البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين وصلى الله

تعالى على اشرف الانبياء والمرسلين

محمد المصطفى وعلى أهل بيته

المعصومين الذين أذهب الله عنهم

الرجس وطهّرهم تطهيرا واللعنة على

أعدائهم من الآن الى يوم الدين آمين.

٣
٤

الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول

قوله : أو بواسطة ما لأجل وضوح لزومه له ...

أي تكون الواسطة لوضوح لزومها ، أو ملازمتها للمستصحب تعد آثارها عرفا آثارا للمستصحب فتترتّب عليه بالاستصحاب.

ولكن لا يخفى أن المصنّف قدس‌سره قد استثنى من عدم حجّية الأصل المثبت موردين :

أحدهما : أن تكون الواسطة خفية بحيث يرى العرف أثرها أثرا للمستصحب وقد سبق مثاله آنفا.

ثانيهما : أن تكون الواسطة جلية بحيث يكون الاتصال وجودا وعدما بين الواسطة وبين ذي الواسطة موجودا ولا يمكن التفكيك بينهما وقد مرّ مثاله أيضا.

ومثّل المصنّف قدس‌سره في هامش الرسائل بالعلّة والمعلول تارة وبالمتضائفين اخرى بدعوى ان التفكيك بين العلة والمعلول في التعبّد ممّا لا يمكن عرفا وكذا التفكيك بين المتضائفين فإذا دل دليل على التعبّد بأبوّة زيد لعمرو مثلا فيدل على التعبّد ببنوّة عمرو لزيد فكما يترتّب أثر أبوّة زيد لعمرو كوجوب الانفاق لعمرو مثلا ، كذا يترتّب أثر بنوّة عمرو لزيد كوجوب إطاعة زيد مثلا لأنّه كما يجب على الأب الانفاق للابن كذلك يجب على الابن إطاعة الأب والأوّل أثر للأبوّة والثاني أثر للبنوّة مثلا ، أو تقول ان أثر البنوّة أثر للأبوّة لوضوح الملازمة بينهما فكما يصح انتساب وجوب الاطاعة إلى البنوّة كذا يصح استنابه إلى الابوة أيضا وكذا الكلام في الاخوّة.

وعلى ضوء هذا فحق العبارة يكون هكذا كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا كما لا تفكيك بينهما واقعا لأجل وضوح لزومه له ، أو ملازمته بحيث عدّ أثر اللازم أثرا له وللمستصحب أيضا فيترتّب الأثر عليه فإنّ عدم ترتيب مثل هذا الأثر على اللازم يكون نقضا للمتيقّن بالمشكوك وليقينه بالشك أيضا بحسب ما يفهم من النهي عن نقض اليقين عرفا.

وقوله أيضا إشارة إلى ان عدم ترتيب أثر نفس المستصحب عليه نقض ليقينه بشكّه كذلك يكون عدم ترتيب أثر الواسطة الجلية على المستصحب نقض لليقين بالشك ، كما سيصرّح المصنّف قدس‌سره في سطر آخر التنبيه باستثناء الموردين فالعبارة

٥

المذكورة في الكتاب من طغيان القلم كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان لزوم ترتيب آثار الواسطة غير الشرعية يتم إذا كان الدليل دالا على التعبّد به بالخصوص كما لو قال المولى : زيد أب لعمرو. وامّا لو كان التنزيل بلسان العموم كما في المقام فلا دلالة له على لزوم ترتيب آثار الواسطة غير الشرعية من العقلية والعادية.

قوله ؛ ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول ...

وحيث ان المشهور بين الأعلام (رض) حجّية مثبتات الامارات دون مثبتات الاصول والحال ان كليهما دليلان تعبّديان فلا بد من بيان الفرق بين الأصل والامارة ثم يبان وجه حجية مثبتات الامارة دون الأصل فيقال : المشهور بينهم ان الفرق بين الاصول والامارات ان الجهل بالواقع مأخوذ في موضوع الاصول والشك فيه ملحوظ في موضوع الاستصحاب دون الامارات ، بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلّة حجّية الامارات هو نفس الذات بلا تقييد بالجهل والشك كما في قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فانّ الموضوع للحجّية بمفاد المفهوم هو إتيان غير الفاسق بالنبإ من دون اعتبار الجهل فيه. وكذا قوله عليه‌السلام : لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا فان موضوع الحجّية فيه هو رواية الثقة بلا تقييد بأمر آخر هذا هو المشهور بينهم. هذا أوّلا

وثانيا : الفرق بينهما ان كل واحد من الطريق والامارة كما يحكى عن المؤدى ويشير إليه فلا جرم من أن يكشف عن ملزوماته ولوازمه وملازماته وان يشير إليها ، وإذا كان الأمر كذلك كان مقتضى اطلاق دليل اعتبار الطرق والامارات لزوم تصديقها في حكايتها عن المؤدى والملزومات واللوازم والملازمات ومقتضى لزوم التصديق حجّية المثبت منها ، أي تترتّب آثار المؤدى عليه وتترتّب آثار الواسطة عليه كما لا يخفى بخلاف دليل الاستصحاب فانّه لا بد من الاقتصار بما ثابت في الدليل من الدلالة على التعبّد بثبوت المستصحب فقط ، ولا دلالة للاستصحاب لا صراحة ولا ظهورا إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك واقعا تعبّدا من جهة تنزيله منزلة المتيقّن وهذا التنزيل انّما يكون بلحاظ ترتّب أثر المشكوك لا حقا عليه كما

٦

عرفته سابقا فلا دلالة للاستصحاب على اعتبار المثبت منه كسائر الاصول التعبّدية كأصالة الطهارة واصالة البراءة ونحوهما ، إلّا فيما عدّ أثر الواسطة أثرا لذي الواسطة امّا لأجل خفاء الواسطة بنظر العرف ، وامّا لأجل جلاء الواسطة حسبما حقّقناه سابقا.

وهذا الكلام منه إشارة إلى حجّية الأصل المثبت في موردين قد مرّ تحقيقهما فلا حاجة إلى الإعادة.

وامّا الفرق بين الطرق والامارات فهو ان الطرق مثبتة للاحكام الشرعية كالأخبار الآحاد والامارات مثبتة للموضوعات كالبيّنة الدالّة على عدالة زيد بن أرقم وقد سبق هذا الفرق في الجزء الأوّل من هذا الكتاب

اللازم العادي والنقلي المتّحدين مع المستصحب وجودا

قوله : الثامن انّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على المستصحب ...

لا فرق في الأثر المترتّب على المستصحب بين أن يكون مترتّبا عليه بلا واسطة شيء ، أو مترتّبا عليه بواسطة العنوان الكلّي الذي يتّحد مع المستصحب وجودا بحيث يكون المستصحب فردا منه ـ أي من العنوان الكلّي ـ وبحيث لا يتغايران إلّا مفهوما ، مثلا : كان زيد بن حارثة في السابق حيّا ونشك في حياته لا حقا فيتم اركان الاستصحاب ، ولهذا نستصحب بقاء حياته فنثبت وجوده ونترتّب عليه آثاره الشرعية من وجوب صلاة وصوم وفطرة عليه ووجوب الانفاق من ماله على عياله وحرمة التصرّف في ماله وحرمة ازدواج زوجته مع غيره. وكذا تترتّب على إنسانيته آثارها من وجوب الامور المذكورة عليه ، إذ وجود الإنسان الذي هو كل طبيعي عين وجود أفراده في الخارج كما قال التفتازاني في الحاشية. والحق ان

٧

وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه.

وعليه فلا تفكيك بين الطبيعي وافراده في الخارج ، ولهذا تكون آثار الكلّي الطبيعي آثار أفراده ، ومن آثار الكلي الطبيعي ناطق حساس ماش على قدميه متحرّك بالإرادة ، فهذه الآثار تترتّب على زيد وعمرو وبكر و ... الموجودين في عالم الخارج.

ولا ريب في أن عنوان الكلّي ، كانسان ينطبق على الفرد ، كزيد مثلا ويحمل عليه ، إذ يصح أن تقول : زيد إنسان بالحمل الشائع الصناعي الذي يكون ملاكه الاتحاد بحسب الوجود والمصداق والتغاير بحسب المفهوم سواء كان ذلك الكلّي منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب ، وذلك كالكلّي الطبيعي المنتزع عن مرتبة ذات زيد وهو الإنسان المركّب عقلا من الجنس وهو حيوان والفصل وهو ناطق ، فزيد والإنسان متغايران مفهوما ، إذ مفهوم الأوّل هو الذات المعيّن المشخّص في الخارج ، ومفهوم الثاني هو حيوان ناطق ، ولكن هما متّحدان وجودا ومصداقا ولهذا يحمل الإنسان على زيد مثلا حملا شائعا صناعيا مواطاتيا.

وعلى ضوء هذا إذا استصحبنا عدالة زيد في الزمان اللاحق فيترتّب عليه أثره الشرعي بلا واسطة نحو جواز الائتمام به وقبول شهادته ونفوذ قضائه إذا كان مجتهدا. وهذا ليس من الأصل المثبت. وكذا إذا استصحبنا وجود الفرد لترتيب أثر الطبيعي عليه مثلا إذا استصحبنا بقاء حياة زيد هل يترتّب عليه الأثر الذي يترتّب على الكلّي الطبيعي كوجوب الاحترام والتعظيم ، أم لا؟ مثلا : ورد في الشريعة المقدّسة كل إنسان مؤمن واجب الاحترام ولازم التعظيم فهل يترتّب هذا الأثر الذي ثبت للكلّي الطبيعي على فرد كي يقال زيد المستصحب واجب الاحترام ، أم لا يترتّب عليه.

قال بعض الأعلام (رض) : بأن أثر الكلّي لا يترتّب على الفرد ، إذ لا ارتباط

٨

بين أثر الكلي والفرد لأجل تغايرهما مفهوما وهو يوجب تغاير أثرهما.

وعلى ضوء هذا إذا كان موضوع القضية الشرعية عنوانا كلّيا ورتب الحكم عليه نحو : كل إنسان مسلم لا ينجس ، أو لازم الاحترام فلا يصح أن يترتّب هذا الحكم والأثر على فرد مستصحب.

وامّا المصنّف قدس‌سره فقد ذهب إلى ترتّب أثر الكلّي على فرد مستصحب واستدل عليه بأن تحقّق الكلّي في الخارج انّما يكون بتحقّق الافراد فليس وجود الكلّي فيه غير وجود افراده فيه. وعلى هذا لا يكون وجود الكلّي في الخارج مغايرا لوجود الافراد فيه ، وإذا رتّب الحكم والأثر على الكلّي فقد رتّب على أفراده فأحكام الجنس والنوع والفصل مترتّبة على الافراد والمصاديق ، وهذا ليس بأصل مثبت ، وكذا يترتّب الحكم على الفرد المستصحب إذا ثبت الحكم للموضوع الكلّي الذي هو أمر انتزاعي بحيث لا يكون له ما بازاء في الخارج ، أي يكون الكلّي منتزعا بملاحظة بعض عوارض المستصحب من العوارض التي ليس لها ما يحاذيها في الخارج كالولاية والزوجية والوكالة والعدالة والرقية وغيرها ممّا لا وجود لها في الخارج. وعليه إذا كان زيد متصفا سابقا بهذه الأوصاف ومعنونا بهذه العناوين وشك لا حقا في بقائها فاستصحاب بقائها في ظرف الشك انّما يكون لترتيب الأثر الشرعي المترتّب على عنوان الولي والوكيل والزوج والعادل والرق وهذا ليس بأصل مثبت إذ وجود الكلّي في الخارج ليس بمغاير لوجود أفراده بل يكون عين افراده.

وامّا خلاصة كلام المصنّف قدس‌سره : فان كان اللازم العادي ، أو اللازم العقلي عنوانا كلّيا منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب كما في الحيوان والناطق بالاضافة إلى الإنسان مثلا ، أو كان عنوانا كليا منتزعا بملاحظة اتصاف المستصحب بعرضي كما في المالك والغاصب والسابق ونحوها من العناوين التي كان مبدأ الاشتقاق فيها من الامور الانتزاعية المحضة التي ليس بحذائها شيء في الخارج أصلا سوى منشأ

٩

انتزاعها ويكون من خارج المحمول. فهذا النحو من العنوان الكلّي المتّحد مع المستصحب وجودا ممّا يثبت بثبوت المستصحب ويترتّب عليه أثره كما إذا استصحبنا وجود زيد ، فالإنسانية والناطقية والحيوانية متّحدات وجودا مع زيد وهذه العناوين المذكورة تتّحد مع المستصحب وجودا ويترتّب أثره عليها.

وامّا إذا كان منتزعا بملاحظة اتصاف المستصحب بعرض من الاعراض كما في الأسود والأبيض والقائم والقاعد ونحو ذلك ممّا كان مبدأ الاشتقاق فيه من الامور الحقيقية المتأصّلة التي بحذائها شيء في الخارج غير معروضاتها وإن كان وجود السواد والبياض والقيام والقعود في ضمن وجود معروضها وكان وجودها المحمول بالضميمة ، فهذا النحو من العنوان الكلّي المتّحد مع المستصحب وجودا ممّا لا يثبت بثبوت المستصحب ولا يترتّب عليه أثره.

وقد أفاد في وجه التفصيل ما حاصله : ان الأثر في الصورة الاولى انّما يكون لنفس المستصحب واقعا حيث لا يكون بحذاء ذلك العنوان الكلّي المتّحد مع المستصحب وجودا شيء آخر في الخارج غير المستصحب فان الطبيعي عين وجود أفراده في الخارج ، والعرضي ممّا لا وجود له إلّا لمنشا انتزاعه مثلا : يكون المالك والمملوك موجودين في الخارج والملكية أمر اعتباري انتزاعي غير موجود فيه ، وكذا الزوجية وهذا بخلاف الصورة الأخيرة كما في الأسود والأبيض والقائم والقاعد وأمثالها ، فان الأثر فيها ليس لنفس المستصحب واقعا بل لما هو من أعراضه وهو السواد والبياض والقيام والقعود مثلا : إذا قلنا زيد زوج هند وهند زوجة زيد فالموجود في عالم الخارج هو زيد وهند ، ولكن عنوان زوج كلّي متّحد مع المستصحب الذي هو زيد ، أي وجوده ، فهذا الحمل يسمّى بالمحمول بالصميمة. بالصاد المهملة وإذا قلنا : هذا الجسم أبيض ، أو أسود ، أو قلنا : زيد أبيض لونه ، أو أسود لونه فعنوان الأبيض كلّي متّحد مع المستصحب الذي هو وجود عمرو وحمل

١٠

الأبيض على زيد مثلا يسمّى بالمحمول بالضميمة بالضاد المعجمة.

فانقدح لك الفرق بين المحمولين ، إذ عنوان الكلّي على الأوّل غير موجود في الخارج. وعلى الثاني موجود فيه.

كما قال الحكيم السبزواري قدس‌سره في لئالي المنطق من منظومته المشهورة :

والخارج المحمول من ضميمة

يغاير المحمول بالصميمة

فالأثر بلا واسطة والأثر مع الواسطة انّما يكونان للمستصحب حقيقة لأنّه لا يكون بحذاء الكلّي الطبيعي في الخارج سوى المستصحب ولا يكون الأثر لغير المستصحب ممّا كان مبائنا مع المستصحب فغير المستصحب عبارة عن مباينه أى عن اعراضه التي كانت محمولة على المستصحب بالضميمة كسواد المستصحب ، أو بياضه مثلا.

فالأثر المترتّب على الإنسان الكلّي كلزوم احترامه مثلا فهذا مترتّب على زيد الذي استصحب حياته. ولا يترتّب هذا الأثر على مباين زيد ولا على سواده وبياضه ، إذ زيد واجب الاحترام من حيث كونه إنسانا ولا من حيث كونه أو سود أبيض ولا يخفى أن ترتّب وجوب الاحترام على زيد انّما يكون بواسطة الإنسان والأمر في الأثر بلا واسطة واضح كترتّب وجوب الصلاة والصوم على زيد الحيّ الذي ثبت بقاء حياته بالاستصحاب.

قوله : لأنّ الطبيعي انّما يوجد بعين وجود فرده كما ان العرضي ...

هذا علّة لقوله : فإنّ الأثر في الصورتين انّما يكون للمستصحب ، فقوله لأنّ الطبيعي انّما يوجد بعين وجود فرده علّة لكون الأثر للمستصحب حقيقة في الصورة الاولى.

وقوله : كما ان العرضي كالملكية والغصبية ونحوهما من الامور الانتزاعية لا وجود له في الخارج إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه علّة لذلك في الصورة الثانية

١١

من الصورتين المذكورتين.

وكان مقصود المصنّف قدس‌سره من العرضي أمرا انتزاعيا لأنّ الملكية تنتزع عن الملك والغصبية عن الغصب وهكذا.

فالفرد في الصورة الاولى ، أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب الأثر عليه من الكلّي الطبيعي ، إذ وجوده عين وجود فرده وإذ وجود العرض الخارج المحمول وهو الذي يسمّى بالمحمول بالصميمة (بالصاد المهملة) بوجود منشأ انتزاعه.

وعى هذا فالأثر الشرعي المترتّب على الطبيعي أثر لفرده حقيقة ، إذ لا وجود له إلّا به كما سبق تحقيق هذا.

كما انّ الأثر الشرعي المترتّب على الأمر الانتزاعي مترتّب حقيقة على منشأ انتزاعه ، إذ لا وجود له إلّا بوجود منشأ انتزاعه ولا يكون كل واحد منهما شيئا آخر. وعلى طبيعة الحال فاستصحاب الفرد ، أو منشأ الانتزاع لترتيب الأثر المترتّب على الطبيعي في الصورة الاولى ، أو المترتّب على العرضي الذي لا وجود له خارجا في الصورة الثانية لا يكون بأصل مثبت ، لأنّ كون الأصل مثبتا دائر مدار مغايرة المستصحب مع الواسطة وجودا والمغايرة المذكورة مفقودة هنا لفرض الاتحاد في هذا المقام كما توهّم كون الأصل مثبتا الشيخ الأنصاري قدس‌سره وقد تقدّم دليله.

قوله : وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب ، أو المترتّب عليه ...

أي لا تفاوت في الأثر المستصحب ، أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون حكما مجعولا بنفسه كالتكليف ، وبعض أنحاء الوضع كالحجّية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية ونحوها.

أو يكون حكما مجعولا بجعل منشأ انتزاعه كبعض آخر من أنحاء الوضع كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المأمور به كالتشهّد مثلا

١٢

وشرط كالستر مثلا ومانعة كالاخلال بالركن وقاطعه كالحدث مثلا.

فالنتيجة انّه لا فرق في المستصحب بين ان يكون مجعولا استقلالا ، أو مجعولا تبعا فانّ المجعول التبعي أمره بيد الشارع المقدّس وضعا ورفعا كالمجعول الاستقلالي حرفا بحرف.

غاية الأمر أن وضع الاستقلالي ورفعه يكون بوضع نفسه وبرفع نفسه كالوجوب والحرمة مثلا. أمّا وضع التبعي ورفعه فيكون بوضع منشأ انتزاعه ورفعه كالجزئية والشرطية مثلا كما لا يخفى. مثلا وضع الشارع المقدّس وجوب أربع ركعات للحاضر ورفع وجوبه للمسافر ، وكذا وضع الحرمة لأكل الميتة ورفع حرمة أكلها لحفظ النفس وسد الرمق.

وامّا الشارع المقدّس فقد وضع الشرط للطهارة من الحدث والخبث بالإضافة إلى الصلاة والطواف ، والمانع للحدث بالإضافة إليها فشرطية الشرط ومانعية المانع حكم وضعي مجعولا شرعا ولو بالتبع وكذا رفعهما كوضعهما انّما يكون برفع منشأ انتزاعهما. مثلا إذا رفع الشرط عن الطهارة في صورة العجز عن تحصيلها فقد ارتفعت الشرطية قهرا ، وكذا إذا رفع الشارع المقدّس عنوان المانع عن الاستدبار للقبلة حال الصلاة لأجل العجز عن الاستقبال كما وقع المكلف في بئر مثلا بحيث لا يمكنه الاستقبال أصلا.

وعليه فليس استصحاب مثل الطهارة والنجاسة لترتّب الشرطية والمانعية بأصل مثبت ، إذ الشرطية والمانعية حكمان مجعولان شرعا ولو تبعا وليستا بأمرين عقليين ليكون الاستصحاب مثبتا بالنسبة إليهما.

قوله : كما ربّما يتخيّل ان الشرطية ، أو المانعية ليست ...

توهّم الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ استصحاب مثل الطهارة والنجاسة لترتيب الشرطية على الشرط والمانعية على المانع يكون أصلا مثبتا بتخيّل ان عنوان

١٣

شرطية الشرط وعنوان مانعية المانع ليسا من الآثار الشرعية للمستصحب كي يترتّبا على الشرط المستصحب والمانع المستصحب ؛ بل هما من الامور الانتزاعية.

وعلى هذا فلا يصح استصحاب الشرط والمانع. وجوابه وان علم ممّا سبق انّه ليس في جريان الاستصحاب شرط كون المستصحب مجعولا مستقلّا بل يكفي كونه مجعولا شرعا سواء كان مجعولا مستقلّا ، أم مجعولا تبعا ، فالشرطية والمانعية وإن لم تكونا مجعولتين مستقلتين ولكن هما مجعولتان بتبع منشأ انتزاعهما وهذا القدر يكفي في جريانه.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أنّه لا بد أن يكون مراد الشيخ الأنصاري قدس‌سره من نفي كون الشرطية والمانعية والجزئية والقاطعية مجعولة شرعا هو نفي مجعوليتها استقلالا وإلّا فهي مجعولة شرعا تبعا قطعا.

قوله ؛ وكذا لا تفاوت في المستصحب ، أو المترتّب بين ...

لا فرق أيضا في المستصحب ، أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون المستصحب أمرا وجوديا كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، أو أمرا عدميا كاستصحاب عدم وجوب الجهاد الابتدائي على النساء ، أو يكون الأثر المترتّب عليه أثرا وجوديا وحكما ثبوتيا ، أو عدميا وحكما سلبيا لعدم التفاوت بين ثبوت الأثر ووجوده وعدمه ونفيه ، إذ الملاك في جريان الاستصحاب هو كون أمر وضع المستصحب ورفعه ثابتا بيد الشارع المقدّس.

فإن قيل : لا يطلق الحكم على عدم الحكم بل يطلق عدم الحكم على عدم الحكم. ومن الطبيعي أن يكون المستصحب امّا حكما شرعيا وامّا موضوعا ذا حكم شرعي.

قلنا : ليس الملاك في صحّة جريان الاستصحاب اطلاق الحكم على

١٤

المستصحب بل الملاك في صحّة جريانه صدق نقض اليقين السابق بالشك اللاحق برفع اليد عن عدم الحكم وهذا يكون كصدق نقض اليقين بالشك من ثبوت الحكم وهذا واضح لا غبار عليه أصلا.

فالنتيجة ان الأثر الشرعي المصحّح لجريان الاستصحاب فيه ، أو في موضوعه يراد منه ما يكون أمره بيد الشارع الأقدس ؛ وهذا كما ينطبق على كل واحد من الأحكام المجعولة شرعا ينطبق على عدمها لأنّ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة فلا يكون الوجود مقدورا إلّا والعدم مثله.

غاية الأمر أن العدم ليس بمجعول شرعا فلا يسمّى حكما كما يكون الوجود مجعولا ويسمّى حكما شرعيا.

قوله : فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة ...

قال المصنّف قدس‌سره : إذا لم يكن التفاوت بين المستصحب ، أو الأثر المترتّب عليه بين أن يكون كل واحد منهما أمرا وجوديا وبين أن يكون أمرا عدميا فلا وجه للإشكال على ان المستصحب لا بدّ أن يكون أحد امور ثلاثة : امّا براءة الذمة من التكليف ، أو الوضع ، وامّا عدم المنع من الفعل ، وامّا عدم استحقاق العقاب على الفعل. والحال انّه لا أثر للمستصحبات المذكورة سوى أمرين :

أحدهما : عدم ترتّب العقاب على الفعل في العقبى.

وثانيهما : الاذن والترخيص في الفعل.

امّا عدم ترتّب العقاب عليه في الآخرة فليس من اللوازم المجعولة الشرعية لها كي يحكم به في الظاهر بسبب الاستصحاب. وامّا الاذن والترخيص في الفعل فهو من المقارنات لتلك المستصحبات المذكورة.

فالنتيجة ان الترخيص في الفعل الذي يقارن وجودا بالبراءة للذمة عن وجوب الفعل وعن حرمته وبعدم المنع من الفعل وبعدم استحقاق العقاب على الفعل

١٥

يكون نظير إثبات وجود أحد الضدّين مقارنا بنفي الضد الآخر باصالة العدم ، كما إذا أثبتنا وجود البياض وتحقّقه في محل فهو يقارن مع نفي السواد فيه لاستحالة اجتماع الضدّين عقلا في محل واحد.

نعم لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظن ببقاء الشيء بعد ثبوته وتحقّقه وكان الاستصحاب من الامارات ، أو قلنا بحجّية الأصل المثبت لصح التمسّك باصالة البراءة حينئذ لإثبات اللازم وإن لم يكن شرعيا ، أو لإثبات المقارن وإن لم تكن الملازمة بين المقارنين شرعية. هذا ملخّص كلام الشيخ المتوهّم في رسالة البراءة من رسائل شيخنا الأنصاري قدس‌سره.

جواب المصنّف قدس‌سره عنه

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه : بأن عدم ترتّب العقاب على الفعل في الآخرة وإن لم يكن من اللوازم المجعولة الشرعية حتى يحكم به الشارع المقدّس في موارد جريان اصالة البراءة من التكليف ؛ ولكن عدم المنع من الفعل بنفسه قابل للاستصحاب من دون حاجة إلى ترتب أثر مجعول شرعا عليه وذلك لما عرفت آنفا من عدم التفاوت في المستصحب ، أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت الحكم ووجوده ، أو عدمه ونفيه.

وعليه فإذا استصحبنا عدم المنع من الفعل باستصحاب الأزلي رتب عليه قهرا عدم ترتّب العقاب في الآخرة فإنّه وإن كان لازما عقليا له ، ولكنّه لازم مطلق لعدم المنع ولو في الظاهر وسيأتي توضيح ذلك في التنبيه الآتي من ان اللازم العقلي ، أو العادي انّما لا يثبت كل واحد منهما بالاستصحاب إذا كان لازما للمستصحب واقعا ، واما إذا كان لازما له في الظاهر فهذا اللازم ممّا يثبت بالاستصحاب بلا كلام ، كما

١٦

سيأتي إن شاء الله تعالى.

قوله : فتأمّل ...

وهو إشارة إلى الفرق بين المقام وبين ما سيأتي في التنبيه الآتي فإنّ الذي سيأتي في الآتي هو ثبوت اللازم المطلق لوجود الأثر الشرعي وليس ثبوت اللازم لعدم الأثر الشرعي ، وذلك كعدم المنع من الفعل مثلا.

اللازم والمطلق

قوله : التاسع أنّه لا يذهب عليك أن عدم ترتّب ...

قال المصنّف قدس‌سره : انّه لا يترتّب أثر غير الشرعي على المستصحب وكذا لا يترتّب اثر شرعي ثابت للمستصحب بواسطة الأثر العادي ، أو العقلي على المستصحب بواسطة الاستصحاب. وهذا كلّه بالنسبة إلى الآثار الواقعية ونفس الأمرية للمستصحب.

فالنتيجة أن الأثر الذي يترتّب على المستصحب بواسطة جريان الاستصحاب هو أثر الشرعي فقط سواء كان ترتّبه عليه بلا واسطة ، أم بواسطة أثر الشرعي آخر كما سبق هذا الأمر.

فعدم ترتّب أثر غير الشرعي على المستصحب وكذا عدم ترتّب أثر الشرعي بواسطة أثر العادي ، أو العقلي على المستصحب انّما يكونان بالنسبة إلى خصوص الأثر الذي يكون ثابتا للمستصحب في الواقع ولنفس الواقع المستصحب ، مثلا : إذا استصحبنا بقاء حياة زيد بن أرقم فلا يترتّب عليه أثره العادي من نومه ومشيه وأكله ونبات لحيته وكونه ملتحيا ونحوها ولا أثره العقلي من تحرّكه كيفا وأينا واشتغاله مكانا وادراكه للأشياء ونحوها.

١٧

وكذا لا يترتّب الأثر الشرعي كوجوب التصدّق بدراهم معدودة في صورة انبات لحيته إذا نذر والده تصدّق المذكور إذا نبت اشعار لحية ولده كما عرفت هذا المطلب في التنبيه السابع.

وامّا لو كان الأثر غير الشرعي مترتّبا على الأثر الواقعي والظاهري معا فانّه يترتّب بالاستصحاب ولو لم يكن شرعيا لثبوت موضوعه حقيقة حينئذ ، وهو عبارة عن الأثر الظاهري الثابت بالاستصحاب فيتبع الموضوع أثره قهرا في الثبوت سواء ثبت أثر الظاهري والواقعي بواسطة الاستصحاب ، أم كان من آثار المستصحب.

فخلاصة الكلام ان أصل المثبت من الاستصحاب ليس بحجّة وقد سبق تحقيقه ، هذا كلّه بالنسبة إلى الموضوعات التي استصحبت بحيث لا يترتّب عليها غير الآثار الشرعية بلا واسطة الآثار الأخر من العادي والعقلي. وامّا إذا ثبت بالاستصحاب موضوع حكم الزامي كالوجوب والحرمة ، أو ثبت به نفس الحكم الإلزامي فيترتّب عليهما الآثار الشرعية والآثار العقلية فالآثار التي تكون للواجب العقلي الواقعي كوجوب معرفة الباري (جلّ وعلى) من لزوم الإطاعة وحرمة المخالفة ومن استحقاق الفاعل المثوبة والتارك العقوبة كذا تترتّب هذه الآثار على الوجوب الذي ثبت بالاستصحاب سواء استصحب نفس الوجوب كاستصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، أم استصحب بقاء موضوع الوجوب ، وكذا الكلام في الحرمة حرفا بحرف.

والدليل عليه انّ العقل السليم يحكم بوجوب إطاعة أوامر المولى وحرمة مخالفتها سواء كانت واقعية ، أم ظاهرية فلا فرق بينهما في نظر العقل من هذه الناحية أصلا.

فتلخّص ممّا ذكر ان الأثر غير الشرعي كالآثار العقلية من وجوب الاطاعة وحرمة المخالفة ومن استحقاق المثوبة والعقوبة مترتّب على موضوع الوجوب

١٨

والحرمة وعلى نفسهما سواء ثبت المستصحب بخطاب الاستصحاب مثل : لا تنقض اليقين بالشك ، أم بغير خطاب الاستصحاب كالعلم ، والدليل الظنّي ، فتترتّب الآثار الشرعية والعقلية على الأثر الثابت بالاستصحاب كالوجوب والحرمة.

قوله : فلا تغفل ...

وهو إشارة إلى ان مباحث التنبيه الثامن والتنبيه التاسع تكون من متمّمات مباحث التنبيه السابع فلا تكون بمباحث مستقلة ، أو إشارة إلى عدم التنافي بين عدم حجّية الأصل المثبت وبين ترتّب الآثار غير الشرعية على الأثر الشرعي الثابت بالاستصحاب ، لأن هذا رجوع عن انكار المصنّف قدس‌سره حجية الأصل المثبت لأنّه مجتهد وكل مجتهد يجوز له تبدّل الرأي ، فالمصنّف قدس‌سره يجوز له تبدّل الرأي.

لزوم كون المستصحب حكما شرعيا ، أو ذا حكم شرعي

قوله : العاشر أنّه قد ظهر ممّا مرّ لزوم أن يكون المستصحب حكما ...

وقد ظهر ممّا سبق من تعريف الاستصحاب وغيره من المباحث السابقة ان المستصحب لا بد أن يكون حكما شرعيا ، أو ذا حكم شرعي ، إذ الاستصحاب امّا يكون هو الاستصحاب الحكمي وامّا يكون هو الاستصحاب الموضوعي.

فالأوّل إشارة إلى الثاني ، والثاني إلى الأوّل ، على طريق اللف والنشر المشوش. لكن يعتبر ذلك في زمان بقائه وهو زمان التعبّد ولا يعتبر ذلك في زمان حدوثه.

وعليه فلا بد أن يكون المستصحب كذلك بقاء وإن لم يكن كذلك ثبوتا وحدوثا.

فالنتيجة لو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما شرعيا ولا له أثر شرعا وكان في زمان استصحابه حكما شرعيا ، أو ذا حكم شرعي لصح استصحابه

١٩

أي استصحاب المستصحب ، كما في استصحاب عدم التكليف. فإنّه وإن لم يكن بحكم مجعول شرعا في الأزل ولا موضوع ذي حكم شرعي ، إذ عدم التكليف في الأزل عبارة عن البراءة الأصلية التي هي مسببة عن قبح العقاب بلا بيان وهي ليست بحكم مجعول شرعا.

إلّا أنّه حكم مجعول شرعا فيما لا يزال ، أي في المستقبل وهو زمان استصحابه وهو عبارة عن زمان الشك في بقائه وارتفاعه فانّه لا بد أن يكون حينئذ حكما شرعيا وإلّا امتنع الشك في بقائه وهذا ظاهر لأنّ المستصحب إن لم يكن حكما شرعيا ولا موضوعا ذا حكم شرعي لكان التعبّد ببقائه من قبل الشارع المقدّس لغوا جدا ، إذ لا معنى لجريان الاستصحاب في ظرف الشك في البقاء إلّا ترتيب الأثر الشرعي على المستصحب وإلّا تلزم اللغوية في التعبّد بالاستصحاب كما لا يخفى.

فعدم التكليف قبل البلوغ وفي زمان اليقين ليس بحكم شرعي ، وفي زمان الشك والبقاء هو حكم شرعي لما عرفته في التنبيه الثامن من ان نفي الحكم كثبوته يكون بيد الشارع المقدّس ، فكل شيء يكون أمره بيد الشارع المقدّس ينطبق على كل واحد من الأحكام المجعولة ينطبق أيضا على عدمها ونفيها لأنّ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة ولذا قيل في تعريف القادر إن شاء فعل وإن شاء ترك. وعليه فلا يكون الوجود مقدورا إلّا والعدم مثله.

غاية الأمر ان العدم ليس بمجعول شرعا ولا يسمّى حكما شرعيا كما كان الوجود مجعولا ويسمّى حكما من الأحكام الشرعية وكذا استصحاب موضوع لم يكن له في الأزل حكم ثبوتا ، أي في حال اليقين بالمستصحب ، وذلك كاستصحاب حياة الولد إلى حين وفاة والده فإنّ حياة الولد في زمان اليقين بحياة الوالد لم تكن موضوعا للارث فليس له حينئذ حكم لأنّ حياة الولد كانت في زمان حياة الوالد

٢٠