البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

وهو يحكم بأخذ التعيين وقد سبق هذا مكرّرا في الموارد العديدة ، وهذان الوجهان غير الوجوه الثلاثة المتقدّمة لجواز تقليد المفضول. ولكن صاحب الكفاية قدس‌سره لمّا اختار وجوب تقليد الأعلم فقد ردّ الأدلّة التي احتج بها القائلون بجواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل.

وأمّا الأدلّة التي أقيمت لوجوب تقليد الأعلم فقد مضت من الاجماع المنقول على تعيّن تقليد الأفضل ؛ والأخبار الدالّة على وجوب تقليده ؛ والأقربية لقول الأعلم إلى الواقع ؛ وقبح ترجيح المرجوح على الراجح ؛ وسيرة العقلاء بالرجوع إلى الأعلم في كلّ فنّ من الفنون من الزراعة والخياطة والكتابة ونحوها. وينبغي التنبيه على أمور سبعة :

أحدها : عدم جواز الرجوع إلى المفضول ابتداء فلا بدّ للعامي العاجز عن الاجتهاد من الرجوع إلى الأفضل فاذا أفتى بجواز تقليد المفضول فهو وإلّا فلا إذ قوله يكون مشكوك الحجّية والأصل عدمها.

ثانيها : تعيّن تقليد الأفضل وان كان المفضول أوثق ، أي أجود استنباطا.

ثالثها : جواز تقليد المفضول إذا أفتى الأفضل به.

رابعها : إذا قلّد المقلّد عن أحد المتساويين ثم صار غيره أعلم وجب العدول منه إلى الأفضل عقلا لحكم العقل بوجوب تقليد الأفضل.

خامسها : تقديم الأعلم عند تعارض الأعلمية والأورعية إذ لا دخل للأورعية في حجّية الفتوى بل الميزان هو العدالة في حجيّة قول المفتي.

سادسها : العبرة بالأفقهية في جميع المسائل الفقهية.

سابعها : ان المقصود بالأعلم من كان أجود استنباطا.

٣٢١

في اشتراط الحياة في المفتي

قوله : فصل اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي والمعروف بين الأصحاب (رض) ...

اختلف العلماء الأعلام (رض) في اشتراط الحياة في المفتي والمعروف بين الأصحاب (رض) اشتراطه فيه ، كما ان المعروف بين العامّة عدم الاشتراط والأخباريين (رض) اختاروا هذا القول أي القول بعدم الاشتراط وبعض الأصحاب (رض) اختار التفصيل في هذا المقام بين تقليد البدوي فيشترط الحياة ؛ وبين تقليد الاستمراري فلا يشترطها ، وهاهنا تفصيلان آخران :

الأوّل : هو التفصيل بين فقد المجتهد الحي في زمان من الأزمنة فلا يشترط أي يجوز تقليد الميّت ابتداء ، وبين وجوده فيشترط الحياة في المفتي أي لا يجوز تقليد الميّت ابتداء.

الثاني : هو التفصيل بين ما إذا كان المفتي ممّن لا يفتي إلّا بمنطوق صريح الأدلّة كالصدوقين قدس‌سرهما والمحدّث البحراني وغيره قدس‌سره فلا يشترط الحياة فيه ويجوز التقليد عنه في حال حياته وفي حال مماته ؛ وبين غيره فلا يجوز التقليد عنه لا حيّا ولا ميّتا والعمدة هو التفصيل بين تقليد البدوي فيشترط الحياة في المفتي أي لا يجوز تقليد الميّت ابتداء وبين الاستمراري فلا يشترط الحياة فيه أي يجوز البقاء على تقليد الميّت استمرارا إذا قلّده في حياته سواء عمل بالفعل بفتواه أم لم يعمل بها ، وبعض المجتهدين كالمحقّق القمّي قدس‌سره اختار عدم اشتراط الحياة في المفتي إذا كان أعلم من الكل وتبعه المحقّق الفيّاض (دام ظلّه) في التعاليق المبسوطة والمختار عند المصنّف قدس‌سره ما هو المعروف بين الأصحاب (رض) من اشتراط الحياة في

٣٢٢

المفتي فلا يجوز تقليد الميّت ابتداء ، واحتج على مدّعاه بأن الأصل عدم جواز تقليد الميّت للشك في جواز تقليده حيث ليس الدليل الاجتهادي بموجود في هذا المقام ولا السيرة القطعية بموجودة فتصل النوبة حينئذ بالأصول العملية والأدلّة الفقاهتية واصالة عدم جواز تقليد الميّت تجري في المقام لأجل الشك في الجواز وعدم الجواز لدوران الأمر بين التعيين والتخيير. ومن الواضح أنه في صورة هذا الدوران يؤخذ بالمتيقّن وهو عبارة عن تقليد الحي ويطرح المشكوك بحكم العقل وهو تقليد الميّت وليس المخرج عن هذا الأصل إلّا الوجوه التي قد استدلّ القائلون بالجواز ، منها : استصحاب جواز تقليده في حال حياته بمعنى ان المجتهد في زمان حياته يجوز تقليده وبعد مماته نشك في الجواز وعدم الجواز ونستصحب بقاء الجواز بعد الممات لتمامية أركان الاستصحاب ، وهي عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق.

ولكن قال المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره : لا يخفى عليك أنّه لا مجال لهذا الاستصحاب لأن التقليد عن المجتهد عبارة عن أخذ رأي المجتهد ولكن رأيه يزول بعد موته بنظر العرف فانّ الرأي متقوّم بالحياة بنظره فموضوع جواز التقليد بحكم العرف معدوم ويشترط في الاستصحاب بقاء الموضوع وان كان بنظر العقل ودقّته بقاء الرأي بعد الممات لأن الرأي من صفة الروح الذي يبقى دائما لا من صفة الجسم الذي يفنى وينعدم بعد زهوق الروح ومفارقته عنه. وأمّا المناط في باب الاستصحاب فهو نظر العرف وقد سبق هذا مكرّرا.

وعليه فلا يجري الاستصحاب أي استصحاب بقاء الرأي بعد الموت ولا ينافي عدم جريان بقاء الرأي مع جريانه بطهارة عرق بدنه ونجاسة بوله وبقاء جواز نظر زوجته إلى عورته وبدنه إذ الموضوع لهذه الأمور هو الجسم الذي يبقى بعد الموت لأن الموت والحياة من الحالات المتبادلة نظير البرودة والحرارة العارضتين على الماء ، فاذا كان الموضوع باقيا فيجري الاستصحاب أي استصحاب بقاء طهارة

٣٢٣

جسمه وبقاء نجاسة دمه وبوله وبقاء جواز نظر زوجته وبقاء جواز لمس بدنه.

أما بخلاف جواز التقليد بعد الموت فان موضوعه هو رأي المجتهد وهو يفنى بعد الموت.

وعليه فلا بد من أن يكون في جواز التقليد بقاء رأي المجتهد ، ولهذا إذا جنّ المجتهد أو عرض له النسيان بحيث يزول رأيه بواسطة الجنون أو بواسطة عروض السهو والنسيان فلا يجوز التقليد عنه كما اتفق عروض النسيان من أجل كثرة السن للآغا الوحيد البهبهاني قدس‌سره ولهذا صار مقلّدا عن السيد المهدي المعروف ببحر العلوم قدس‌سره واشتغل بتدريس اللمعة الدمشقية لجمع من الطلّاب (وفقهم الله تعالى) ولكن جلس واستمع السيّد بحر العلوم قدس‌سره في جلسة درسه وتدريسه تيمّنا وتبرّكا ، وهذه القصة مشهورة عند العلماء الأعلام (رض).

قوله : وبالجملة يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه ...

أي خلاصة الكلام ينعدم رأي المجتهد بالموت بنظر أهل العرف من جهة انعدام موضوعه لأنّ الرأي منوط بالحياة بنظره وإذا مات فقد انعدم رأيه.

وعليه لا يجوز استصحاب بقاء الرأي بعد الممات حتى يجوز تقليده ولأجل انعدام الرأي بسبب انعدام المجتهد بالموت يكون رجوع المجتهد في القيامة من قبيل إعادة المعدوم بنظر أهل العرف وان كان الرأي غير معدوم بالموت حقيقة وفي نظر العقل بل تغيّرت حالاته وأوصافه ، إذ موضوع الرأي هو نفس الناطقة وهي باقية دائما لا تفنى بالموت أصلا ولكن لمّا كان المناط في باب الاستصحاب نظر العرف لا دقّة العقل فلا يجري استصحاب بقاء الرأي بعد الموت أصلا فالدليل الأوّل مردود عند المصنّف قدس‌سره.

قوله : لا يقال نعم الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت ...

٣٢٤

فإن قيل : انّا سلّمنا زوال الرأي بموت المجتهد في نظر العرف ، ولكن لا يشترط بقاء الرأي في جواز التقليد بل يكفي في جوازه وجود الرأي في حال الحياة ويعمل المقلّد على طبق الرأي كما هو الحال في الرواية ، مثلا إذا نقل زرارة بن أعين قدس‌سرهما عن مولانا الصادق عليه‌السلام رواية فتكون حجّة لنا ولكن لا يلزم بقاء حياة الراوي إلى حين العمل بها وكذا إذا أفتى المفتي بحكم فهو حجّة لنا ولا يلزم بقاء حياة المفتي إلى حين العمل بهذه الفتوى.

قلنا : ان الرأي في جواز التقليد عن ذي رأي ليس مثل الرواية بل بينهما فرق واضح ؛ وهو عبارة عن لزوم بقاء الرأي في التقليد ولهذا الأمر إذا عرض الجنون للمجتهد أو عرض له السهو والنسيان فلا يجوز تقليده حينئذ لعدم بقاء الرأي ولا العمل برأيه السابق وكذا إذا ظهر له تبدّل الرأي حرفا بحرف كما أشير إلى هذا المطلب آنفا. هذا كلّه بالنسبة إلى تقليد الابتدائي أي لا يجوز التقليد عن الميّت ابتداء. أما بخلاف الرواية فانه يكفي في جواز العمل بها كون الراوي موثقا سواء كان حيّا أم ميّتا.

في البقاء على تقليد الميّت

قوله : وامّا الاستمراري فربّما يقال بأنّه قضية الاستصحاب ...

اختار صاحب الفصول قدس‌سره التفصيل بين عدم جواز التقليد عن الميّت ابتداء وبين جواز البقاء على تقليده واستدلّ على جواز البقاء على تقليد الميّت بعد موته باستصحاب الأحكام التي قد قلّده المكلّف فيها زمان حياته بأن رأيه وإن كان مناطا لعروض الأحكام الشرعية على موضوعاتها وحدوثها لها إلّا أنه عرفا من أسباب العروض لا من مقوّمات الموضوع والمعروض كما إذا أفتى بوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة أو بنجاسة ماء الغسالة فيكون الوجوب عارضا عليها بسبب فتوى المجتهد بوجوبها وكذا النجاسة تكون عارضة عليها بسبب فتواه فيكون الرأي ثابتا

٣٢٥

مثل التغيّر الذي هو من أسباب عروض النجاسة على الماء وليس من مقوّمات الموضوع والمعروض الذي هو عبارة عن الماء حتى يزول الموضوع بزوال التغيّر وكذا رأي المجتهد يكون من أسباب عروض الأحكام على موضوعاتها وليس من مقوّمات الموضوع والمعروض الذي هو عبارة عن المجتهد كي يزول بزواله وبانعدامه والرأي باق ما دام الحكم باقيا وإذا كان الرأي باقيا فيصح استصحاب بقائه بعد الموت ويصح البقاء على تقليده بعد موته هذا وجه الأول للقائلين بجواز البقاء على تقليد الميت بل وجوبه إذا كان الميت أعلم من الحيّ والأحياء كما لا يخفى.

قوله : ولكنه لا يخفى أنه لا يقين بالحكم شرعا سابقا ...

وقد اعترض المصنّف قدس‌سره في استصحاب الأحكام التي قد قلّد المقلد فيها مجتهدا بأن المقصود من الأحكام التي نستصحبها إن كان هي الأحكام الواقعية فهي مما لم نتيقّن بثبوتها في السابق كي نستصحبها في اللاحق لأن المفتي يحتمل أنّه لم يستنبط الأحكام الواقعية عن مداركها في زمن حياته فلا يقين لنا بثبوتها سابقا فيختل أركان الاستصحاب لأنه إذا لم يكن اليقين السابق بموجود فلا يكون الشك اللاحق بموجود ؛ وإن كان المراد منها هو الأحكام الظاهرية ، وإذا كان رجوع الجاهل إلى العالم ثابتا بحكم العقل والفطرة فمقتضى ذلك ليس إلّا منجزية قول العالم على الجاهل عند الاصابة للواقع وعذريته عند الخطأ وليس مقتضاه جعل الأحكام الظاهرية على طبق قول العالم حتى نستصحب تلك الأحكام عند الشك في بقائها وزوالها.

وأمّا إذا كان الرجوع بالأدلّة النقلية من الآيات المباركات كآية السؤال والنفر مثلا والروايات المأثورة فالأمر كذلك لأن المجعول في الامارات الشرعية ليس إلّا المنجزية عند الاصابة والعذرية عند الخطأ وليس المجعول بأحكام ظاهرية على طبق مؤدّياتها.

٣٢٦

وأمّا بناء على ما هو المعروف بين أكثر الاعلام (رض) من ان المجعول في الامارات الشرعية هو الأحكام الشرعية الظاهرية على طبق مؤدّياتها فلاستصحاب تلك الأحكام مجال إلّا أنه مع ذلك لا يخلو هذا الاستصحاب من شائبة الاشكال إذ يحتمل أن يكون رأي المجتهد من مقوّمات الموضوع بحيث إذا تبدل الرأي عدّ ذلك من انتفاء الموضوع لا من ارتفاع الحكم عن موضوعه ومجرّد احتمال ذلك الأمر يكفي في عدم جريان الاستصحاب إذ ثبت في محله بالبرهان اعتبار بقاء الموضوع على حاله في صحّة جريان الاستصحاب.

وعليه فلا مجال لاستصحاب ما قلّده من الأحكام لعدم القطع به سابقا كي يستصحب.

قوله : إلّا على ما تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب ...

وهذا إشارة إلى قول المصنّف قدس‌سره في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب من ان معنى حجية الامارات عبارة عن تنجّز الواقع عند الاصابة والعذر عند الخطأ. وعلى هذا المبنى إذا دلّت الامارة على وجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور ولكن نشكّ في وجوبها في عصر الغيبة وليس الاطلاق في الامارة التي قد دلّت على وجوبها في عصر الحضور كي يشمل الاطلاق وجوبها في عصر الغيبة وحينئذ لا بد من أن لا يجري الاستصحاب إذ اليقين السابق يكون بالحجّة لا بالحكم الشرعي.

فالنتيجة : إذا دلّت الامارات المعتبرة على ثبوت الأحكام الشرعية في زمان وحصل الشك في بقائها في الزمان اللاحق فلا يجري استصحاب الأحكام لأجل عدم اليقين السابق بها.

وأجاب المصنّف قدس‌سره عن هذه العويصة بأنه في أخبار الاستصحاب قد حكم الإمام عليه‌السلام بالملازمة بين وجود سابق وبين وجود لاحق إذ نزّل الوجود اللاحق

٣٢٧

منزلة الوجود السابق. وعلى هذا يكون اليقين السابق في الاستصحاب طريقا إلى الواقع وإذا لم يكن اليقين بحكم في الحالة السابقة ولكن نحتمله فيها فهذا الاحتمال يكفي في صحّة جريان الاستصحاب بحيث يحكم ببقاء الاحتمال في الآن اللاحق وإن لم يكن اليقين في الآن السابق.

وبالجملة : ليس اليقين السابق في صحّة إجراء الاستصحاب بشرط ولازم واحتمال الثبوت إذا كان له أثر شرعي كما إذا قامت الحجّة المعتبرة على هذا الاحتمال فهو يكفي في جريان الاستصحاب فكل مصحّح لجريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية فهو مصحّح لجواز تقليد الاستمراري بعينه حرفا بحرف.

فالنتيجة : ان احتمال ثبوت التكليف في الزمان السابق يكفي في جريان الاستصحاب في الزمان اللاحق ، وكذا احتمال الرأي في زمان حياة المجتهد يكفي في جريان استصحاب بقاء الرأي بعد مماته حرفا بحرف.

قوله : وأما بناء على ما هو المعروف بينهم من كون قضيّة الحجّية الشرعية ...

ولا يخفى أن ما سبق من جواز البقاء على تقليد الميّت وعدم جوازه عليه انّما يكون على القول بأن مقتضى حجية فتوى المفتي هو المنجّزية عند الاصابة والمعذرية عند الخطأ.

وأمّا بناء على رأي المشهور عند العلماء الأعلام (رض) من أن مقتضى الحجية الشرعية جعل الحكم المماثل أي إذا قامت الحجة الشرعية على الحكم الشرعي فهو امّا حكم تكليفي ظاهري مماثل مع الحكم التكليفي الواقعي ، وامّا حكم وضعي ظاهري مماثل مع الحكم الوضعي الواقعي فلاستصحاب بقاء الأحكام التي قلّده المقلّد فيها في زمان حياته وعمل بها مجال فيمكن أن يستصحب بقائها بعد مماته ويدلّ على جواز بقائها بالاستصحاب ادعاء بقاء الموضوع عرفا إذ في

٣٢٨

نظر أهل العرف يكون الرأي من أسباب عروض الحكم لا من مقوّمات الموضوع والمعروض كي يزول بزواله.

ولكن الانصاف أن كون دعوى صحّة جريان الاستصحاب أي استصحاب بقاء الأحكام بعد ممات المجتهد وبقاء الرأي بعده لا يخلو من إشكال وجزاف إذ من المحتمل لو لا المقطوع أن أحكام التقليدية عند أهل العرف ليس الواقع بموضوعها بل الظن والرأي اللّذان ثابتان للمجتهد دخيلان فيها ولهذا تسمّى بالأحكام الظاهرية ولو لم يكن للرأي دخل فيها فينبغي أن لا تسمّى بالأحكام الظاهرية ولا أقل يحصل لنا الشك في أن موضوع هذه الأحكام التقليدية هل هو الواقع بما هو واقع بحيث لا يكون للظن فيها دخل أصلا أو هو رأي المجتهد في نظر أهل العرف وهو لا يكون بباق بعد الموت.

ومن المعلوم انه مع الشك في بقاء الموضوع لا يجري استصحاب بقاء الأحكام بعد الممات.

قوله : فتأمّل جيّدا وهو تدقيقي بقرينة كلمة الجيد ...

فالنتيجة : أن مجرّد احتمال كون الأحكام التقليدية أحكاما لموضوعاتها بحسب رأي المجتهد يكفي لمنع جريان الاستصحاب ، وحينئذ لا حاجة إلى القطع واليقين بهذا الكون المذكور.

قوله : هذا كلّه مع إمكان دعوى أنه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد ...

ويمكن أن يقال ان البقاء على تقليد المجتهد في صورة زوال رأيه بسبب الهرم أو المرض لا يجوز قطعا بالاجماع.

وعلى هذا إذا زال الرأي بالموت فالبقاء على تقليد الميّت لا يجوز بطريق أولى إذ في صورة الزوال بكثرة السن وشدّة المرض يرجى عود الرأي ، وأمّا في صورة الموت فلا يرجى عوده أصلا.

٣٢٩

قوله : فتأمّل ...

وهو إشارة إلى أن هذه الأولوية ظنّية مفيدة للظن والأصل الأوّلي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل ، وذلك كالظن الحاصل من ظواهر الكتاب الكريم والأخبار الآحاد أو هو إشارة إلى أن المرض والهرم إذا كانا موجبين لزوال الرأي وهو يوجب لعدم جواز التقليد مع أن فيهما اختلال بعض القوى ، فالموت الذي يختل به جميع القوى الانساني يوجب زوال الرأي الموجب لعدم جواز التقليد بالأولوية القطعية التي يحصل منها القطع الذي هو حجّة من أيّ سبب حصل وقد سبق هذا في بحث القطع.

قوله : ومنها اطلاق الآيات الدالة على التقليد ...

ومن جملة الأدلّة التي تدل على جواز التقليد أي على جواز البقاء على تقليد الميّت اطلاق الآيات الدالّة على جواز التقليد بحيث تشمل باطلاقها البقاء على تقليد الميّت والآيات التي تدل على رجوع الجاهل إلى العالم كقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ، وقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٢) ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ)(٣) ، وقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٤) وهذا دليل ثان للقول بجواز المطلق ، أي بجواز البقاء على تقليد الميّت الأعلم سواء عمل بفتواه في زمن حياته أم لم يعمل بها فيه ، واستصحاب الأحكام دليل الأوّل.

__________________

١ ـ سورة النحل آية ٤٣.

٢ ـ سورة التوبة آية ١٢٢.

٣ ـ سورة البقرة آية ١٥٩.

٤ ـ سورة الحجرات آية ٦.

٣٣٠

وأجاب المصنّف قدس‌سره عنه بقوله : وفيه مضافا إلى ما أشرنا إليه من عدم دلالة الآيات المباركات على البقاء على تقليد الميّت من قوّة احتمال أن يكون الارجاع إلى أهل الذكر في آية السؤال ورجوع المتفقّهين إلى القوم لتحصيل العلم بالمراد لا الأخذ تعبدا مع أن المسئول عنه في آية السؤال أهل الكتاب أو أهل العصمة عليهم‌السلام منع اطلاق الآيات على تقدير دلالتها على البقاء على تقليد الميّت الأعلم لأنّها مسوقة لبيان أصل تشريع التقليد وجوازه ولا تكون في صدد بيان شرائط المفتي من الحياة والممات والعمل وعدمه كما لا يخفى.

قوله : ومنه انقدح حال اطلاق ما دلّ من الروايات على التقليد ...

قال المصنّف قدس‌سره : قد ظهر لك من حال اطلاق الآيات المباركات حال اطلاق الروايات الدالّة على جواز التقليد إذ هي من حيث الاطلاق تكون متساوية مع الآيات المباركات أي كما نمنع اطلاقها كذا نمنع اطلاقها بحيث يشمل البقاء على تقليد الميت إذ هي مسوقة لبيان أصل جواز التقليد من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، ولا تكون مسوقة لجواز البقاء على تقليد الميّت.

هذا ، مضافا إلى ان اطلاقات الأخبار منصرفة إلى زمان حياة المجتهد أي يجوز الرجوع إلى المجتهد الحيّ.

قوله : ومنها دعوى أنه لا دليل على التقليد إلّا دليل الانسداد ...

ومن جملة الأدلّة التي تمسّك بها القائلون بجواز البقاء على تقليد الميّت دليل الانسداد في عصر الغيبة وهو يقتضي المساواة بين تقليد الحيّ وبين تقليد الميّت بلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

أجاب المصنّف (أعلى الله تعالى مقامه) عنه بأن مع وجود الدليل العقلي والنقلي على جواز التقليد ومع انفتاح باب العلمي لا تصل النوبة بدليل الانسداد حتى نتمسّك به على جواز المطلق كما لا تصل النوبة بالدليل الفقاهتي مع وجود

٣٣١

الدليل الاجتهادي وبالأصول العملية مع وجود الأصول اللفظية.

قوله : ومنها دعوة السيرة على البقاء ...

ومن جملة الأدلّة التي قد استدلّ بها على جواز البقاء على تقليد الميّت الأعلم استمرارا دعوى السيرة أي سيرة أهل الشرع على البقاء على تقليد الميّت إذ من الواضح أن أصحاب الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام إذا أخذوا الفتوى عن المفتي فيعملون بها بعد موت المفتي كما يعملون بها حال حياته ، ولا يخفى أن السيرة حجّة بتحقق شروط ثلاث :

الأوّل : أن تكون من المتديّنين.

الثاني : أن تكون متّصلة بزمان المعصوم عليه‌السلام.

الثالث : أن لا يردع عنها المعصوم عليه‌السلام.

أجاب المصنّف قدس‌سره عن هذه الدعوى بأنا لا نسلّم استقرار هذه السيرة في المقام ويحتمل احتمالا قويّا ان يكون عدم رجوعهم عمّا أخذوه تقليدا من جهة أخذ الناقلين والمفتين غالبا الأحكام من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام بلا واسطة أو مع الواسطة ولكن بلا دخالة رأي الناقل والمفتي في الأحكام.

ومن الواضح أن أخذ الأحكام الشرعية من الناقلين أقوال أئمّة الهدى عليهم‌السلام لا يسمّى تقليدا وأخذ قول الغير بلا دليل لأن أصحاب الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام كانوا من أهل اللسان ورجوعهم إلى أمثال زرارة بن أعين (رضي الله تعالى عنهما) انّما يكون في نقل الروايات والأحاديث عنهم عليهم‌السلام وبعد وصولها إليهم يفهمون الروايات فيعملون بظاهرها.

ومن المعلوم ان العمل بظاهر الروايات والأحاديث لا يسمّى تقليدا نظير أخذ المسائل الشرعية عن العالم بها فهذا لا يسمّى عرفا تقليدا عنه وكذا أخذ الروايات عن الرواة لا يسمّى تقليدا.

٣٣٢

الحاصل : ان المعلوم لنا عمل الأصحاب (رض) بروايات واصلة إليهم بعد موت الرواة والناقلين وهذا ليس بمنوط بمسألة التقليد. أما في مسألة التقليد فليس حالهم بمعلوم لنا من البقاء على تقليد الميّت والرجوع إلى الحيّ الأعلم. وعلى طبيعة الحال فادعاء السيرة على البقاء بحيث تكشف عن رضاء المعصوم وامضائه عليه‌السلام فليست بمعلوم لنا.

قوله : ومنها غير ذلك ممّا لا يليق بأن يسطر أو يذكر ...

واستدلّ القائلون بجواز المطلق وبالبقاء على تقليد الميّت استمرارا بوجوه أخر غير الاستصحاب لبقاء الأحكام وغير اطلاق الآيات التي تدل على جواز التقليد وغير اطلاق الروايات المجوّزة للتقليد عن العالم الجامع للشرائط ، وغير دليل الانسداد ، وغير دعوى السيرة على البقاء. ولكن قال المصنّف قدس‌سره لا يليق أن تحرّر في القرطاس وتبيّن بسبب القلم أو تذكر بواسطة اللسان لأنها مردودة جدّا ، ولكن لا بأس بذكر بعضها كي يتبيّن الحال.

ومنها : ان دليل التقليد هو لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد على الجاهل في صورة عدم تقليده عن المجتهد وهو يقتضي جواز البقاء على تقليد الميّت كجوازه عن الحيّ.

ومنها : أن المجتهد إذا غاب مدّة طويلة فلا إشكال في جواز العمل بفتواه وكذا إذا مات حرفا بحرف.

ومنها : أن المجتهد مخبر عن أحكام الله تعالى شأنه العزيز ، وليس الحياة بدخيلة في ذاك العنوان أصلا.

ومنها : أن العمل بأقوال أنبياء بني إسرائيل عليهم‌السلام جائز بعد موتهم وارتحالهم عن دار الفناء إلى دار البقاء فكذا يجوز العمل بفتاوى المجتهدين والعلماء قدس‌سرهم بعد موتهم وإجابتهم لدعوة الحق جلّ وعلى لأجل تنزيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاهم

٣٣٣

منزلتهم بقوله المبارك علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل. كما أن هذا الحديث مشهور في قصة رؤيا مولانا المقدّس الأردبيلي رضى الله عنه موسى بن عمران (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام) وسؤاله عنه عن اسمه المبارك أجاب بقوله أحمد بن محمد أردبيلي الأصل نجفي المسكن فاعترض الموسى عليه بأني سألتك عن اسمك فقط ولم أجبتني طويلا وقال له بأن الله تعالى قال لك : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) قلت في الجواب : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى)(١) ولم ما قلت في الجواب هي عصاي فقط فتبسّم قائلا صدق الرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل». ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع كتب التاريخ ، وكلّها كما ترى :

أمّا الوجه الأوّل : فيقال ان العسر والحرج على الجاهل يرتفعان بالتقليد عن الحي الموجود أيضا ولا يلزم حينئذ البقاء على تقليد الميّت بعد موته بل التقليد عن الحيّ أحوط لأنّه ذو رأي والميت ليس بذي رأي. وعليه فموضوع التقليد محقق في الحيّ فقط.

وأمّا الوجه الثاني : فهو قياس مع الفارق إذ المجتهد الحيّ الغائب ذو رأي والميّت ليس له رأي ونظر ، بل له جسد فقط وهذا باطل.

وأمّا الوجه الثالث : فهو مخبر عن أحكام الله تعالى إذا كان حيّا ، وأمّا إذا مات فهو ليس بمخبر عنها.

وعلى ضوء هذا فالحياة دخيلة في صدق هذا العنوان عليه كما لا يخفى على العاقل فضلا عن الفاضل.

وأمّا الوجه الرابع : فيقال ان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزلهم منزلتهم في الرتبة والدرجة يوم القيامة فقط ولا ينزّلهم منزلتهم في كلّ شيء إذ يكفي في التشبيه

__________________

١ ـ سورة طه آية ١٨.

٣٣٤

اشتراك المشبه والمشبه به من جهة واحدة مثل زيد كالأسد في الشجاعة فقط ، ولا يلزم اشتراكهما من جميع الجهات إذا عرفت ما ذكر فتعرف فساد هذه الوجوه كلّا كما لا يخفى على أحد.

ولكن الأقوى وجوب البقاء على تقليد الميّت إذا كان أعلم من الحيّ في موارد الاختلاف والخلاف إذ سيرة العقلاء بما هم عقلاء جارية على الرجوع إلى الأعلم والعمل بقوله في كل فن من الفنون ، ولا يخفى عليك أن سيرة العقلاء لا تكون جزافا فلا محالة تكون مبنيّة على نكتة ، وتلك النكتة عبارة عن أقربية قول الأعلم إلى الواقع وكونه أضبط وأدقّ باعتبار أنه أكثر دقّة في الاستنباط وحينئذ لا فرق بين حياته ومماته إذ لا يحتمل أن تكون حياته دخيلة في ملاك حجيّة قوله بل الملاك فيها أقربية قوله إلى الواقع كما سبق هذا آنفا.

وعليه لا فرق بين حياته ومماته كما لا يخفى قد بقى في المقام أمران لا بدّ من التعرّض لهما.

الأوّل : ذكر بعضهم أنه يعتبر في جواز البقاء على تقليد الميت العمل بفتواه حال حياته.

وعليه فلو لم يعمل بها في حياته لم يجز البقاء على تقليده بعد موته ، ولا ريب في أن منشأ هذا الاعتبار هو تعريف التقليد بالعمل باعتبار أنه لا يصدق البقاء على تقليده مع عدم العمل لعدم تحقّق التقليد بدون العمل ، فيكون العمل على فتواه بعد موته تقليدا ابتدائيا وهو لا يجوز ، وفيه ما فيه إذ لم يرد عنوان البقاء على تقليد الميّت في لسان دليل لفظي حتى نتكلّم في مفهومه ودلالته هل يصدق البقاء من حيث اعتبار العمل وعدمه كي يكون تابعا للمدرك.

ويقال ان المدرك أما استصحاب حجيّة فتواه فهو يقتضي على تقدير جريانه حجية فتواه على العامي حال حياته وحال مماته إذ حجيّة فتواه عليه حال حياته لا

٣٣٥

تتوقف على العمل بها فتستصحب بعد مماته.

وامّا السيرة العقلائية القائمة على رجوع الجاهل إلى العالم فعدم اشتراط العمل في جواز البقاء حينئذ واضح فان السيرة قد جرت على رجوع الجاهل إلى العالم حيّا كان العالم أو ميّتا عمل الجاهل بفتواه في حال حياته أم لم يعمل بها ولم يردع الشارع المقدّس عنها إلّا في خصوص التقليد الابتدائي عن الميّت ؛ وكذا الحال فيما إذا كان المدرك على البقاء هو اطلاقات الأدلّة الدالّة على حجيّة فتوى العالم فانها تدل على اعتبار كونه حيّا حال السؤال وحال الرجوع إليه لا حال العمل فاطلاقها ينفي اعتبار العمل بفتواه قبل موته في جواز العمل بها بعد موته مع كون التعلم والأخذ في حياته.

وعلى طبيعة الحال فتحصّل ممّا ذكر أن جواز البقاء على تقليد الميّت غير متوقّف على العمل بفتواه حال حياته ، وإن قلنا بكون التقليد عبارة عن العمل بقول المفتي كما لا يخفى.

الثاني : ذكر بعض الأعلام (رض) أيضا أنه لا يجوز العدول من الحيّ إلى الحيّ ، فيما إذا عمل بفتوى المجتهد الأوّل بخلاف ما إذا لم يعمل بها. ولا يخفى أن منشأ هذا التفصيل أيضا هو كون التقليد عبارة عن العمل فمع عدم العمل بفتوى المجتهد الأوّل لا يصدق العدول ليكون حراما شرعا أو عقلا من جهة قبح ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجّح.

وفيه : أنه لم يرد عدم جواز العدول من الحيّ إلى الحيّ في لسان الدليل اللفظي حتى نبحث عن صدق العدول مع عدم العمل وعدمه فلا بدّ من ملاحظة المدرك لحجيّة فتوى العالم والذي ينبغي أن يقال أنه إن كان المجتهد الثاني أعلم ممّن قلّده أوّلا فمع العلم بالمخالفة ولو إجمالا يجب العدول سواء عمل بفتوى المجتهد الأوّل أم لم يعمل بها إلّا إذا كانت فتوى الأوّل موافقة للاحتياط وإن كان

٣٣٦

المجتهد الذي قلّده هو الأعلم لا يجوز العدول ولو قبل العمل إلّا إذا كانت فتوى الثاني موافقة للاحتياط وان كانا متساويين.

فمع العلم بالمخالفة لا بدّ من العمل بالاحتياط ومع عدم امكانه أو مع عدم وجوبه لا يجوز العدول لكون المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ولا ريب في أن مقتضى حكم العقل هو التعيين في صورة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّة ولا فرق في ذلك بين العمل بفتوى المجتهد الأوّل وعدمه.

وأمّا إذا لم يعلم الاختلاف بينهما فان لم يكن العامّي حين العدول ذاكرا لفتوى المجتهد الأوّل جاز له العدول سواء عمل بفتوى المعدول عنه أم لم يعمل بها لشمول اطلاق قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لفتوى كل منهما أي فتوى المعدول عنه وفتوى المعدول إليه.

وامّا إذا كان ذاكرا لها فلا يجوز العدول لدوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّة ويحكم العقل في مثله بالتعيين كما مرّ آنفا ، سواء عمل بفتوى المجتهد الأوّل أم لم يعمل بها.

فتحصّل ممّا ذكر أنّه لا فرق في جواز العدول وعدمه بين العمل بفتوى المجتهد الأوّل وعدمه كما لا يخفى.

هنا فروع ثلاثة :

الأوّل : إذا علم اختلاف المجتهدين وأعلمية أحدهما إجمالا وجب الفحص عن الأعلم ووجب تقليده لاختصاص الحجية بفتواه عند مخالفته لفتوى غير الأعلم ، وامّا إذا لم يتمكّن من تعيينه وجب الاحتياط بين القولين فيما إذا أمكن وإلّا كان مخيّرا بينهما من حيث التقليد وإن تمكّن من تعيين الأعلم بالظن فانّه لا دليل على اعتبار هذا الظن. والحال ان الأصل الأوّلي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل وذلك كالظن الحاصل من ظواهر الكتاب المجيد ومن الأخبار الآحاد.

٣٣٧

الثاني : إذا علم الاختلاف بين المجتهدين في الفتوى ولم تعلم أعلمية أحدهما ولكن احتمل الأعلمية في كل واحد منهما فالمشهور على تخيير العامّي في تقليدهما بل ادعى الاجماع عليه ، فان تمّ الاجماع فهو وإلّا فالقاعدة تقتضي سقوطهما فلا بدّ حينئذ من الاحتياط إن أمكن وإلّا فالتخيير بينهما.

وأمّا ما عن السيّد اليزدي قدس‌سره في العروة الوثقى من أنه إذا حصل الظنّ للمقلّد بأعلمية أحدهما فقد تعيّن تقليده فلا يمكن الذهاب إليه لأجل عدم اعتبار هذا الظن ، وقد مرّ هذا آنفا.

الثالث : إذا علم اختلاف المجتهدين واحتمل الأعلمية في أحدهما المعيّن دون الآخر يتعيّن تقليد من يحتمل كونه أعلم من الآخر فان الأمر حينئذ يدور بين التعيين والتخيير فمقتضى حكم العقل هو الأخذ بالتعيين وهذا ظاهر. وأمّا سائر الفروع فمذكورة في المستمسك والمستند والتعاليق وغيرها من الكتب الفقهية القيّمة.

٣٣٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله تعالى على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله تعالى على أعاديهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم أجمعين.

أمّا بعد فيستدرك بعض المسائل الأصولية ولهذا يقال انّه لو قلنا بأن موضوع علم الأصول هو ذوات الأدلّة الأربعة الكتاب والسنّة والعقل والاجماع بما هي هي كما قال به صاحب الفصول قدس‌سره للزم الاشكالان :

الأوّل : أن يكون حصر الأدلّة بالأربعة غير صحيح إذ مع قطع النظر عن وصف دليلية الأدلّة يمكن أن تكون الشهرة الفتوائية دليلا على الحكم الشرعي ، وكذا يمكن أن يكون قياس منصوص العلّة حجّة عليه وكذا يمكن أن تكون السيرة حجّة عليه.

وعلى طبيعة الحال يكون حصر الأدلّة على الأحكام الشرعية بالأربعة غير حاصر كما لا يخفى على أولى النهاية إذ ذهب بعض الأعلام (رض) إلى كون هذه الأمور المذكورة أدلّة على الأحكام الشرعية.

الثاني : أنه يخرج المسائل المهمّة عن مسائل علم الأصول بناء على اتحاد موضوع العلم مع موضوعات المسائل لهذا العلم كالبحث عن حجّية أخبار الآحاد إذ لا يكون البحث عنها عن عوارض ذاتية السنّة لانها عبارة اصطلاحا عن قول المعصوم وفعله وتقريره عليه‌السلام والأخبار الآحاد لا تكون بأحدها ، وهذا واضح لا غبار عليه.

وكذا يلزم الاشكالان لو كان موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة بوصف أنّها أدلّة :

الأوّل : أنه يلزم أن يكون البحث عن وجود الدليل على الحكم الشرعي والبحث عن وجوده ليس بحثا عن عوارض الأدلّة الأربعة لأن البحث عن عوارضها

٣٣٩

يكون بعد وجودها والبحث عن وجودها يكون بعنوان مفاد كان التامّة ، وأمّا البحث عن العوارض الذاتية فيكون بعنوان مفاد كان الناقصة بعد وجود الشيء المعروض عليه ، وهذا الاشكال مختص بهذا القول ، كما ان الاشكال الأوّل من الاشكالين المتقدّمين مختص بقول الأول أي قول صاحب الفصول.

الثاني : أنه يلزم الاشكال المشترك بين قول المشهور وقول صاحب الفصول رضى الله عنه وهو خروج بحث حجّية أخبار الآحاد عن مسائل علم الأصول للوجه الذي قد ذكر آنفا وكذا يخرج على هذين القولين بحث أصول العملية والقياس وبحث قول اللغوي وبحث الوضع والاشتراك والحقيقة والمجاز و ... عن مسائل علم الأصول وكذا يخرج بحث الاجتهاد والتقليد عنها وكذا يخرج بحث المنقول اللغوي والشرعي والعرفي والمرتجل عن مسائله وكذا يخرج بحث الترادف والجزئي والكلي المتواطي والمشكك عنها ، وكذا يخرج بحث حجّية الظن على الحكومة أو على الكشف بعد تمامية دليل الانسداد عنها.

إذ ليس هذه الأمور بكتاب ولا سنّة ، ولا عقل ، ولا إجماع ، لا بما هي هي ولا بوصف دليليتها ولأجل هذا عدل المصنّف قدس‌سره عن هذين المسلكين مسلك المشهور ، ومسلك صاحب الفصول رضى الله عنه وقال ان موضوع علم الأصول كلي يتحدّ مع موضوعات المسائل على نحو اتحاد الكلي الطبيعي مع مصاديقه كي يشمل جميع هذه الأمور المذكورة ويكون جميع هذه الأمور من مسائل علم الأصول ويكون البحث عن أحوالها وأوصافها بحثا عن عوارضها الذاتية لكون هذه الأمور من مصاديق الموضوع على مبنى المصنّف قدس‌سره ومن تبعه. وأما وجه عدول صاحب الفصول (رض) عن مسلك المشهور فهو الفرار عن الاشكال الوارد عليه ، وهو عبارة عن خروج بحث حجيّة أخبار الآحاد عن مسائل علم الأصول ودخولها في

٣٤٠