تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٩

بَعْدُ) [الروم : ٤] ، ويذكر ويراد به المفعول ؛ كقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧] أي : ما يكون بأمره مفعولا ، ويكون موعود الله مفعولا ، والله أعلم. وما ذكر الصلاة أمر الله.

ثم لسنا ندري ما كان من وعده لرسوله حتى أخبر أنه كائن ، فجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل : إنه وعد له أن يعذب كفار مكة يوم بدر بالقتل وغير ذلك ، فكذبوه ، وقالوا مستهزءين به : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] قال : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) يحتمل غيره.

وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) :

جائز أن يكون ما ذكر في قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] باستغفاره إياه.

وجائز أن يكون قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) [الفتح : ٢] ما يغفر له من أمته بشفاعته كما ذكر في الخبر : «يغفر للمؤذن مد صوته» (١) أي : يجعل له الشفاعة إلى حيث يبلغ صوته.

وقوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).

قد ذكرنا التسبيح بحمد ربه ، ثم جائز أن يريد بالتسبيح نفس التسبيح ، فإن كان كذلك فيكون ذكر العشي والإبكار ليس هو ذكر التوقيت له ، ولكن الأوقات كلها الليل والنهار ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الكهف : ٢٨] : ليس يريد نفس الغداة والعشي خاصة دون غيرهما من الأوقات ، بل هما عبارة عن جميع الأوقات كأنه يقول : اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم آناء الليل والنهار ؛ فعلى ذلك الأول يحتمل هذا ، والله أعلم.

وإن كان المراد من التسبيح هاهنا : الصلاة ، فكأنه يقول : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) كناية عن صلاة النهار.

أو أن يكون (وَالْإِبْكارِ) كناية عن صلاة الغداة ، و (بِالْعَشِيِ) كناية عن صلاة العشاء على ما ذكره بعض الناس ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ١٣٦) ، والبزار (٣٥٥ ـ كشف الأستار) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (١ / ٣٢٥) : رواه أحمد والطبراني في الكبير والبزار ... ورجاله رجال الصحيح.

٤١

وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(٥٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ).

قال عامة أهل التأويل (١) : إن اليهود جادلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدجال أنه منهم ، وأنه في الطول كذا ونحوه ؛ وعلى ذلك نسق (٢) الآيات التي تتلو هذه الآية.

ولكن لسنا ندري بما ذا صرفوا مجادلتهم في آيات الله إلى المجادلة في الدجال ، ولا يسع أن نحمل ما ذكر من مجادلتهم في آيات الله على المجادلة في الدجال ، إلا أن يثبت خبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التواتر أن المجادلة المذكورة في الآية في الدجال ؛ فحينئذ يصرف إلى ذلك ، والله أعلم.

ثم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي : يجادلون في دفع آيات الله بغير حجة أتتهم من الله ، وكانت المجادلة في دفع آيات الله من رؤساء الكفرة وأكابرهم ، كانوا يموهون بمجادلتهم في دفع آيات الله تعالى والطعن فيها على أتباعهم وسفلتهم ؛ ليبقى لهم الرئاسة والمأكلة التي كانت لهم ، وهو ما ذكر : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ...) الآية [الأنعام : ١١٢] ، (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣] وغير ذلك من الآيات ، لم يزل الأكابر منهم والرؤساء يطعنون في آيات الله تعالى ويدفعونها ، يريدون التمويه والتلبيس على أتباعهم وسفلتهم ، ليبقى لهم العز والشرف الذي كان لهم ، ويبطلوا به الحق ، ويطفئوا نوره ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [الكهف : ٥٦] ، وقوله ـ تعالى ـ : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٢] هذا كان مرادهم من مجادلتهم في آيات الله والطعن فيها.

ثم أخبر ـ عزوجل ـ أنهم يجادلون ، ويفعلون ذلك ؛ تكبرا منهم على آيات الله والخضوع لرسله ، حيث قال ـ عزوجل ـ : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ).

أي : ما في صدورهم إلا كبر ، أي : كبرهم هو الذي حملهم على المجادلة في آيات الله ، ثم الذي حملهم على الكبر جهلهم بسبب العز والشرف ، ظنوا أن العز والشرف إنما يكون بالأتباع الذين يصدرون عن آرائهم ، ولو عرفوا منهم يكون العز والشرف ، لكانوا لا

__________________

(١) قاله أبو العالية أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٦٦١) ، وهو قول كعب الأحبار وابن جريج أيضا.

(٢) في أ : نسقوا.

٤٢

يفعلون ذلك ، إنما العز والشرف في طاعة الله تعالى واتباع أمره ، ليس في اتباع من اتبعهم ولا في ائتمار من ائتمرهم ، ولكن فيما ذكرنا ، والله أعلم.

ثم أخبر أنهم ليسوا ببالغين إلى ما قصدوا من إطفاء النور الذي أعطى المؤمنين ، ولا إدحاض الحق وإبطاله حيث قال ـ عزوجل ـ : (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ، وقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

قال عامة أهل التأويل (١) : أمره أن يستعيذ بالله من فتنة الدجال ، لكن عندنا : أمره أن يتعوذ بالله من مكائد أولئك الأكابر والفراعنة ، قد هموا أن يمكروا به ويكيدوا ، أمره أن يتعوذ بالله من مكرهم وكيدهم ، كما أمره أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، حيث قال : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ....) الآية [المؤمنون : ٩٧] ، وهذا أولى من الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).

قال أهل التأويل : أي : لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال ، لكن قد ذكرنا بعد صرف الآية إلى الدجال.

ثم يحتمل قوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وجهين :

أحدهما : الآية نزلت في مقرين بخلق السماء والأرض ، منكرين بالبعث ؛ يقول : إن خلق السموات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير أكبر وأعظم من إعادة الناس ، فإذا عرفتم أنه قدر على خلق السموات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير ، لكان قدرته على إعادة الخلق أحق ؛ إذ إعادة الشيء في عقولكم أهون من البداية ؛ كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، فكيف أنكرتم قدرته على البعث وقد أقررتم بقدرته على خلق ما ذكر؟!

والثاني : أن تكون الآية نزلت في مقرين بخلق الناس منكرين بخلق السموات والأرض ؛ يقول : إن خلق السموات والأرض وإمساكها في الهواء بلا تعليق من الأعلى ولا عماد من الأسفل ، مع غلظها وكثافتها أكبر وأعظم في الدلالة على حدثها وخلقها من خلق الناس ؛ لأن خلق الناس إنما يكون بالتغير والتولد من حال إلى الحال الأخرى ، فيجوز أن يتوهم كون ذلك وافتراقه ثم اجتماعه من بعد وظهور ذلك منه ، وأمّا السماء فهي على حالة واحدة فلا يتمكن توهم ذلك لما ذكرنا.

__________________

(١) هو قول أبي العالية وغيره كما سبق.

٤٣

ويحتمل أن تكون الآية في نازلة كانت وسبب ، لسنا نحن نعرف ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ).

قال بعضهم (١) : لا يستوي من عمي من توحيد الله وشكر نعمه [و] من أبصر وحدانية الله وقام بشكر نعمه ، كما لم يستو عندكم من جهل حق آخر وكفر نعمه وإحسانه [و] من عرف حقه وقبل إحسانه وقام بشكره ، فإذا عرفتم أنه لا استواء بين هذين عندكم ، فاعرفوا أنه لا يستوي من عمي عن وحدانية الله وشكر نعمه [و] من أبصر وحدانيته وقام بشكره ، وكذلك ما ذكر من قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) يقول : إذا عرفتم أنه لا يستوي من آمن بالله وصدق خبره وأحسن إليه [و] من كذبه وأساء إليه ؛ فعلى ذلك لا يستوي من آمن بالله وصدقه وقابل إحسانه بالشكر [و] من كذبه وكفره نعمه وإحسانه.

وقال بعضهم : أراد بقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) حقيقة الأعمى البصر والبصير نفسه ؛ يقول : تعرفون أنه لا يستوي الأعمى أعمى البصر [و] البصير نفسه في الدنيا ؛ فعلى ذلك لا يستوي من عمي عن دينه [و] من أبصر في الآخرة ، وقد عرفتم أنهم قد استووا في هذه الدنيا ـ أعني : المسيء والمحسن والصالح والمفسد والمطيع والعاصي ـ وفي الحكمة : التفريق بينهما ؛ دل أن هناك دارا أخرى يفرق بينهما فيها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ).

أي : قليلا ما يتذكرون أن لا استواء بين من ذكر من المحسن والمسيء والصالح والمفسد والمطيع والعاصي ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أخبر أنها آتية لا محالة وقد ذكرنا : إنما صار خلق الدنيا وما فيها حكمة بالساعة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١١ / ٧٢).

٤٤

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٦٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ...) الآية.

نزلت في أهل التوحيد يقول : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، ثم تخرج على الاستغفار مرة ؛ لما كان منهم من التضييع في حقوق الله تعالى وما أمرهم به ونهاهم عنه والتفريط في ذلك ، استغفروا أغفر لكم.

ويحتمل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) : اطلبوا مني التوبة عن ذلك أتوب عليكم ، والله أعلم.

وإن كانت الآية في أهل الكفر فيكون قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، أي : وحدوني أغفر لكم.

ويحتمل اعبدوني أغفر لكم ؛ وهو كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، وقد جاء في بعض الأخبار عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدعاء هو العبادة (١) ، ثم قرأ : ادعونى أستجب ...» ، وفي بعض الأخبار : «الدعاء مخ العبادة» (٢) ، وأصل هذا : أنه ينظر كل أحد إلى ما ارتكبه ، فإن كان سببا يستوجب به العقوبة كان استغفاره القيام بقضاء ما تركه وضيعه ، والعزم على ألا يعود إلى ذلك أبدا ، وإن كان سببا غير معروف ، تركه [و] يستغفر الله تعالى في ذلك ، ويطلب منه التجاوز والمغفرة ، وأصل ذلك ما قال الله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي).

ذكر الإجابة بالشريطة ، وهو أنهم إذا آمنوا به وأوفوا عهده يعرف لهم ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ).

استدل بعض الناس بهذه الآية على أن قوله : (ادْعُونِي) إنما أراد به العبادة على ما ذكرنا.

فإن قيل : إن هذه السورة نزلت بمكة ، وأهل مكة كانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وفي ظاهر ذلك أنهم لا يستكبرون عن عبادته ، لكنهم لم يروا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٧١٤) ، وأبو داود (١٤٧٩) ، والترمذي (٢٩٦٩) ، وابن ماجه (٣٨٢٨) ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

(٢) أخرجه الترمذي (٣٣٧١) ، والطبراني في الأوسط (٣٢٢٠) ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب ـ يعني ضعيف.

٤٥

أنفسهم أهلا لعبادة الله فعبدوا غيره دونه ، كمن يعظم ويخدم خادما من خدم ملك من ملوك الدنيا لا يكون مستكبرا عن خدمة الملك.

لكن تأويل الآية يخرج على وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى أمر عباده بطاعة رسوله والإجابة له إلى ما يدعوهم ، فإذا لم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه ولم يطيعوه استكبارا منهم وتكبرا عليه ، صار ذلك منهم كالاستكبار عن طاعة الله وعن عبادته.

والثاني : أنهم وإن كانوا عبدوا الأصنام رجاء أن تقربهم إلى الله زلفى ، ولم يقصدوا قصد الاستكبار عن عبادته فهم تركوا عبادته ، مع أنهم أمروا بها وبلغ إليهم أمره على ألسن الرسل ، فكأنهم استكبروا عن عبادة الله تعالى ؛ إذ في الشاهد يخدم المرء لبعض خواص الملك ليقربه إليه : إذا أمره الملك أن يخدمه وقربه إلى مجلسه فامتنع ـ يقدر ذلك منه استكبارا ، ويبين أن خدمته لذلك ما كان ليقربه إلى الملك ؛ حيث قربه فلم يقرب ، ففي الغائب كذلك ؛ لذلك كان استكبارا منهم ، والله أعلم.

وقوله : (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ).

قال القتبي وأبو عوسجة (١) : دخرين : صاغرين ذليلين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً).

يذكرهم نعمه التي أنعم عليهم ، يستأدي بذلك شكره ، حيث قال : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) راحة لأنفسكم وأبدانكم ، (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) تبصرون فيه معايشكم وما تحتاجون إليه.

ثم قوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : يبصر به وفيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أخبر أن ذلك كله منه لهم فضل ومنة ورحمة لا باستحقاق يستحقون ذلك قبله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

يقول : ذلك الذي صنع بكم هو ربكم لا الأصنام التي تعبدون من دونه ، (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) هو خلقكم وخلق كل شيء واحد لا شريك له ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : أنى تصرفون وتعدلون عن عبادته والقيام بشكره ، والله أعلم.

__________________

(١) وهو قول السدي أيضا ، أخرجه ابن جرير (٣٠٣٩٠).

٤٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

عن عبادته والقيام بشكره قبلكم ، وأصل الإفك : الصرف ؛ كقوله : (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) [الأحقاف : ٢٢] أي : لتصرفنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً).

يذكرهم عظم نعمه عليهم حيث جعل لهم الأرض بحيث يقرون عليها ويتعيشون ، والسماء بناء عليهم حيث لا تسقط عليهم ، وجعل منافع بعضها متصلة بمنافع البعض على بعد ما بينهما ؛ ليعلم أن ذلك كله صنع واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : قوله : (فَأَحْسَنَ) أي : أحكم وأتقن في الدلالة على معرفة وحدانية الله تعالى وربوبيته ، على ما أظهر في كل شيء من الدلالة على وحدانيته وربوبيته.

والثاني : قوله : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، أي : حسن تركيبها منتصبا قامتها غير منكبة كسائر الصور التي خلقها منكبة على وجهها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

قال بعض أهل التأويل : أي : رزقكم من الحلال ، لكن الأشبه : أي : رزقكم من أطيب ما أخرج من الأرض ؛ لأن الله تعالى أخرج من الأرض نباتا مختلفا جعل أطيبه وألينه رزقا للبشر ، وسائره رزقا للدواب.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ).

ذلك الذي صنع بكم هذا هو ربكم ، لا الأصنام التي تعبدونها.

(فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

قال أهل التأويل : (الْحَيُ) : الذي لا يموت أبدا ، لكن هذا مما يعرفه كل أحد ، وأصل الحي هو النهاية والغاية في الثناء عليه والمدح ، لا كل شيء يبلغ في الانتفاع به غايته يسمى : حيّا ، نحو الأرض والأشجار وكل شيء يبلغ في الانتفاع به ، والله أعلم.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

هو المعبود في لسان العرب ، ويسمى العرب كل معبود : إلها ، كأنه يقول : لا إله ولا معبود يستحق العبادة إلا هو (١).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : إله ، بمعنى : معبود. م.

٤٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

أي : ادعوه بإخلاص الدين له.

ثم يحتمل قوله : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ) وجهين :

أحدهما : أي اعبدوه مخلصين له العبادة ، لا تشركوا فيها غيره ؛ من نحو ما كانوا يعبدون الأصنام دونه رجاء الشفاعة لهم وتقريبهم إليه ، أخلصوا العبادة والدين ، والإخلاص : هو التصفية له.

والثاني : ادعوه على حقيقة الدعاء له والتسمية ؛ كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : ادعوه وسموه : إلها ، لا تدعوا ولا تسموا غيرا : إلها ؛ لأنهم كانوا يسمون ويدعون الأصنام التي عبدوها : آلهة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أي : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ) على خلقه بما أنعم عليهم وصنع إليهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٦٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي).

كان الكفرة دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبادة ما عبدوا هم من الأصنام ، فقال : إني نهيت عن ذلك ، وهو كما ذكر في غير آي من القرآن ، حيث قال : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ١١] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] وغير ذلك من الآيات.

وقوله : (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) ، يحتمل وجهين :

إن كان المراد من البينات القرآن أو الآيات التي جعلت معجزة له ، على ما قاله أهل التأويل ـ فهو على التأكيد والإبلاغ ، فإنه كان النهي عن عبادة غير الله تعالى والشرك بالله لازما قبل مجيء الرسل وما أتوا من البينات على ما تقدم ، والله أعلم.

والثاني : يحتمل قوله : (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) : العقل الذي يعرف به ذلك ، ويكون قوله : (جاءَنِي) أي : ظهر لي ؛ كقوله تعالى : (جاءَ الْحَقُ) [الإسراء : ٨١] أي : ظهر الحق ، والله أعلم.

وقوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

٤٨

أي : أمرت أن أجعل الخلق وكل شيء لله سالما خالصا لا أشرك فيه غيره ، والله الموفق.

وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) بذكرهم الوجوه التي بها يوصل إلى معرفة شكر ما أنعم عليهم ؛ قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : خلق أصلكم من تراب ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي : خلقكم من نطفة ، يذكرهم هذا ؛ ليعلم خلقه إياهم من تراب ـ أعني : خلق أصلهم ليس باستعانة منه بذلك التراب ؛ لأنه لو كان على الاستعانة منه ، لكان لا معنى لخلق أنفسهم من الماء على الصورة التي جعلهم من تراب وعلى جنسه ؛ إذ ليس في الماء من آثار التراب شيء ، ولا في الماء والنطفة من آثار العلقة شيء ، ولا في العلقة من آثار الطفولية شيء من اللحم والعظم والجلد والشعر وغير ذلك ، ليس في التراب معنى الماء ولا في الماء معنى التراب ، ولو كان على الاستعانة بذلك لكان المخلوق من أحدهما لا يكون مثل المخلوق من الآخر في تركيبه وتصويره ، وهما يختلفان في أنفسهما ، وكذلك ما ذكر من تقلبه من حال إلى حال وتبديله من نوع إلى نوع ، وليس في كل [حال] يقلب إليها من الحال التي كانت شيء ولا من شبهها ؛ ليعلم أن كل ذلك إنما كان بقدرة ذاتية وعلم ذاتي وتدبير ذاتي كذلك ، لا باستعانة شىء مما ذكر ولا سبب له في ذلك ، ولكن كان بمعنى جعل فيه كان ذلك كذلك بوجود ذلك المعنى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي : تبلغوا حتى يشتد كل شيء منكم من البينة والعقل وغير ذلك.

وقوله : (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ).

أي : منكم من يتوفى من قبل أن يبلغ شيخا.

وقوله : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى).

أي : لتبلغوا الأجل الذي جعل لكم.

وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) :

ما بين لكم وذكر لكم.

وقوله : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

أي : وهو الذي يخلق حياة كل شيء ويخلق موت كل شيء ، وعلى قول المعتزلة : يجوز أن يسمى كل عبد : محييا مميتا ؛ لقولهم : إن القتيل ليس بميت بأجله ، بل ميتة القاتل ، وقولهم : إن المتولدات من الفعل هي فعل ذلك الفاعل ؛ فعلى قولهم هذا يجوز تسمية كل أحد : محييا مميتا.

٤٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما).

يترجم بقوله : (كُنْ) من غير أن كان منه كاف ونون ، فذلك تكوينه ـ والله الموفق ـ وقد ذكرنا هذا فيما تقدم على الإبلاغ.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)(٧٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ).

قوله : (أَلَمْ تَرَ) هو على حقيقة الرؤية والنظر.

ويحتمل (أَلَمْ تَرَ) : ألم تعلم ، معناه : ألم تعلم سفه الذين يجادلون في آيات الله ، أو جهل الذين يجادلون في آيات الله ، أي : في دفع آيات الله والطعن فيها بلا حجة على ما تقدم ذكره في قوله : (يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) [غافر : ٣٥] فعلى ذلك هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّى يُصْرَفُونَ).

أي : آية ، أي : حجة تصرفهم أو صرفتهم عن آيات الله ، أو من أين يصرفون ويعرضون عن آيات الله بعد ما تقرر عندهم أنها آيات الله؟! والله أعلم.

وقوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا).

جائز أن يكون قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) تفسير مجادلتهم التي ذكر في دفع آيات الله.

وجائز أن يكون قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) : الذي آتاهم الرسل وكذبوا بما أرسلنا به رسلنا ، أي : كذبوا ـ أيضا ـ بما أمرهم

الرسل بالوحي من غير كتاب ؛ إذ الوحي نوعان : متلو ، وغير متلو ، فلم يكن قوله : (وَبِما أَرْسَلْنا) تفسيرا للكتاب ، وعلى التأويل الأول قوله : (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي : الكتاب ؛ فيكون تفسيرا له ، والله أعلم.

وقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) :

وعيد لهم ، أي : سوف يعلمون علم عيان بعد ما علموا علم خبر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ).

ذكر أن في السلاسل ثلاث لغات : الرفع والنصب والخفض.

٥٠

فمن رفعها يقول : معناه : إذ جعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم يسحبون بها في الحميم.

ومن قال بالخفض فتأويله : إذ الأغلال في أعناقهم وفي السلاسل ، أي : يجعل الأغلال في السلاسل ، فيسحبون بها في الحميم.

ومن قال بالنصب كأنه قرأه : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الحميم أي : يسحبون السلاسل في الحميم.

وقوله : (يُسْحَبُونَ) أي : يجرون ، والحميم : قد مر تأويله ، وهو ما يشرب منه [و] قد انتهى حره غايته.

وقوله : (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي : يوقدون ، ذكر ما يسقون فيها وهو الحميم ، وذكر ما يحرقون به.

قال أبو عوسجة : (يُسْحَبُونَ) أي : يجرون ، وصرفه : [أسحب] ، يسحب إسحابا ، أي : جرّا.

وقوله : (يُسْجَرُونَ) أي : يوقدون بهم ، يقال : سجرت ، أي : أوقدت فيه ، وصرفه :

سجر يسجر سجرا.

وقوله : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ).

ظاهر هذه الآية : أن هذا القول لهم بعد ما دخلوا النار ؛ لأنه ذكر على أثر قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ، فظاهرها أن قوله : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ) بعد دخولهم النار ، وظاهر قوله بعد هذا متصلا به : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ـ على أن ذلك القول إنما يقال لهم قبل أن يدخلوا النار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً).

هذا القول منهم يخرج على وجهين :

أحدهما : على إنكارهم وجحودهم عبادة الأصنام التي عبدوها في الدنيا وأشركوها إياه في ألوهيته ؛ وهو كقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ...) الآية [الأنعام : ٢٣] ، وقوله : (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨] أنكروا ما كان منهم ، وأقسموا على ذلك ، وهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى قبول الآيات والتصديق لها ؛ لأنهم أنكروا أن يكونوا مشركين بعد ما عاينوا العذاب وظهر لهم خطؤهم وكونهم على الباطل ، ثم لم يمنعهم ما عاينوا من الكذب.

٥١

والثاني : قوله : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ...) ليس على الإنكار والجحود ، ولكن لما رأوا أن عبادتهم الأصنام لم تنفعهم يومئذ ولم تغنهم عما نزل بهم فقالوا عند ذلك : بل لم نكن ندعو شيئا من قبل ، أي : الذي كنا نعبده في الدنيا كان باطلا ، لم يك شيئا ؛ حيث لم ينفعنا ذلك في هذا اليوم.

فإن كان تأويل الآية هذا ، فهذا يدل على أن قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) بعد ما دخلوا النار.

وإن كان تأويله الأول على الإنكار والجحود ، فذلك يدل على [أن] ذلك القول قبل أن يدخلوا النار حين يشهد عليهم الجوارح ، وذلك يقرر قوله : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) ، والله تعالى أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ).

أي : هكذا يضل الله من علم منه اختيار الكفر والضلال يضله ؛ وهو كقوله : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] ، أي : إذ علم منهم اختيار الانصراف صرفهم ، وكذلك قوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] أي : إذ علم منهم أنهم يختارون الزيغ أزاغهم ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ).

أي : ذلك جزيتكم من النار بما كنتم تسرون في الدنيا بالباطل ؛ إذ هم كانوا كذلك في الدنيا يفرحون ويسرون على كونهم على الباطل.

وقيل (١) : (تَفْرَحُونَ) أي : تبطرون ، لكن هو على الفرح والرضاء بما اختاروا لأنفسهم.

وقوله : (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ).

أي : وبما كنتم تتكبرون ، كذلك كانوا يسرون ويرضون بكونهم على الباطل ، وينكرون بذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، والمرح : التكبر ؛ وهو كقوله : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء : ٣٧] أي : تكبرا.

وقوله : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ...) الآية.

قد ذكرناه فيما تقدم.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠٤٠٥) ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٧٠).

٥٢

لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)(٨١)

وقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ).

قد ذكرنا هذا أيضا.

وقوله : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ).

كأنه كان يتوقع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزول ما وعد لهم ويخطر ذلك بباله ، ويطمع ذلك ، فنهاه عن توقع نزول العذاب الذي وعد للكفرة في الوقت الذي يطمع فيه ، وعن الخطر بباله النصر له وإهلاك أولئك في الوقت الذي يتوقع ، كأنه يقول : إن شئنا أريناك بعض الذي نعدهم ، وإن شئنا توفيناك ولم نرك شيئا ؛ وهو كقوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) [آل عمران : ١٢٨] ، وإلا ظاهر قوله : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) حرف شك لا يحتمل ذلك من الله تعالى ؛ إذ هو يعلم أنه يفعل ذا أو لا يفعل ، أو يكون ذا أو لا يكون ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا : أنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطمع نزول ما وعد ، ويحدث نفسه بذلك ، فيقول له : ليس ذلك إليك ، إنما ذلك إلينا على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «هذه الآية من المكتوم ؛ لأن ظاهره شك».

وفي الآية دلالة الرسالة ؛ لأنها خرجت مخرج العتاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوبيخ له ، ثم أظهر ذلك على الناس ، والسبيل في مثله في عرف الناس الإخفاء والإسرار عن الناس ؛ فدل أنه إنما أظهر عليهم للأمر بالتبليغ ، وكذلك في قوله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) [آل عمران : ١٢٨] ؛ إذ المرء لا يظهر مثل ذلك من غير أمر وتكليف ممن وجب عليه طاعته ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يقول : لست أنت بأول رسول أرسلت إليهم فاستعبدوك وأنكروك وكذبوك ، بل قد أرسل إلى الأمم السالفة رسل مثل ما أرسلت أنت إلى هؤلاء.

وقوله : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ).

في الآية دلالة : أنا لم نؤخذ بمعرفة أعين الرسل وأساميهم على التعيين ، كما أنا لا نؤخذ بالإيمان بالله ـ تعالى ـ بجميع ما جاء منه على التفصيل والتعيين بأساميهم ؛ لكن على الجملة ، وعلى هذا قلنا : إن الإيمان برسول واحد إيمان بجميع الرسل ؛ إذ المرء

٥٣

يوجد منه الإنكار لغيره على الجملة أو التعيين ، وكذلك الإيمان بالله تعالى إيمان بالرسل جميعا ؛ لأن الإيمان بالله إيمان بأمره ونهيه ؛ فيكون إيمانا بمن جاء الأمر والنهي على يده ، والله الموفق.

وقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

كأنهم سألوه أن يأتي بآية بعد آية على أثر آية أخرى ، فقال عند سؤالهم ذلك : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : ليس لرسول أن يأتي بالآية على شهوته أو على شهوة السائل.

وهذه الآية تدل على نقض قول الباطنية (١) ؛ فإنهم يقولون : إن أنفس الرسل جواهر روحانية يأتون بها الآية حيث شاءوا وكيف شاءوا ، فكان للرسل عندهم بسبب الجواهر الروحانية التي فيهم ـ قدرة إتيان الآيات كيف شاءوا من غير إذن من الله تعالى ، ومن غير سؤال منهم إياه في وقت الإتيان ، ولو كان الأمر على ما قالوا لم يكن لقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) معنى ، وأنه مخالف للآية ؛ فإن فيها إخبارا : أنه لا يأتي الرسل بالآيات إلا بإذن من الله تعالى ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ).

أي : إذا جاء الأمر بعذاب الله ، أو إذا جاء الأمر بموعود الله ، يعبر بالأمر عن الموعود الذي أوعدوا ، وقد ذكرنا معنى الخسران فيما تقدم.

وقوله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ).

ذكرهم بهذه الآية وبالآية التي تقدم ذكرها لوجهين :

أحدهما : يذكرهم النعمة التي أنعمها عليهم حيث قال : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] ، وقال : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [غافر : ٦٤] ، ثم قال هاهنا : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، ذكرهم أولا بدء إنشائهم حيث خلقهم من تراب ثم من نطفة ... إلى آخر ما ذكر.

وفيه دلالة وحدانيته وعلمه وتدبيره وقدرته ، ثم ذكرهم من بعد نعمه .... إلى آخره ؛ يستأدي بذلك شكره وحمده على ذلك ، هذا وجه.

والثاني : يذكرهم أنه إنما أنشأ هذه الأشياء التي ذكرها وعدّها عليهم للبشر ، لم ينشئها

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : وينقض قول الباطنية في الرسالة. م.

٥٤

لأنفسها ، كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : قد أنشأت هذه الأشياء لكم تنتفعون بها وتستعملونها كيف شئتم ، فما بالكم أشد إنكارا وكفرا بالنعمة من غيركم من العالم ، وسائر العالم أشد خضوعا واستسلاما لنعمه والقيام بشكرها له؟!

ثم في الآية نقض قول المعتزلة (١) ؛ لأنهم يقولون : ليس لله تعالى أن يؤلم طفلا ونعما إلا بعوض يعوضها ، ثم لا شك أن ما سخر من الأنعام والدواب للبشر ، ومكن لهم استعمالها والانتفاع بها أنواع المنافع ؛ أنها تتأذى وتتألم بذلك ؛ فيجب على قولهم : ألا يكون لله تعالى أن يؤلم إلا بعوض ترضى به هذه الأشياء ؛ إذ هكذا حكم كل مجعول بعوض أن يشترط رضا أربابها في العوض ، وإذا لم تكن هذه الأشياء من أهل الرضاء بحيث ألا يجوز التعويض ؛ فدل أن ذلك بناء على ما قلنا من أن الأصلح ليس بواجب ، والله الموفق.

ثم جعل منافعها مختلفة منها الركوب ومنها الأكل وغير ذلك من الانتفاع بصوفها ووبرها ، وما أعطى لهم أيضا من السفن يركبون بها البحار ؛ ليصلوا إلى حوائجهم في الأمصار التي بعدت منهم ونأت ؛ فضلا منه ومنة ، فذلك قوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [غافر : ٨٠].

وقوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ).

يحتمل أنه أراهم آيات وحدانيته وألوهيته ، وأراهم آيات نعمه وإحسانه إليهم ونحوها ، يقول : فأنى آيات الله [التي] أراكم تنكرونها أنها ليست من الله تعالى.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(٨٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

قد ذكرنا معناه في غير موضع.

وقوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : نقض قول المعتزلة [في] إيلام الطفل والحيوان. م.

٥٥

أي : كانوا أكثر عددا منكم وأشد في القوة والبطش.

وقوله : (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ).

أي : أكثر أعمالا منكم ، ثم كانت عاقبتهم الهلاك والاستئصال.

وقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

يقول : لم يغن عنهم كثرة العدد والحشم والأموال ، ولا قوة الأبدان في دفع العذاب عن أنفسهم ، فأنتم ـ يا أهل مكة ـ أحق ألا تقدروا على دفع العذاب عن أنفسكم إذا نزل بكم مع ضعفكم وقلة عددكم! والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).

يحتمل قوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) وجهين :

أحدهما : أي : فرحوا بما عندهم أنه علم وليس هو في الحقيقة علما ، لكن عندهم أن ذلك علم ؛ وهو كقوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] ، أي : انظر إلى إلهك الذي هو عندك إله ، وإلا لم يكن ذلك عند موسى ـ عليه‌السلام ـ إلها ، لكنه ذكر على ما عند ذلك الرجل للتعريف ؛ فعلى ذلك قوله : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي : بما عندهم أنه علم وإن لم يكن في الحقيقة علما ، والله أعلم.

والثاني : يحتمل أن يكون على حقيقة العلم ، وذلك من أهل الكتاب ؛ قد كان من أهل الكتاب الإيمان بما عندهم من الكتاب ، وهو على الحقيقة علم لا شك فيه ، لكنهم لما كذبوا غيره من الكتب والعلوم وكفروا بها ، لم ينفعهم إيمانهم بما عندهم من العلم ؛ كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ ...) [البقرة : ٩١] ، كان إيمانهم بما أنزل إليهم حقّا ، لكنهم لما كفروا بغيره أبطل ذلك الكفر إيمانهم بالذي أنزل إليهم ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

أي : يحويهم العذاب بما كانوا يستهزءون بالرسل.

وقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) ، يحتمل هذا وجهين :

يحتمل أن يكون هذا القول منهم وما ذكر من الإيمان منهم إذا رأوا بأس الله ـ بعد وفاتهم في قبورهم ، أي : عذاب الله ، فإن كان التأويل هذا ، فهذا يدل على عذاب القبر لمن شاء الله تعالى في حقه العذاب ، والله أعلم.

والثاني : يحتمل أن يكون ذلك منهم في حياتهم ؛ حين رأوا بأس الله في الدنيا آمنوا بما

٥٦

ذكروا ، فإن كان ذلك في الحياة ، فلم ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما قال الله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] ، وقد تقدم ذكر هذا في سورة يونس ـ عليه‌السلام ـ على الاستقصاء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ).

ألا يقبل الإيمان عند رؤية بأس الله ومعاينة عذابه.

والثاني : كذلك سنة الله التي قد خلت في عباده من التعذيب والانتقام من مكذبي الرسل في الدنيا واستئصالهم ، يخوف أهل مكة بما أنزل إليك ؛ ليحذروا مثل صنيعهم.

وقوله : (وَخَسِرَ هُنالِكَ) :

أي : خسر عند ذلك الكافرون ، والله أعلم.

* * *

٥٧

سورة حم فصلت وهي مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

ظاهر هذا أن تفسير (حم) هو قوله : (تَنْزِيلٌ) ، وحم خبر لمبتدإ محذوف مقدر (تَنْزِيلٌ) مبتدأ من : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ؛ وكذلك قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] ، والأصل في حواميم وسائر الحروف المقطعة : أنها تبعث سامعها على التفكر والتأمل ؛ لأنه لا يفهمها وقت قرعها السمع حتى يتأمل ويتفكر فيها ؛ لأنها كلام لم يسمعوه قبل ذلك ، فيحملهم ذلك على الاستماع والتفكر فيها والنظر ، فيقع ما هو المقصود من الخطاب في سماعهم ويعرفوا وجه الإعجاز ؛ فيتوصلوا بذلك إلى الحق ، وقد ذكرنا في الحروف المقطعة وجوها أخر فيما تقدم.

ثم ذكر هاهنا رحمته ورأفته ؛ ليرغبهم فيما يرحمهم ويرأف بهم ، وهو قوله : (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وذكر في السورة الأولى عزه وقدرته وسلطانه وعلمه ؛ ليحذروا مخالفته وعصيانه ظاهرا وباطنا حيث قال : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ١ ، ٢] ، ليطلبوا العز من عنده.

وقوله : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ).

قال أهل التأويل : (فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي : ثبت فيه من الحلال والحرام ، وما لهم وما عليهم ، وما يؤتى وما يتقى ونحوه.

وعندنا يحتمل قوله : (فُصِّلَتْ آياتُهُ) وجهين :

أحدهما : (فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي : فرقت كل آية من الأخرى ، من نحو : آية التوحيد فرقت من آية الرسالة ، وفرقت آية البعث من غيرها ، فرق كل آية من الأخرى.

والثاني : يحتمل التفريق في الإنزال ، أي : فرقت آياته في الإنزال ، لم يجمع بينها في الإنزال ، ولكن فرق في أوقات متباعدة.

٥٨

ويحتمل قوله : (فُصِّلَتْ) : ثبتت ، على غير ما قاله أهل التأويل ، وهو أن يثبت آياته بالحجج والبراهين حتى يعلم أنها آيات من الله تعالى.

وقوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

أي : أنزله بلسان يعلمونه ويفهمونه لا بلسان لا يعلمونه ولا يفهمونه ، أي : أنزله بلسانهم. ويحتمل (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي : ينتفعون بعلمهم ، أي : حصل إنزاله لقوم ينتفعون ، فأما من لم ينتفع به ، فلم يحصل إلا الإنزال له ، والله أعلم.

وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (قرآنا عربيا لقوم يعقلون).

وقوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً).

البشارة والنذارة هي بيان ما يكون في العاقبة من الخير والشر ، أو يقال : البشارة هي الدعاء إلى ما يوجب لهم من الحسنات والخيرات في العاقبة ، والنذارة هي الزجر عما يوجب لهم من السيئات والمكروهات في العاقبة ، والنذارة هي الزجر ؛ فصار معنى الآية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل داعيا إلى الحسنات وزاجرا عن السيئات ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ).

يحتمل إعراضهم عنه وجهين :

أحدهما : أي : أعرضوا عن التفكر فيه والتأمل.

والثاني : أعرضوا عن اتباعه بعد ما تأملوا فيه وتفكروا ، وعرفوا أنه حق وأنه من الله تعالى ، لكنهم تركوا اتباعه عنادا منهم ومكابرة ؛ حذرا عن ذهاب الرئاسة ، والله أعلم.

وقوله : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ).

أي : لا يجيبون على ما ذكرناه.

قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ).

لا شك أن قلوبهم على ما ذكروا أنها في أكنة وفي آذانهم وقر ؛ لأنه ذكر ـ جل وعلا ـ أنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا ؛ حيث قال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥] على ما أخبروا أن قلوبهم في أكنة وغطاء ، وفي آذانهم وقر ، لا يفقهون ما يدعون إليه ، ولا يسمعون ذلك وإن كانوا يفقهون غيره ويسمعون ؛ لأنهم كذلك قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ).

وقوله : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ).

إن ثبت ما ذكر بعض أهل التأويل : أن ثوبا فيما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : كن أنت يا محمد في جانب ، ونكون نحن في جانب آخر ، ونحوه من الكلام ـ فهو ذلك ،

٥٩

وإلا احتمل أن يكون قوله : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) : هو ما حجبتهم ظلمة الكفر وغطتهم عن فهم ما دعوا إليه وعلم ما دعاهم إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ، هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : اعمل أنت بدينك فإنا عاملون بديننا ؛ كقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

والثاني : فاعمل أنت في كيدنا فإنا عاملون في كيدكم والمكر بكم ، والله أعلم.

ويحتمل أن يقولوا : اعمل أنت لأهلك فإنا عاملون لإلهنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

هذا الحرف يخرج على وجهين :

أحدهما : كأنه يقول لهم : إنما أنا بشر مثلكم أفهم وأعقل يوحى إليّ وأسمع ذلك ، فأنتم في قولكم : إن قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر ـ لا عذر لكم في ذلك ؛ لأنه إنما يحجبكم عن ذلك ويغطي قلوبكم عن فهم ذلك الكفر الذي أنتم عليه والضلال الذي أنتم فيه ، فاتركوا ذلك حتى تفهموا وتعقلوا ما تدعون إليه وتؤمرون به ، كما أفهم أنا وأعقل إذ أنا بشر ، والله أعلم.

والثاني : يقول : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) ، أي : إنما أنا بشر مثلكم أمرت أن أبلغ إليكم أن إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه ، وإلا لو [لم] أؤمر بتبليغ الرسالة إليكم إنما إلهكم إله واحد ـ لكنت أترككم وما أنتم عليه ؛ لقولكم : إن قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر فاعمل إننا عاملون. على هذين الوجهين تأويل الآية ، والله أعلم.

وقوله : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ).

قال بعضهم (١) : أي : فاستقيموا إليه بالطاعة.

وقيل : أي : استقيموا إلى ما دعاكم إليه من التوحيد.

وقوله : (وَاسْتَغْفِرُوهُ).

أي : انتهوا عما أنتم عليه من الكفر والضلال ؛ ليغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر ؛ كقوله تعالى : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

ويحتمل : أي : كونوا على حال بحيث يقبل استغفاركم وطلب تجاوزكم.

وقوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ).

والإشكال : أنه لما ذا خص المشرك الذي لم يؤت الزكاة ، وينكر الآخرة ـ بالويل ، وقد

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١١ / ٨٦٩) وتفسير البغوي (٤ / ١٠٧).

٦٠