تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٩

وقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه كان ذلك من فرعون يقول : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) يمنعني عن قتله إن كان صادقا فيما يدعي من الرسالة ؛ لأن من أرسل رسولا ، فهم أحد قتله أو الضرر به ، منعه المرسل عن ذلك ، فعلى ذلك يقول ، والله أعلم.

والثاني : يكون ذلك أمرا من الله ـ عزوجل ـ موسى بالدعاء على فرعون بالهلاك ؛ لما هم قتله ، وعلى ذلك الرسل ـ عليهم‌السلام ـ قد أذن لهم بالدعاء على فراعنتهم ومعانديهم ومكابريهم إذا بلغوا في العناد غايتهم والتمرد نهايتهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ).

قد كان هناك تبديل الدين فإنه قد أظهر موسى ـ عليه‌السلام ـ دين الحق وآمن أتباعه ، لكن كأنه أراد ـ والله أعلم ـ بقوله : (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) ، أي : يذهب بدينكم من الأصل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ).

ذكر اللعين ، وسمى إظهار التوحيد في الأرض ودين الإسلام : فسادا ليعلم أن كل مدع شيئا وإن كان مبطلا في دعواه فعنده أنه على حق وأن خصمه [على] باطل ؛ فلا يقبل قول أحد إلا ببرهان ، والله أعلم.

ويحتمل أن فرعون اللعين أراد بقوله : (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) قتل أبنائهم أي : يقتل موسى أبناءكم مجازاة لما قتلتم أنتم أبناءهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ).

يحتمل قوله : (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) ، أي : متكبر على التوحيد.

ويحتمل متكبر على الرسل لا يؤمن بما يدعوه الرسول إلى الإيمان بيوم الحساب ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ

٢١

عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : من آل فرعون في الظاهر ، وإلا لم يكن في الحقيقة من آله ، وإنما هو من آل موسى وأتباعه ؛ حيث آمن به وترك اتباع فرعون ، والله أعلم.

والثاني : من آله ، أي : من نسبه ؛ لأنه ذكر أنه كان ابن عمه ، والله أعلم.

وقوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ).

إشفاقا على نفسه ، ولا يظهر الموافقة لهم على ما هم فيه ؛ إذ قدر على الكتمان دون إظهار الموافقة لهم ، وعلى ذلك المكره على إظهار الكفر إذا قدر على ألا يظهر ما أريد منه من كلمة الكفر ولا يقتل بالامتناع لا يسع له إظهار ذلك لهم ، فإن لم يقدر فحينئذ يسع ؛ فعلى ذلك ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ).

فيه إخبار أنه كان يكتم إيمانه ؛ إشفاقا على نفسه ، فلما خاف إهلاك رسول الله موسى ـ عليه‌السلام ـ فعند ذلك أظهر ما كان يكتمه وإن كان في إظهار ذلك إهلاك نفسه بعد أن يرجو نجاة نبي من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وهكذا يجب ألا يسع كتمان ما كان يكتمه وإن كان نفسه تهلك إذا أظهر إذا كان في إظهار ذلك نجاة رسول من رسل الله تعالى ـ عليهم‌السلام ـ بحجج يدفع الهلاك بها عن نفس ذلك الرسول (١) ؛ وكذلك ذكر عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أن أهل مكة لما هموا قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإهلاكه ، ألقى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ نفسه عليه ، وقال ما قال ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه حيث قال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) فعند ذلك نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم تكن نزلت قبل ذلك (٢) ، والله أعلم.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : في بذل النفس ؛ لنجاة رسول من رسل الله تعالى. م.

(٢) أخرجه البخاري (٤٨١٥) بنحوه.

٢٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ).

أي : جاءكم من البينات ما يبين أنها آيات من عند الله لا اختراعا من موسى ـ عليه‌السلام ـ ويبين أنه صادق فيما يقول ويدعي.

وقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ).

أي : وإن كان كاذبا فيما يدعوكم إليه فعليه كذبه ، وإن كان صادقا فيما يقول ويدعي يصيبكم بعض الذي يعدكم ، فهو يعلم أنه صادق فيما يقول حقيقة ، ولكن لما كان عند القوم احتمل الأمر ، ذكر على ما في زعمهم ؛ دفعا للقتل عن موسى ، عليه‌السلام.

ثم الإشكال أنه قال : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ذكر أنه يصيبهم بعض الذي يعد الرسل ، [والرسل] إذا وعدوا شيئا يصيبهم بكماله ، لا يجوز أن يكون خلاف ما أخبروا أو دون ما ذكروا ، لكن يخرج على وجوه :

أحدها : أنه كان وعده إياهم أن يصيبهم العذاب في الدنيا والآخرة ، فيقول : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، وهو ما وعد لهم أن يصيبهم في الدنيا ، وأما ما وعد لهم في الآخرة ، فهو يصيبهم في وقت آخر وهو في الآخرة ، فما أصابهم في الدنيا فهو بعض ما جرى الوعيد منه لهم ؛ لأن الوعيد كان منه في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.

والثاني : يحتمل أنه كان ـ عليه‌السلام ـ وعدهم بأنواع من العذاب ، وقد أصابهم بعض ذلك من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونحو ذلك ، وفي بعض ما وعدهم هو هلاكهم ؛ فكأنه يقول لهم : إنكم قد أصابكم كثير من ذلك ، فيصيبكم بعض ما يعدكم الذي فيه هلاككم مبالغة في الزجر ؛ لما قد أصابهم ما وعد لهم من أنواع العذاب ، ولم يكن وعده كذبا ، فبعض ما يعدكم ـ وهو الهلاك ـ كيف يكون كذبا؟! والله أعلم والموفق.

والثالث : [أراد] بالبعض : الكل ؛ لأنه أراد بهذا البعض : الهلاك ، وهو البعض الأقصى ، فيدخل العالي فيه لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى ؛ إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك ، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك ، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله ، ويكون ذكره ذكرا للكل ؛ إذ لا وجود له بدون سائرها ؛ لذلك قال : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ، هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه لا يهدي من هو في علمه أنه يؤثر الإسراف والكذب.

٢٣

والثاني : لا يهدي من هو مختار الإسراف والكذب وقت اختيارهم الإسراف والكذب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا). يخرج على وجهين :

أحدهما : يحتمل أن يقول ذلك بعد ما سألوه أن يتبع دينهم وما هم فيه : إني لو اتبعتكم وأجبتكم ومعكم الملك والحشم والغلبة وليس معي ذلك ، فإذا جاء بأس الله وعذابه فصرتم أنتم ممتنعين عنه بما معكم ، فمن ينصرنا من عذاب الله وليس معنا ذلك؟! وإن كان يعلم حقيقة أن ما معهم من الغلبة لا يمنع من عذاب الله ، لكن قال ذلك بناء على اعتقادهم ؛ إظهارا للعذر عندهم ؛ كيلا يقدموا على قتله لصيانة حياته ، ومثل هذا لا بأس به ، والله أعلم.

والثاني : يقول على الرفق بهم وإظهار الموافقة لهم في الظاهر ؛ يقول : إنه قد جاءنا من الله البينات ما أوضح الحق وبين السبيل ، فإذا رددنا ذلك وكذبناهم جاءنا بأس الله جملة وعذابه ، فمن يمنعنا عنه وينصرنا من عذابه إذا خالفنا أمره وتركنا اتباع دينه؟! على هذين القولين يخرج القول منه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى).

قال بعضهم : أي : ما آمركم إلا بما رأيته لنفسي.

وقال بعضهم : ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ذلك ، لكن [ليس] للعين أن يختار لهم ما اختار لنفسه ؛ لأن ما اختار لنفسه باطل فاسد ، وكذب اللعين أيضا حيث قال : ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ؛ لأنه اختار لهم أن يعبدوه ولم يختر لنفسه عبادة أولئك أن يعبدهم ، فهو كذب من القول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ).

كذب أيضا في قوله : إنه لا يهديهم إلا سبيل الرشاد ، بل كان يهديهم سبيل الغي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ).

كأن فيه إضمار القول : إني أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب ، ويوما مثل يوم قوم نوح وعاد ، فهو ـ والله أعلم ـ صلة قوله فيما تقدم : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) وعظهم مرة واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات ؛ حيث قال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) ،

٢٤

وتتركون اتباعه وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات ، هذا منه احتجاج عليهم : أن كيف تقتلون رجلا وتتركون اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم ، وتتبعون من لا بينة معه ولا برهان؟! يسفههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به ، والله أعلم ، ووعظهم أيضا وعظا لطيفا فيه رفق حيث قال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعد ما جاءكم بالبينات وتركتم اتباعه ، فجاءكم عذاب الله وبأسه ، فمن ينصركم عن ذلك العذاب ويمنعكم عنه إذا قتلتم نبيه بغير حق؟! ثم وعظهم وعظا بما نزل بمكذبي من كان قبلهم من الرسل حيث قال : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) يقول : إني أخاف عليكم أن ينزل بكم ويقع عليكم من عذاب الله بتكذيبكم الرسول موسى ـ عليه‌السلام ـ وترككم اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات أنه رسول وأنه صادق فيما يقول ويدعي ، كما نزل ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى ، بعد ما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم ، والله أعلم.

ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على أثره من قوم نوح وعاد وثمود ، ويحتمل سواهم من الأمم ، والله أعلم.

ثم قوله : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) قال بعضهم : أي : مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم.

وقال بعضهم : أي : مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ).

في هذه الآية للمعتزلة نوع تعلق ؛ يقولون : إن الله تعالى قد أراد من العباد ما يفعلون من أفعال الظلم والجور ، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يريد ظلما للعباد.

ولكن الآية في التحقيق عليهم ؛ لأنه قال في آية أخرى : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٧٦] أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حظّا في الآخرة ، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب كان في تعذيبه إياهم ظالما على زعمهم ؛ دل أنه أراد منهم ما يستوجبون به العذاب وهو فعل الظلم ، والله أعلم.

ثم تأويل الآية يخرج على وجهين :

أحدهما : أن الإرادة هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار ، فكأنه قال : والله لا يظلم عباده ؛ كقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦].

٢٥

والثاني : فيه إخبار أنه لا يعاقب أحد بذنب غيره ، ولا يؤاخذ بجريمة غيره ، ولا يزيد على قدر ما يستحقون به العذاب ، أو لا ينقصهم من ثواب حسناتهم شيئا ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] وغير ذلك من الآيات ما فيها إخبار أنه لا يجزيهم بأكثر مما يستوجبون ليس على ظن أولئك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ...) الآية.

وعظهم أيضا بعذاب الآخرة وما يكون منهم من الندامة بتركهم اتباع الرسول ، بعد ما وعظهم بعذاب الدنيا وما نزل بأوائلهم بصنيعهم مثل صنيعهم ، وهو ما قال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ...) الآية.

ثم قوله : (يَوْمَ التَّنادِ) فيه لغات ثلاث :

إحداها : يوم التنادي بالياء.

والثانية : بالتخفيف على حذف الياء.

والثالثة : بالتشديد.

فمن قرأها بالتشديد ، يقول : هو من ند يند ندّا إذا مضى لوجهه هاربا فارّا من عذاب الله ، إذا عاينوا العذاب ، وهو من ند الإبل وغيره ـ والله أعلم ـ.

ومن قرأه بالياء فهو التفاعل من النداء ، فهو على نداء بعضهم بعضا يوم القيامة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠] ، وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢] ، وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥] ونحوه.

ومن قرأه بغير الياء ، فقد حذف الياء ؛ كقوله : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢] ، وأصله : التنادي ، والله أعلم.

ثم قوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) قال بعضهم (١) : يوم تولون هاربين من النار مدبرين عنها ؛ كقوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) [عبس : ٣٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ).

أي : ما لكم من عذاب الله إذا نزل بكم من مانع يمنعكم من عذابه.

__________________

(١) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٦).

٢٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) قد ذكرناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ).

أي : جاءكم يوسف من قبل موسى ـ عليه‌السلام ـ بالبينات ، أي : بالآيات والأدلة على رسالته وصدقه ، جائز أن يكون هذا قول ذلك الرجل لقومه يخبرهم عن سفه أوائلهم من تكذيبهم يوسف بأرض مصر قبل موسى ، وما كان من القول منهم بعد ما ذهب من بينهم وردهم آياته وحججه التي أتاهم بها ، وما أخبر أنهم وأوائلهم لم يزالوا في شك وريب مما جاءتهم الرسل من الآيات والأدلة ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) يقول : لم تزل عادتكم وعادة أوائلكم هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً).

جائز أن يكون وإن خاطبهم بقوله : (جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) [البقرة : ٩٢] ، وقوله : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ) ، وقوله : (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) إنما أراد آباءهم وأوائلهم ؛ لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يكن في زمن هؤلاء مبعوثا إليهم على ما عاتب الأبناء بصنع آبائهم في غير آي من القرآن (١) ؛ كقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٩١] ، وقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) [البقرة : ٩٢] ، وهؤلاء لم يقتلوا الأنبياء ولا اتخذوا العجل ، وإنما فعل ذلك آباؤهم وأوائلهم ، ثم جاء العتاب لهم بسوء صنيع آبائهم وأوائلهم ؛ فعلى ذلك هذا.

وجائز أن يكون وإن خاطبهم بما ذكر من سوء الصنيع والتكذيب ، إنما يخبر عن صنيع آبائهم وأوائلهم فيحذرهم عن مثل صنيع أولئك من التكذيب لهم والرد لأدلتهم ، والقول بعد ذهابه من بينهم ، والكذب على الله : إنه لم يبعث رسولا ؛ يقول : إياكم أن تكذبوه وتردوا آياته وحججه ، ثم تقولوا إذا مات موسى : لن يبعث الله من بعده رسولا ، كما قال أوائلكم : إذا مات يوسف : لم يكن من بعده رسول بقولهم : (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) يشبه أن يخرج الآية على هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ).

فقد ذكرنا تأويله من وجهين فيما تقدم.

ثم قوله : (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) يخرج من وجهين :

أحدهما : آمنوا به ، وأنكروا رسالة غيره بعده بقولهم : لن يبعث الله من بعده رسولا.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : مما يحفظ عتاب الأبناء بصنع الآباء في غير آي من القرآن. م.

٢٧

والثاني : أي : أنكروا رسالته في حال حياته ولم يؤمنوا به ، فإذا هلك أنكروا أن يكون هو مبعوثا إليهم رسولا ، فيحذر هؤلاء صنيع أولئك ألا يكونوا كأولئك آمنوا به وأنكروا رسالة غيره من الرسل بعده.

أو يقول : لا تكونوا كأولئك يكذبونه ما دام حيّا ، فإذا هلك يكذبون رسالته ، يحذرهم سفه أوائلهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ).

أي : يجادلون في دفع آيات الله وردها بغير حجة وسلطان أتاهم من الله ، أو بغير حجة مكن لهم الاحتجاج بها ، وإلا كان أهل الإيمان قد يجادلون فيها حتى إذا ظنوا أنها آيات الله آمنوا بها وأقروا بها ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا ، أي : جادلوا في دفع آيات الله وردها بغير حجة أتتهم ؛ كقوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [غافر : ٥] ، والله أعلم.

وقوله : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا).

هكذا الواجب على أهل الإيمان أن يمقتوا من الأعمال ما مقتها الله تعالى ، أو يمقتوا من مقته الله من أعدائه ؛ وعلى ذلك ذكر : إن خير أعمالكم حبّ ما أحبه الله وبغض ما أبغضه الله أو كلام نحوه ، وشر أعمالكم حب ما أبغضه وبغض ما أحبه الله تعالى (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).

أي : هكذا يطبع الله على كل قلب من جادل في دفع آيات الله وردها بغير حجة ، أي : يطبع على كل من تعود التكبر والتجبر على الآيات والرسل ، والله أعلم.

ثم قوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى ...) من هو كذا ، وكذلك يضلل ، ونحوه كله حروف الاعتلال (٢) ، بين الله تعالى العلل التي لها لا يهديهم ويضلهم ؛ وكذلك في قوله : (لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ومسرف مرتاب ونحوه ، أي : لا يهدي من كان طبعه وعادته الإسراف والكذب وكفران النعم ودفع الآيات والحجج بلا حجة وبرهان ، فأمّا من كان طبعه وعادته غير هذا لكن لجهل جهل ذلك ، أو لما يتحقق عنده لظنه وقلة التأمل ، أو لاشتغاله بأمور الدنيا ، أو لمعنى من المعاني يجوز أن يهديه الله تعالى ويرشده ، على هذا يخرج هذه الآيات ، والله أعلم.

وعلى ذلك ما كان [يصنعه] فرعون اللعين من التمويهات والتلبيسات على أتباعه في

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : مما يحفظ البتة : الواجب على كل مسلم أن يمقت [من] الأعمال ما مقته الله تعالى. م.

(٢) ثبت في حاشية أ : مما يحفظ البتة : حروف الاعتلال. م.

٢٨

أمر موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد معرفته أن ذلك ليس بقدح في الآيات والحجج التي أتاهم موسى ـ عليه‌السلام ـ أراد أن يموه ويلبس على قومه ، فكل من كانت عادته وطبيعته ما ذكرنا من التمويه والتلبيس والمجادلة في دفع الآيات بلا حجة والتكبر عليها ـ فلا يهديه الله تعالى ويطبع على قلبه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(٤٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى).

للمشبهة تعلق بظاهر هذه الآية يقولون : لو لا أن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان ذكر وأخبر فرعون : أن الإله في السماء ، وإلا لما أمر فرعون هامان أن يبني له ما يصعد به إلى السماء ويطلع إلى إله موسى على ما قال تعالى خبرا عن اللعين.

لكنا نقول : لا حجة لهم ؛ فإنه جائز أن يكون هذا من بعض التمويهات التي كانت منه على قومه في أمر موسى ـ عليه‌السلام ـ ومن بعض مكايده التي كانت منه به ؛ من نحو قوله : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) [ص : ٤] ، وقوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] ، وقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] ونحو ذلك من التمويهات التي كانت منه ؛ فعلى ذلك قوله : (ابْنِ لِي صَرْحاً ...) و (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) تمويه منه على قومه بموسى ؛ يقول : إن موسى إنما يدعو إلى إله في السماء فهو نحو إله يكون في الأرض ، يموه بذلك على الناس أمر موسى من غير أن كان من موسى ذكر ، أو أخبر أن الله ـ تعالى ـ في السماء على ما كان منه سائر التمويهات وإن لم يكن من موسى ذكر

٢٩

تلك التمويهات له ، والله أعلم.

ويحتمل أن فرعون قال ذلك ؛ لما رأى أن البركات والخيرات تنزل من السماء ؛ فظن أنه في السماء.

ثم اختلف في الأسباب : قال بعضهم (١) : أسباب السموات : أبوابها.

ويحتمل أسباب السموات : هي الطرق التي تصعد إلى السماء.

وحقيقة الأسباب : هي ما يوصل بها إلى الأشياء ويقصد إليها ، وقد علم اللعين أنه لا يصل إلى ذلك بما ذكر من بناء الصرح ، لكنه أراد بذلك ما ذكرنا من التمويهات والتلبيس على قومه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً).

قال هاهنا : (لَأَظُنُّهُ كاذِباً) بعد ما قطع القول فيه : إنه كاذب وإنه كذاب ؛ ليعلم أنه على [حق] وأنه صادق ، لكنه يموه بذلك على قومه.

وقوله : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ).

قال بعضهم : أي : زين الشيطان عليه سوء عمله.

ويحتمل أن يقال : زين له سوء عمله بالأتباع وكثرة الأموال والحشم الذي أعطي له ، زين له سوء عمله بالأسباب التي أعطيت له ، فيكون الله تعالى مزينا له سوء عمله بإعطاء الأسباب.

ويحتمل زين له سوء عمله ، أي : خلق في طبعه أن يرى ذلك حسنا مزينا وإن كان قبيحا في نفسه حقيقة على ما تقدم ذكره.

وقوله : (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ).

وقرئ : صد بالفتح ، فمن قرأ بالفتح فله معنيان :

أحدهما : صد هو بنفسه صدودا. والثاني : صد هو الناس عن سبيله صدّا.

ومن قرأ صد بالضم ، أي : لم يوفق ، ولم يرشد ؛ لما علم منه اختيار صده.

وقوله : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ).

أي : في خسار ، التباب : الخسار ، يقال في قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] : أي : خسرت ، ويقال : تبّا له ، أي : هلاكا له ، وقيل : تبت يد الرجل ، أي : خابت.

ثم أخبر عما ذكر ووعظ ذلك الرجل المؤمن من آله ، وهو قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٣٤٤) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٧).

٣٠

آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ).

أي : أبين لكم سبيل الرشاد ، مرة خوفهم بما نزل بأوائلهم بتكذيب الرسل وترك اتباعهم ، ومرة بيّن سفههم في أنفسهم بسوء صنيعهم ، ومرة وعظهم ونصحهم ودعاهم إلى اتباعه ليبين لهم سبيل الرشاد ويهديهم إليه ، وإن خاف على نفسه الهلاك بعد ما أظهر الإيمان ولم يبال هلاك نفسه.

وقال الكسائي : الرشاد والرّشد والرّشد ثلاث لغات ، ولا يقرأ هاهنا غير (الرَّشادِ).

ثم قال : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ).

أي : متاع ومنفعة يبلغ إلى منتهى آجالكم ، يبلغ به العاصي والمطيع إلى أجله ، يخبر أنها على الانقضاء والذهاب عن قريب ، ويخبر أن دار الآخرة هي دار القرار ، أي : تقر بأهلها : إن كان أهلها أهل خير قرت بهم خيرا أبدا لا يزول ، وإن كان أهلها أهل شر يقر بهم الشر أبد الآبدين.

ثم أخبر عن عدل الله تعالى في أعدائه وفضله في أوليائه حيث قال : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها).

أي : لا يجزى ولا يزيد لهم على مثل جنايتهم ؛ لأن المثل هو العدل في جميع الأشياء ، يخبر ألا يزيد على عقوبة عملهم ، ولكن يجزيهم بمثله ، وأما جزاء الحسنة فإنه يزيد لهم على قدر ما يستوجبون ؛ فضلا منه وإحسانا.

ثم فيه دلالة نقض قول المعتزلة : إن صاحب الكبيرة في النار أبدا ؛ لو كان على ما ذكروا كان في ذلك تسوية بين صاحب الكبيرة وبين صاحب الشرك ؛ فإما أن يكون نقصانا لصاحب الشرك عن مثل عقوبته أو زيادة لصاحب الكبيرة ، وقد أخبر أنه لا يجزى إلا مثلها فذلك خلاف ظاهر الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).

دل هذا على أن العمل الصالح لا ينفع ولا يجزي إلا من كان منه الإيمان به.

وقوله : (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ).

يحتمل بلا تبعة : ويحتمل بغير تقدير وعدّ ، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ).

كأنه قال : يا قوم ، ما لي أدعوكم إلى ما به نجاتكم وأنصح لكم ، وتدعونني أنتم إلى [ما] به هلاكي ، فمتى يكون بيننا موالاة واجتماع؟! أي : لا يكون ، إنما يذكر هذا وأمثاله

٣١

في المواعظ [إذا] انتهت غايتها وبلغت نهايتها ، فلما تنجع فيهم ؛ وهو كقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، وقوله تعالى : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ...) الآية [يونس : ٤١].

ثم فسر ما يدعون إليه وما يدعوهم إليه من النجاة حيث قال : (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ).

هذا منه تفسير ما دعاهم إلى النجاة وبيان ما يدعونه إلى الهلاك.

ثم قوله : (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) قد يستعمل قوله : (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) في نفي العلم ، أي : ليس ذلك ، وذلك في إثبات العلم بخلافه وضده ؛ يقول : وأشرك به ما ليس لي به علم ولا كان من الشريك وغيره ، أو يقول : تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لكم به علم ، والله أعلم.

ثم بين عجز ما يعبدون من الأصنام وغيرها ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ).

(لا جَرَمَ) ، أي : حقّا ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : بحق أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة ، أي : لم تدعكم إلى عبادة نفسها ، أي : الأصنام التي عبدوها ، والأول أشبه ؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام ؛ رجاء أن تشفع لهم ، فأخبر أنها لا تشفع بقوله : (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) ، أي : شفاعة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ).

يقول ـ والله أعلم ـ : إن مرجعنا إلى ما أعد الله لنا ، أعد لكم النار ، وأعد لي الجنة ، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) والمقتصدين من أصحاب الجنة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ).

أي : ستذكرون إذا عاينتم ما أعدّ لكم وأعد لنا : أن ما كنتم عليه ودعوتموني إليه دعاء إلى الهلاك ، وما دعوتكم إليه هو دعاء إلى الجنة.

أو يقول : ستذكرون ما نصحت بدعائي إياكم إلى ما به نجاتكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ، هذا يخرج على وجوه :

أحدها : كأنهم خوفوه وأوعدوه بأنواع الوعيد والتخويف ، فقال عند ذلك : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ، وأتوكل عليه ، فيحفظني ويدفع عني شركم وما تقصدون بي ، والله أعلم.

والثاني : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي : عليه أتوكل ، وأكل في جميع الأمور من الخيرات والشرور ، وهو الكافي لذلك.

٣٢

والثالث : إظهار الحاجة إليه ، والمؤمن أبدا يكون مظهرا للحاجة إلى الله ـ تعالى ـ في كل وقت وكل ساعة ، والله أعلم.

والرابع : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي : لا أشتغل بشيء في أمري أصيره إلى الله ، تعالى.

وعلى قول المعتزلة لا يصح تفويض الأمر إلى الله تعالى ؛ لأنهم يقولون : إن عليه أن يعطيه جميع ما يحتاج إليه المكلف حتى لا يبقى عنده مزيد ، وإذا لم يبق عنده شيء ، فليس لتفويض الأمر إليه معنى ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا).

دل هذا على أنهم قد قصدوا قصد المكر به ؛ حيث أخبر أنه وقاه سيئات ما مكروا ، فجائز أن هموا به قتله ، ويحتمل غيره.

ثم يحتمل ما وقاه عن مكرهم بما وقى موسى ـ عليه‌السلام ـ لما أهلكهم وأنجاه من شرهم.

ويحتمل توجيه آخر لا نفسره ؛ لأنا لا نحتاج إليه ، وإنما حاجاتنا إلى أن نعلم أنه كان بذل نفسه لله تعالى وحفظه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ).

استدل بعض الناس على عذاب القبر بقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) وإنما يعرض أرواحهم على النار فتألمت أجسادهم في القبور لذلك ، وكذلك يعرض أرواح أهل الجنة فيتلذذ أجسادهم بتلذذ الأرواح بعد أن أحدث فيها الحياة التي تحقق الألم واللذة هذا في القبور ، ثم إذا دخلوا النار يكون لهم ما ذكر من العذاب ، حيث قال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، والله أعلم.

وجائز أن يكون ما ذكر من العرض على النار قبل القيامة قبل أن يدخلوا النار ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) [الصافات : ٢٢ ـ ٢٥] يكون عرضهم على النار هو وقت وقفهم للسؤال وحبسهم لذلك ، ثم يدخلون النار ؛ فيكون لهم العذاب الذي ذكر ؛ وهو قول الحسن.

ثم قوله : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا).

يحتمل قدر غدو وقدر عشي ، فإن كان التأويل في عذاب القبر يحتمل ما قال بعضهم : أن يقال لهم : هذا لكم ما دامت الدنيا.

ويحتمل أنه ذكر على إرادة الغدو والعشي حقيقة ذلك كل وقت ، لكن يتجدد التألم

٣٣

والوجع بكل قدر عشي وغدو ، والله أعلم.

وذكر عن ابن مسعود (١) ـ رضي الله عنه ـ أنها جعلت أرواحهم في أجواف طير سود ، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) إلى أن تقوم الساعة. فهو تفسير لما ذكر من الغدو والعشي ، ثم إن ثبت هذا عنه فهو سماع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه باب لا يدرك بالتدبير مع ما روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : إن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مات أحدكم عرض على مقعده بالغداة والعشي : إن كان من أهل الجنة فمن الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن النار ، يقال له : ها ذاك مقعدك حتى يبعث إليه يوم القيامة» (٢) فإن ثبت هذا وصح عنه ، فهو دليل لوجوب عذاب القبر ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : ، أي : يعذبون في الأوقات كلها بعد إدخالهم فيها ، وذكر الغدو والعشي يخرج على سكون النار في أوقات ثم تلتهب ؛ كقوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] ، والله أعلم.

فإن قيل : ما الحكمة فيما ذكر من إدخال آل فرعون في أشد العذاب ، والخصوصية لهم في ذلك من بين غيرهم من الكفرة؟

قيل لوجهين : أحدهما : أن غير موسى من الرسل ـ عليهم‌السلام ـ قد نسبوا إلى السحر كما نسب إليه موسى ، لكن لم يتبين ولا تحقق لقومهم براءة رسلهم فيما قرفهم (٣) الرؤساء والقادة منهم بالسحر والكذب بما وجد منهم التمويه على السفلة والأتباع ، وقد تحقق لآل فرعون براءة موسى مما قرفه فرعون بالسحر والكذب ، وتبين عندهم صدق ما ادعى من الرسالة ، وذلك مما أقر جميع سحرة فرعون أن ما جاء به موسى حق وما يقوله صدق ، وإيمانهم بموسى ـ عليه‌السلام ـ نهارا جهارا ، واختاروا القطع والصلب ، ولم يمتنعوا عن متابعته ، وما رأوا من انقلاب العصا حية تسعى وتلقف ما صنعوا ؛ فيكون عنادهم أشد ومكابرتهم أكبر ؛ فلذلك استحقوا أشد العذاب ، والله أعلم.

والثاني : أن آيات موسى أكثرها كانت حسية وآيات غيره عقلية ، ومعرفة ما كان سبيله الحس مما لا يتمكن فيه شبهة ؛ وقد يتمكن الشبهة فيما كان سبيله العقل ، فيكون عنادهم أشد.

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٩).

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٢٤٣) في الجنائز : باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي (١٣٧٩) ، ومسلم (٤ / ٢١٩٩) ، في كتاب الجنة وصفة نعيمها : باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (٦٥ / ٢٨٦٦) ، وأخرجه مالك (١ / ٢٣٩) في كتاب الجنائز : باب جامع الجنائز (٤٧).

(٣) قرفهم ، أي : اتهمهم ينظر : القاموس المحيط (قرف).

٣٤

وبعد ، فإنهم قد اتبعوا فرعون بما ادعى لنفسه من الألوهية بلا حجة وبرهان طلبوا منه ، وتركوا اتباع موسى ـ عليه‌السلام ـ بما ادعى من الرسالة بعد ما أقام على ذلك من البينات والحجج والبراهين ؛ فلذلك قال : «جعلت أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين ، يقال : يا آل فرعون ، هذه داركم» ، قال عبد الله : فذلك عرضها ، فإن ثبت هذا عن ابن مسعود (١) ـ رضي الله عنه ـ كان لهم أشد العذاب ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(٥٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ).

ما ذكر هاهنا وفي آي من القرآن وهو ما ذكر : (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) ، قد علم الضعفاء الأتباع لا يملكون دفع ما هم فيه ؛ لأنهم لو كانوا يملكون ذلك ، لدفعوا عن أنفسهم ، فإذا لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم فلألا يملكوا دفع ذلك عنهم أحق ، لكنهم قالوا ذلك لهم ليزدادوا حسرة وندامة ؛ وهو كقوله تعالى في آية أخرى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ...) [إبراهيم : ٢١] إلى قوله : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١].

ويحتمل أنهم إنما قالوا لهم ذلك لما قالوا لهم في الدنيا : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) فيقولون لهم لذلك في الآخرة : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : حاملون عنا بعض الذي علينا من العذاب (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) في الدنيا (إِنَّا كُلٌّ فِيها) نعذب (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ).

هذا من أولئك الذين استكبروا ؛ جوابا للضعفاء على أحد التأويلين ، ولا يكون جوابا

__________________

(١) تقدم.

٣٥

للآخر ، وهو جواب لقولهم الذي قالوا في الدنيا : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) ، فيقولون : (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) ألا يزيد العذاب على مثل السيئة ، وقد حكم الله تعالى على كل منا بالمثل ، فلا يزيد على ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ).

كان فزع الكفرة أبدا إلى الخلق إذا نزل بهم البلاء في الدنيا ، إلا أن يضطروا ، فعند ذلك يفزعون إلى الله ، فأما ما لم ييئسوا منهم فلا يفزعون إليه ؛ فعلى ذلك يكون فزعهم في الآخرة إلى الخلق ، وهو ما سألوا أهل الجنة من الماء ، أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) ، فلما أيسوا من ذلك عند ذلك فزعوا إلى مالك ، وهو ما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) سألوا الموت ، فلما أخبرهم أنهم ماكثون ، فعند ذلك فزعوا إلى الخزنة وقالوا : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ* قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، فلما أيسوا منهم ومما سألوهم من تخفيف العذاب عنهم عند ذلك فزعوا إلى الله تعالى ، وهو قولهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] ، وقولهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) [إبراهيم : ٣٤] ، لم يفزعوا إلى الله تعالى إلا بعد ما انقطع رجاؤهم منهم ، وأيسوا ، وبالله العصمة والنجاة.

وقد استدل بقوله تعالى : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى) من لا يرى الحجة والحكم يلزمهم بمجرد العقل دون الرسل ـ عليهم‌السلام ـ حيث احتج عليهم الخزنة بتكذيبهم الرسل وردهم البينات التي أتتهم الرسل.

واستدلوا أيضا بقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ) [الإسراء : ١٥] ، وبقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) [طه : ١٣٤] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩] ، وغيرها من الآيات التي فيها أنه لا يعذبهم إلا بعد ما قامت عليهم الحجة من جهة الرسل ولزمهم الحكم بهم ، فعند ذلك يعذبون.

لكن تأويل الآية يخرج عندنا على وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك في قوم خاص الذين لا يرون لزوم الحجة والحكم إلا من جهة الرسالة ، فيحتج عليهم بما كانوا يرونه ؛ ليكون أقرب إلى الإلزام والحجة ، وإن كان

٣٦

يجوز أن يحتج عليهم بما هو حجة وهم لا يرونها حجة ، والله أعلم.

والثاني : إنما ذكر ذلك على المبالغة والنهاية في الحجة ، وإن كانت الحجة قد تلزمهم والحكم قد ثبت بدون ذلك وهو العقل ؛ لأن إرسال الرسل وإقامة المعجزات أقرب إلى الوصول إلى الحق ، وقد أقام كلا الحجتين فذكر وأظهر الحجتين ؛ ليكون أقرب إلى إظهار عنادهم ، وهذا كما في تعذيب الكفرة في الدنيا أنهم لم يعذبوا بنفس الكفر حتى كان منهم مع الكفر الاستهزاء بالرسل والعناد لهم وغير ذلك ، وإنما كانوا يستوجبون العذاب بنفس الكفر ، لكن ترك تعذيبهم حتى يبلغوا النهاية والإبلاغ في التكذيب والعناد ؛ وهو كقوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٧] ذكر هذا على النهاية والإبلاغ في الجناية منهم ، وإن كانوا يستوجبون العذاب بجحودهم الزكاة دون جحود البعث ، أو جحود البعث دون جحود الزكاة ؛ فعلى ذلك الآيات التي ذكرها هي على الإبلاغ والنهاية ، وإن كان الحجة تلزمهم والحكم يثبت بدون الرسل ، والله الموفق.

وبعد ، فإن قوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) فلا تكون ظالما فيما عذبتنا ، والظلم من الله تعالى محال ؛ فيستحيل تقدير الآية على هذا الوجه ؛ دل أن التعذيب قبل الرسل عدل وحكمة وليس بظلم ، والله الموفق.

وبعد : فإن في قوله : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) دلالة أن الحجة إنما تلزم بالبينات لا بنفس الرسل ، والبينات قد وجدت ، وسبب المعرفة وطريقها ـ وهو العقل ـ قائم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

ليس على الأمر بالدعاء ، ولكن معناه : أنكم وإن دعوتم لا ينفعكم دعوتكم ؛ كقوله : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان : ١٤] أي : هلاكا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٥٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

يحتمل ما ذكر من النصر للرسل والمؤمنين وجوها :

أحدها : أن ينصرهم في الدنيا بالحجج والآيات التي أعطاهم في الدين حتى يدفع بها تسويلات الشيطان وتمويهات السحرة وتغلبها وتعلو على كل هذا في الدنيا ، وفي الآخرة أيضا ينصرهم بما يشهد لهم عليهم الملائكة والجوارح بالتكذيب للرسل والمؤمنين ،

٣٧

وأنهم دعوهم إلى التوحيد والإيمان ، لكنهم كذبوهم وكفروا بما دعوهم إليه ، فذلك نصره إياهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.

والثاني : ينصرهم ؛ لما يجعل لهم العواقب وآخر الأمر وإن كان في الابتداء قد يكون عليهم ، وعلى ذلك لم يذكر عن أحد من الرسل إلا وقد كان عاقبة الأمر له ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ؛ فهذا النصر هو النصر في الأبدان والأول هو نصر في الدين ، ولكن إن كان هو نصرا في الأبدان فهو نصر يرجع إلى الدين ؛ لما يقوم الدين بسلامة الأبدان ، ويتحقق به عز المسلمين ، والله الموفق.

والثالث : ذكر نصرهم ؛ لما أعطاهم من النعمة في الدنيا والسعة فيها ، وهو يذكر للرسل والمؤمنين نصرا ونعمة ومعونة ، أما هي للكفرة فتنة ومحنة لا غير لا تذكر باسم النصر والنعمة ؛ إذ هي في حق المسلمين وسيلة إلى النعمة الأبدية ، وفي حق الكفرة إلى العذاب الأبدي ، فتكون نعمة في حقهم حقيقة ؛ ولذلك قال تعالى : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ١ ، ٢] ، وقال : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) [الزمر : ٤٩] ، وقوله : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٦] ، وقد أخبر أن ما أعطاهم من الأموال والسعة إنما هي فتنة ومحنة لهم ، والله أعلم.

فإن قيل : ذكر أنه ينصرهم ، وقد نرى مؤمنا قد ينقطع حججه ويعجز عن إقامتها ونراه مغلوبا ، والكافر هو الغالب؟!

قيل : عن هذا جوابان :

أحدهما : من جعل العاقبة له والغلبة والنصر في آخر الأمر.

والثاني : جائز أن يكون وعده النصر لهم والظفر بالحجة بالشريطة ، وهي القيام بوفاء ما لله عليهم من الحق في ذلك ، فالنصر والظفر بالحجة في المناظرة أن يكون يزجى عمره في معرفة الحجج والدلائل وأن يكون عارفا بطرق النظر ، ومتى كان هذا الشرط موجودا يكون النصر له لا محالة ، وشرط الظفر في المحاربة أن يكونوا قاصدين إعزاز دين الله تعالى ، دون ابتغاء الدنيا وكلمتهم واحدة ونحوها ، ومتى كان المحاربة بشرائطها يكون الظفر لا محالة للمسلمين ؛ وذلك كقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ).

قال بعضهم (١) : الأشهاد : هم الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ، يشهدون عليهم بما

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٠٣٧٧) ، وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (٥ / ٦٦٠) ، وهو قول قتادة والأعمش أيضا.

٣٨

عملوا من الأعمال.

وقال بعضهم : الأشهاد : هم الرسل يشهدون عند رب العالمين على الكفرة بالتكذيب والرد.

وقال بعضهم (١) : يشهد عليهم الجوارح يومئذ بما كان منهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ).

ذكر هاهنا : (لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) ، وذكر في موضع آخر : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) وبينهما اختلاف من حيث الظاهر ؛ لأن القول بأنه لا ينفع معذرتهم بعد وجودها منهم ، وقد أخبر أنه لا يؤذن لهم بالاعتذار ، لكنهم يعتذرون بلا إذن لهم ، فلا يقبل اعتذارهم ولا ينفعهم ذلك ؛ فيكون جمعا بينهما من هذا الوجه.

ويحتمل لا ينفع الظالمين معذرتهم لو كان منهم الاعتذار ، ولا يقبل اعتذارهم ، لكن لم يؤذنوا بالاعتذار حتى يعتذروا ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة : ١٢٣] ، أي : لو كان منهم فذلك لا يقبل ، وكذا قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] أي : لو كانت لهم شفعاء يشفعون لهم ، لكان لا ينفعهم شفاعتهم لا أن كان شفعاء ؛ فعلى ذلك قوله تعالى : (لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) ، أي : لو كانوا يعتذرون لا يقبل اعتذارهم ولا ينفعهم معذرتهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى).

يحتمل الهدى هاهنا وجوها :

أحدها : أي : آتيناه التوراة وفيها البيان والدعاء إلى الرشد ، وجميع كتب الله تعالى فيها هدى ونور ورحمة.

والثاني : أي : آتاه التوحيد والإسلام.

ويحتمل : آتاه النبوة والرسالة ، وآتاه كل ما لله عليه من حق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ).

يحتمل قوله : (الْكِتابَ) : التوراة خاصة ، ويحتمل التوراة وسائر الكتب ؛ لأن الكتب في بني إسرائيل كانت كثيرة ، كان فيها التوراة والزبور والإنجيل وغير ذلك ، فجائز أن يريد بالكتاب : جميع الكتب التي كانت فيهم ؛ إذ ذكر الكتاب بالألف واللام ، وإنه يحتمل الجنس والعهد ؛ فيجوز الصرف إلى التوراة لمكان العهد ، ويجوز الصرف إلى

__________________

(١) جمع زيد بن أسلم الثلاثة أقوال في تفسير هذه الآية ، أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٦١).

٣٩

الجميع لمكان الجنس ، والله أعلم.

وفي الآية دلالة أن لا جميع كتب الله التي أنزلت فيهم غيرت وبدلت ، بل فيهم ما لم يغير ولم يبدل حيث قال : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).

ثم قوله ـ تعالى ـ :

(هُدىً) : هو ما ذكرنا أن جميع كتب الله تعالى هدى من الضلالة إلى الرشد ، وبيان لما لله عليهم وما لبعض على بعض.

وقوله : (وَذِكْرى) قال بعضهم : موعظة.

وقال بعضهم : تفكرا لأهل اللب والعقل.

وجائز (ذِكْرى) ، أي : ذكر ما سبق ، أي : يذكرهم ما نسوا.

وقوله : (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ؛ لأن أهل اللب هم الذين يتفكرون ويتأملون فيه ، أو أن أهل اللب هم المنتفعون بالذكرى وما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، يحتمل قوله : (فَاصْبِرْ) وجوها :

أحدها : التكذيب ، كان يتأذى بتكذيبهم إياه.

والثاني : كان يتأذى باستهزائهم به.

والثالث : أنواع ما يكيدون : من همهم قتله وضربه وغير ذلك.

والرابع : يحتمل قوله تعالى : (فَاصْبِرْ) ، أي : اصبر على تبليغ الرسالة إليهم ، ولا يضجرك تكذيبهم إياك ، ولا يمنعك ذلك عن تبليغها ، والله أعلم.

والخامس : اصبر ولا تستعجل لهم العذاب قبل ميقاته ، وذلك أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ كانوا لا يستعجلون العذاب ما لم يؤذن لهم بذلك ، والله أعلم.

ثم قوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) إن كان المراد من وعده نفس الوعد ؛ فيكون تأويله : إن وعد الله صدق ، أي : لا يخلف ، ولا يكون كذبا ؛ لأن خلف الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد معنيين :

إما لعجزه عن القيام بوفائه.

وإما لضرر يخاف أن يلحقه لو قام بوفاء ما وعد ، والله تعالى بريء عن المعنيين جميعا متعال عن ذينك.

وإن كان المراد من قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، أي : موعود الله ؛ فيكون تأويله : إن موعد الله تعالى لكائن حقّا ، فوعد الله تعالى على الوجهين اللذين ذكرناهما ، وعلى هذا يذكر أمر الله تعالى : قد يراد به نفس الأمر ، كقوله : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ

٤٠