لله تعالى لم يشركوا فيها أحدا لأحد فيها نصيبا من المراءاة غيرها ، بل خالصا لله تعالى سالما ، والله أعلم بما أراد بذلك.

وقوله : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) :

اختلف فيه :

قال بعضهم (٤) : ذلك عند قبضهم الأرواح في الدنيا يبشر لهم بما ذكر.

وقال بعضهم (٥) : تقول لهم الملائكة يوم القيامة عند معاينتهم الأهوال والأفزاع ؛ ليسكن بذلك قلوبهم عند تلك الأهوال والشدائد ، والله أعلم.

ثم اختلف في قوله : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) أي : لا تخافوا ما أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم من الأهل والأولاد.

وقيل (٦) : لا تخافوا ما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة ، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أهل أو دين.

وقال بعضهم : لا تخافوا من العذاب ولا تحزنوا على فوت ما وعدتم من النعيم ؛ فإنها دائمة لا يفوت ولا ينقطع أبدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) :

__________________

(١) قاله عثمان بن عفان كما في تفسير البغوي (٤ / ١١٤).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠٥٢٩) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٨٢).

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٥٢٨).

(٤) قاله مجاهد بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٣٠٥٣١ ـ ٣٠٥٣٢) والفريابي ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور (٥ / ٦٨٢) ، وهو قول السدي أيضا.

(٥) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٨٢).

(٦) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠٥٣٥) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٨٢).

٧٨

على ألسن الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ فمن قال : إن البشارة التي ذكر في الدنيا عند قبض الأرواح ، فلما ذكر في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (١) ؛ لأن المؤمن يرى له الجنة ويبشر بها في ذلك الوقت ؛ فيصير الدنيا له سجنا لما عاين مما هيّئ له وجعل له من الثواب ، والكافر لما رأى له مكانه في النار أو بشر به صارت له الدنيا جنة ؛ وعلى ذلك يخرج قوله ـ عليه‌السلام ـ : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (٢) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : يشبه أن يكون هذا القول من الذين بشروهم بما بشروا يقولون : نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وجائز أن يكون ذلك من الله تعالى ، وإن كان المذكور على أثر البشارة الملائكة ؛ وذلك كقوله ـ تعالى ـ : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ* إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [غافر : ٥٠ ، ٥١] ثم إن كان ذلك من الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيكون تأويله (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) في عصمتكم في الدنيا ، وأولى بكم في الآخرة في المعونة ، أو نقول : نحن أولى بكم في النصر والتوفيق في الدنيا والجزاء والثواب في الآخرة ، والله أعلم. وإن كان ذلك من أولئك الذين بشروهم يقولون : نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا بالصحبة ، فكذلك يكون في الآخرة.

وقوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي : لكم ما ترغب به أنفسكم وتتوق إليه.

أو لكم فيها ما تتلذذ به أنفسكم وتتنعم بها.

وقوله : (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ).

قيل (٣) : ما تتمنون وتسألون ، أو يقول : ما تدعون من الدعوى.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) كتاب الزهد (١ ـ ٢٩٥٦) ، والترمذي (٤ / ٤٨٦) كتاب الزهد : باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن (٢٣٢٤) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٧٨) ، كتاب الزهد : باب مثل الدنيا (٤١١٣).

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٣٦٤ ، ٣٦٥) كتاب الرقاق : باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (٦٥٠٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٥ ـ ٢٠٦٦) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار : باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (١٥ ـ ٢٦٨٤).

(٣) انظر تفسير البغوي (٤ / ١١٤).

٧٩

وقوله : (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).

قال بعضهم (١) : (نُزُلاً) أي : رزقا من غفور رحيم وهو من الإنزال ، وقال بعضهم : (نُزُلاً) أي : إنزالا في المنزل من غفور رحيم ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً).

كأنه يقول : ومن أحسن مذهبا ومسيرة ممن دعا إلى الله ، أي : إلى توحيد الله ودينه ، أو دعا إلى المعروف والنهي عن المنكر ، أي : دعا غيره إلى ذلك وعمل بنفسه ، وهذا الحرف يجمع جميع الخيرات والطاعات ، فإن كان قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) على ما ذكرنا من المذاهب والسيرة فكأنه يقول : ومن أحكم وأتقن مذهبا وسيرة ممن ذكر ، وإن كان على حقيقة القول فيكون قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) أي : ومن أصدق قولا ممن قال ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

أي : اختار الانتساب إلى الإسلام من بين غيره من الأديان والمذاهب ، وقد أبى سائر الفرق الانتساب إلى الاسلام سوى أهل الإسلام.

والثاني : انتسب إلى ما خص الله سبحانه وتعالى تسميتهم به وهو الإسلام ؛ كقوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج : ٧٨] ، وقوله : (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] ، وقال في حق إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] ، ويكون اسم المؤمن خاصّا لأهل الحق ؛ فإن اليهود والنصارى سلموا أنفسهم مؤمنين ، ولا يمتنعون عن إطلاق اسم المؤمن ويمتنعون عن إطلاق اسم المسلم ؛ ولهذا يقال : دار الإسلام ، ولا يقال : دار الإيمان ، وإن كان الإسلام والإيمان واحدا ؛ لاختصاص هذا الاسم بهؤلاء ، والله أعلم.

أو يقال : إنه اختار النسبة إلى الإسلام ، وغيرهم من الناس انتسبوا إلى ما لهم من العز في الدنيا والشرف فيها ، وغير ذلك من الأسباب التي كانت لهم في الدنيا.

ثم اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم (٣) : هو المؤذنون ، وعلى ذلك رويت الأخبار أنها نزلت في المؤذنين.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٤ / ١١٤).

(٢) قاله السدي وابن زيد أخرجه ابن جرير (٣٠٥٤١ ـ ٣٠٥٤٢) ، وهو قول الحسن وابن سيرين أيضا.

(٣) قالته عائشة ـ رضي الله عنها ـ أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٦٨٤) ، وهو قول عكرمة ، وقيس بن أبي حازم أيضا.

٨٠