تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٩

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٣٩

١
٢

سورة حم المؤمن وهي مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (حم).

قال بعضهم : هو هجاء أسماء الرب جل وعلا ؛ وهو قول ابن عباس (١) ، رضي الله عنهما.

وقال بعضهم : فواتح السور كلها ، وكذلك قال في سائر الحروف المقطعة.

وقال بعضهم (٢) : أصله (حم) أي : قضى ، كقول الشاعر :

ألست ترى أن الذي حم كائن

أي : الذي قضى كائن ، إلا أنه ذكره بالهجاء كمن ذكر زيدا بالهجاء.

وقد قلنا نحن : إن تفسير الحروف المقطعة ما ذكر على أثرها ، وقد ذكرنا أقاويل الناس واختلافهم فيها في غير موضع ما أغنانا عن ذكرها في هذا الموضع ، والله أعلم.

وقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

قد ذكرنا قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) في سورة الزمر ، غير أنه ذكر العزيز الحكيم وهاهنا ذكر العزيز العليم وهما واحد ، والله أعلم.

وقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ) ، يخرج على وجهين :

أحدهما : (غافِرِ الذَّنْبِ) أي : متجاوز الذنب ، وهو في حق المؤمنين خاصة.

والثاني : (غافِرِ الذَّنْبِ) أي : ساتر الذنب ، وهو يحتمل للكافر والمؤمن جميعا ؛ فإنه يستر كثيرا على المؤمن والكافر جميعا الذنب في الدنيا ، ولم يفضحهما ، ويتجاوز عن المؤمن خاصة في الآخرة ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقابِلِ التَّوْبِ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٣٠٢٦٥).

(٢) قاله الضحاك والنسائي كما في تفسير البغوي (٤ / ٩٠).

٣

يخبر أنه يقبل التوبة وإن عظمت المعصية ، وجلت الذنوب وكثرت ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة : التوب : جماعة التوبة.

وقوله : (شَدِيدِ الْعِقابِ).

أي : لمن لم يتب.

وقوله : (ذِي الطَّوْلِ).

قال أبو عوسجة (١) : أي : ذي القدرة.

وقال القتبي : ذي التفضل ، يقال : طل عليّ برحمتك ، أي : تفضل.

وقيل (٢) : ذي السعة والغناء.

وقيل (٣) : ذي النعم ؛ وكله قريب بعضه من بعض.

وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

وحّد نفسه ، وأخبر أن مصير الخلق إليه في الآخرة فيجزيهم بأعمالهم ، والله أعلم.

وقوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا).

أي : يجادل في دفع آيات الله والطعن في آيات الله الذين كفروا بالله أو كفروا بآيات الله ، وكانت مجادلتهم ما ذكر حيث قال : (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي : يبطلوا به الحق ، أهل الكفر هم الذين كانوا يجادلون في دفع آيات الله والطعن فيها ، فأما أهل الإيمان بها كانوا يفرحون بنزولها ويزدادون بذلك إيمانا ؛ كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [الرعد : ٣٦] وكقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢] ، ونحو ذلك من الآيات ، كانوا يستسلمون لها ويقبلونها ، ويستقبلون لها بالتعظيم والتبجيل ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ). معلوم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يغره تقلبهم في البلاد ، لكنه ذكر الخطاب له ، وأراد به غيره ؛ لما يحتمل أن يظن قوم أن أهل الكفر لما كانوا فيه من التقلب في البلاد والسعة في عيشهم وأن أهل الإيمان في ضيق وشدة وخوف ـ أن أولئك على الحق وهؤلاء على الباطل ، فجائز أن يظن ظان ما ذكرنا ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ أن الأمن والسعة ، ليس بدليل على كون صاحبه على الحق ، ولا الضيق والشدة بدليل على كون صاحبه على الباطل ، ولكن محنة : امتحنهم مرة بالسعة

__________________

(١) وهو قول ابن زيد أيضا أخرجه ابن جرير (٣٠٢٧٤).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠٢٧٢) وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور (٥ / ٦٤٥) ، وهو قول مجاهد أيضا.

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٢٧٣) وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٦٤٥).

٤

والأمن ، ومرة بالضيق والخوف ؛ دليل ذلك : وجود الحالين جميعا في كل فريق مع اختلاف مذاهبهم ، وتضاد أقاويلهم.

ويحتمل أن يكون المراد منه أهل مكة ، أي : لا يغررهم تقلبهم في البلاد وأمنهم وسعتهم بعد ما نزل بأهل الآفاق والنواحي أنهم على الحق ، وأن ذلك إنما يدفع عنهم لمكانهم ، وإنما يدفع ذلك عنهم ، ويكونون على أمن ؛ لمكان كونهم بقرب من البيت ؛ لحرمته وشرفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ).

ذكر هذا لتصبير رسوله على تكذيب قومه إياه بالباطل ؛ يقول : لست أنت بأول من كذبه قومه ، ولا بأول من جادله قومه بباطل ، لم يزل الأمم المتقدمة يكذبون رسلهم ، ويجادلونهم بالباطل ؛ فصبروا على ذلك ؛ فاصبر أنت على تكذيب قومك ، ومجادلتهم إياك بالباطل كما صبر أولئك كقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] ، وهو ما ذكر في قوله ـ عزوجل ـ : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) همت كل أمة برسولهم ما ذكر ، لكن الله تعالى بفضله عصم رسله عما همّ أولئك الكفرة بهم من القتل والمجادلة بالباطل ، وفي ذلك آية من آيات الرسالة لهم حيث حفظهم عما هموا بهم وكادوا بلا أعوان وأنصار كانوا للرسل مع كثرة أولئك الكفرة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ).

أي : كيف وجدوا عقابى ، أليس وجدوه حقا على ما وعد الرسل ـ عليهم‌السلام ـ أنه نازل؟! بهم أو يقول : أليس وجدوه أليما شديدا؟ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

يحتمل قوله : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ما ذكر في قوله : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ...) الآية [الأحزاب : ٣٨]. وقوله : (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣٨] يحتمل أن يكون قوله : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ما قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] فذلك الذي حق عليهم من كلمة ربك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ

٥

أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)(١٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

قد ذكرنا في غير موضع أن التسبيح بحمد ربهم هو الثناء عليه ، والحمد له بالتبرئة والتنزيه عن جميع أوصاف الخلق ومعانيهم ، [و] عن جميع ما قال الملاحدة فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).

هذه أرجى آية للمؤمنين ، والآيات التي فيها استغفار الرسل للمؤمنين من نحو قول نوح ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [نوح : ٢٨] وقول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١] ، وما أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات إنما هو في الذنوب التي ليس له أن يعذبهم عليها ، وهى الصغائر ، وليس له أن يغفر الكبائر ، ويستدل على ذلك بقوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) ، إنما أمره أن يستغفر للذي تاب ، فأما من لم يتب ، ولم يأمره بالاستغفار ، فيجب القول بما قلنا ؛ عملا بالآيتين.

لكن نقول نحن : إنه لو كان استغفاره لمن ذكر خاصة لأصحاب الصغائر على ما قالوا ، يصير كأنه أمر النبي ـ عليه‌السلام ـ أن يستغفر لهم ، ولا يحزن عليهم ؛ إذ هم مغفور ذنبهم ؛ فيحصل قولهم على ما ذكرنا ، وذلك وخش من القول ، والله أعلم.

ثم يجيء أن يكون المعتزلة والخوارج في الظاهر أبعد الخلائق من المعاصي وأقربهم إلى الطاعات ، ونحن أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم عن الطاعات ؛ لأنهم لا يرون النجاة إلا بأعمالهم ولا يرون برحمة الله ، ولا بشفاعة أحد ، ولكن بأعمالهم ؛ فيجب أن يكونوا أبدا متكلين ملازمين على الطاعات في كل وقت وساعة ، لا يعصون الله طرفة عين ، ونحن لم نر النجاة بالأعمال ، ولكن إنما نرى ذلك برحمة الله تعالى ، وبشفاعة من ارتضى بشفاعته ؛ فيجب أن نكون معتمدين على رحمة الله وفضله غير مشتغلين بشيء من الطاعات.

ثم في الحقيقة يجب أن يكونوا هم أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم من الطاعات ، ونحن ألزم الخلائق بالطاعات وأبعدهم من المعاصي ؛ لأنا نرى عند الله

٦

لطائف وفواضل باقية ، لم يعطنا ما لو أعطانا لم يصدر منا إلا الخير والطاعات ؛ وسلمنا عن المعاصي وأنواع الشرور ، وعصمنا ؛ فيجب أن نكون متكلين على الطاعات ؛ لنصل إلى تلك اللطائف ، وهم لا يرون بقي عنده شيء من اللطائف ، بل يقولون : قد أعطانا كل شيء حتى لم يبق عنده شيء من مصالح الدين ؛ فيجب أن يكونوا ما ذكرنا ، والله أعلم.

ثم قولنا : إن الله تعالى ينجينا برحمته وبشفاعة من جعل له الشفاعة لا بأعمالنا ، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله» ، قيل : ولا أنت يا رسول الله؟! قال : «ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته» ، والمعتزلة يقولون : لا ، بل ندخل بأعمالنا ، وكذلك قول الخوارج.

وأصل قولنا : إن الله ـ عزوجل ـ أن يعذب عباده على جميع المعاصي : على الصغائر والكبائر جميعا ، وله أن يغفر جميع المعاصي سوى الشرك والكفر ، على ما ذكرنا من دلائل الآيات وغيرها.

وقوله : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً).

قوله : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) فرحمة الدنيا يدخل فيها الكافر والمؤمن جميعا ، فأما رحمة الآخرة ، فهي للمؤمنين خاصة ، هو كما ذكر في قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ...) إلى قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ...) الآية [الأعراف : ١٥٦] ، وكقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢] ، كأنه يقول : قل هي للذين آمنوا ، والذين لم يؤمنوا ، ثم هي خالصة للذين آمنوا يوم القيامة ؛ فعلى ذلك قوله : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) [غافر : ٧] هي رحمة الدنيا : المؤمن والكافر جميعا في تلك ، فأما رحمة الآخرة ليست إلا للذين آمنوا ، والله أعلم.

وقوله : (وَعِلْماً) أي : علم ما فيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) يحتمل وجوها :

أحدها : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) من الشرك ، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي : دينك ، [و] هو الإسلام.

والثاني : أي : فاغفر للذين تابوا عن الكبائر والفواحش (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي : طاعتك.

والثالث : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) عن جميع المعاصي صغائر أو كبائر واتبعوا طاعتك ،

٧

والله أعلم.

وقوله : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ظاهر.

ثم قوله : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً).

لا يمكن العمل بها على قول المعتزلة ؛ لأن رحمة الله عندهم لا تسع لذنب واحد ، فإنه ليس له أن يعفو عنه ؛ فإن عندهم أن من ارتكب كبيرة ، ليس له أن يرحمه ، ولكن يعاقبه ـ على زعمهم ـ خالدا مخلدا ، وإذا كان [هذا] قولهم ومذهبهم ، فليست رحمته بواسعة بزعمهم.

ثم يقولون ـ أيضا ـ : إن الله تعالى قد هدى كل كافر وأعطاه ما يهتدي به ، لكنه لم يهتد به ، وأنه لم يبق عنده ما يهديه به ؛ فعلى هذا القول رحمته لا تتسع لهداية الكافر ، فإذن رحمة الله بزعمهم على خلاف ما ذكر الله تعالى ووصفها بالسعة ، والله الموفق.

وأما عندنا فهو ما ذكرنا من جمع الكل في ذلك ؛ لما ذكرنا أن تلك الرحمة هي الرحمة الدنيوية ، أو ما ذكرنا من كون اللطائف عنده من أعطاها اهتدى ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) هذا يخرج على وجوه :

أحدها : أن الوعد كان منه لجملة المؤمنين ، فسألوا أن يدخل قوم على الإشارة والتيقين في جملة ذلك الوعد ؛ لاحتمال خصوص في الجملة ، والله أعلم.

والثاني : سألوه أن يجيبهم على الأسباب والأعمال التي يستوجبون ذلك ، والله أعلم.

والثالث : يجوز أن يكون الوعد لهم بشرط الذي سألوه ، والله تعالى عالم في الأزل : أنه يوجد ذلك الشرط وهو سؤالهم ؛ فيكون لهم ذلك الوعد ، ومثل ذلك جائز ، قال الله تعالى : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) [مريم : ٧١] إنما يعذبهم بسؤال هؤلاء على ذلك كان : إنما تقديره : أنه لا يعذبهم إذا سألوا ، وعلم أنهم سألوا ؛ وعلى ذلك الحديث الوارد : أن الصدقة تزيد في العمر ، جرى تقديره [في] الأزل أنه يوجد منه الصدقة ، فيكون عمره زائدا ؛ على ما لو علم أنه لا يتصدق ، وإنما لا يجوز التعليق بالشرط في حق الله تعالى على نحو ما يكون في حق العباد أن يوجد عند وجود الشرط ، ولا يوجد عند عدمه ، ولا علم لهم بعاقبة ذلك ، والله تعالى عالم بالعواقب ، فمتى علق بشرط كان ذلك منه في الأزل حكما على أن يوجد مع ذلك الشرط لا محالة ، لما علم وجود ذلك الشرط مع علمه أنه لو لم يكن ذلك الشرط كيف كان ، والله الموفق.

أما ظاهر الآية أنه إذا وعدها لهم ، لأدخلها لا محالة فيها ؛ فلا معنى للسؤال في ذلك لما يخرج السؤال في مثله مخرج السؤال في تصديق الوعد والامتناع عن الخلف ، ولكن

٨

الآية تخرج على الوجوه التي ذكرنا.

وقوله : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ...) الآية.

سألوه أيضا إدخال هؤلاء في ذلك الوعد أيضا على ما ذكرنا.

وقوله : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ).

هذا يحتمل أنهم سألوا أن يقيهم في الآخرة أمورا تسوؤهم من الأهوال والأفزاع ، وغير ذلك من العذاب.

ويحتمل في الدنيا أمر الشرك وغيره ؛ يدل عليه قوله : (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي : ومن تق السيئات في الدنيا ، فقد رحمته يومئذ (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) الآية.

ذكر أن أهل النار إذا دخلوا النار وعاينوا ما أنكروا من البعث والعذاب ، فجعل كل إنسان منهم يمقت نفسه ، ويلومها ، فينادون : لمقت الله إياكم أكبر مما أوجب عليكم من اللعن ، والنقمة أكبر مما تمقتون به أنفسكم وأشد ؛ هذا وجه ، [ووجه] آخر : جائز أن يقال لهم : إن الواجب عليكم أن تروا مقت الله إياكم وقت ارتكابكم العصيان وعند تعاطيكم ما تعاطيتم أكبر وأشد من مقتكم العذاب ودخولكم النار ؛ لأنكم إن رأيتم مقت الله إياكم عند ارتكابكم ما ارتكبتم أنه ينزل بكم ، لزجركم ومنعكم عن ارتكاب ذلك وتعاطيه ، وحملكم على إيثار ما دعيتم إليه. من التوحيد لله تعالى والإيمان به ، والله تعالى أعلم.

وعلى هذين التأويلين يرجع تأويل قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥].

أحدهما : أن ذكر الله إياكم بالرحمة والمغفرة أكبر وأعظم من ذكركم إياه ، وصلواتكم وعبادتكم له.

والثاني : أن ذكر نفس نهي الله تعالى إياكم عن المعاصي وقت ارتكابها أكبر ـ في الرهبة عنها والمنع ـ من الصلاة نفسها ، إن كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ؛ لما أن الصلاة فيها أعمال تشغل عن ذكر النهي ، والله أعلم.

ثم قوله تعالى : (مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : مقت بعضكم بعضا كقوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥].

ويحتمل ذلك كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى) أي : يمقت كل إنسان نفسه ؛ لما كان

٩

من العصيان والكفر ، وإنما احتمل هذين الوجهين ؛ لأن المنع لهم من طاعة الله تعالى واتباع أمره ونهيه ، يكون بأنفسهم ، ويكون من بعضهم بعضا ؛ فيكون محتملا لكلا الوجهين ، وهو كقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النور : ٦١] وقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] : ولا تهلكوا بعضكم ببعض ؛ إذ الظاهر أن المرء مع قيام عقله لا يهلك نفسه ، ولا يلقيها في التهلكة ، وكذا لا يسلم على نفسه.

ويحتمل الظاهر أيضا أن يسلم على نفسه إذا دخل البيت ، ولم يكن معه غيره ؛ ولذلك نهي عن إهلاك نفسه عند شدة الغضب ، ونحو ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ).

قال بعض أهل التأويل : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله تعالى في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود فيما أرى ، ويقولون [هو] كقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢٨].

وقال بعضهم : قوله : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) : إحدى الموتتين هي التي تنقضي بها آجالهم ، ثم يحييهم في القبر ، ثم يميتهم ، ثم يحييهم للبعث يوم القيامة ، فهما موتتان وحياتان ، وإلى هذا يذهب ابن الراوندي ، ويحتج بهذا على عذاب القبر ، وهو أشبه وأقرب ؛ لأنهم بكونهم في أصلاب آبائهم أمواتا لا يقال : (أَمَتَّنَا) وهم كانوا أمواتا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).

يحتمل اعترافهم بذنوبهم : هو ما أنكروا في الدنيا قدرة الله تعالى على البعث والإحياء بعد الموت والعذاب لهم لما عاينوا ذلك وشاهدوا أقروا به ، فإنكارهم ذلك هو ذنبهم ، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون ذنوبهم التي اعترفوا بها ما ذكر في سورة (تبارك) حين قال لهم الخزنة لما ألقوا في النار : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الملك : ٨ ، ٩] فيكون اعترافهم بذنوبهم هذا ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ).

قوله : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ) أي : ذلك المقت الذي ذكر أو العذاب الذي نزل بكم إنما كان (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) ، أي : كفرتم بتوحيده ، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) أي : توحيد الله (تُؤْمِنُوا) به ، أي : يصدقوا هذه الآية كقوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر : ٤٥] فهما

١٠

بمعنى واحد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).

قال قتادة : لما خرج أهل حروراء قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : «من هؤلاء؟ قيل : المحكمون ، قال قائل : هم القراء ، قال ـ عليه‌السلام ـ ليسوا بالقراء ، ولكنهم العيابون الخيابون ، قال : إنهم يقولون : لا حكم إلا لله ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ : كلمة حق أريد بها باطل» ، وذكر : «عني بها باطل».

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩)

وقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ).

اختلف في قوله : (يُرِيكُمْ) هو ما أراهم بمكذبي رسله ومصدقهم من أوائلهم حيث استأصل هؤلاء بتكذيبهم رسله ، وأنجى مصدقيهم بتصديقهم إياه ؛ ليحذر هؤلاء عن تكذيب رسوله. وقال بعضهم : أراهم آيات وحدانيته وربوبيته وقدرته وسلطانه في السموات والأرض ما لو تأملوا لعرفوا ذلك ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يوسف : ١٠٥] آيات وحدانيته وربوبيته ، وذكر أنهم يمرون عليها ، أي : يرونها ـ لكنهم يعرضون عنها ، والله أعلم.

وقال بعضهم في قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) : يا أهل مكة إذا سافرتم رأيتم آيات المتقدمين ومنازلهم وهلاكهم ؛ وهو الأول بعينه.

وقوله : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً).

يخبر عن آيات وحدانيته أيضا : أنه ينزل رزقهم من السماء ، وحيل الخلق تنقطع عن استنزال الرزق من السماء ؛ ليعلموا أن منشئ الأرض والسماء واحد حيث اتصل منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما.

ويحتمل أنه يذكر نعمه عليهم حيث يعلمون أنه هو الذي أنزل أرزاقهم من السماء دون من يعبدون من الأصنام ، فكيف تصرفون عبادتكم وشكركم إلى غيره؟!

وقوله : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).

١١

وما يتذكر بما ذكر من الآيات ولا يتأملها إلا من ينيب إليه بطاعته.

أو يقول : لا يتذكر ولا يتعظ بآياته ومواعيده إلا من ينيب إليه بالقبول لأمره وطاعته.

وقوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

كأن هذا صلة ما تقدم من قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ...) الآية [الزمر : ٤٥] ، وصلة قوله : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) يقول : فادعوا الله يا أصحاب محمد ، وأيها المؤمنون مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون ذلك ، ووحدوه ، ولا تشركوا به شيئا على ما يشرك به أهل مكة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : رفيع السموات درجة على درجة ، وطبقا على طبق ؛ على ما رفعها واحدة على أخرى.

والثاني : قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي : درجات أهلها ومنازلهم التي جعلها لهم في الآخرة على تفضيل بعض على بعض في الدرجات ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١] : أخبر أنه فضل بعضا على بعض في الدرجات في الآخرة ، فجائز أن يكون ما ذكر من رفع الدرجات هو رفع السموات درجة فدرجة ، فهو إخبار عن قدرته وسلطانه أنه من قدر على رفع السموات في الهواء وإقرارها فيه بلا سبب من أسباب إمساكها من التعليق بشيء ، مع ثقلها وغلظها ولا شيء يقر في الهواء بحيث لا ينحط ولا يتسفل ولا يرتفع عن أماكنه بلا سبب من الأسفل والأعلى لا يحتمل أن يعجزه شيء أو يخفى عليه شيء أو يمنعه [شيء] عما يريد ، والله أعلم. وإن كان المراد بالدرجات التي يجعل لأهلها في الآخرة إنما يستوجبونها بالله تعالى بأعمال تكون لهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم : هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ (يُلْقِي) أي : ينزل بالوحي بالنبوة (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ؛ كقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] أخبر أنه أمين ؛ ليعلم أنه ليس في إنزاله غلط ولا شيء مما قاله بعض الروافض : إنه بعث إلى فلان وأداه إلى غيره.

وقال بعضهم (١) : الروح هاهنا هو الوحي والرسالة ؛ يقول : (يُلْقِي) هو الوحي على من يختار ويصطفي من عباده ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٣٠٠) وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٠).

١٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ).

اختلف فيه : قال بعضهم (١) : يوم يلقى أهل الأرض أهل السماء.

وقال بعضهم : يوم يلقى الآخرون الأولين.

وجائز أن يكون هو يوم يلقى الإنسان عمله وأفعاله التي عملها ، والله أعلم.

وقالت الباطنية : أي : يوم يلقى الصور المتولدة من الأجساد بأعمال الخير والشر التي كانت لهم في الدنيا الصور التي كانت لهم روحانية ؛ لأن من مذهبهم أن من مات منهم يحدث ويتولد بالأعمال التي كانت لهم من الخير صورا روحانية تلقى هذه الصورة الحادثة المتولدة من الأجساد بعد الموت ، ويكون البعث عندهم للأرواح فتتصل هذه الأرواح النورانية بالنور الصرف ، ويستدلون بقوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) ، أي : تبرز تلك الصور الروحانية من الأجساد ؛ إذ الخلائق كلهم في جميع الأحوال والأوقات بارزون ظاهرون لله تعالى لم يكونوا في وقت مستورين عنه.

ولكن هذا فاسد ؛ لأنه لو كان الأمر على ما يقوله الباطنية لكانت الأنفس إذا نامت وخرجت منها الصور الروحانية ، فرأت رؤيا كانت تراها مختلطة غير متحققة ، وفي حالة اليقظة تراها متحققة غير مختلطة ؛ دل أن الإدراك للأجساد بواسطة الصور الروحانية ، فيجب أن يكون البعث للكل ، والله أعلم.

ولكن الوجه في ذلك ما ذكرنا ، وأصله أنه سمي ذلك اليوم على ما سمي : يوم الجمع ، ويوم التغابن ، ويوم الحشر ، وغير ذلك ، سمي ذلك اليوم على أسماء مختلفة ، كل اسم من ذلك لمعنى غير المعنى الآخر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ).

قال بعضهم (٢) : أي : ظاهرون ، لا شيء هنالك يسترهم ، أي : يرتفع يومئذ جميع السواتر ؛ وهو كقوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧] ، أي : لا شيء فيها ، يذكر هذا لأن من الناس من يقول : يستر الأشياء عن الله تعالى بالسواتر ردّا لقولهم.

ويحتمل أن يكون قوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) سمي ذلك اليوم : يوم البروز ؛ لما يتفقون جميعا ويقرون بالكلمة التي اختلفوا في الدنيا فيها ، فيبرزون جميعا متفقين مقرين على تلك الكلمة يومئذ وهي كلمة التوحيد ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٣٠٥) ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٠) ، وهو قول السدي أيضا.

(٢) قاله ابن جرير (١١ / ٤٧) ، والبغوي (٤ / ٩٤).

١٣

ويحتمل أن يكون سماه : يوم البروز ، والمصير ، والرجوع ، وما ذكر ؛ لأن المقصود من إنشاء الدنيا وما فيها من الخلائق ذلك اليوم وتلك الدار ، وكذلك صار إنشاء الدنيا وإنشاء ما فيها حكمة ؛ لما عرف أن الإنشاء للإفناء خاصة ليس بحكمة ، فخص ذلك اليوم بما ذكرنا وإن كانوا في جميع الأحوال بارزين إليه ظاهرين له ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ).

ظاهر ، وهو رد لقول من يقول : إن شيئا يستر على الله [تعالى الله] عن ذلك علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

قال عامة أهل التأويل : إذا أهلك الله تعالى أهل الأرض وأهل السماء فلم يبق أحد إلا الله تعالى ، فعند ذلك يقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا يجيبه أحد ، فيقول هو في نفسه ويجيب نفسه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ولا أحد سواه ، ويجيب نفسه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ؛ لما لا حكمة في ذلك : أن يسأل نفسه ثم يجيبها ، لكن الوجه فيه ـ والله أعلم ـ أنه إنما يقول لهم ذلك إذا بعثهم وأحياهم : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيقول الخلائق له بأجمعهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، يقرون له جميعا يومئذ بالملك والربوبية وإن كان بعض الخلائق في الدنيا قد نازعوه في الملك فيها وادعوا لأنفسهم ، فيقرون يومئذ أن الملك في الدنيا والآخرة لله تعالى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ).

أي : من خير أو شر.

(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ).

أي : لا تجزى غير ما كسبت.

ويحتمل (لا ظُلْمَ) أي : لا نقصان في الحسنات التي عملوها ، ولا زيادة على السيئات التي اكتسبوها ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

قد ذكرنا هذا أيضا ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ).

سمى ذلك اليوم [الآزفة] لقربه ودنوه منه ؛ وعلى ذلك سماه : غدا ، وقريبا ؛ كقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] ، وقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ...) الآية [الأنبياء :

١٤

١] ؛ فعلى ذلك سماه «آزفة» لدنوه وقربه منهم ، يقال : أزف فلان إلى فلان ، أي : قرب ودنا منه ، ومعناه : أي : أنذرهم بما إليه مرجع عاقبتهم ومصيرهم ؛ لأن أهل العقل والتمييز إنما يعملون ويسعون للعاقبة وما إليه يرجع أمورهم وهو ذلك اليوم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ).

يخبر عن شدة حالهم وفزعهم في ذلك اليوم ، ليس أن يزول قلوبهم عن أمكنتها وترتفع إلى الحناجر حقيقة ، ولكنه وصف لشدة حالهم في ذلك اليوم وكثرة خوفهم وفزعهم وضيق صدورهم ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ٢٥] أي : ضاقت صدورهم وقلوبهم بما حل بهم من الشدائد والأهوال ، ليس أن صارت الأرض في الحقيقة مضيقة لا يسعون فيها ، ولكن وصف لضيق صدورهم لعظم ما نزل بهم ، فكنى بضيق الأرض عن ضيق صدورهم ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من كون القلوب لدى الحناجر كناية عن ضيق صدورهم لشدة حالهم وعظيم ما حل بهم ، والله أعلم.

والحناجر : هي مواضع الذبح من الشاة وغيرها من الدواب ، واحدها : حنجرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كاظِمِينَ).

قال بعضهم (١) : الكاظم : المغموم الذي يتردد خوفه في جوفه غيظا ؛ لما كان منه في الدنيا.

وقيل : الكاظم لا يتكلم ، قد كظم من الخوف.

وقيل : الذي لا يفتح فمه ؛ وهو قريب بعضهم من بعض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ).

أي : قريب ، وقيل : الحميم : هو الذي يهتم بأمر صاحبه ، ويسعى في دفع ما نزل به من البلاء.

وقوله : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ).

أي : يجاب : يذكر : ألا يكون لهم في الآخرة قريب يهتم لأمرهم ، ولا شفيع يشفع لهم ؛ فيجاب كما يكون في الدنيا ؛ وكذلك قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] أي : لا يكون لهم شفعاء ينفعهم شفاعتهم ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ...) الآية [البقرة : ٢٥٤].

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٤ / ٩٥).

١٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) ، والخيانة واحد ، وهو ما قال عزوجل : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) [المائدة : ١٣] أي : خيانة منهم. وقال بعضهم : هي النظرة بعد النظرة : أما الأولى فليس فيها شيء ، وأما الثانية فعليه مأثمها.

وقوله : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ).

أي : ما لم يتكلم به المرء ولم يعمل ، كل ذلك يعلمه الله تعالى.

وقال بعضهم (١) : خائنة الأعين : هي النظرة فيما لا يحل والغمزة بعينه ؛ وهو مثل الأول.

وقال بعضهم (٢) : خائنة الأعين : هي التي ينتظرها : غفلة الناس إذا غفلوا عنه ، نظر إلى ما يهواه ويحبه ، و (تُخْفِي الصُّدُورُ) هو ما ذكر ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) [القصص : ٦٩] يذكر هذا ليكونوا أبدا مراقبين أنفسهم ، حافظين لها عما لا يحل من السمع والبصر والفؤاد ، وعلى ما ذكر في آية أخرى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، ليكونوا أبدا على حذر من ذلك وخوف ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ).

قال أهل التأويل : أي : الحكم بالحق. والقضاء المذكور في الكتاب يخرج على وجوه :

أحدها : (يَقْضِي) أي : يأمر ؛ كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] ؛ وكقوله : (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) [الأحزاب : ٣٦] أي : إذا أمر أمرا ، يقول : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي : يأمر بالحق ، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي : لا يملكون الأمر بالحق ، فكيف تعبدون من دونه؟!

والثاني : القضاء : الوحي والخبر ؛ كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ)

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٠٣١٨) ، وعبد بن حميد وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٣).

(٢) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٣).

١٦

[الإسراء : ٤] أي : أوحينا إليهم ، فكأنه يقول : والله يوحي بالحق ويخبر به ، والذين يدعون من دونه لا يملكون الوحي ولا الخبر ، فكيف اخترتم عبادتهم على عبادة من يوحي بالحق ويخبر؟! والله أعلم.

والثالث : القضاء هو الخلق والإنشاء ؛ كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] أي : خلقهن ، فيكون قوله على هذا (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) ، أي : يخلق بالحق ، والذين يدعون من دونه لا يخلقون شيئا ، وقد يعلمون استحقاق العبادة إنما يجوز بالخلق والإنشاء ؛ وهو كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] ، (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦] يقول : خلق من يدعون دونه كخلقه حتى تشابه ذلك عليهم فعبدوهم ؛ إذ يعلمون أن من خلق ليس كمن لم يخلق ، وقد تعلمون أنها لم تخلق شيئا ، فكيف عبدتموها؟! والله أعلم.

ثم أقول : أصل التأويل (يَقْضِي بِالْحَقِ) أي : يحكم بالحق في الدنيا بالآيات والحجج ما عرف كل أحد أنها حجج وآيات وبراهين ، والحكم بما ذكرنا حكم بالحق ، والله أعلم.

والثاني : أي يحكم بالحق في الآخرة وهو الشفاعة ، أي : لا يجعل الشفاعة لمن يعبدون على رجاء الشفاعة ؛ كقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، ولكن إنما يجعل لمن ارتضى ؛ كقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : السميع للمؤمن ، أي : المجيب للمؤمن ، والبصير لعقاب أولئك.

وقيل (١) : السميع لأقوالهم ، البصير بأفعالهم.

وجائز أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) صلة ما تقدم من قوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) يقول : السميع بما يكون منهم ظاهرا من قول أو فعل ، والبصير بما أخفوا في قلوبهم وتكن صدورهم ، يخبر بهذا ؛ ليكونوا أبدا مراقبين حافظين أنفسهم ما ظهر وما خفي ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

هذا يخرج على وجهين :

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١١ / ٥١).

١٧

أحدهما : ما قال الحسن : إنهم لو ساروا فنظروا في آثار من كان قبلهم من مكذبي الرسل ، لكان لهم في ذلك زجر ومنع عن مثل صنيع أولئك.

وقال بعضهم : هو على الخبر ، أي : قد صاروا في الأرض ، ونظروا في آثار من تقدمهم ، لكنهم لم ينظروا نظر اعتبار أنه لما ذا أصابهم ما أصابهم؟ والله أعلم.

وقال قائلون : هو على الإيجاب والإلزام ، أي : سيروا في الأرض وانظروا في آثار أولئك الذين كانوا من قبل هؤلاء ؛ كقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا) [النمل : ٦٩].

ولكن نقول : ليس على حقيقة السير في الأرض بالأقدام ولا نظر العين والبصر ، ولكنه أمر منه لهم بالتفكر والاعتبار في آثار من كان قبلهم ، وإلى ما ذا صار عاقبة أمر صنيع مكذبي الرسل ومصدقيهم؟ لينزجروا عن مثل صنيع مكذبهم ، ويرغبوا في مثل صنيع مصدقهم ، والله أعلم.

وقوله : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) ، في أبدانهم وأنفسهم ، (آثارِ) ، أي : خبر أو ذكر في الأرض.

ويحتمل (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي : أشد أعمالا في الأرض ، وليس كما يقول بعض المعتزلة : أي : أنهم كانوا أشد منهم قوة في الخيرات ، فإن كان ما ذكر فذلك ليكون أصلح لهم ، وهذا بعيد سمج من القول ، والوجه فيه ما ذكرنا أنهم كانوا أشد منهم قوة في أبدانهم وأنفسهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ).

يخبر أن أولئك الذين كانوا من قبل هؤلاء كانوا أشد من هؤلاء قوة وأشد آثارا في الأرض ، ثم لم يمنعهم شدة قوتهم في أبدانهم وأنفسهم وما ذكر من آثار الأرض ولم يدفعوا عن أنفسهم ما نزل بهم من عذاب الله ، فأنتم يا أهل مكة دونهم في البطش والقوة ، فكيف تمنعون عذاب الله إذا نزل بكم؟! والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ).

ذكر ـ والله أعلم ـ أن أولئك قد عبدوا الأصنام رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وتقربهم إلى الله زلفى ، كما تعبدون أنتم على رجاء الشفاعة لكم والتقرب إليه ، ولو كانت عبادتهم إياها طريق الشفاعة وسبب التقريب ، لكان يغيثهم من عذاب الله في الدنيا ، وهو كما ادعت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فقال ردّا عليهم بقوله : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) [المائدة : ١٨] أي : في الدنيا لو كنتم على ما تزعمون ؛ إذ لا أحد يهلك ويعذب ولده وحبيبه في الدنيا فعلى ذلك الأول.

١٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

فقوله : (ذلِكَ) يقول : ذلك العذاب والإهلاك الذي نزل بهم لما كانت أتتهم رسلهم بالبينات ، فكفروا وكذبوا الآيات والأدلة التي أتتهم رسلهم أنهم رسل الله إليهم ، فأصابهم ما أصابهم ، كذلك فأنتم يا أهل مكة إذا كذبتم الرسول بعد ما أتتكم البينات والأدلة على رسالته ، ينزل بكم ما نزل بأولئك بالتكذيب والعناد ورد الآيات والأدلة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ)(٢٧)

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا).

يحتمل (بِآياتِنا) أي : بحججنا ، وذكرنا أنه يحتمل أن الآيات والسلطان واحد ، ويحتمل أنهما غيران.

وقوله : (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) ، ليعلم أنه كان مبعوثا إلى الكل لم يبعث إلى بعض دون بعض.

وقوله : (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ).

دل قولهم : ساحر كذاب على أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد آتاهم من الآيات والحجج ما عجزوا عن إتيان مثلها والمقابلة لها ؛ فخافوا أن يتبعه الناس لذلك ، فموهوا بقولهم : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) على سائر الناس ؛ لئلا يتبعوه فيما يدعو ؛ لما عرف الناس أن السحر ليس يعرفه كل أحد وأن أكثر الناس يعجزون عن السحر ، وكانوا يعرفون أن السحر يكون كذبا ، فموهوا بذلك القول أمر موسى ـ عليه‌السلام ـ على أتباعهم ، ونسبوه إلى الكذب من غير أن ظهر من موسى كذب قط ، وقد كان لم يزل من فرعون تمويه وتلبيس على قومه أمر موسى ؛ مخافة أن يتبعوه ؛ لما أتاهم من الحجج والأدلة التي ظهرت عندهم أنها حجج وأدلة ، من ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] وقوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] قال هذا بعد ما اتبعه السحرة وآمنوا به ؛ ليموه بذلك أمرهم على من لم يتبع موسى من الأتباع ، وقوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) [الأعراف : ١٢٣] وغير ذلك من التمويهات التي كانت منه ؛ فعلى ذلك هذا القول منهم حيث قالوا : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) لأنهم اعتادوا.

١٩

وجائز أن يكون قولهم : إنه كذاب ؛ لأنهم اعتادوا عبادة الأصنام دون الله تعالى ، فلما جاء موسى ـ عليه‌السلام ـ بما يمنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد ، ودعاهم إلى عبادة الواحد ـ قالوا : إنه كذاب ، وكذلك قال أهل مكة لرسولنا وسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه (ساحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٤ ، ٥] سموه : كذابا ؛ لما دعاهم إلى عبادة الواحد ، ومنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا).

قال بعضهم : أي جاءهم بالتوحيد.

وقال بعضهم : أي : جاءهم بالرسالة.

وكأن غير هذا أقرب ، أي : فلما جاءهم بما يظهر عندهم من الحجج أنها آيات ، وأنها من عندنا جاءت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ).

أمر أتباعه أن يقتلوا أبناء من آمن منهم ؛ لينزجروا بذلك عن متابعة موسى ؛ لما رأى ما كان من التمويهات والحيل لم يمنعهم عن اتباعه ، بل كانوا يتبعونه ، فأوعدهم بقتل الأبناء كما كان يقتل الأبناء عند ما قيل له : إن ذهاب ملكك بولد يولد كذا ... ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

لا شك أن كيدهم في الآخرة في ضلال ، ولكن أراد كأن كيدهم في الدنيا ظهر أنه ضلال ؛ حيث لم يمنعهم كيده وحيله وتمويهاته عن اتباع موسى ، عليه‌السلام.

وقوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى).

قال هذا ؛ لما رأى أنه لم يمنعهم عن اتباع موسى ما ذكر من قتل الأبناء ، قال عند ذلك : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) [وهو يحتمل] وجوها :

أحدها : يحتمل أنه هم فرعون أن يقتل موسى ـ عليه‌السلام ـ فمنعه قومه أو الملأ من قومه عن قتله ، فقال عند ذلك : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى).

والثاني : يحتمل أنه قال هذا مبتدأ من غير أن كان منهم منع إياه عن قتله ، وهو كما قال ربنا ـ جل وعلا ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] من غير أن كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منع له عن ذلك ، وهذا في كلام العرب موجود سائغ التكلم به على الابتداء من غير أن كان من أحد منع عما يريدون أن يفعلوا ، والله أعلم.

والثالث : يحتمل (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) أي : ذروني لائمتي في قتل موسى ، أي : لا تلوموني إذا أنا قتلته ، والله أعلم.

٢٠