البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

الاشكال غير وارد إذ لا دليل العقلي ولا النقلي من آية أو رواية معتبرة بلزوم كون العمل عن تقليد سابق كي يلزم أن يكون التقليد سابقا على العمل وإلّا كان العمل الأوّل بلا تقليد ؛ بل الذي يلزم على العامّي بمقتضى الأدلّة الآتية إن شاء الله تعالى هو التقليد عن المجتهد الجامع للشرائط من البلوغ على الأحوط ، والعقل ، والايمان ، والعدالة ، والرجولية ، والاجتهاد المطلق ، والأعلمية ، وتفصيلها في الفقه الشريف.

وعلى هذا الأساس إذا عمل العامي بقول المجتهد فقد صدق عليه أنّه قلّده وإن لم يصدق عليه أنه قد عمل عن تقليد سابق ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى عدم ورود هذا الاشكال بقوله : فافهم.

فإن قيل : لو كان التقليد هو نفس العمل بقول الغير للزم الدور الصريح في العبادات ، أمّا بيانه فلأن وقوع العبادات في الخارج بحيث يمتثل أمرها يتوقّف على قصد القربة وقصد القربة يتوقّف على العلم بكون العمل عبادة والعلم بكونه عبادة للعامّي يتوقّف على التقليد.

وعليه فلو كان التقليد هو العمل بقول الغير لتوقف وقوع العبادة في الخارج على وقوعها عبادة في الخارج فالتقليد يتوقّف على كون هذا العمل عبادة والعلم بكون العمل عبادة يتوقّف على التقليد ، وهذا دور صريح ، كما لا يخفى.

قلنا : ان العلم بكون العمل عبادة للعامّي يتوقّف على قول المجتهد المطلق ولا يتوقّف على التقليد الذي هو عبارة عن نفس العمل بقول الغير.

وعلى طبيعة الحال ؛ فالتقليد يتوقّف على العلم بكون العمل الخاص عبادة يشترط فيها قصد القربة والتقرّب إلى ساحة المولى الجليل. وأمّا العلم بكون هذا العمل عبادة فيتوقّف على قول المجتهد المطلق بأنه عبادة ولا يتوقّف على التقليد عن الغير فيكون الموقوف شيئا والموقوف عليه شيئا آخر فلا دور في البين أصلا ، وهذا واضح لا سترة فيه.

٣٠١

في الاستدلال على جواز التقليد بسيرة العقلاء

قوله : ثم انّه لا يذهب عليك أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم ...

قال المصنّف قدس‌سره : انه لا يخفى عليك أن جواز التقليد للمكلف الذي لم يبلغ مرتبة الاجتهاد ورجوع الجاهل إلى العالم الذي يكون جامعا للشرائط المعهودة يكون بديهيا جبليا فطريا لا يحتاج إلى إقامة البرهان وتجشّم الاستدلال وان لم يكن جواز التقليد بديهيا جبليا فطريا بأن كان نظريا منوطا بالبرهان والاستدلال لزم انسداد باب العلم على العامي بجواز التقليد مطلقا أي سواء كان له حظّ من العلم بحيث لم يبلغ مرتبة الاجتهاد أم لم يكن له حظّ منه غالبا أي انسداد باب العلم بجواز التقليد على العامّي انّما يكون بالنسبة إلى غالب أفراد الجهال لو لم يكن جواز التقليد بديهيا فطريا جبليا لأجل عجزه عن معرفة ما دلّ على جواز التقليد من الآيات المباركات والروايات الشريفات من آية السؤال والنفر ، وسيأتي توضيحهما مفصّلا إن شاء الله تعالى.

والحال انّه لا يجوز التقليد عن الغير في جواز التقليد عن الغير ، إذ لو كان جواز التقليد بتقليد آخر فان كان ذاك التقليد الآخر بهذا التقليد لزم الدور إذ يتوقّف جواز التقليد عن الغير بالتقليد الآخر عنه والتقليد الآخر يتوقّف على جواز التقليد عن الغير ، فهذا دور صريح ، وإن كان التقليد الآخر بتقليد الثالث والتقليد الثالث بالتقليد الرابع وهكذا هلم جرّا لزم التسلسل وهذا معنى قول المصنّف قدس‌سره : ولا يجوز التقليد فيه وإلّا لزم الدور المحال أو التسلسل المحال عقلا بل هذه الفطرة والجبلية عمدة أدلّة جواز التقليد من باب رجوع الجاهل إلى العالم في كل فن من الفنون ولكن أغلب ما عداها قابل للمناقشة لأنّ أدلّة جواز التقليد امّا كتاب وامّا سنّة وامّا

٣٠٢

اجماع. امّا الكتاب والسنّة فسيأتي الإشكال فيهما ؛ وامّا الاجماع فتحصيله في هذه المسألة التي تكون مستندة إلى الفطرة بعيد جدّا لاحتمال أن يكون مدرك المجمعين كون التقليد من الأمور الفطرية الارتكازية من دون أن يكون مدركهم رأي المعصوم عليه‌السلام. ومن المعلوم ان الاجماع الذي قد احتمل له المدرك لا يكون بحجّة متى لم ينحصر مدركه برأي الإمام عليه‌السلام.

ومن هنا يعلم حال الاجماع المنقول في المسألة أي مسألة التقليد فان المحصّل منه إذا نوقش في حجّيته في هذه المسألة لأجل كونه محتمل المدرك فكيف حال منقوله ، هذا مضافا إلى عدم كونه حجّة أصلا.

قوله : ومنه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات ...

ومن كون الاجماع بكلا قسميه قابلا للمناقشة قد ظهر إمكان القدح والإشكال في دعوى كون جواز التقليد من ضروريات الدين لأجل احتمال أن يكون من ضروريات العقل وفطرياته لا من ضرورياته أي لا من ضروريات الدين لأن ضروري الدين ضروري بالاجماع أي إجماع كافّة أهل القبلة ، وذلك كوجوب الصلاة والحجّ مثلا. ولكن الاجماع المحصل والمنقول لم ينعقد هنا أصلا لمنع الأخباري عنه.

ومن هنا يعلم ان جواز التقليد ليس من ضروريات الدين بل يكون من ضروريات العقل ومن فطرته ، ولهذا قال المصنّف قدس‌سره : لوهن الاجماع بسبب فطرية هذه المسألة ؛ وكذا انقدح الاشكال في دعوى سيرة المتدينين قديما وحديثا بجواز التقليد عن الغير من جهة كون هذه المسألة من الفطريات. وعليه تكشف السيرة المذكورة عن الفطرة وحكم العقل ولا تكشف عن رضاء المعصوم وامضائه عليه‌السلام وعن تديّن المتديّنين وكمال ديانتهم.

وأمّا الاستدلال بالآيات المباركات فمنها قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ

٣٠٣

إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ، ومنها قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٢).

ففيه اشكال ومناقشة لقوّة احتمال أن يكون الإرجاع إلى أهل الذكر لتحصيل العلم بالواقع إذ قيّد جواز العمل بقول أهل الذكر بصورة حصول العلم بالواقع لأنّ مورد الآية الشريفة يكون السؤال عن النبوّة فالمتعارف إذا لم تعلم النبوّة فيجب عليك السؤال عنها حتى تعلمها.

هذا ، مضافا إلى ان المراد من أهل الذكر علماء اليهود أو الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بناء على بعض التفاسير.

وعلى ضوء هذا المطلب فلا تدلّ على جواز التقليد أصلا ، وأمّا آية النفر فلا تدلّ على أخذ قول الغير تعبّدا وعلى جواز التقليد من باب رجوع الجاهل إلى العالم تعبّدا بل يكون الرجوع إلى المتفقّه من جهة تحصيل العلم بقرينة كلمة ليتفقّهوا ، وهي مأخوذة من التفقّه وهو مأخوذ من الفقه ، وهو عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية كما في المعالم.

ولكن الإنصاف أن تقييد جواز العمل بقول أهل الذكر المستفاد من آية السؤال بصورة حصول العلم بالواقع يدفعه الاطلاق الذي في الآية الشريفة إذ لا تكون بهذا النحو فاسألوا أهل الذكر إذا حصل لكم العلم بالواقع ، وأن تفسير أهل الذكر بالأئمّة الأطهار عليهم‌السلام أو بعلماء اليهود لا يضرّ بالاستدلال بالآية الشريفة لما نحن فيه وهو رجوع الجاهل إلى العالم وجواز التقليد عنه وقبول قوله تعبّدا لأنّ نزول الآية الشريفة في مورد خاص لا يوجب اختصاصها به فانّ القرآن الكريم يجري مجرى الشمس والقمر كما أنّهما لا يختصان من حيث الضياء والنور ببقعة

__________________

١ ـ سورة النحل آية ٤٣.

٢ ـ سورة التوبة آية ١٢٤.

٣٠٤

دون بقعة ودلّت على هذا الأمر الروايات الكثيرة. وفي بعضها «إنّ القرآن لو نزل في قوم فماتوا لمات القرآن» وهذه الروايات مذكورة في كتاب مرآة الأنوار المعروف بمقدّمة تفسير البرهان للسيّد الأجل البحراني قدس‌سره.

في الأخبار الدالّة على جواز التقليد منطوقا ومفهوما

قوله : نعم لا بأس بدلالة الأخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة ...

وأمّا الروايات فكثيرة :

منها : قول إمامنا الصادق عليه‌السلام لأبان بن تغلب (عليهما الرحمة) اجلس في المسجد ـ أي مسجد المدينة ـ وأفت الناس فانّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك (١). فهذا يدلّ على جواز الافتاء منطوقا فهو يدل على حجيّة قول المفتي إذ من الظاهر أن جواز الافتاء يلازم جواز العمل به عرفا ، وهذا يدل بالملازمة على جواز التقليد عن العالم.

ومنها : قول مولانا صاحب الزمان (عج) : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا (أو حديثنا) فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليكم (٢).

وتقريب الاستدلال على جواز التقليد عن العالم بهذا الحديث الشريف أن رواة الحديث تكون حجّة علينا هم العلماء بحلالهم وحرامهم.

وعليه إذا وجب الرجوع إليهم فقد وجب الرجوع إلى العلماء بحلالهم وحرامهم.

وعلى ضوء هذا فهو يدلّ على حجيّة قول العلماء بالمطابقة وكذا يدل على

__________________

١ ـ رجال النجاشي : ص ٧.

٢ ـ الوسائل ج ١٨ ص ١٠١ باب ١١ وجوب الرجوع في القضاء والفتوى.

٣٠٥

جواز التقليد بالمطابقة قول إمامنا ومولانا العسكري عليه‌السلام : فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، ودلالتها بالمطابقة على جواز التقليد واضحة لا تحتاج إلى البيان لقوله عليه‌السلام : فللعوام أن يقلّدوه (١).

كما ان هذه الرواية الشريفة تبيّن عدالة المقلّد ـ بالفتح ـ مطابقة بقرينة جملات الأربع وغيرها من الروايات الكثيرة المذكورة في الوسائل والمستدرك.

قوله : لا يقال إنّ مجرّد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز ...

فاعترض في هذا المقام : بأنّ مجرّد الأمر بالفتوى في بعض الأخبار لا يدل على قبولها تعبّدا كما ان الأمر في الآيات والروايات باظهار الحق والواقع لا يدلّ على قبولهما تعبّدا لأنّ المنظور من بيانهما ان جميع الناس يبيّن الحق ويظهره حتى يحصل العلم واليقين بهما من جهة كثرة المظهرين للحق والحقيقة وليس المقصود من اظهارهما قبولهما تعبّدا ، وكذا المقام حرفا بحرف.

فانّه يقال : ان الفرق بين الأمر بالافتاء وبين الأمر باظهار الحق والواقع واضح إذ بيان الحق والحقيقة ، وذلك كولاية الأئمة الأطهار عليهم‌السلام وإمامتهم مثلا ينحصر العلم واليقين بهذا الحق والحقيقة من طريق الاستماع والبيان فهذا يرجع إلى الحسّ أمّا بخلاف الأحكام الشرعية فانّه لا يحصل العلم بها من طريق الفتوى والافتاء غالبا لأكثر الناس.

فالنتيجة : في نهاية المطاف أن الغرض من بيان الحق واظهاره يكون حصول العلم به ، ولهذا أمر المولى ببيانه واظهاره جميع الناس ولكن ليس الغرض من الافتاء حصول العلم بالأحكام ، بل الغرض منه بيان الأحكام واظهارها للناس وان لم يحصل العلم لهم بها هذا أوّلا.

__________________

١ ـ الوسائل ج ١٨ ص ٩٥ باب ١٠ من أبواب صفات القاضي ح ٢٠.

٣٠٦

وثانيا : ان الملازمة العرفية ثابتة بين جواز الافتاء وبين جواز اتباعه تعبّدا ، امّا بخلاف وجوب اظهار الحق والواقع فانّه لا ملازمة عرفا ولا عقلا بين وجوب اظهاره وبين وجوب أخذه وقبوله تعبّدا.

وعليه : فيكون الفرق ثابتا بين الأمر باظهار الحق والواقع ، وبين الأمر بالافتاء للناس من وجهين :

الأوّل : أن يكون الغرض المهم من الأمر باظهار الحق والواقع حصول العلم واليقين به لجميع الناس والغرض من الأمر بالفتوى للناس بيان الأحكام واظهار الحلال والحرام وليس الغرض المهم من الأمر بالفتوى حصول العلم بها.

الثاني : أن لا تكون الملازمة العرفية بين وجوب اظهار الحق والواقع وبين وجوب أخذه وقبوله تعبّدا. أمّا بخلاف الأمر بالافتاء فان الملازمة العرفية واضحة بين الأمر الافتاء ، وبين جواز أخذه وقبوله تعبّدا فقياس الأمر بالافتاء بالأمر باظهار الحق والواقع مع الفارق ، وهو باطل باجماع الفريقين.

قوله : فافهم وتأمّل ...

ان مدلول آية السؤال وآية النفر هو إرجاع غير العالم إلى العالم وإرجاع غير المتفقّه إلى المتفقّه وغير المنذر ـ بالفتح ـ إلى المنذر ـ بالكسر ـ لأجل تحصيل العلم بالواقع وليسا لبيان قبول قول العالم والمتفقّه والمنذر تعبّدا وبلا دليل فلا تكونان دليلين على جواز التقليد.

نعم ينحصر الدليل على الجواز بالأخبار ، ولهذا قال المصنّف قدس‌سره : ان هذه الأخبار على اختلاف مضامينها كي تكون متواترة معنى ، وتعدّد أسانيدها وطرقها حتى تكون متواترة لفظا ، ولكن هي ليست بمتواترة معنى ولفظا أما الأول فهو غير متحقّق فيها لاختلاف مضامينها ، وامّا الثاني فهو أيضا غير متحقّق فيها لاختلاف ألفاظها ولهذا قيل ان هذه الروايات وان لم تكن متواترة بتواتر المعنوي ولا متواترة

٣٠٧

بتواتر اللفظي ولكنّها متواترة بتواتر الاجمالي لأجل دعوى القطع بصدور بعضها فيكون هذا البعض دليلا قاطعا على جواز التقليد وان لم يكن كل واحد من الأخبار بحجّة على جواز التقليد أي بقطعية من حيث الصدور على الجواز.

فالنتيجة : يكون هذا البعض مخصّصا لما دلّ على عدم جواز اتباع غير العلم ولما دلّ على الذم على التقليد من الآيات القرآنية والروايات المأثورة ومن الآيات قوله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وهذه الآية الشريفة تكون ناهية بعمومها بقرينة كلمة ماء الموصولة عن متابعة غير العلم سواء كان في الأحكام الشرعية الفرعية أم في الأحكام الاعتقادية ؛ وقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(٢) ، وهذه الآية الشريفة تكون من الآيات التي تدل على الذم عن متابعة قول الغير تعبّدا وإن كان الغير المتبع (بالفتح) أبا للانسان هذا أوّلا.

وثانيا : يحتمل أن يكون الذم انّما كان على تقليد الكفّار للجاهل أو على تقليدهم في الأصول الاعتقادية التي لا بدّ فيها من اليقين.

وعليه لا يجوز التقليد فيها أصلا إذ لا يحصل اليقين بالواقع من التقليد وقبول قول الغير تعبّدا وبلا دليل.

قوله : وأمّا قياس المسائل الفرعية على الأصول الاعتقادية ...

فقد استدل القائل بمنع التقليد في الفروع بأنه كما لا يجوز التقليد في الأصول الاعتقادية وفي أصول الدين والمذهب من التوحيد والنبوّة والمعاد والعدل والإمامة ، كذا لا يجوز في الفروع وفي الأحكام الفرعية.

ولكن ردّه المصنّف قدس‌سره بقوله : وأمّا قياس المسائل الشرعية على الأصول

__________________

١ ـ سورة الاسراء آية ٣٦.

٢ ـ سورة الزخرف آية ٢٣.

٣٠٨

الاعتقادية بأنّه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها لاحتياجها إلى البرهان العقلي تارة انيّا وأخرى لميّا كذا لا يجوز في المسائل الفرعية لسهولتها لاحتياجها إلى السمع ولا تحتاج إلى البرهان العقلي.

وعلى ضوء هذا لا يجوز في الفروع بالطريق الأولى فباطل لوجهين :

أحدهما : انه عمل بالقياس في الشريعة المقدّسة وهو منهيّ عنه فيها بإجماع الإماميّة (رض).

وثانيهما : ان هذا القياس مع الفارق ضرورة أن الأصول الاعتقادية التي يجب فيها تحصيل اليقين بها معدودة إذ هي عبارة عن اليقين بوجود المبدأ وبتوحيده ذاتا وصفة وأفعالا وبصفاته الجمالية والجلالية. وعن اليقين بنبوّة الأنبياء العظام وعن اليقين بعدالة الباري وبإمامة مولانا وإمامنا أمير المؤمنين يعسوب الدين مولى الموالي علي بن أبي طالب عليه‌السلام وبإمامة أولاده الأئمة الأحد عشر عليهم‌السلام واليقين بعود الروح إلى البدن العنصري بعد مفارقته عنه والمعاد وبحساب يوم القيامة وبالجنّة والنار. ولا ريب أنه يجب فيها تحصيل اليقين والمعرفة ولا يجب في ما سواها تحصيل اليقين من كيفية السؤال في القبر ومن كوائف عالم البرزخ ومن كوائف الصراط والجنّة والنار ومن كيفية الحساب في يوم القيام والقيامة و ... إذ يكفي فيها الاعتقاد الاجمالي.

أما بخلاف المسائل العملية والفرعية فانّها ممّا لا تعدّ ولا تحصى بحيث لا يتيسّر الاجتهاد المطلق فيها طول العمر إلّا للأوحدي في كليّاتها كما لا يخفى ، إذ فقه الشيعة بحمد الله تعالى بحر عميق وكنز عظيم ولهذا لم يوفّق في استنباط كليات الفقه الشريف أحد من الفقهاء العظام إلّا صاحب الجواهر قدس‌سره وهو صنّف كتاب الجواهر مدّة خمس وعشرين سنة وهو غير حاو لكثير من جزئيات المسائل الفقهية وإلّا الشهيد الأوّل والشهيد الثاني قدس‌سرهما وكاشف الغطاء وولده الشيخ موسى قدس‌سرهما والعلّامة الحلّي والمحقّق الحلّي قدس‌سرهما.

٣٠٩

في وجوب تقليد الأعلم

قوله : فصل إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم ...

أي إذا كان المجتهدون موجودين فهم تارة يكونون متساويين في الفضل والفقاهة. واخرى يكونون متخالفين فيهما بحيث يكون بعضهم أعلم من الباقي ، فالمكلّف على الأوّل يتخيّر في التقليد من أيّهم شاء سواء كانوا متوافقين في الفتوى أم متخالفين فيها. وعلى الثاني : اما يكونون متوافقين في الفتوى وامّا متخالفين فيها. وعلى الأوّل يتخيّر في التقليد أيضا وإن كان الأولى هو التقليد عن الأعلم لئلا يلزم قبح ترجيح المرجوح على الراجح. وعلى الثاني يتعيّن عليه تقليد الأعلم إذا احتمل المقلد تعيّن الرجوع إلى الأعلم للقطع بحجيّة فتوى الأفضل ، والشك في حجيّة غير الأعلم هذا أوّلا.

وثانيا : يستلزم رجوع المقلّد (بالكسر) إلى المفضول دورا صريحا لتوقّف جواز تقليد المفضول على حجّية فتاواه وتوقّف حجيّة فتواه بالتخيير بين فتوى الفاضل وبين فتوى المفضول بحكم العقل وحكم العقل بالتخيير بين الأخذ والعمل بفتوى الفاضل وبين الأخذ والعمل بفتوى المفضول يتوقّف على حجيّة فتوى المفضول إذ لا معنى للتخيير العقلي بين الحجّة التي هي عبارة عن فتوى الفاضل وبين اللاحجّة التي هي عبارة عن فتوى المفضول على الفرض.

وعلى ضوء هذا فالنتيجة : ان حجّية فتوى المفضول تتوقّف على التخيير عقلا بين فتوى الفاضل وبين فتوى المفضول ، والتخيير بينهما عقلا يتوقّف على حجّية فتاوى المفضول فصار الشيء الواحد موقوفا وموقوفا عليه وهذا محال عقلا

٣١٠

لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عن نفسه.

قوله : نعم لا بأس برجوعه إليه إذا استقلّ عقله بالتساوي ...

ومتى احتمل المقلّد تعيّن قول الأعلم فليس قول غير الأعلم حجّة عليه إلّا إذا لم يحتمله وحكم العقل مستقلّا بالتساوي بين الأعلم وبين غير الأعلم.

وعليه فيكون هذا الموضوع واقعا غير موضوع الأوّل إذ لم يحتمل تعيين قول الأعلم في هذا الفرض أما بخلاف الفرض الأوّل فانّه يحتمل تعيين قول الأعلم ولهذا يجري في حق المقلّد في الفرض الأوّل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ولا تجري في حقّه في الفرض الثاني قاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وعلى ضوء هذا فيجب عليه أخذ قول الأفضل فقط بناء على الأوّل ولا يجب عليه الأخذ به بناء على الفرض الثاني.

فالنتيجة : إذا احتمل تعيين قول الأعلم فيتعيّن عليه تقليد الأعلم لكونه أقدر على عملية الاستنباط والاستخراج دقّة وعمقا ومهارة فيكون قوله أقرب إلى الصواب والواقع ، وامّا إذا لم يحتمله فلا يجب عليه حينئذ تقليده بل يتخيّر بينه وبين غير الأعلم فيجوز له تقليد غير الأعلم أيضا أو رجع إلى الأعلم فيجوز له الرجوع إلى غير الأعلم فالتقليد عن غير الأعلم إمّا يكون بحكم العقل ، وامّا يكون باجازة الأعلم وعلى كلا التقديرين لم يتعيّن على المقلّد تقليد الأعلم.

قوله : هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية الأدلّة في هذه المسألة ...

قال المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره : ان هذه المذكورات إلى هنا ثابتة في تكليف العاجز عن الاجتهاد في هذه المسألة أي مسألة وجوب تقليد الأعلم وعدم وجوبه بحيث لا يتمكّن له الرجوع إلى الأدلّة اللفظية ليستنبط منها الوجوب لتقليد الأعلم أو عدم الوجوب له كالعامّي ومن كان له حظّ من العلم ولكن لم يبلغ بعد

٣١١

رتبة التجزّي. وأمّا غير العاجز عنه فيها فقد اختلف العلماء (رض) في جواز تقديم المفضول على الفاضل ، وعدم جوازه على قولين ذهب بعضهم إلى الجواز كالحاجبي والعضدي والقاضي ابن البراج وجماعة من الأصوليين والفقهاء العظام (رض).

ولكن المعروف بين الأصحاب (رض) على ما قيل عدم الجواز اختار المصنّف قدس‌سره القول بعدم الجواز ، ولهذا قال وهو الأقوى لوجهين :

الأوّل : لأصالة عدم جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل.

الثاني : لعدم الدليل المعتبر العقلي والنقلي على خلاف هذا الأصل.

فإن قيل : ان اطلاق أدلّة جواز التقليد يقتضي جواز تقديم المفضول على الفاضل إذ هي غير مقيّدة بعدم الجواز مع وجود الأفضل فاطلاقها يشمل الجواز.

قلنا : انه ليس الاطلاق في أدلّة التقليد من بناء العقلاء بما هم عقلاء وحكم العقل والآيات القرآنية والأخبار المأثورة بحيث تبيّن حال تعارض أقوال المجتهدين (رض) بل تكون ثابتة لبيان أصل جواز التقليد ولبيان أصل جواز الأخذ بقول العالم ولا تكون لبيان جواز الأخذ بقول العالم وبفتاوى المجتهد في كل حال حتى حال تعارض الفتاوى وحال اختلاف المجتهدين في الفضل والفضيلة ومن غير تعرّض أصلا لصورة معارضة قول العالم الفاضل بقول الأفضل بحيث تبيّن جواز تقديم قول المفضول على قول الفاضل وعدم جواز تقديمه عليه كما ان عدم تعرّض المطلب المذكور شأن سائر الطرق والامارات على ما لا يخفى.

إذ أدلّة اعتبارهما إنّما تكون في بيان أصل اعتبارهما وفي تشريع حجّيتهما ولا تكون في مقام اعتبارهما في كل حال حتى حال المعارضة والتعارض بين هذا الطريق وذاك الطريق وبين هذه الامارة وهاتي الامارة ، فأدلّة جواز التقليد تكون مثل أدلّة الطرق والامارات في عدم اطلاق الأحوالي في كليهما كي يتمسّك به في حال التعارض بين قول المفضول والفاضل وبين فتوى الفاضل والأفضل فأدلّة جواز

٣١٢

التقليد وأدلّة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ناظرتان إلى أصل جواز التقليد من غير تكفلهما لحال المعارضة بين قولهما وفتاواهما كذا أدلّة اعتبار البيّنة والخبر الواحد ناظرة إلى اعتبار خبر الثقة والعادل والممدوح الامامي من غير تكفّلها لحالة التعارض بين ذاك الخبر الثقة وبين ذلك الخبر الثقة ولأجل هذا الأمر نحتاج إلى الأخبار العلاجية حال التعارض والمعارضة.

قوله : ودعوى السيرة على الأخذ بفتوى أحد المتخالفين في الفتوى ...

فإن قيل : ان السيرة من قبل المتدينين قائمة على الأخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلمية أحدهما مع علم المقلّد بأعلمية أحدهما ممنوعة لأن السيرة الفعلية على الفحص والتجسس عن الأعلم كما استقرّت السيرة الفعلية على الفحص عن الدكتور الحاذق الماهر وعن الخيّاط الماهر وعن الحدّاد المتخصّص (وعن و ...) كذا استقرّت على الفحص عن المجتهد الأعلم في صورة الشك والظنّ فضلا عن العلم بأعلمية أحدهما إجمالا.

ودعوى لزوم العسر والحرج في تقليد الأعلم على الأعلم بأن يتشخّص زيد مثلا أعلميّة نفسه من سائر المجتهدين العظام (رض) وهو يحتاج إلى التفتيش والمسافرة والغربة والاختبار كما اتّفقت هذه الأمور المذكورة للعلّامة الأنصاري صاحب الفرائد قدس‌سره حين اختير للمرجعية العامّة لأنّه سافر من النجف الأشرف إلى بلاد ايران كاصفهان وقم وطهران وخراسان لأجل تشخيص الأعلم من الفقهاء العظام حتى وصل إلى بلدة دار المؤمنين كاشان وتشرّف في محضر الفاضل النراقي صاحب المستند قدس‌سره وانكشف له كونه أعلم من جميع العلماء الأعلام (رض) ولهذا اختار تلمذه ثلاث سنين ثم حصل له اليقين بكون شخصه أعلم من الفاضل النراقي قدس‌سره ، ولهذا رتّب الصغرى والكبرى على هيئة الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة وقال : أنا أعلم من الفاضل النراقي والفاضل النراقي قدس‌سره أعلم من جميع

٣١٣

العلماء الأعلام (رض) فأنا أعلم من الجميع لأنّ الأعلم من الأعلم من الكل أعلم من الكل ، ثم رجع إلى مدينة باب العلم النجف الأشرف وتقبّل المرجعية الدينية فصار مرجعا عظيما عاليا.

قلنا : انّه لا عسر في تقليد الأعلم لا على شخص الأعلم لإمكان تشخّص أهل الخبرة أعلمية شخص أو للشياع المفيد للعلم بأعلميته بلا حاجة إلى تحمّل مشقّة التفتيش والمسافرة ولا على مقلّديه أيضا لإمكان أخذ فتاواه من رسائله وكتبه.

قوله : وليس تشخيص الأعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ...

وقد استدلّ بجواز التقليد عن المفضول مع وجود الأفضل في المسائل الخلافية بأن تشخيص الأعلمية أمر مشكل لا يتمكّن لكثير من الأشخاص تشخيصها فكيف يعقل وجوب تقليد الأعلم على المكلّفين؟ والحال ان التكليف فرع القدرة فاذا لم يقدر تشخيص الأعلم فلا يجوز عقلا تكليف العباد بالتقليد عنه.

قلنا : ليس تشخيص الأعلمية بأشكل من تشخيص أصل تحقّق الاجتهاد لشخص إذ يثبت اجتهاد شخص بالعلم الوجداني إذا كان المقلّد من أهل الخبرة وبشهادة عدلين من أهل الخبرة بشرط أن لا تكون معارضة بشهادة عدلين آخرين من أهل الخبرة بحيث ينفيان الاجتهاد عن شخص وبالشياع المفيد للعلم باجتهاد شخص وكذا تثبت الأعلمية بالعلم أو البيّنة الغير المعارضة أو الشياع المفيد للعلم.

وعليه ؛ إذا أمكن تشخيص الاجتهاد لشخص فقد أمكن تشخيص الأعلمية لشخص إذ هو ليس بأشكل منه. هذا ، مع أنّ مقتضى العسر الذي يلزم من تعيين الأعلم وتشخيصه لبعض الأشخاص أن يكتفى بموضع العسر والحرج وان ينفى في خصوص موضعهما وجوب تقليد الأعلم ولا يجوز نفيه كليّا حتى في مواضع غير العسر والحرج.

وخلاصة الكلام : ان القائلين بجواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل في

٣١٤

المسائل الخلافية بينه وبينه قد استدل على المدعى بوجوه ثلاثة :

الأوّل : اطلاق أدلّة جواز التقليد وهي غير مقيّدة بتعيّن التقليد عن الأفضل فهو يشمل تقليد المفضول ولو مع وجود الأفضل.

الثاني : لزوم العسر والحرج من جهة تعين التقليد عن الأعلم وهما ينفيان التكليف العسري والحرجي ، فليس المقلّد بمكلّف بتقليد الأفضل فقط.

الثالث : ان تشخيص الأعلمية مشكل فيلزم التكليف بغير الممكن عادة لو وجب تقليد الأفضل ، أما عند المصنّف صاحب الكفاية قدس‌سره فكلّها فاسد ، وقد سبق وجه فساد هذه الوجوه آنفا فلا حاجة إلى الإعادة.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

وهو تدقيقي بقرينة كلمة الجيّد.

في أدلّة المانعين عن تقليد المفضول

قوله : وقد استدلّ للمنع أيضا بوجوه : أحدها نقل الاجماع ...

وقد استدل المانعون عن تقليد المفضول بوجوه ثلاثة :

الأوّل : نقل الاجماع على تعيّن تقليد الأعلم كما ادّعاه المحقّق الثاني والشهيد الثاني قدس‌سرهما والسيد المرتضى في الذريعة وشيخنا البهائي (طاب ثراهما).

الثاني : الأخبار التي تدلّ صراحة ومطابقة على ترجيح الأفضل مع المعارضة كما في المقبولة عمر بن حنظلة (رضي الله تعالى عنهما) حيث قال الإمام عليه‌السلام فيها الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر.

قوله : أو غيرها ...

كرواية الصدوق قدس‌سره باسناده عن داود بن الحصين رضى الله عنه عن مولانا

٣١٥

الصادق عليه‌السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف واختلف العدلان بينهما عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال عليه‌السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر. أو التي تدلّ على اختيار الأفضل للحكم بين الناس وقد دلّ عليه المنقول في نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين سيّد الموحّدين إمام المتّقين عليه‌السلام : اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك. قال هذا الكلام لمالك بن أشتر النخعي رضى الله عنه.

الثالث : أن قول الأفضل أقرب إلى الواقع من قول المفضول جزما فيحكم العقل بتعيّن أخذ قول الأعلم.

قال المصنّف قدس‌سره : ولا يخفى عليك ضعف هذه الوجوه الثلاثة المذكورة ، أمّا الأوّل فلقوّة احتمال أن يكون وجه القول بتعيين تقليد الأعلم لكل الأشخاص الذين يدّعون الاجماع على وجوب تقليد الأعلم أو لجلّهم هو الأصل واصالة التعيين في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وذلك كصلاة الجمعة والظهر في يومها عصر غيبة ولي الله الأعظم (روحي له الفداء) إذ دور الأمر بين وجوب صلاة الجمعة تعيينا وبين وجوبها تخييرا بينها وبين الظهر فالعقل يحكم بإتيان صلاة الجمعة لأجل تحصيل اليقين بالفراغ بعد اليقين باشتغال الذمّة بإحدى الصلاتين ؛ امّا الجمعة وامّا الظهر. وكذا يدور الأمر فيما نحن فيه بين تعيّن تقليد الأعلم والتخيير بين تقليد الأفضل وبين تقليد المفضول فالاحتياط العقلي يقتضي التقليد عن الأفضل.

وعلى ضوء هذا يكون هذا الاجماع مدركيا. ومن المعلوم ان هذا الاجماع ليس بكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام وهو يكون مناط حجيّة الاجماع عند الشيعة وإذا كان مدركيا فمحطّ النظر والدقّة هو المدرك لا الإجماع.

فالنتيجة : أنّه لا مجال لتحصيل الاجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه‌السلام على فرض اتّفاق الكل هذا أوّلا.

٣١٦

وثانيا : ان هذا الاجماع منقول بغير الخبر المتواتر فلا يكون حجّة وقد تقدّم تحقيقه في بحث الاجماع المنقول فيكون نقله موهونا لأنّه مدركي مع أن حجيّة الاجماع المنقول فرع تحقّق الاجماع المحصّل الذي هو كاشف عن قول الإمام المعصوم عليه‌السلام والمحصّل منه غير حاصل لنا ، فالمنقول منه ليس بحجّة.

وأمّا الثاني فلأن الترجيح ـ أي ترجيح قول الأفضل على قول المفضول ـ مع تحقّق المعارضة والتخالف بينهما انّما يكون في مقام الحكومة والقضاوة لأجل رفع الخصومة التي لا ترتفع من بين المتخاصمين أو بين المتخاصمات إلّا بترجيح قول الأفضل على قول المفضول ، أمّا بخلاف المقام فانّه لا مانع عقلا ولا شرعا من كون المقلّد مخيّرا في مقام بين فتوى الأفضل وبين فتوى المفضول إذا كانا متعارضين وإلّا فالتخيير بينهما في مقام العمل ثابت بلا إشكال ، إذ لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين القضاء والافتاء كي يجب الرجوع إلى الأعلم فالاحتجاج بالمقبولة وغيرها لتعين تقليد الأعلم في غير محلّه كما لا يخفى.

وأمّا الثالث فممنوع صغرى وكبرى.

ولا يخفى عليك ان الوجه الأوّل والثاني ممنوعان كبرى فقط إذ صورة القياس على الأوّل بهذا النحو هذا الاجماع مدركي صغرى ؛ وكل الاجماع المدركي ليس بحجّة فالكبرى ممنوعة ، وصورة القياس على الوجه الثاني بهذا الشكل قول الأفضل ذو ترجيح ؛ وكل ذي ترجيح يقدّم على غيره. فقول الأفضل يقدّم على غيره ؛ إذ كل ذي ترجيح يقدّم على غيره في مقام القضاوة ورفع الخصومة ولا يقدّم عليه في مقام الفتوى والافتاء.

وأمّا الثالث فممنوع صغرى وكبرى ، إذ صورة القياس على هذا الوجه على هذا الشكل قول الأعلم أقرب إلى الواقع من قول غير الأعلم (وكل أقرب إلى الواقع يقدم فقول الأعلم يقدم) فهذا ممنوع من حيث كون قول الأفضل أقرب إلى الواقع إذ

٣١٧

يمكن أن يكون قول غير الأعلم موافقا لقول المجتهد الميّت الذي يكون أعلم من الحي الأعلم بالإضافة إلى المجتهد الذي يكون غير أعلم في زمان حياته.

فإن قيل : ان الأمر كذلك ، وأمّا فتوى الأفضل فهو أقرب إلى الواقع في حدّ نفسه وان لم يكن أقرب إليه من فتوى الأفضل الذي مات مثلا يكون فتوى زيد الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى بكر غير الأعلم في حدّ نفسه وإن لم يكن أقرب من فتوى خالد الأفضل من بكر ، ولكن مات خالد في زمان حياة زيد وبكر فيصحّ جعل فتوى الأعلم صغرى للكبرى.

قلنا : ينبغي أن لا يصغى إلى هذا الكلام فانّا لو سلّمنا هذا الكلام أي كون فتوى غير الأعلم باعتبار مطابقته مع فتوى المجتهد الميّت الذي هو أعلم من الأعلم الحيّ أقرب إلى الواقع ، فلا يصحّ أن يدّعى كون فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع يكون صغرى للكبرى التي يحكم العقل بتقديم الأقرب إلى الواقع على غير الأقرب إليه إذ لا فرق عقلا بين أن تكون الأقربية في الامارات إلى الواقع في حدّ نفسها وذاتها أو تكون بلحاظ الامارة الأخرى أي بلحاظ موافقتها لامارة أخرى وكذا الفتوى.

وعلى ضوء هذا ففتوى غير الأعلم وإن كان ذاتا وفي حدّ نفسه لا يكون أقرب إلى الواقع من فتوى الأعلم الحي ولكن هو باعتبار موافقته لفتوى الأفضل الذي مات يكون أقرب إلى الواقع وهذا المقدار يكفي لمنع جعل فتوى الأعلم صغرى للكبرى المذكورة وهي عبارة عن تقديم كل أقرب إلى الواقع على غيره كما لا يخفى.

وأمّا الكبرى فلأن ملاك حجيّة قول الغير تعبّدا ولو على نحو الطريقيّة إلى الواقع لم يعلم أنه القرب إلى الواقع حتى يقدّم قول الأفضل على قول المفضول عند المعارضة إذ نحتمل التساوي بين قول الأعلم وبين قول غير الأعلم ولا يكون الترجيح في البين أصلا بحيث لا تكون زيادة القرب دخيلة في الكشف عن الواقع

٣١٨

أصلا.

نعم لو أحرزنا انّ تمام ملاك حجيّة قول الغير تعبّدا أقربيته إلى الواقع كما يحكم العقل بأن فتوى القريب إلى الواقع حجّة لكان الأقرب حجّة على التعيين ولتعيّن الأقرب قطعا.

فالنتيجة : ان حال فتوى الأعلم وفتوى غير الأعلم عند التعارض كحال الخبرين الجامعين للشرائط عند التعارض ولم تكن المرجّحات المنصوصة في البين ، فالوظيفة حينئذ هو التخيير بينهما لتساويهما من جميع الجهات ، وكذا الوظيفة هو التخيير بين الأخذ بفتوى الأفضل وبين الأخذ بفتوى المفضول لتساويهما في هذه الناحية إذ ليس الملاك فيما نحن فيه أقربية إلى الواقع كي يقدّم قول الأعلم على غيره.

نعم ، إذا حكم العقل بأن تمام مناط حجيّة قول الأعلم أقربيته إلى الواقع وكانت الصغرى مسلّمة فتعيّن حينئذ على المقلّد أخذ قول الأعلم. وبهذا المطلب أشار المصنّف قدس‌سره بقوله : فافهم.

قوله : فافهم جيّدا فانّ المقام ينبغي أن يفهم كما لا يخفى ...

وهو تدقيقي بقرينة كلمة الجيّد. وقد يستدلّ لجواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل بالاستصحاب أوّلا ، وتقريبه : ان استصحاب التخيير بينهما ثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم والفضل ، فاذا صار أحدهما أعلم من الآخر فنشك في بقاء التخيير وزواله حينئذ ونستصحب بقائه لليقين الثابت السابق والشك اللاحق فأركان الاستصحاب تامّة. وفيه أن مناط التخيير في صورة تساويهما القطع بعدم المرجّح ولكن القطع بعدمه في صورة صيرورة أحدهما ، أي أحد المجتهدين أعلم من الآخر مفقود ، وذلك لاحتمال الأعلمية مرجّحا.

وعلى ضوء هذا فقد تقرّر في محلّه عدم جريان الاستصحاب مع زوال

٣١٩

وصف من أوصاف الموضوع لأجل كونه موجبا للشك في بقاء الموضوع لاحتمال دخل فيه. ومن الواضح مع الشك في بقاء الموضوع لا يجري الاستصحاب ، وقد مضى هذا المطلب في بحث الاستصحاب.

وباصالة البراءة ثانيا عن وجوب تقليد الأعلم على التعيين حيث لا نصّ في البين فيتخيّر المقلّد في التقليد من أيّهما شاء. وفيه : ان التخيير امّا عقلي ، وامّا شرعي ، وامّا تكويني.

الأوّل : يكون في افراد الكلي الذي تعلّق به الحكم الشرعي المولوي كما إذا قال المولى لعبده ان ظاهرت فاعتق رقبة ، فالعبد مخيّر عقلا بين عتق هذا الفرد من الرقبة وذاك الفرد منها إذ المراد إيجاد الطبيعة في ضمن أيّ فرد من أفرادها ومصاديقها وفي الواجبين المتزاحمين كالغريقين المسلمين الواجدين لملاك الوجوب للانقاذ.

والثاني : يكون فيما إذا قام الدليل الشرعي على التخيير ، وذلك كخصال الكفارة من العتق أو الصيام أو الاطعام.

والثالث : يكون في صورة دوران الأمر بين المحذورين كما إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة مع عدم المرجّح لأحدهما على الآخر فالتخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس بشرعي ولا عقلي ، أما عدم كونه شرعيا فواضح ، لأنّ حكم الشيء واقعا واحد إمّا الوجوب فقط وإمّا الحرمة فقط لتضادّ الأحكام التكليفية ، وأمّا عدم كونه عقليّا فلأجل عدم الملاك في كل واحد من الفعل والترك كي يحكم العقل بالتخيير حفظا لأحد الملاكين كما في الواجبين المتزاحمين إذا علم هذا المطلب فقد علم أنّه ليس أحد من التخيير فيما نحن فيه بموجود وإذا ليس التخيير في المقام بموجود فلا تجري اصالة البراءة عن تقليد الأعلم والعقل الذي هو الرسول الباطني يحكم بتقليده من جهة دوران الأمر بين التعيين والتخيير

٣٢٠