البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

وكذا لا تمكن معرفة فرق التشبيه والاستعارة ، وكذا فرق المجاز والكناية والحقيقة إلّا بعلم البيان ؛ وكذا لا تكون مقدورا معرفة القضايا الحملية والشرطية وكذا الفرق بين القياس الاقتراني والقياس الاستثنائي وتشخيص الإشكال الأربعة كل واحد واحد منها عن الآخر والامتياز بين إمكان العام والامكان الخاص وكذا الفرق بين الضرورة والدوام وكذا الامتياز بين القضية المحصّلة والمعدولة والصادقة والكاذبة وعقد الوضع وعقد الحمل إلّا بعلم المنطق والميزان.

وعلى ضوء هذا فيتوقّف الاطلاع على الأمور المذكورة الموجودة في الكتاب المقدّس والأخبار المأثورة عن أئمّتنا الطاهرين عليهم‌السلام على الاطلاع على العلوم العربية.

وعلى طبيعة الحال فقد أصبح الاجتهاد حال كونه محتاجا إلى معرفة علم الصرف والنحو واللغة والمعاني والبيان.

فإن قيل : ان الاجتهاد يتوقّف على معرفة آيات الأحكام وأخبار الأحكام ومعرفتهما تتوقف على علم اللغة فقط ، أي معرفة معانيهما تتوقّف على معرفة معاني لغات العرب فقط ولا تتوقّف على غيرها من الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان.

قلنا : ان معرفة المعاني تتوقّف على اللغة. امّا معرفة ذوات كلماتهما ومعرفة أحوالها وأوصافها ومعرفة علل تعريفها وتنكيرها وتقديمها وتأخيرها ومعرفة مجازها وحقيقتها وكنايتها واستعارتها وتشبيهها وقياساتها تتوقّف على معرفة قواعد العلوم المذكورة ومعرفة كل تلك الأمور دخيلة في الاجتهاد والاستنباط لاشتمال آيات الأحكام وأخبار الأحكام على الأمور المذكورة ولكن تلزم المعرفة بالقواعد وبالأمور المذكورتين في الجملة أي المعرفة بقواعد العلوم العربية المذكورة بحيث يقتدر على معرفة الأمور التي يبتنى عليها الاجتهاد الفعلي في

٢٨١

المسألة من المسائل الشرعية بسبب المراجعة إلى الكتب التي دوّنت في كل واحد من العلوم العربية أي لا يشترط في الاجتهاد معرفة القواعد بالفعل بل تكفي ملكة معرفتها في تحقّق الاجتهاد الفعلي كما لا يخفى.

وكذا يحتاج الاجتهاد إلى معرفة التفسير في الجملة أي بأن يقتدر المجتهد بمعرفة تفسير آيات الأحكام إذا رجع إلى كتب التفاسير ، وهي خمسمائة آية على المشهور وكذا يشترط في الاجتهاد العلم بمواقع آيات الأحكام في القرآن المجيد أو في الكتب الاستدلالية بحيث يقتدر عليها كلّما يريد الآيات المتعلّقة بالأحكام الإلهية. وكذا يشترط فيه العلم بمواقع أخبار الأحكام في الكتب التي دوّنت ورتّبت فيها ؛ وكذا يشترط فيه العلم بمواقع الاجماعات حتى يحترز عن مخالفتها ولا تلزم معرفة هذه الأمور بالفعل بل تكفي ملكة معرفتها وكذا لا يلزم العلم الفعلي بمواقعها بل يكفي استعداد العلم والمعرفة بها ولا يحتاج الاجتهاد إلى معرفة قواعد علم العروض وهو علم يبحث فيه عن كيفية الأوزان والقوافي.

وعليه لا دخل لمعرفتها في الاجتهاد أصلا وكذا علم البديع حرفا بحرف وهو علم يبحث فيه عن محسّنات الكلام من الاستخدام والتورية والايهام والجناس والطباق والترصيع وغيرها وكذا يشترط فيه العلم بقواعد علم الهيئة وبقواعد علم الحساب في الجملة أي تشترط معرفة القواعد منهما مقدارا يتوقّف عليه تشخيص القبلة والأوقات تشترط وبيان كمية التوارث وكيفيته ولا يشترط العلم بما زاد عليه.

قال العلّامة المشكيني قدس‌سره : وامّا علم البلاغة من المعاني والبيان والبديع فلا يحتاج إليه الفقه الشريف. نعم في بعض مسائل علم البيان مثل بحث الحقيقة والمجاز يكون محتاجا إليه إلّا أنه لكون هذه المباحث منقّحة في علم الأصول لا يكاد يكون موقوفا عليه تعيينا. والكلام في الموقوف عليه التعييني. انتهى كلامه رفع مقامه.

٢٨٢

ولكن الانصاف يقتضي الاحتياج إليه وقد مرّ وجهه.

وأمّا علم الرجال فإن قلنا : بأن الملاك في صحّة العمل بأخبار الآحاد هو الاطمينان والوثوق بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام وهما يحصلان بعمل المشهور بها وان كانت رواتها غير موثقين.

وإن قلنا : ان اعراض المشهور عنها يوجب الاطمينان بعدم صدورها عن المعصوم عليه‌السلام وان كانت رواتها موثوقا بهم فيقلّ الاحتياج إلى علم الرجال إذ بناء على هذا المبنى يكون الملاك في جواز العمل بالأخبار وعدمه هو عمل المشهور بها وعدمه وعملهم بها وعدمه يظهر لنا من نفس الكتب الفقهية ومن فتاواهم وأقوالهم بلا حاجة إلى علم الرجال.

نعم إذا كانت المسألة غير معنونة في طيّ كلماتهم فلا بدّ حينئذ في العمل بها من معرفة رواة الحديث ليحصل الاطمينان والوثوق بوثاقتهم وبصدورهم.

وأمّا إن قلنا : بأنّ الملاك في جواز العمل بالروايات انّما هو وثاقة رواتها وأنّه لا عبرة بعمل المشهور أصلا أو اعراضهم عنها كما هو رأي سيّدنا الاستاذ الخوئي قدس‌سره فتكثر الحاجة حينئذ إلى علم الرجال واستكشاف أحوال الرواة من حيث الوثاقة وعدمها ومن حيث صحّة العقيدة وفسادها ومن حيث مكشوف الحال ومن حيث مجهول الحال ، وهذا واضح لا غبار عليه.

قوله : وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول ضرورة أنه ما من مسألة ...

قال المصنّف قدس‌سره : وأمّا علم الأصول فتوقّف الاستنباط عليه أوضح من أن يخفى ضرورة أنّه ما من مسألة إلّا ويحتاج في استنباط حكمها من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة إلى قاعدة أو قواعد برهن إنيّا أو لميّا عليها في علم الأصول.

وبتقرير أوضح ؛ وهو أنّه لا بدّ في استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة من معرفة المباحث الأصولية من بحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والمطلق

٢٨٣

والمقيّد والمفاهيم والمجمل والمبيّن ومباحث الحجج ومباحث الأصول العقلية والشرعية والتعادل والتراجيح ولا بدّ من تنقيح كل ذلك بالنظر والاجتهاد لا بالتقليد وإلّا لا يصدق عليه عنوان العارف والفقيه والناظر في الحلال والحرام وما من مسألة إلّا برهن عليها مقدّمة في نفس المسألة الفرعية كما هو طريقة الأخباري كصاحب الحدائق قدس‌سره فانّه تعرّض عدّة من قواعد علم الأصول وجملة من مسائله في مقدّمة الحدائق حذرا من تصنيف كتاب مستقل حيث زعم أن تصنيف كتاب مستقل في علم الأصول بدعة حيث لم يكن علم الأصول موجودا في عصر الرسول الأكرم (صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم) وفي زمان ظهور الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

قال المصنّف قدس‌سره : وتدوين تلك القواعد الأصولية التي يحتاج المجتهد إليها على حدة لا يوجب كونها بدعة وعدم تدوينها في زمان المعصومين عليهم‌السلام لا يوجب بدعة وإلّا كان تدوين علم الفقه وعلم النحو وعلم الصرف بدعة ، والحال أنه لم يقل به أحد من الأعلام (رض).

وبالجملة : لا محيص للمجتهد الذي يستنبط الأحكام عن مداركها وأدلّتها أن يرجع إلى المسائل الأصولية من حيث البناء على قواعد الأصول بحيث يصير صاحب المبنى ولا يمكن له الاستنباط بلا اختيار المبنى في قواعد علم الأصول سواء كان المستنبط أصوليا أم اخباريا.

فالنتيجة : ان تدوين القواعد الأصول وتنظيمها التي تقع مورد الاحتياج في مقام الاجتهاد والاستنباط على حدة في الكتاب المستقلّ بحيث يكون المجزى عن الكتب الفقهية ليس بدعة من حيث عدم كون القواعد الأصولية في عصر الرسول الأكرم (صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم) وفي عصر ظهور الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وإلّا لكان تدوين وتنظيم علم الفقه الشريف والصرف والنحو وأمثالها بدعة كما سبق هذا.

٢٨٤

قوله : نعم يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة ...

قال المصنّف قدس‌سره : ان الاحتياج أي احتياج الاجتهاد إلى معرفة قواعد علم الأصول واضح مسلّم إذ عمدة أدلّة الأحكام هي الكتاب والسنّة وهما مشتملان على النص والظاهر والأظهر والعام والخاص والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن والحقائق والمجازات وهذه الأمور يتعارض بعضها مع بعض ، وذلك كتعارض النص والظاهر وكتعارض الأظهر والظاهر وكتعارض العام والخاصّ وكتعارض المطلق والمقيّد.

وعليه لا ريب في احتياج الاجتهاد إلى معرفة قواعد باب التعارض وإلى معرفة أحكام التعارض من السقوط والتساقط والرجوع إلى أصل عملي أو التخيير بين المتعارضين بعد التصرّف في أحدهما وحمل أحدهما على الآخر وتشخيص مجاري الأصول العملية وشرائطها وشرائط تعارض الخبرين وتعارض الأصل والظاهر وشرائط تعادل الخبرين وشرائط ترجيح أحدهما على الآخر.

ولا ريب في ان علم الأصول يتكفّل للبحث عن هذه الأمور المذكورة وتشخيص صيغ الأوامر من حيث الحقيقة والمجاز وتثبيت صيغة النهي حقيقة في الحرمة أو الكراهة وتشخيص تعارض افعل ولا تفعل دخيلة في استنباط الأحكام الإلهية عن الكتاب والسنّة ولا يخفى عليك ان علم الأصول يبيّن هذه الأشياء المذكورة.

فانقدح لك كون علم الأصول عمدة ما يحتاج إليه الاجتهاد ، ولهذا يقال ان كل أصولي مجتهد وكل مجتهد أصولي ، ولكن احتياج الاجتهاد إليه مختلف بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص من حيث الشدّة والضعف والزيادة والنقصان إذ بعض المسائل يكون مدركه واضحا سندا ودلالة بأن يكون صحيحا اعلائيا وإذا رجع المجتهد إلى القواعد الأصولية ويعلم منها حجية الأخبار الصحاح وحجية

٢٨٥

الظواهر ويستنبط حكم المسألة منه ولا يحتاج إلى شيء آخر بل يحتاج إلى اثبات حجية الظواهر وحجية الأخبار الآحاد وعلم الأصول يتكفّل بيان هذين الأمرين أما بخلاف ما إذا كان مدرك المسألة غير واضح من حيث الدلالة وغير تام من حيث السند فكانت القواعد الأصولية التي تكون مورد الحاجة في مقام الاستنباط والاستخراج أزيد من القاعدة الواحدة الأصولية كما إذا كان مدرك المسألة مختلفا من حيث الظاهرية والأظهرية ومن حيث العمومية والخصوصية فلا بدّ للمجتهد أن يلاحظ إلى قاعدة تعارض الظاهر والأظهر مرّة ، واخرى يرجع إلى قاعدة تعارض العام والخاص فثبت احتياج المجتهد إلى إعمال القاعدتين من قواعد علم الأصول كي يستنبط حكم المسألة الشرعية هذا اختلاف الاحتياج إلى علم الأصول على حسب اختلاف المسائل.

وأمّا بيان الاختلاف إلى علم الأصول بحسب اختلاف الأزمنة فلأنّ مدارك الاجتهاد في الصدر الأوّل آيات وروايات وكان المجتهد في عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي عصر ظهور الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام من أهل اللسان ولا يحتاج إلى الصرف والنحو واللغة والبيان ، وقد ثبتت عنده حجّية الظواهر وقد عمل في مقام المعارضة بالطريق الذي قد سمعه عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وسأله عنهم عليهم‌السلام ويعمل في مقام تعارض الروايات على طبق ما سمعه عنهم عليهم‌السلام من التخيير أو الترجيح. أمّا بخلاف الأزمنة اللاحقة فان الاحتياج إلى علم الأصول يكون أزيد إذ يحتاج إلى المراجعة في الكتب الأصولية حتى يختار المبنى لنفسه فيحقّق اجتهاده على طبق مبناه. هذا بيان اختلاف الاجتهاد إلى علم الأصول على حسب اختلاف الأزمنة من حيث القرب بعصر الشارع المقدّس والبعد عنه.

فانقدح لك ان الاجتهاد كان خفيف المئونة في الصدر الأوّل كما انه يكون كثير المئونة في زماننا هذا وفيما بعد زماننا هذا يكون أكثر المئونة. هذا بيان

٢٨٦

اختلاف الاجتهاد إلى علم الأصول من حيث الشدّة والضعف ومن حيث الزيادة والنقيصة.

وأمّا بيان الاختلاف إلى علم الأصول بحسب اختلاف الأشخاص فلأنّ بعضهم أصولي يحتاج احتياجا شديدا من حيث الاجتهاد والاستنباط إلى اعمال قواعد علم الأصول في كل باب من أبواب الفقه الشريف ، وبعضهم أخباري يحتاج إلى علم الأصول احتياجا خفيفا في مقام الاجتهاد والاستخراج إلى اعمال قواعده وبعضهم سريع الذهن وجيّد الفهم يستنبط الأحكام من مداركها المقرّرة سريعا. وبعضهم بطيء الذهن ورديء الفهم يستنبط الأحكام من مداركها وأدلّتها بطيئا.

وعلى ضوء هذا يكون احتياج الأوّل إلى علم الأصول كثيرا ، والثاني قليلا هذا مضافا إلى كون بعضهم انفتاحيا وبعضهم الآخر انسداديا. فالأوّل يحتاج كثيرا إلى مباحث علم الأصول كمباحث حجيّة الظواهر ومباحث حجيّة الأخبار و ... والثاني يحتاج قليلا إليها كما لا يخفى.

في التخطئة والتصويب

قوله : فصل اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات واختلف في الشرعيات ...

اتفقت العامّة والخاصّة على التخطئة في العقليات وفي غير أحكام الشرعية من الموضوعات الخارجية والأحكام العقلية الصرفة ؛ كاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما وكاستحالة اجتماع الضدّين ، وككون الكل أعظم من الجزء ، وكاعتقاد بأن هذا زيد العادل وذاك عمرو الفاسق ، وأن هذا حيّ ، وذاك ميّت ، وأن هذا فقير ، وذاك غني و ... وأما المشروعات فالكل قائل بالتخطئة فيها أي يكون لله تعالى في كل موضوع حكم يشترك فيه جميع البشر أما اعتقاد المجتهد فقد يكون موافقا معه

٢٨٧

وقد يكون مخالفا له والعامّة قائلون بالتصويب أي يكون رأي المجتهد موافقا معه دائما فلله تعالى حكم واحكام بعدد آراء المجتهدين (العظام).

فالنتيجة : كل حكم استنبط المجتهد من المدارك فهو حكم الله تعالى إذ حكم الله تعالى تابع للاجتهاد ورأي المجتهد على هذا المبنى.

قال المصنّف قدس‌سره : ان هذا الكلام من العامّة غير صحيح لأن الاجتهاد وبذل الجهد في حكم المسألة يكون معقولا إذا كان للمسألة في الواقع حكم كي يكون المجتهد في صدد استنباطه وحتى يظفر عليه عن طريق أدلّته بحسب الظاهر.

وعلى ضوء هذا الأمر فلا يكون الحكم الشرعي تابعا للاجتهاد بل يكون الاجتهاد تابعا للحكم الشرعي فاذا تمهّدت هذه المقدّمة الوجيزة فيقال : انه إذا كان غرض العامة من التصويب جعل الأحكام في الواقع على حسب تعدّد آراء المجتهدين العظام أي تكون الأحكام التي تنتهي إليها اجتهادات المجتهدين الكرام أحكاما واقعية كما تكون أحكاما ظاهرية. فلا ريب ان هذا الكلام فاسد جدّا بملاحظة الأخبار المتواترة وإجماع الأصحاب (رض) القائمين على أن الله (تعالى) في كل واقعة وحادثة حكما من الأحكام يشترك فيه جميع المكلّفين أعم من العالم والجاهل.

قال المصنّف قدس‌سره : ان هذا الكلام في حدّ نفسه ممكن ثبوتا وليس بمستحيل واقعا وإذا كان غرضهم منه هو الالتزام بانشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام (رض) بعد اجتهادهم واستنباطهم فيقال : ان هذا المعنى من التصويب غير معقول وليس بممكن ثبوتا فكيف يتفحّص المجتهد عن الحكم الذي ليس له عين ولا أثر في الواقع؟ وكيف يستظهر من الآية الشريفة والخبر المبارك؟

فالتصويب على نحوين :

الأوّل : يكون ممكنا ثبوتا.

٢٨٨

والثاني : يكون مستحيلا ثبوتا ولكن كلاهما خلاف الأخبار المتواترة واجماع الأصحاب (رض). هذا وجه بطلانهما.

وأمّا وجه إمكان الوجه الأوّل من التصويب الباطل فلعدم كون الواقع واللوح المحفوظ خاليين عن الأحكام الواقعية وإن كانت بحسب آراء المجتهدين العظام فيصح الاجتهاد حينئذ.

وامّا وجه استحالة النحو الثاني منه فلخلوّ الواقع عن الأحكام فلو لم يكن قبل اجتهاد المجتهد حكم واقعي ففي أيّ حكم يجتهد المجتهد وعن أيّ حكم يتفحّص المتفحص وعلى أيّ حكم يستقرّ رأيه ويؤدّي إليه ظنّه.

قوله : إلّا أن يراد التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي وأن المجتهد ...

أشار المصنّف قدس‌سره إلى النحو الثالث من التصويب وقال إن كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بأحكام فعليّة على وفق آراء المجتهدين العظام فلا يستحيل التصويب بهذا المعنى فانّ المحال هو التصويب في ناحية الحكم الانشائي دون الفعلي. وعليه فالالتزام بانشاء أحكام واقعية بعدد آراء المجتهدين يكون على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يقال بانشاء الأحكام في اللوح المحفوظ من قبل اجتهاد المجتهدين العظام على طبق ما يؤدّي إليه ظنّهم ويستقر عليه رأيهم وهذا النحو من التصويب باطل جدّا وقد سبق تحقيق بطلانه من تواتر الأخبار والاجماع على الحكم الواقعي الذي يشترك فيه العالم والجاهل وليس التواتر من الأخبار والاجماع الذي انعقد من جميع الأصحاب (رض) بموجودين على الأحكام المتعدّدة في الواقع بعدد آراء المجتهدين العظام بحيث يختص بكلّ واحد منهم حكم.

النحو الثاني : أن يقال بانشائها من بعد اجتهادهم على طبق ما أدّى إليه ظنّهم من دون أن يكون حكم واقعا في الواقع ، وهذا النحو منه مضافا إلى بطلانه كما

٢٨٩

مرّ تحقيقه غير معقول ومستحيل وقد سبق وجهه.

النحو الثالث : أن يلتزم بانشائها من بعد اجتهادهم على طبق ما أدّى إليه ظنّهم ويستقر عليه رأيهم لكن مع الاقرار بأن حكما واقعا موجود من قبل الاجتهاد يشترك فيه جميع المكلّفين إلى يوم القيامة ، ولكن هذا النحو من التصويب ليس بباطل وهو أمر معقول ثبوتا ولكن ليس الدليل عليه إثباتا. وعلى هذا النحو من التصويب يتفحّص المجتهد عن الحكم الواقعي الانشائي إلّا أن ما أدّى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي ولمقلّديه حقيقة فهو يختلف من حيث الالزام فعلا أو تركا ومن حيث عدم الالزام باختلاف آراء المجتهدين الكرام ضرورة فلا يشترك في الحكم الواقعي العالم والجاهل من جهة اختلافه باختلاف الآراء والحكم الانشائي الذي يشترك فيه العالم والجاهل ليس بحكم حقيقة في حق الجميع لأنّه إنشاء لم يصل إلى حدّ الفعلية والحكم الحقيقي هو الحكم الفعلي الذي بلغ مرتبة البعث والتحريك والزجر والمنع بحيث يكون له عصيان وطغيان وإطاعة وانقياد لوصوله إلى مرتبة التنجّز بواسطة العلم به والحكم الانشائي ليس كذلك أي ليس له بعث وزجر وإطاعة وعصيان ، ولكن ليس التصويب بهذا المعنى بمستحيل عقلا وهو ليس بممنوع شرعا بل لا محيص عن هذا التصويب في الجملة أي في حال الانسداد دون حال الانفتاح بناء على اعتبار الأخبار وحجّيتها من باب السببيّة والموضوعية لا من باب الطريقية كما هو مختار المصنّف قدس‌سره ومن تبعه. وقد سبق تحقيق هذا المطلب في بحث حجّية الأخبار ، وربّما يشير إلى التصويب في الحكم الفعلي قول المشهور ان ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم أو علمية الحكم الذي هو مؤدّى الامارة لأن موضوعية الامارة مستلزمة للقطع بكون مؤدّاها حكما فعليا وهذا القول يلائم مع التصويب الفعلي لا مع القول بالطريقية في حجّية الامارات كما لا يخفى.

قوله : نعم بناء على اعتبارها من باب الطريقية كما هو كذلك ...

٢٩٠

نعم بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية على ما تقدّم شرحه في بحث إمكان التعبّد بالامارات فمؤدّيات الطرق والامارات ليست أحكاما حقيقية نفسية ناشئة عن مصلحة أو مفسدة حادثتين في المتعلّقات بسبب قيام الامارات بل هي أحكام ظاهرية طريقية قد شرّعت لأجل الوصول بها إلى الأحكام الواقعية بل قد سبق من المصنّف قدس‌سره أن المجعول في الطرق والامارات هو مجرّد جعل المنجزيّة عند الاصابة والعذرية عند الخطاء بلا جعل الحكم في المؤدّى.

وعليه فلا يكون الحكم بموجود أصلا إلّا الحكم الواقعي كما أنه لا تصويب على مبنى المصنّف قدس‌سره في موارد قيام الطرق والامارات إذ بناء على هذا المبنى يكون معنى جعل طريقية الامارات تنزيلها منزلة العلم وجعل الحجية لها وهي حكم وضعي وليست بحكم تكليفي كي يلزم التصويب ، ولكن العقل يحكم بوجوب اطاعة الحجّة سواء كانت حجيّة الحجّة ذاتيا كالعلم أو جعليا كالطرق والامارات ففي مورد الامارات يكون صرف حكم العقل موجودا وليس الحكم لا ظاهري نفسي ولا طريقي نفسي ولا مماثل الحكم الواقعي بموجود في موارد قيام الامارات والطرق ، بناء على مبنى الطريقية.

نعم يكون في موارد الأصول النقلية كالبراءة والاستصحاب حكما ظاهريا إذ لا محيص من جعله في مواردها.

فالنتيجة : أن الحكم الواقعي يصير منجّزا على المكلف في الموارد التي قامت فيها الحجة والامارة المعتبرة عليه ويكون غير منجّز بل يكون غير فعلي في الموارد التي لم تقم فيها الحجة المصيبة ولا الامارة المعتبرة المصيبة سواء لم تكن الحجّة أصلا كما في موارد فقدان النص أم كانت موجودة ولكن لم تكن مصيبة للواقع.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

٢٩١

كي تعرف غرض أصحاب التصويب وهو عبارة عن نفي أصل الحكم قبل الاجتهاد.

وعليه يرجع هذا الوجه الثالث إلى الوجه الثاني من التصويب كما لا يخفى ، وقد سبق تحقيق فساد التصويب الذي يكون في الأحكام الشرعية. وأمّا التصويب في الأحكام العقلية فهو مستحيل قطعا بداهة ان القائل بإمكان إعادة المعدوم والقائل بامتناعه وكذا القائل بجواز اجتماع الأمر والنهي ؛ والقائل بامتناعه لو كانا مصيبين للواقع للزم كون شيء واحد ممكنا وممتنعا ، وهذا محال عقلا.

في اضمحلال الاجتهاد السابق

قوله ؛ فصل إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدّل الرأي الأوّل بالآخر أو بزواله بدونه ...

إذا حصل تبدّل الرأي للمجتهد واضمحل اجتهاده الأوّل مثلا أفتى أوّلا بعدم وجوب السورة في الصلاة ثم بنى على وجوبها فيها ولا شك في إتيان الأعمال اللاحقة بعد الاجتهاد الثاني على وفقه ، وأمّا الاجتهاد الأوّل الذي اضمحلّ فهو ليس بحجّة بالإضافة إلى الأعمال اللاحقة لنفس المجتهد ولا لمقلّديه ، فهذا لا إشكال فيه. وانّما الكلام في الأعمال السابقة على الاجتهاد الثاني وأوتيت على طبق الاجتهاد الأوّل فهل هي محكومة بالصحّة مطلقا أو البطلان مطلقا أو فيها تفصيل بين العبادات والمعاملات وبين أن يكون الاجتهاد السابق ناشئا من دليل علمي كالخبر المتواتر أو من دليل ظنّي كالامارات غير العلمية بحيث تكون المعاملات صحيحة دون العبادات وبحيث تكون الأعمال السابقة التي كانت مستندة إلى الاجتهاد العلمي صحيحة ، وامّا الأعمال السابقة التي كانت مستندة إلى الاجتهاد الظنّي فهي محكومة بالبطلان.

٢٩٢

قال المصنّف قدس‌سره : فلا شبهة في عدم الاعتبار بالاجتهاد السابق في الأعمال اللاحقة ولا إشكال في لزوم اتباع الاجتهاد اللاحق بالاضافة إلى الأعمال اللاحقة ، وامّا الأعمال السابقة الواقعة على وفق الاجتهاد السابق التي اختلّ فيها ما اعتبر في صحّتها بحسب الاجتهاد اللاحق فلا بدّ من معاملة عدم البطلان مع الأعمال السابقة في الموارد التي لم يقم دليل على صحّة العمل إذا اختلّ ما اعتبر في العمل لعذر من السورة والوقت ، كما إذا أفتي بتحقّق الغروب الشرعي بغروب الشمس من أفق السماء قبل ذهاب الحمرة المشرقيّة من أعلى الرأس أو أفتى بعدم وجوب السورة ، ثم تبدّل رأيه واختار في تحقّقه ذهاب الحمرة المذكورة منه ووجوب السورة ، فانّه لا يجب قضاء الصوم ولا قضاء الصلاة إذا أفطر صيامه هو أو مقلّدوه صومهم عند الغروب أو صلّى هو أو مقلّدوه عنده ، لدلالة حديث شريف «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود» (١) الحديث. وحديث الرفع وهو مشهور ، وهو عبارة عن قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» (٢) على عدم وجوب القضاء المذكور بناء على شموله أحكام الوضعية مثل الجزئية والشرطية وهو يرفعهما في حال الجهل ، بل الاجماع قائم على الاجزاء في العبادات كما ادّعى هذا الاجماع ومعاملة البطلان مع الأعمال السابقة واضحة في الصورة التي حصل القطع بالحكم بحسب الاجتهاد الأوّل ، والحال قد اضمحل الاجتهاد الأوّل ضرورة أنه لا حكم شرعا مع القطع لا الحكم الواقعي ولا الحكم الظاهري.

وامّا عدم الأمر واقعا فلأجل انكشاف الخلاف وأما عدم الأمر ظاهرا فلأنّ

__________________

١ ـ الوسائل ج ٤ الباب الواحد من أبواب قواطع الصلاة ح ٤ ص ١٢٤.

٢ ـ الخصال للصدوق قدس‌سره ج ٢ باب التسعة ص ٤٨٥.

٢٩٣

لزوم متابعة القطع يكون بحكم العقل ومن لوازم حجّيته الذاتية فلا أمر من الشارع المقدّس بمتابعته إذ ليست متابعته بقابلة للجعل وقد سبق تحقيق هذا في أوّل مبحث القطع ولكن القطع موجب لمعذورية العامل به وعدم مؤاخذته على مخالفة الواقع وكذلك لا بدّ من معاملة البطلان في الموارد التي ثبت الاجتهاد السابق بامارة معتبرة ثم انكشف خطاؤها فتبدّل الرأي للمجتهد على نحوين :

أحدهما : أن يكون الاجتهاد الأوّل موجبا للقطع بالحكم الشرعي كما إذا قطع المجتهد بعدم وجوب السورة مثلا من الدليل الذي يفيد القطع بعدم وجوبها لاقترانه بالقرينة التي تفيد القطع بعدم وجوبها ثم انكشف الخلاف وكان القطع جهلا مركّبا غير مطابق للواقع.

ثانيهما : أن يكون الاجتهاد الأوّل موجبا للظن الاطميناني بالحكم ، كما إذا حصل الظنّ به له من الدليل غير العلمي ، وذلك كالامارة المعتبرة ثم تبيّن خطائها بالظفر بالمقيّد كما إذا أفتى باجزاء عتق مطلق الرقبة في كفارة الظهار ، مثلا ثم انكشف المقيّد المعتبر بحيث لا يجزي فيها إلّا عتق خصوص المؤمنة منها أو بالمخصص كما إذا أفتى أوّلا بوجوب اكرام جميع العالم ثم انكشف له المخصص بحيث لا يجب إلّا اكرام العدول من العلماء ، أو بالمعارض القوي كما إذا أفتى أوّلا بوجوب الإقامة في الصلاة ثم تبيّن للمجتهد المعارض القوي الذي يدلّ صراحة على استحبابها فيها وهو يعارض الدليل الذي يدلّ على وجوبها ولكن هذا المعارض يكون أرجح وأقوى من حيث السند أو من حيث الدلالة من الدليل الذي يدل على الوجوب ولكن ليس البطلان بثابت على جميع المباني والمذاهب في حجيّة الامارات غير العلمية بل على مبنى المصنّف قدس‌سره ومن تبعه من حجيّتها منجزية الواقع عند الاصابة والمعذّرية عند الخطاء ، وعلى مبنى : من قال بجعل

٢٩٤

الأحكام الظاهرية في مؤدّى الامارات غير العلمية.

أما البطلان على مسلك الطريقية المحضة فلوضوح عدم حكم ظاهري مماثل للواقع كي يدخل في مسألة اجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي فالحكم الواقعي باق على حاله بحيث تجب موافقته بعد كشف خطاء الاجتهاد الأوّل. وأمّا البطلان بناء على جعل الأحكام الظاهرية الطريقية فلأنّ الأحكام الظاهرية الطريقية الناشئة عن مصلحة سلوك الامارة لا تصادف الواقع بعد كشف الخلاف بحيث لا تجبر مصلحته.

وعلى طبيعة الحال فالواقع باق على حاله أيضا فتجب موافقته بعد كشف الخلاف في الاجتهاد السابق ، ولكن لا فرق في البطلان أي بطلان الأعمال السابقة ، بين تعلّق الاجتهاد السابق بنفس الأحكام الشرعية وذلك كوجوب صلاة الجمعة تخييرا بينها وبين الظهر ثم انكشف وجوبها تعيينا ، وبين تعلّقه بمتعلّقات الأحكام الشرعية كما إذا أفتى أولا بأن صلاة الفريضة مركّبة من تسعة أجزاء من النيّة والتكبيرة والحمد والركوع والسجود والذكر والتشهّد والصلاة على النبي وآله الأطهار والتسليم ثم انكشف الخلاف وثبت انها مركّبة من عشرة أجزاء بإضافة السورة الكاملة بعد الحمد.

وامّا الوجه في عدم الفرق بين تعلّق الاجتهاد الأوّل بنفس الأحكام ؛ وبين تعلّقه بمتعلّقاتها فهو عبارة عن وحدة كيفيّة حجيّة الامارات على ثبوت الأحكام بها وعلى ثبوت متعلّقاتها بها فلأنّه بناء على الطريقية المحضة في الامارات كما هي مختار المصنّف قدس‌سره لا حكم إلّا الحكم الواقعي وليس الموضوع بموجود إلّا الموضوع الواقعي من دون أن يكون التغيّر فيهما أصلا بقيام الامارات على خلافهما.

وعلى ضوء هذا فلا وجه للتفصيل بين الأحكام وبين متعلّقاتها كما قال به صاحب الفصول في الفصول واستدل أوّلا بأن المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين بخلاف الأحكام فانّها متحمّلة للاجتهادين لأنّ الأحكام قابلة للتغيّر والتبدّل إذ

٢٩٥

يمكن أن يكون شرب الماء مباحا بالاصالة في الشريعة المقدّسة وقد يصير واجبا لحفظ الناس عن هلاك العطش.

وعليه إذا أفتى أوّلا بإباحته لزيد الذي يكون ذا عطش ثم تبيّن له أنه واجب عليه بالعارض لأجل حفظ النفس عن الهلاك فيكون الاجتهادان الأوّل والثاني صحيحين ولا يحكم بالبطلان أما بخلاف المتعلّقات فانّها غير قابلة للتغيّر والتبدّل فيحكم بالبطلان. وعليه فيكون الصحيح فيها هو الاجتهاد الثاني فقط.

وقد أجاب المصنّف قدس‌سره عنه : بأنّه لا فرق بين الأحكام والمتعلّقات من ناحية تغيّر الاجتهاد والاستنباط فان الواقع فيهما واحد لا يتحمّل الاجتهادين أصلا وقد عيّن الواقع بالحكم الذي ظهر خطائه ثانيا أو قد عيّن الواقع بالموضوع الذي انكشف خلافه بالاجتهاد الثاني ، وهذا الجواب متين جدّا.

واحتج ثانيا على صحّة الأحكام وعلى بطلان المتعلّقات بلزوم العسر والحرج المنفيين في الشريعة الغرّاء ، إذا قلنا ببطلان الأحكام والمتعلّقات بل قلنا ببطلان الأحكام فقط دون المتعلّقات وبالعكس دفعا للزوم العسر والحرج ، إذ بناء على بطلان العبادة السابقة ولزوم إعادتها يوجبان العسر الشديد والحرج الأكيد على المكلّفين.

وقد أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بجوابين :

أحدهما حلّي : وهو عبارة عن أن وجوب العمل على طبق الاجتهاد الثاني عبارة عن عدم ترتيب الأثر على المعاملة ، وذلك كعدم انتقال الثمن إلى البائع وعدم انتقال المثمن إلى المشتري في عقد البيع مثلا ، وعبارة عن لزوم إعادة العبادة وهو لا يكون إلّا أحيانا ولا يكون دائما كي يلزم العسر والحرج المنفيين في الشريعة المقدّسة.

والآخر نقضي : وهو عبارة عن عدم اختصاص لزوم العسر والحرج بإتيان

٢٩٦

المتعلّقات فقط على طبق الاجتهاد الثاني وببطلانها بل يلزمان في إتيان الأحكام على طبق الثاني أيضا.

وعليه إذا اجتهد عدم وجوب شيء مثلا أو عدم نجاسة شيء ثم رجع عن ذلك وظنّ وجوبه أو نجاسته فقد وجب عليه وعلى مقلديه إتيان ذاك الشيء الواجب إعادة في الوقت أو قضاء في خارجه ان كان ممّا شرّع فيه القضاء ووجب الاجتناب عن ذاك الشيء وعن كل ما لاقاه وتطهير كل ما لاقاه ممّا هو محل الابتلاء فعلا ولا ريب أن هذين يؤدّيان إلى العسر والحرج بلا شبهة وهذا واضح لا غبار عليه.

واستدلّ ثالثا بلزوم الهرج والمرج لو قلنا ببطلان الأحكام والمتعلّقات أي قلنا ببطلان الأعمال السابقة.

ومن الواضح ان لزوم الهرج والمرج يوجب إخلال النظام والمخاصمة بين الأنام كما إذا اشترى زيد مثلا حديقة بالعقد الفارسي مثلا ثم أجرها بألف دينار في سنة كاملة فلو بنى على بطلان هذا العقد الفارسي للزم اختلال النظام والمخاصمة بين الأنام وكذا إذا طلّق زيد زوجته بالفارسية ثم تزوّجها رجل آخر ومضت مدّة ثم انكشف للمجتهد بطلان الطلاق بالفارسية والبطلان يستلزم للاختلال وللمخاصمة والمرافعة بين أهل العالم.

وقد أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بانسداد باب الهرج والمرج بالحكومة وفصل الخصومة بما يراه القاضي بين المتخاصمين ويحكم به بين المترافعين وهذا جيد إنصافا ، ولا بدّ هنا من توضيح معنى كلمة الحرج والعسر والهرج والمرج ولهذا يقال : ان الهرج والمرج بمعنى درهم برهم بى نظمى در لغة فارسية وان العسر بمعنى دشوار شدن وتنگى وسختى في الفارسية وان الحرج بمعنى تنگى وفشار ومكان تنك وبمعنى گناه نيز امده است في الفارسي كما اشير إليه في قوله تعالى : (لَيْسَ

٢٩٧

عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ)(١) أي ليست المعصية عليهما إذا تخلفا عن الجهاد الواجب.

وبالجملة لا يكون التفاوت بين الأحكام والمتعلّقات أي متعلّقات الأحكام بحيث تحمل الأحكام اجتهادين مختلفين في زمانين ولا تتحمّل المتعلّقات لهما ولو في زمانين بينا أي واضحا ولا مبيّنا أي مبرهنا انيّا أو لميّا في كلام صاحب الفصول قدس‌سره بحيث يكون البرهان الذي أقيم لثبوت التفاوت بين الأحكام والمتعلّقات قانعا للخصم وليس الأمر كذلك.

وعلى ضوء هذا فلا معنى للتفصيل بين الأحكام ومتعلّقاتها ، وراجع كلامه وتأمّل فيه. وهو إشارة إلى ان الواقع فيهما واحد إذ ربّ شخص يعيّن الحكم أو الموضوع ويلتزم بهما ثم تبيّن الخطاء والاشتباه فيهما ، وعليه فالحكم والموضوع يكونان متحملين لاجتهادين متخالفين بلا تفاوت بينهما من هذه الناحية أصلا كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكر لك فانقدح لك أن مقتضى القاعدة الأوّلية في الأعمال السابقة هو البطلان إلّا إذا قام الدليل على صحّتها وذلك كحديث «لا تعاد» وحديث «الرفع» وقد مرّا.

قوله : وأمّا بناء على اعتبارها من باب السببيّة والموضوعيّة فلا محيص ...

قال المصنّف قدس‌سره : امّا حكم اضمحلال الاجتهاد وتبدّل الرأي بناء على اعتبار الامارات من باب الموضوعية والسببية فلا بدّ من أن تكون الأعمال السابقة صحيحة بشرط إتيانها على طبق الاجتهاد الأوّل سواء كانت عبادة أم معاملة ؛ وكذا لا محيص عن القول بصحّتها إذا كان المجتهد قد عمل بحسب اجتهاد الأوّل بمجرى الاستصحاب أو بمجرى البراءة الشرعية ولكن قد ظفر في اجتهاده الثاني بالدليل

__________________

١ ـ سورة النور آية ٦١.

٢٩٨

الذي يخالف الاستصحاب أو البراءة الشرعية إذ بناء على هذا المبنى يكون مؤدّى الامارة حكما حقيقة إذا لم يضمحلّ الاجتهاد الأوّل ولم يحصل تبدّل الرأي له.

وعلى طبيعة الحال قد عمل بوظيفته وقد بيّن للمقلّدين تكليفهم وكل واحد من المقلّدين والمقلّد (بالفتح) قد عملا بالوظيفة.

وعليه فقد حصل الامتثال لأمر المولى الحكيم وإذا حصل الامتثال فقد حصل الاجزاء ومتى تحقّق الاجزاء فقد سقط الاعادة والقضاء وقد مرّ في مبحث الاجزاء تحقيق الحال فراجع هناك في الجزء الأوّل ، وهذا التحقيق عبارة عن اجزاء الأمر الاضطراري أو الظاهري إذا كانا وافيين بتمام مصلحة الواقع أو بمعظمها بحيث لا يلزم تدارك الباقي ، والحمد له تعالى.

في التقليد وبيان معناه لغة واصطلاحا

قوله : فصل في التقليد ، وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به ...

ويقع الكلام :

أوّلا : في معناه لغة.

وثانيا : في تعريفه.

وثالثا : في أحكامه.

أما معناه لغة فهو جعل الغير ذا قلادة ومنه التقليد في حجّ القرآن فان المحرم باحرام حجّ القرآن يجعل البعير ذا قلادة بنعل قد صلّى فيه.

وفي حديث الخلافة : قلّدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام أي : جعل الخلافة قلادة له عليه‌السلام. فكأنّ العامّي يجعل عمله قلادة للمجتهد وهذا يكون كناية عن كونه هو المسئول عنه وهو المؤاخذ بعمله لو قصّر في فتواه كما يفصح عن ذلك قول المعصومين عليهم‌السلام في عدّة روايات (مباركات) :

٢٩٩

منها : قول المعصوم عليه‌السلام : «من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به». وغيرها من الروايات المذكورة في الوسائل وغيرها (١).

وبالجملة : لمّا كان وزر عمل العامي على المفتي صحّ اطلاق التقليد على العمل بفتواه باعتبار أنّه قلادة له.

وعلى ضوء هذا فالصحيح في تعريف التقليد أن يقال : هو العمل استنادا إلى فتوى الغير ، ولكن عرّف بتعارف متعدّدة منها تعريف المصنّف قدس‌سره وهو : عبارة عن أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبّدا بلا مطالبة دليل على رأيه.

ومنها : انه هو العمل بقول الغير.

ومنها : أنه عبارة عن الأخذ بفتوى الغير للعمل به.

ومنها : انه عبارة عن الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يعمل على طبق فتواه بعد بل وان لم يأخذ فتواه.

وقد ذكر السيّد رحمه‌الله في العروة الوثقى أنه يكفي في تحقّق التقليد أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فيها. ولكن التحقيق أن التقليد في العرف باق على معناه اللغوي وقد سبق آنفا معناه اللغوي وهو : عبارة عن جعل المقلّد (بالكسر) المقلّد (بالفتح) ذا قلادة.

قوله : ولا يخفى أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه عليه ...

وقد أورد المصنّف قدس‌سره على تعريف التقليد بالعمل إشكالا بأن التقليد سابق على العمل بقول الغير.

وعليه فلو كان التقليد هو نفس العمل لكان العمل الأوّل بلا تقليد إذ متى لم يتحقّق العمل لم يتحقّق التقليد بناء على هذا المبنى. ولكن الانصاف أن هذا

__________________

١ ـ الوسائل : ج ١٨ باب ٤ من أبواب صفات القاضي ص ٩.

٣٠٠