البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

والمصنّف قدس‌سرهما فلا وجه لاعتبار الظن الشخصي بالوفاق بل يجري الاستصحاب حتّى مع الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق فانّ العقلاء لا يعملون على طبق الحالة السابقة إلّا في خصوص ما إذا حصل لهم منها الظنّ الشخصي بالبقاء بل الوثوق والاطمينان به ولكن الأخبار المستفيضة الناهية عن نقض اليقين بالشك توسع الدائرة ، إذ جعلت الاستصحاب حجّة مطلقا ، أي سواء أفاد الظن الشخصي بالبقاء ، أم لم يفده.

قوله : ويدلّ عليه مضافا إلى أنّه كذلك ...

فانقدح لك أن الشك في أخبار الباب وكلمات الأصحاب (رض) خلاف اليقين ، فمع الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق يجري الاستصحاب ؛ والظاهر من أخبار الباب وكلمات الأصحاب (رض) أن الشك عبارة عن خلاف اليقين ولهذا يشمل كل حالة تعدّ غير علم ويقين.

وعليه فالمكلّف إذا ظنّ بخلاف المتيقّن السابق فضلا عن الظن بوفاقه فيجري الاستصحاب في حقّه.

ويدل على كون الشك بهذا المعنى العام امور :

الأوّل : تصريح أهل اللغة بهذا المعنى ، كالصحاح ، والقاموس ، ومجمع البحرين ، وقولهم حجّة في تعيين مفاهيم الألفاظ.

الثاني : أن الشك في أخبار غير الاستصحاب إذا اطلق يراد منه خلاف اليقين فيكون المراد منه في أخبار الاستصحاب هذا المعنى قطعا.

الثالث : أنّ قوله عليه‌السلام لا حتى يستيقن أنّه نام يدل عليه لأنّ السائل سأل الإمام عليه‌السلام عن رجل إذا حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم فهل يبطل وضوءه ، أم لا ، أي إذا حرّك في قربه شيء كضرب اليد على اليد مثلا حيث دل قوله وهو لا يعلم باطلاقه على عموم النفي من غير تفصيل بين ما إذا أفادت العلامة المذكورة الظن

٨١

بالنوم ، أو لم تفده ، فلا يجب الوضوء سواء أفادت هذه العلامة الظن بالنوم ، أم لم تفده حتى يتيقّن بالنوم.

وكذا دلّ قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشك» عليه لأنّ الحكم في المغيّى هو عبارة عن عدم نقض اليقين بالشك مطلق ، ولو حصل الظن بالخلاف حتّى يستيقن أنّه قد نام فلا بدّ من البناء على الوضوء السابق المعلوم ثبوته حتّى مع الظن بخلاف ذاك الوضوء ولا بدّ هنا من ذكر المثال ؛ مثلا إذا قال المولى : صوموا إلى الليل ، فالوجوب المستفاد من صيغة الأمر حكم والصوم مغيّا والليل غاية ، وكذا المقام ، إذ قول الإمام عليه‌السلام (لا) يكون في التقدير لا يبطل وضوئه حتى يستيقن أنّه نام فعدم البطلان يكون مغيّا بغاية التيقن بالنوم فحسب ، أي إذا ظن به ، أو شك فيه فلا يبطل وضوئه.

وعليه ؛ فانقدح لك انّ المراد من الشك هو خلاف اليقين فيكون الحكم في المغيى مطلقا ، أي عدم البطلان مطلق سواء كان الظن بوفاقه ، أم الظن بخلافه. ولا يخفى أن هذا الاطلاق يستفاد من كون العلامة المذكورة مفيدة للظن بالنوم ولو نادرا ، إذ كان لاستفصال الإمام عليه‌السلام عن إفادة العلامة هذه الظن بالنوم وعدم افادتها له مجال واسع ، فترك الاستفصال حينئذ يفيد عدم وجوب الوضوء عليه سواء أفادت هذه العلامة الظن بالنوم ، أم لم تفده فدل قوله عليه‌السلام «لا» على عموم النفي لوجوب الوضوء سواء أفادت الظن به ، أم لم تفده كما لا يخفى.

الاستدلال على وجه آخر

قوله : وقد استدل عليه أيضا بوجهين آخرين ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن الوجوه الأربعة على كون الشك في أخبار الباب

٨٢

وكلمات الأعلام (رض) بمعنى خلاف اليقين لا خصوص تساوي الطرفين بحيث لا يرجح أحدهما على الآخر شرع في الدليلين الآخرين على كون الشك بهذا المعنى الاول هو الاجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف ولكن بشرط اعتباره من باب الأخبار لا من جهة بناء العقلاء بما هم عقلاء على البقاء بالحالة السابقة ، إذ بناءهم عليه من جهة الظن بالبقاء بل من جهة الوثوق والاطمينان به ، وهذا الظن والوثوق والاطمينان لا تجتمع مع الظن بخلاف الحالة السابقة. وكان المستدل به هو الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

قوله : وفيه أنّه لا وجه لدعواه ولو سلم اتفاق الأصحاب (رض) ...

اعترض المصنّف قدس‌سره عليه بأن هذا الوجه غير صحيح ، إذ لا وجه لدعوى الاجماع لأنّه محتمل المدرك لاحتمال أن يكون هذا الاجماع من جهة ظهور دلالة الأخبار على اعتباره مع الظن بالخلاف ، فهذا الاجماع ليس بحجّة لأنّه لا يكون كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام وقد قرّر في محلّه ان الاجماع المدركي ليس بحجّة.

الوجه الثاني

قوله : الثاني أن الظن غير المعتبر ان علم بعدم اعتباره بالدليل فمعناه ...

ولا يخفى أنّ الظن على خلاف اليقين السابق إذا كان عدم اعتباره لقيام الدليل الخاص عليه ، كالظن الحاصل من القياس المستنبط العلة ، فمعنى عدم حجّيته شرعا عدم الاعتناء به وفرض وجوده كعدمه ، ولازم هذا الفرض جريان الاستصحاب في صورة قيامه على خلاف اليقين السابق كصورة عدم قيامه على خلاف ذلك اليقين ، إذ من آثار تنزيل وجوده منزلة عدمه جريان الاستصحاب مع وجوده كجريانه مع عدم تحقق الظن غير المعتبر. وامّا إذا كان عدم اعتباره لعدم الدليل على حجّيته

٨٣

كالشهرة الفتوائية وكالاجماع المنقول ، إذ الظن الحاصل منهما ليس بحجّة لعدم قيام الدليل على اعتباره فعدم جواز رفع اليد بهذا الشك عن اليقين السابق انّما يكون هذا لأجل صدق نقض اليقين بالشك على هذا الرفع ، وهو لا يجوز.

فتحصّل ممّا ذكر انّه لا يجوز رفع اليد عن الحالة السابقة بسبب الظن غير المعتبر فيكون الاستصحاب حجّة مطلقا. فانقدح لك ان الشك في أخبار الباب يكون بمعنى خلاف اليقين سواء كان ظنّا ، أم شكّا ، أم وهما.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

وهو إشارة إلى أنّ في كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره مسامحة واضحة فانّ الظاهر من عدم نقض اليقين بالشك في أخبار الباب هو عدم نقض اليقين السابق بموضوع أو حكم بالشك المتعلّق بعين ما تعلّق به اليقين السابق ، وليس المراد عدم نقض اليقين بالحكم الفعلي السابق بالشك في اعتبار الظن القائم على خلاف اليقين السابق ، وهذا واضح.

جواب المصنّف قدس‌سره عنه

قوله : وفيه أنّ قضية عدم اعتباره لالغائه ، أو لعدم الدليل على اعتباره ...

قال المصنّف قدس‌سره : انّ الوجه الثاني أيضا مردود ، إذ عدم اعتبار الظن بسبب الغائه وبفرض وجوده كعدمه بجهة الدليل على عدم اعتباره كالظن الحاصل من القياس ، أو بجهة عدم الدليل على اعتبار الظن كالظن الحاصل من الاجماع المنقول ومن الشهرة الفتوائية مثلا فهذا الظن ليس بحجّة لأنّ الأصل الأولي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل كالظن الحاصل من ظواهر الكتاب الكريم ، وكالظن الحاصل من الأخبار الآحاد يكون مقتضى عدم اعتبار الظن عدم ثبوت المظنون بعد

٨٤

قيام هذا الظن غير المعتبر فلا يمكن لنا أن نحكم بثبوت المظنون من باب التعبّد كي يترتّب آثاره عليه شرعا ، ولا يكون معنى عدم اعتبار الظن ترتّب آثار الشك عليه ، كما قال به المستدل بهذين الوجهين ، بل ينبغي أن يقال : انّه لو فرض عدم دلالة الأخبار على اعتبار الاستصحاب مع الظن غير المعتبر من الرجوع إلى سائر الاصول. وبتقرير آخر : وهو أنّ مقتضى عدم اعتبار الظن امّا للدليل على عدم اعتباره ، وامّا لعدم الدليل على اعتباره أنّه لا يثبت به مؤداه ، أي ما ظن به لا ترتيب آثار الشك عليه مع عدم الشك واقعا بل لا بدّ من الانتهاء إلى سائر الاصول العملية بلا شبهة ولا ارتياب لو فرض عدم دلالة الأخبار مع الظن غير المعتبر على اعتبار الاستصحاب فعدم اعتبار الظن شرعا ، أو عقلا معناه عدم ثبوت مؤداه لا لزوم ترتيب آثار الشك المتساوي الطرفين عليه.

وعليه فإذا فرض أن الاستصحاب من آثار الشك المتساوي الطرفين لا يترتّب على الظن مع قيام الدليل على عدم اعتباره ، أو عدم قيام دليل على اعتباره. قال المصنّف قدس‌سره : لعلّ المستدل أشار إلى هذا الجواب بقوله أخيرا : فتأمّل جيّدا ، ولكن الانصاف أن قوله : فتأمّل جيّدا تدقيقي بقرينة كلمة الجيد ، فانقدح لك انّه ليس بتمريضي حتى يكون إشارة إلى فساد الوجه الثاني ، بل هو إشارة إلى دقّة الوجه الثاني لا إلى فساده.

بقاء الموضوع

قوله : تتمّة لا يذهب أنّه لا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع ...

ولا يخفى عليك أنّه لا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع ومن عدم امارة معتبرة في مورده سواء كانت على وفاقه ، أم على خلافه. وعليه فهاهنا مقامان :

٨٥

الأوّل : أنّه لا إشكال في صحّة جريان الاستصحاب من بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة موضوعا مثل اتحادهما حكما ، أي محمولا.

وعليه ؛ إذا كان موضوع القضية المتيقّنة أحمد مثلا ومحمولها عدالته فيجب أن يكون موضوع القضية المشكوكة أحمد أيضا ومحمولها عدالته بأن يستصحب عند الشك نفس عدالة أحمد لا عدالة محمود مثلا ليتخلّف الموضوع ؛ ولا قيام أحمد ليتخلّف المحمول.

احتج المصنّف قدس‌سره على اشتراط بقاء الموضوع بنفس أدلّة الاستصحاب بأنّه لا يكون الشك في البقاء بدون بقاء الموضوع ، بل يكون الشك في الحدوث ، مثلا إذا كانت عدالة زيد بن خالد متيقّنة سابقا ثم صارت عدالة عمرو بن بكر مشكوكة لا حقا لا يصدق الشك في بقاء عدالة زيد المذكور على الشك في بقاء عدالة عمرو مثلا ، بل الشك في عدالة عمرو شك في أمر آخر فلا يصدق بدون اتحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا الشك في البقاء ، وكذا لا يصدق بدون الاتحاد المذكور رفع اليد عن اليقين السابق في محل الشك نقض اليقين بالشك فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان لأنّه واضح ، وكل واضح لا يحتاج إلى تجشّم الاستدلال وإقامة البرهان.

وعلى طبيعة الحال ، فقد أفاد المصنّف قدس‌سره في وجه اعتبار بقاء الموضوع بالمعنى المتقدّم ، وهو عبارة عن اتحاد القضيتين موضوعا كاتحادهما محمولا دليلين قويين :

أحدهما : أنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحدا لما يصدق الشك في بقاء الموضوع ، بل يصدق الشك في حدوث أمر آخر.

ثانيهما : أنّه لو لم يكن موضوع القضيتين متّحدا كاتحادهما محمولا لم يكن

٨٦

رفع اليد عن اليقين في محل الشك نقضا لليقين بالشك ، بل لا يكون نقضا أصلا. فإذا تيقّن مثلا في السابق بعدالة زيد وشك فعلا في عدالة بكر مثلا لم يكن الشك حينئذ في بقاء ما كان ولا رفع اليد عن اليقين بعدالة زيد نقضا لليقين بالشك لعدم اتحاد القضيتين موضوعا ، إذ الموضوع في القضية المتيقّنة زيد ، وفي القضية المشكوكة بكر ولا يصدق الشك في البقاء حينئذ وهذا واضح ، إذ الشك انّما يكون في حدوث عدالة بكر ، وهذا غير ما تيقّن به أوّلا كما لا يخفى.

قوله : والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر ...

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : ان الدليل العقلي على اعتبار هذا الشرط ، أي اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب واضح ، لأنّه لو لم يعلم تحقّقه لا حقا أي لو لم يعلم تحقّق بقاء الموضوع لا حقا ، أي حين الشك لكان استصحاب الحكم من قبيل الحكم بانتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر وهذا مستحيل قطعا لتقوّم الحكم بالموضوع كتقوّم السواد والبياض بالجسم ولتشخص الحكم بالموضوع مثلا إذا اريد ابقاء المستصحب (بالفتح) العارض للموضوع المتقوّم به فلا يخلو من احتمالين :

الأوّل : امّا أن يبقى في غير محل وموضوع ، وهو محال ، وقد ثبت هذا بالبرهان في محلّه. وامّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق.

ومن الواضح أنّ هذا ليس ابقاء لنفس ذاك العارض ، بل انّما هو حكم بحدوث عارض مثل العارض الأوّل في موضوع جديد ، وهذا خارج عن قانون الاستصحاب.

وعليه ، فلا محيص عن بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، هذا استدلال الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

٨٧

اعتراض تلامذته عليه

اعترض عليه جمع من تلامذته في ضمن جلسة درسه المبارك ، بأنّ هذا غريب ضرورة أنّه إن كان المراد من استحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر حقيقة غير مستلزم لاستحالة انتقال العرض تعبّدا ، أي انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر تعبّدا كما هو مقتضى الاستصحاب ، أي إذا تعبدنا الشارع (المقدّس) بابقاء ما كان وبترتيب آثار الموضوع والمستصحب وتعبدنا بانتقال العرض من الموضوع المتيقّن إلى الموضوع المشكوك وهذا ليس بمستحيل.

فالنتيجة : أنّ المحال انّما هو انتقال العرض وكونه في الخارج بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة لا بحسب وجوده تعبّدا ، أي الالتزام بآثار المستصحب (بالفتح) شرعا.

وعلى هذا الأساس ؛ فتحصّل ممّا ذكر أنّ البرهان العقلي المذكور يثبت استحالة انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر حقيقة وواقعا ولكن هو لا يثبت الاستحالة المذكورة تعبّدا كي يكون دليلا على اعتبار بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، بل يكون الدليل على اعتباره صدق نقض اليقين بالشك مع بقاء الموضوع وعدم صدق النقض المذكور بدون البقاء ، كما مرّ تحقيقه.

فإن قيل : لم يكون انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر محالا. والحال أن العرض يحتاج إلى موضوع ما لا إلى موضوع خاص معيّن؟

قلنا : ان هذا الانتقال تستلزم الطفرة وهي مستلزمة لكون العرض بلا معروض ولو كان هذا الكون آناً ما في حال الانتقال والتحوّل ، فابقاء المستصحب بالفتح ، فعلا في ظرف الشك مع عدم احراز تحقّق الموضوع في الخارج وإن كان ممّا لا يمكن حقيقة لاستلزامه أحد المحذورين إمّا بقاء العارض بلا محل وموضوع ، واما انتقال

٨٨

العرض من موضوع إلى موضوع آخر وكلاهما محالان ، وامّا بقائه تعبّدا بمعنى ترتيب آثار المستصحب والموضوع شرعا فهو في كمال من الإمكان عقلا.

قوله : وامّا بمعنى احراز وجود الموضوع ...

ولا يخفى عليك ان اعتبار بقاء الموضوع في صحّة جريان الاستصحاب يكون على أنحاء ثلاثة :

النحو الأوّل : بمعنى اتحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة موضوعا.

النحو الثاني : بمعنى بقاء الموضوع خارجا.

النحو الثالث : وجود الموضوع بأيّ نحو من أنحاء الوجود سواء كان خارجيا ، أم ذهنيا ، أم نفسا أمريا في حال اليقين ، فلا بد أن يكون الموضوع حال الشك مثل حال اليقين من حيث الوجود ، وهذا يكفي في جريان الاستصحاب ، إذ لا دليل على اعتبار خصوص وجود الموضوع خارجا في جريان الاستصحاب الملاك في جريانه صدق نقض اليقين بالشك. وهذا يصدق مع وجود الموضوع حال الشك.

نعم ؛ لا بد أن يكون الموضوع موجودا خارجا في بعض الأوقات ، والمستصحب بالفتح محقّقا في الخارج ولكن ليس هذا بلحاظ الاشتراط ، بل انّما هو ثابت بلحاظ ترتيب بعض الآثار على الموضوع الذي وجد في الخارج وذلك كجواز الاقتداء بالامام الحي العادل ووجوب إكرامه واحترامه ووجوب الانفاق عليه ، وفي هذه الموارد لا بدّ أن يكون المستصحب موجودا في الخارج وكان حيّا امّا بالوجدان وامّا بالأصل والاستصحاب ، إذ هذه الامور مترتّبة على الموضوع الموجود الحي ، مثلا إذا استصحبنا عدالة زيد لأجل جواز الاقتداء به ولأجل وجوب إكرامه ووجوب الانفاق عليه ، فلا بدّ من أن يكون زيد موجودا في الخارج وكان حيّا لترتّب هذه الآثار عليه فقط ، فلا بدّ حينئذ من احراز حياته ، كما لا يخفى.

٨٩

وامّا في استصحاب بقاء عدالة زيد بن أرقم مثلا لأجل جواز تقليده فلا يحتاج إلى احراز حياته ، هذا على القول بأنّه لا يشترط الحياة في المقلّد (بالفتح) فيجري استصحاب عدالته حينئذ ولو كان المقلّد (بالكسر) شاكّا في حياته ومماته.

فإن قيل : إنّه ليس بجائز تقليد الميّت ابتداء ، والحال أنّ كلام المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره يدل على

جواز تقليد الميّت ابتداء بقرينة جملة لا يحتاج إلى احراز حياته لجواز تقليده ، ولو قال لجواز البقاء على تقليده بناء على عدم اشتراط الحياة في البقاء على تقليده لكان صحيحا تامّا ، فإنّ جواز تقليد المجتهد بدوا ليس إلّا مثل جواز الاقتداء به ووجوب الإنفاق عليه ووجوب الاكرام في اشتراط الحياة وفي إحراز حياته خارجا.

قلنا : إنّ مراده من جواز التقليد هو البقاء على تقليده وحينئذ فلا اعتراض عليه.

وخلاصة الكلام : أنّه لا بدّ للمستصحب أن يكون أثرا شرعيا ، أو موضوعا للأثر الشرعي ، وحينئذ فقد يكون موضوع الأثر الشرعي مجرّد وجود الشيء ، فلا حاجة حينئذ في جريان الاستصحاب إلى أكثر من كون ذلك الشيء معلوم الثبوت مشكوك البقاء ، وذلك مثل جواز التقليد فانّ موضوعه مجرّد عدالة المجتهد.

وعليه فإذا علم رأي المجتهد وشك في عدالته جرى استصحاب عدالته ؛ ولو اعتبر في جواز التقليد الحياة ، كما هو المشهور ، جرى استصحاب حياته وعدالته معا ، وليس احراز الحياة شرطا في جريان استصحاب العدالة لأنّ موضوع الأثر الشرعي نفس الحياة والعدالة ، فإذا اجتمعت أركان الاستصحاب فيهما من اليقين بالثبوت والشك في البقاء جرى الاستصحاب فيهما بلا إشكال ، وقد يكون موضوع الأثر الشرعي وجود الشيء لأمر خارجي معيّن. فيتوقّف جريان الاستصحاب على احراز ذلك الأمر الخارجي المعيّن ، مثل جواز الائتمام فانّه يترتّب على عدالة الإمام

٩٠

المعيّن في الخارج.

وعلى هذا الأساس ؛ فلا يجري الاستصحاب ، أي استصحاب العدالة إلّا مع احراز إمام معيّن ليشك في عدالته فإذا أحرز إمام معيّن وشك في عدالته جرى استصحاب عدالته. وهكذا الحال في جميع الآثار المتعلّقة بالأمر الخارجي المعيّن مثل وجوب اكرامه وقبول شهادته ونفوذ تصرّفاته ووجوب الانفاق عليه ، إذ ما لم يحرز الأمر الخارجي المعيّن امتنع أن يقال : هذا كان عادلا ، أو هذه كانت زوجة ، أو هذا كان وليّا ، وقد شك في بقائه ، أي في بقاء العدالة والزوجية والولاية على ما كان حتّى يجري الاستصحاب في وصف كل واحد من الأشخاص.

وعلى ضوء هذا ، فاحراز الموضوع في هذه المقامات ليس دخيلا في جريان الاستصحاب إلّا من حيث دخله في كون المشكوك موضوعا للأثر الشرعي ، ولهذا إذا وجب صوم زمان على المكلّف هو رمضان المبارك لا بدّ من إحراز أن الزمان رمضان المعظّم ولا ينفع استصحاب بقاء رمضان المبارك في ترتيب الوجوب على الصوم.

هل اللّازم بقاء الموضوع العقلي ، أو الموضوع العرفي؟

قوله : وانّما الإشكال كلّه في أنّ هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف؟ ...

فقد علم ممّا سبق أنّه يشترط في صحّة جريان الاستصحاب بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية المشكوكة والقضية المتيقّنة موضوعا ومحمولا ، ولكن الإشكال يكون ثابتا في أنّه عقلي ، أو عرفي ، أو بحسب المستفاد من الدليل عقليا كان أو عرفيا. ومن المعلوم اختلاف معيار الثلاث في الحكم والآثار.

والتفصيل إذا كان مناط الاتحاد المذكور حكم العقل فلا يجري الاستصحاب

٩١

في الأحكام الشرعية أصلا ، لأنّ الشك في بقائها ناش عن احتمال تغيّر الموضوع ، أي احتملنا زوال بعض خصوصيات الموضوع ، ويمكن أن يكون دخيلا في بقاء الموضوع وهو دخيل في بقاء الحكم.

وعلى طبيعة الحال يكون الشك في زوال الخصوصية موجبا للشك في بقاء الحكم ، وإذا كان منشأ الشك احتمال تغيّر الموضوع فلا يكون المورد من الموارد التي يجري فيها الاستصحاب ، إذ من شرائط احراز بقاء الموضوع.

ومن الواضح أنّ هذا الشرط مفقود في استصحاب الأحكام الشرعية.

وعلى هذا الأساس ، أي إذا كان مناط الاتحاد حكم العقل فيختص جريان الاستصحاب بالموضوعات ضرورة أنّه إذا شك في حياة زيد بن أرقم مثلا فقد شك في الحقيقة في نفس ما تيقّن به أولا.

وعلى هذا فيتحقّق اليقين السابق والشك اللّاحق ويتمّ أركان الاستصحاب فيجري فيها بلا إشكال.

أمّا بخلاف ما إذا كان مناط الاتحاد المذكور بنظر أهل العرف ، أو كان مناطه بحسب لسان الدليل فانّه يجري الاستصحاب في الأحكام والموضوعات معا ، إذ من الواضح أن انتفاء بعض خصوصيات الموضوع موجب للشك في بقاء الحكم ، يحتمل دخل بعضها في بقاء الموضوع والانتفاء المذكور موجب للشك في بقاء الموضوع والشك في بقائه موجب للشك في بقاء الحكم ، ولكن مع ذلك ليس بعض الخصوصيات بمقوّم للحكم بنظر أهل العرف ، وكذا من حيث لسان الدليل حرفا بحرف ، كما أنّه بملاحظة لسان الدليل ليس الموضوع بخصوصه بموضوع مثلا إذا ورد في الشريعة المقدّسة العنب إذا غلى يحرم فهذا الكلام يدل بحسب المتفاهم العرفي على أنّ موضوع الحرمة خصوص العنب فقط ، وأما بحسب ما يرتكز في أذهان أهل العرف بحسب ملاحظات المناسبات بين الحكم والموضوع فيكون

٩٢

موضوع الحرمة أعم من العنب والزبيب ، إذ يرون عنوان العنبية والزبيبية من حالات عارضة على الموضوع ومن أوصافه المتبادلة فهما تكونان ثابتين كتبدّل أوصاف زيد وكانقلاب حالاته كقيامه وقعوده ومشيه ونومه مثلا فزيد زيد سواء كان قائما قاعدا ، أم ماشيا ، أم نائما ، وكذا العنب عنب سواء عرض عليه عنوان العنبية ، أو عنوان الزبيبية.

وعلى ضوء هذا فلو لم نحكم للزبيب بحكم العنب لكان هذا من قبيل ارتفاع الحكم عن موضوعه كما إذا حكمنا له بحكمه فيكون هذا بنظر أهل العرف من قبيل بقاء الحكم في موضوعه ، ولا إشكال في البين إذا كان لسان الدليل بحسب المتفاهم العرفي مخالفا للمناسبات التي تكون ثابتة في أذهان أهل العرف بما هو أهل العرف.

فإن قيل : كيف يكون الموضوع في نظر العرف غير الموضوع في لسان الدليل مع ان المرجع في فهم الدليل هو العرف ، ولا يخفى عليك أن الموضوع في لسان الدليل هو العنب فقط ، ولا يصدق هو على الزبيب أصلا ، والموضوع بحسب ارتكاز أذهان أهل العرف أعم من العنب بحيث يشمل الزبيب أيضا ، إذ الرطوبة والجفاف بنظرهم من حالات الموضوع لا من مقوّماته؟

قلنا : إنّه لا تنافي بين فهمهم من الدليل كون الحكم الشرعي ، وذلك كالتحريم بالغليان الذي ثبت بدليل العنب إذا غلى يحرم ، موضوعه العنب على أن يكون وصف العنبية مقوّما للموضوع بحيث ينتفي الموضوع بانتفاء عنوان العنبية وكون المرتكز في أذهانهم كون التحريم بالغليان موضوعه ذات العنب بما هو هو ويكون وصف العنبية من الحالات لا من المقوّمات.

وعلى هذا الأساس فكونهم مرجعا في فهم الدليل معناه أنّهم مرجع في فهم معنى الكلام وكونهم مرجعا في اتحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا معناه أن ارتكازهم في تميّز قوام الموضوع عن حاله وعنوانه هو الميزان

٩٣

في الاتحاد الذي يكون مصحّحا لجريان الاستصحاب ويكون فهمهم مربوطا بتشخيص الموضوع وارتكازهم مربوطا بتميز قوام الموضوع عن حاله فلا تنافي بينهما لتعدّد الإضافة ، وهذا واضح لا غبار عليه.

قوله : فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عمّا هو ظاهر فيه ...

أي الموضوع في نظر العرف يكون غير الموضوع في لسان الدليل فيما إذا لم تكن الجهات والمناسبات بمثابة تكون قرينة على صرف لفظ العنب في المثال المتقدّم عمّا هو ظاهر فيه من خصوص العنب إلى ما يعمّ الزبيب ، أي يشمل الزبيب وإلّا فلا يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم ، بل يكون الدليل حينئذ على وفق ما ارتكز في أذهانهم ، فالدليل يكون موافقا للعرف في الموضوع حينئذ ، فقد انقدح لك أن نظر العرف أوسع من نظر العقل ومن لسان الدليل.

ولا يخفى أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب ولا يخفى عليك ان صدق النقض وعدم صدقه يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع من كونه عقليا ، أو عرفيا ، أو دليليا.

فالنتيجة يكون النقض نقضا لليقين بالشك بلحاظ الموضوع العرفي ، وذلك مثل نفي الحرمة عن الزبيب فانّه نقض بلحاظ الموضوع العرفي دون الموضوع الدليلي.

ولأجل هذا الاختلاف يلزم السعي في تعيين المناط ، أي مناط صدق نقض اليقين بالشك حتى يعلم كون موضوع الحكم عرفيا ، أو عقليا ، أو دليليا ليحرز على طبق الموضوع صدق النقض وعدمه وإذا أحرزنا خطاب لا تنقض أنّه قد سبق بأيّ لحاظ وكشفنا أن الشارع المقدّس جعل المناط فهم أهل العرف ونفهم بسهولة صدق النقض وعدم صدقه وعلى كون الموضوع دليليا في باب الاستصحاب لا عقليا ولا عرفيا فنفي أحكام العنب عن الزبيب ليس نقضا لأحكام العنب عن العنب ، بل

٩٤

يكون نقضا عن موضوع آخر ، كما ان اثبات أحكامه للزبيب ليس ابقاء لأحكام العنب بل يكون هذا الابقاء تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وكذا إذا كان الموضوع في باب الاستصحاب عقليا حرفا بحرف.

وامّا إذا كان الموضوع في باب الاستصحاب عرفيا فنفي أحكام العنب عن الزبيب يكون نقضا لأحكام العنب عن العنب كما اثبات احكامه له يكون ابقاء لأحكام العنب بموضوعها لأنّ العرف يرى الرطوبة والجفاف من حالات الموضوع لا من مقوّماته امّا بخلاف لسان الدليل والعقل فانّهما ناظران إلى ذات العنب بما هو عنب ويران الرطوبة من مقوّمات الموضوع كالجفاف.

وعلى ضوء هذا فانكشف لك اختلاف النقض من حيث الصدق بحسب الموضوع من حيث العرف والعقل ولسان الدليل.

قوله : فالتحقيق أن يقال انّ قضية اطلاق خطاب لا تنقض ...

وقد شرع المصنّف قدس‌سره في إثبات كون اللازم في الاستصحاب هو بقاء الموضوع العرفي لا الموضوع العقلي الدقي ولا الموضوع المأخوذ في لسان الدليل.

وقال رحمه‌الله تعالى : ان مقتضى اطلاق خطاب لا تنقض اليقين بالشك أن يكون النقض هو بلحاظ الموضوع العرفي لأنّه المتبادر من الاطلاق في المحاورات العرفية ومنها الخطابات الشرعية لأنّهم مخاطبون بتلك الخطابات ، فلو لم يكن فهمهم من هذه الخطابات حجّة لوجب على المتكلّم البيان والتنبيه على ذلك ولوجب عليه بيان مراده منها لئلا يقعوا في فهم خلاف مراد المولى ، بل يلزم وقوعهم في الجهل وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم (جلّت عظمته).

وعليه فقد علم ان المناط في الاستصحاب هو الموضوع العرفي ، ففي مثل العنب إذا غلى يحرم تستصحب الحرمة المعلّقة على الغليان إلى حال الزبيبية ، وذلك لاتحاد القضيتين بحسب الموضوع العرفي ولكون عنوان العنبية والزبيبية من

٩٥

الحالات المتبادلة بنظر العرف ، ولكن ليس الاتحاد بينهما بحسب الموضوع العقلي الدقي ولا بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل ، وقد سبق تحقيق هذا مفصّلا.

وامّا في مثل الوجوب والاستحباب ، أو الحرمة والكراهة إذا زالت المرتبة الشديدة من الطلب التي هي موجودة في الواجب والحرام فلم يستصحب الاستحباب ولم تستصحب الكراهة لعدم اتحاد القضيتين بحسب المحمول عرفا ، وإن كان الاتحاد بينهما بحسبه عقلا نظرا إلى كون الثاني عين الأوّل ، أي نظرا إلى كون الاستحباب عين الوجوب بحيث لا تفاوت بينهما إلّا بشدّة الطلب وضعفه كما قد تقدّم هذا الأمر في القسم الثالث من استصحاب الكلّي في آخر التنبيه الثالث قبل الشروع في التنبيه الرابع ، فراجع هناك.

تتمّة

هي الفرق بين قاعدة اليقين والاستصحاب انّ الشك في الاستصحاب قد تعلّق ببقاء ما تيقّن به أوّلا ؛ وفي قاعدة اليقين قد تعلّق بأصل ما تيقّن به أوّلا.

وعليه ؛ إذا تيقّن المكلّف بعدالة زيد بن أرقم في يوم الأحد ثم شك في بقاء عدالته في يوم الاثنين فهذا يكون مجرى الاستصحاب.

وامّا إذا تيقّن بعدالته في يوم الجمعة ثم شك في يوم السبت في أصل عدالته في يوم الجمعة بأن زال مدرك اعتقاده وعلمه ، فهذا يكون مجرى قاعدة اليقين وهي مسماة بالشك الساري أيضا ، فاليقين والشك في القاعدة لا بدّ أن يكون طوليين لا عرضيين في زمان واحد.

٩٦

عدم جريان الاستصحاب مع الامارة

قوله : المقام الثاني أنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب ...

لا شك في أنّ مع وجود الامارة المعتبرة في مورد الاستصحاب لا يجري الاستصحاب أصلا ، وهذا لا إشكال فيه ، وانّما الكلام في أنّ عدم جريانه مع وجودها هل يكون للورود ، أم للحكومة ، أم للتوفيق بين دليل اعتبارها وخطاب لا تنقض اليقين بالشك أبدا؟

وكيف كان لا بدّ قبل تحقيق المقام من بيان الفرق بين التخصيص والتخصّص والورود والحكومة.

فيقال : أمّا التخصيص فهو عبارة عن إخراج بعض الأفراد عن تحت الحكم مع حفظ فرديته ومصداقيته كما إذا قال المولى أكرم العلماء إلّا زيد العالم ، أو ثم قال : لا تكرم العالم الفاسق ولا ريب في كون العالم الفاسق عالما ولكن ليس بواجب الاكرام ، وكذا زيد العالم حرفا بحرف.

وأمّا التخصّص على وزن التفعل ، فهو عبارة عن خروج بعض الافراد عن تحت الدليل موضوعا بلا حاجة إلى ما يخرجه عنه ، وذلك كخروج زيد الجاهل عن تحت قول المولى : أكرم العلماء من دون حاجة إلى قول لا تكرم زيد الجاهل ، أو قول إلّا زيد الجاهل.

وعلى طبيعة الحال ؛ فالتخصيص على وزن التفعيل يكون خروجا حكميا ؛ والتخصّص على وزن التفعّل يكون خروجا موضوعيا.

وامّا الورود فهو عبارة عمّا إذا كان أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر ومعدما له من أصله. إمّا حقيقة كما في الامارات المعتبرة بالاضافة إلى الاصول

٩٧

العقلية كالبراءة العقلية والاحتياط العقلي والتخيير العقلي ، فإنّ الامارة إذا قامت على حكم من الأحكام ، أو على موضوع من الموضوعات ذي حكم شرعي فلا يبقى حينئذ موضوع البراءة العقلية أعني منه قبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، إذ هي بيان فينقلب اللابيان إلى البيان ، ولا يبقى موضوع الاحتياط العقلي ، وهو عبارة عن احتمال العقاب ، وكذا لا يبقى مع قيام الامارة المعتبرة موضوع التخيير العقلي وهو عبارة عن عدم الترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو جانب الترك على جانب الفعل ، وامّا إذا قامت الامارة على وجوب الشيء ، أو على استحبابه فيرجح جانب الفعل على جانب الترك ؛ وكذا إذا قامت على حرمة الشيء ، أو على كراهته فيرجح حينئذ جانب الترك على جانب الفعل.

وامّا يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر تعبّدا ، كما في الأمارات بالنسبة إلى الاصول الشرعية كالبراءة الشرعية والاستصحاب بناء على كونه من الاصول العملية لا الامارات وكقاعدة الطهارة والحلّ فإنّ الامارة إذا قامت على شيء من الحكم ، أو موضوع ذي حكم شرعي ، فالجهل الذي أخذ في موضوع هذه الامور المذكورة وإن لم يرتفع حقيقة مع قيام الامارة ولكن ليس الجهل معها شرعا وتعبّدا بعد تنزيل الشارع المقدّس للامارة منزلة العلم فلا يكون لحديث الرفع والحجب ونحوهما من أدلّة البراءة الشرعية مورد ومحل. وكذا ليس الشك بموجود وهو أخذ في موضوع قاعدة الطهارة وأصالة الطهارة ، وقاعدة الحل وأصالة الحلّ. وأمّا الحكومة فهي عبارة عمّا إذا كان أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر بحيث يكون الدليل الحاكم مفسّرا للدليل المحكوم ومتصرّفا فيه ؛ امّا في حكمه كما إذا قال المولى أكرم العلماء ثم قال : ليس الوجوب بثابت للعالم الفاسق.

فإن قيل : على هذا ما الفرق بين المخصص المتصل والمنفصل وبين الدليل الحاكم. والحال ان كليهما مساويان في النتيجة ، وهي عبارة عن خروج بعض

٩٨

الافراد عن تحت الحكم؟

قلنا : ان الفرق بينهما موجود لأنّ الحاكم ناظر إلى المحكوم ، امّا بخلاف المخصص فلأنّه ليس بناظر إلى العام أصلا ولهذا يقال ولا تكرم العالم الفاسق وإن لم يقل أكرم العلماء أمّا بخلاف الحاكم فإنّه وارد بعد دليل المحكوم ، كما علم هذا الأمر والمطلب من المثال المتقدّم.

وامّا في موضوعه كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ، ثم قال : العالم الفاسق ليس بعالم.

وامّا في متعلّقه كما إذا قال : أكرم العلماء ثم قال : تقبيل الأقدام ليس بإكرام. ولا يخفى عليك ان الوجوب ، أي وجوب الاكرام حكم والاكرام متعلّقه والعلماء موضوعه في قول المولى : أكرم العلماء.

وامّا بيان الفرق بين متعلّقات الاحكام وبين موضوعاتها أن الاولى مقدورة للعبد ، والثانية غير مقدورة له ـ كما هو واضح من المثال المتقدّم ـ وقد سبق هذا الفرق بينهما في الجزء الأوّل.

ثمّ لا فرق في تصرّف الحاكم في المحكوم بين أن يكون بنحو التضييق والتخصيص كما في الأمثلة المتقدّمة آنفا ، أو بنحو التوسعة والتعميم ، كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ، ثم قال : ولد العالم عالم ، أو بنحو التغيير والتبديل كما إذا قال المولى لعبده : لا تجالس الفقراء ، ثم قال : ليس الفقير من لا مال له بل هو من ليس له دين واعتقاد وايمان.

وعلى ضوء هذا يسمّى الأوّل : حكومة مخصّصة مضيّقة.

والثاني : حكومة معمّمة موسعة.

والثالث : حكومة مغيّرة ومبدّلة.

كما لا فرق أيضا بين أن يكون الحاكم من أدلّة الأحكام الواقعية كما في جميع

٩٩

الأمثلة المتقدّمة ، فتكون الحكومة واقعية ، أو من أدلّة الأحكام الظاهرية كما إذا قال المولى : يشترط في الصلاة طهارة الثياب ، ثم قال : كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم انّه نجس فيوسع الثاني دائرة الشرط ظاهرا ويجعل الشرط أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية فتكون الحكومة ظاهرية هذا مثال الحاكم الموسع ؛ وامّا مثال الحاكم المضيّق فكما إذا قال : يجب في الصلاة التكبيرة والقراءة ونحوهما ؛ ثم قال : رفع عن أمّتي ما لا يعلمون ، فيضيق الثاني دائرة الاجزاء إذ يخصصها بصورة العلم فقط ، ولكن ليس العمل مجزيا عن الواقع إذا انكشف الخلاف ، أي خلاف الطهارة. هذا شرح كل من التخصيص والتخصّص والورود والحكومة.

بيان مختار المصنّف قدس‌سره

قوله : والتحقيق أنّه للورود ...

قال المصنّف قدس‌سره : وجه تقدّم الامارة المعتبرة على الاستصحاب إنّما يكون للورود على قول التحقيق ، وكذا تقدّمها على سائر الاصول العملية يكون للورود لا للحكومة كما قال بها الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، إذ في مورد الاستصحاب إذا قام الدليل على خلاف الحالة السابقة فالعمل على طبق الامارة ورفع اليد عن الحالة السابقة لا يكونان نقض اليقين بالشك بل يكونان نقض اليقين باليقين بحجّة ودليل.

وامّا إذا قامت الامارة على وفق الحالة السابقة المتيقّنة فلا ريب في أنّ ترتيب الآثار الحالة السابقة انّما يكون بملاحظة اليقين بحجّة ودليل لا بملاحظة الحالة السابقة بواسطة جريان الاستصحاب.

والحال أن أخبار الاستصحاب قد نهت عن نقض اليقين بالشك ونقض اليقين

١٠٠