البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

والمعذرية عن خلاف الواقع عند الخطأ فانسد باب التقليد على غير المجتهد رأسا.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنه بقوله : قلت

بأنّ مقتضى حجيّة الامارات وان كان هو التنجيز والتعذير وليس مقتضاها جعل الحكم المماثل ولا العلم بالأحكام الظاهرية ولكن فرق بين الانفتاحي والانسدادي لأن الأوّل عالم بموارد قيام الحجّة الشرعية على الأحكام فيصدق عنوان العارف بالأحكام على الانفتاحي.

وامّا الانسدادي فيختص ظنّه بالأحكام الشرعية بشخصه فقط لاستناد ظنّه إلى المقدّمات التي تجري في حقّه فقط ولا يصدق عليه عنوان العارف بالأحكام حتى يكون رجوع الغير إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم إذ هو يقول بانسداد باب العلم والعلمي بالأحكام.

وخلاصة الجواب : ان الانفتاحي في غير موارد القطعيات وان كان غير عالم بالأحكام بناء على مختاره ، ولكن هو عالم بموارد قيام الحجّة على شرب التبغ مثلا تدلّ على حرمته أو على إباحته وحليّته وبملاحظة علمه بقيام الحجّة فيصدق عليه عنوان العالم وتشمله أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم ، أما بخلاف المجتهد الذي يقول بانسداد باب العلم وباب العلمي فانّه لا يصدق عليه عنوان العالم أصلا.

ولا يخفى عليك ما في هذا الجواب من أن رجوع الجاهل إلى المجتهد الذي هو عالم بقيام الحجّة الشرعية على الأحكام يكون من باب الرجوع إلى معلومه وليس من باب رجوع الجاهل إلى العالم بالأحكام الشرعية ، والحال أن رجوع المقلّدين إلى المجتهدين العظام انّما يكون في الأحكام لا في قيام الامارة الشرعية وعدم قيامها على الأحكام إذ يستفاد من هذا الجواب ان المجتهد الذي تكون له حجّة ظنّية لوجوب صلاة الجمعة وليس له علم بأصل وجوبها إذ له علم بوجود

٢٦١

الحجّة وليس له علم بوجوبها.

فالصواب في الجواب : ان قيام الحجّة على الحكم يكون بمنزلة العلم بالحكم في نظر العقل بلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا فيصدق عنوان العالم عليه ويكون الرجوع إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم.

في الإشكال الثاني

قوله : إن قلت رجوعه إليه في موارد فقد الامارات المعتبرة عنده ...

واعترض المعترض ؛ بأن في موارد فقدان الامارات المعتبرة والأصول الشرعيّة يكون الرجوع إلى الأصول العقلية وإلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وإلى قبح المؤاخذة بلا برهان ويكون رجوع المقلّد إلى هذا المجهد ليس من قبيل رجوع الجاهل إلى المجتهد العالم بقيام الحجّة الشرعية على الأحكام لفرض فقدان الحجج والامارات المعتبرة عليها ، ومن المعلوم أنه إذا فقدت الامارات فهو ليس بعالم بالأحكام الشرعية.

وعلى طبيعة الحال لا وجه لرجوع الجاهل إليه أصلا إذ يكون من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل.

في جواب المصنّف قدس‌سره عنه

قوله : قلت رجوعه إليه فيها أي في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده ...

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بأن رجوع الجاهل إلى المجتهد الانفتاحي في موارد فقدان الامارات المعتبرة والأصول الشرعية انّما يكون من جهة علم هذا المجتهد بموارد فقدان الامارات والأصول الشرعية والحجّة الشرعية لعدم تمكّن الجاهل عن تشخيص موارد قيام الحجّة الشرعية وتلك كالآيات والروايات عن موارد عدم

٢٦٢

قيامها ولكن بعد علم الجاهل بموارد فقدان الدليل الاجتهادي وفقدان الدليل الفقاهتي يعمل هذا الجاهل على طبق حكم عقله مثلا إذا علم المقلّد (بالكسر) إجمالا بوجوب صلاة قبل صلاة العصر في يوم الجمعة في عصر الغيبة مردّدة بين الظهر الذي هو أربع ركعات وبين الجمعة التي هي ركعتان وخطبتان ولم يدل الدليل الاجتهادي على خصوص وجوب إحداهما وحينئذ امّا يستقل العقل السليم بوجوب الموافقة القطعية فيجب الجمع بين الصلاتين تحصيلا للفراغ اليقيني والبراءة اليقينية ، وامّا يحكم بكفاية الموافقة الاحتمالية فيكتفي بإحدى الصلاتين حال كونه مخيّرا بينهما فتكون هذه المسألة عقلية وتجوز مخالفة المقلّد مجتهده فيها اما بخلاف المسألة الشرعية فانّه لا تجوز مخالفته فيها ، وتلك كوجوب صلاة الآيات مثلا.

فالنتيجة : ان الجاهل في موارد فقد الامارات المعتبرة والأصول الشرعية يرجع إلى ما هو حكم العقل من البراءة العقلية التي هي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان فيبرئ المكلّف ذمّته بواسطتها عن وجوب الشيء وعن حرمته أو الاحتياط العقلي وهو يتحقّق بفعل ما احتمل وجوب الشيء ولم يحتمل حرمته ، وبترك ما احتمل حرمته ولم يحتمل وجوبه وبفعل كلا الأمرين إذا احتمل وجوبهما معا ولم يحتمل حرمتهما وبترك كلاهما إذا احتمل حرمتهما معا ولم يحتمل وجوبهما أصلا ، فالجاهل انّما يرجع إلى حكم العقل مستقلّا فيكون المتبع ما استقل به عقله ولو كان حكم عقله على خلاف ما إليه مجتهده مثلا ذهب المجتهد إلى الاحتياط العقلي والمقلّد اختار البراءة العقلية في موارد فقد الامارات والأصول الشرعيّة.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى ان الغير لو ميّز حكم العقل من البراءة العقلية أو التخيير العقلي أو الاحتياط لما يكون مقلّدا بل يكون مجتهدا فان تعيين حكم العقل عند فقدان

٢٦٣

الامارات المعتبرة ليس من شأن العامي غير المجتهد بل هو من شأن الاعلام والفحول (رض) كما لا يخفى. فالمطلب المذكور صرف فرض.

في نفوذ حكم المجتهد المطلق الانفتاحي

قوله : وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن الفروع الثلاثة في المجتهد المطلق :

الأوّل : هل يجوز له أن يعمل باجتهاد نفسه. وقال المصنّف قدس‌سره لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد.

الثاني : هل يجوز للغير أن يعمل على طبق اجتهاده بشرط أن يكون المجتهد انفتاحيا. قد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله وأمّا لغيره فكذا لا إشكال فيه إذا كان المجتهد ممّن يرى باب انفتاح العلم والعلمي بالأحكام الشرعية في عصر الغيبة وستأتي الأدلّة على جواز التقليد إن شاء الله تعالى.

الثالث : هل يجوز للغير أن يعمل باجتهاد المجتهد المطلق إذا كان انسداديا وقد أشار إليه المصنّف قدّس سرّه بقوله بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابهما فجواز التقليد عنه في غاية الإشكال لعدم صدق رجوع الجاهل إلى العالم حينئذ شرع في الفرعين الآخرين في المجتهد المطلق :

الأوّل : نفوذ حكمه وقضائه أي حكم المجتهد المطلق الانفتاحي وقضاوته ، قال لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم والعلمي له مفتوحا ، إذ يصدق عليه عنوان العالم بالاحكام والناظر في الحلال والحرام فتشمله مقبولة عمر بن حنظلة رضى الله عنه (١) ومعتبرة أبي خديجة رضى الله عنه (٢) إذ في الاولى

__________________

١ ـ وسائل ج ١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١ ص ٧٥.

٢ ـ المصدر نفسه ، ج ١٨ باب الأوّل من أبواب صفات القاضي ح ٥ ص ٤.

٢٦٤

منهما توجد جملة عرف أحكامنا ، وفي الثانية منهما توجد جملة يعلم شيئا من قضايانا.

الثاني : أنه هل ينفذ حكم المجتهد المطلق الانسدادي أم لا؟ وسيأتي حكمه في طيّ قوله : وامّا إذا انسد عليه بابهما.

تكميل : في طيّ العمل أي عمل المجتهد المطلق باجتهاده جائز بلا إشكال لأنّ المفروض أنه عالم بالأحكام الواقعية الثانوية وجدانا إذا وجد في مقام الاستنباط والاستخراج امارة تفيد العلم بالحكم الظاهري وذلك كالخبر المتواتر اللفظي أو المعنوي أو الاجمالي ؛ أو عالم بقيام حجّة شرعية على الحكم الظاهري كما في موارد الأخبار الآحاد ، والطرق ، والأصول العملية المثبتة للحكم الظاهري. وتلك كالأصول المحرزة. أو عالم بأن الشارع المقدّس جعل له حكما ترخيصيا في مقام الظاهر كما في موارد الأصول الشرعية النافية للتكليف كأصالة البراءة ؛ أو عالم بمعذوريته في مخالفة الحكم على فرض وجوده واقعا كما في موارد الأصول العقلية النافية للتكليف الالزامي من جهة قبح العقاب بلا بيان.

وعلى هذا الفرض كيف يمكن القول بعدم جواز العمل بعلمه مع أن حجية العلم ذاتية بحيث لا تنفك عنه طرفة عين فيكون رجوع المجتهد المطلق الانفتاحي إلى الغير من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل لو رجع إلى غير المجتهد أو يكون رجوعه من قبيل رجوع العالم إلى العالم لو رجع إلى المجتهد المطلق وكلاهما قبيحان عقلا ؛ إذ الأوّل يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح ، والثاني يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، هذا كلّه واضح بالنسبة إلى العالم بالفعل.

وامّا الجاهل بالفعل والعالم بالقوّة بحيث يتمكّن من استنباط الأحكام من المدارك المقرّرة شرعا فادّعى الشيخ الأنصاري قدس‌سره في رسالته الخاصة بمباحث الاجتهاد والتقليد قيام إجماع الأصحاب (رض) على عدم جواز رجوعه إلى الغير

٢٦٥

لأنّ الأدلّة التي تدلّ على جواز التقليد من الآيات والروايات منصرفة إلى الجاهل الذي يكون غير متمكّن من الاستنباط والاستخراج ولو بالقوّة.

وامّا جواز رجوع الغير إليه فلدلالة قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) وقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٢). وقول إمامنا العسكري عليه‌السلام : «فامّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» (٣). على جواز التقليد فلا جرم يكون موضوع التقليد عالما بالأحكام بحيث يصدق عليه عنوان أهل الذكر وعنوان الفقيه العارف بعدّة من الأحكام الشرعية عرفا.

وعليه : فلا يضرّ في صدق العنوانين المذكورين عرفا عدم استنباطه للأحكام النادرة التي لا تكون بمبتلى بها بل يكفي في صدقهما عرفا استنباط الأحكام التي تكون محلّا لابتلاء عامّة المكلّفين ولكن لا يصدقان على المتمكّن من الاستنباط بلا استنباط فعلي أصلا ، والدليل على نفوذ حكم المجتهد المطلق وقضائه قد مرّ من مقبولة عمر بن حنظلة رضى الله عنه وموثقة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال رضى الله عنه قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فانّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه. فهي دالّة على ما ذكر.

فإن قيل : إنّ كلمة شيء قد ذكرت في الرواية الشريفة نكرة وهي تطلق على القليل والكثير كلفظ الماء مثلا. والحال انّه يشترط في القاضي أن يكون مجتهدا

__________________

١ ـ سورة النحل آية ٤٣.

٢ ـ سورة التوبة آية ١٣٢.

٣ ـ الوسائل ، ج ١٨ ، ص ٩٥ ، باب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠.

٢٦٦

ويشترط في المجتهد الذي ينفذ حكمه وقضائه أن يعلم كثيرا من الأحكام وجميع المسائل الذي تبتلى به عامّة المكلّفين. وعلى ضوء هذا لا تدلّ هذه الرواية الشريفة على المدّعى.

قلنا : لوحظت قلّته بالنسبة إلى علوم الأئمة الأطهار عليهم‌السلام وحينئذ يكون هذا الشيء كثيرا في نفسه وإلّا لا يعدّ شيئا من علومهم عليهم‌السلام فان علمهم عليهم‌السلام بمنزلة بحر محيط فالشيء منه لا يكون إلّا كثيرا في نفسه وهو متعارف عند العقلاء فانّه إذا قيل عند فلان شيء من الثروة والمال يراد منه ما يكون كثيرا في نفسه فانّه قليل بالاضافة إلى مجموع الأموال الموجودة في الدنيا.

فالسرّ في هذا التعبير هو الإشارة إلى كثرة علمهم عليهم‌السلام بحيث يكون علم غيرهم بالنسبة إلى علمهم عليهم‌السلام كالقطرة من البحر الطويل والعريض كما هو كذلك واقعا. ولا يخفى عليك انّه قد بيّنت أمور ثلاثة في هذا المقام :

أحدها : جواز العمل بالاجتهاد وعدم جواز رجوعه إلى غيره.

ثانيها : جواز رجوع الغير إليه.

ثالثها : نفوذ حكمه وقضائه.

هذا كلّه بالإضافة إلى المجتهد المطلق الانفتاحي.

ثم انّه قد انقدح لك ممّا سبق عدم جواز تقليد من عرف الأحكام من طريق غير الأدلّة المتعيّنة والمدارك المقرّرة كالرمل والجفر وغيرهما وعدم اعتبار قضائه. والوجه في هذا المطلب أن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام قد أمروا الناس بالرجوع إلى رواة أحاديثهم ونهوا عن الاعتماد على غيرهم وقيّدوا الرجوع بكون الراوي ناظرا إلى حلالنا وحرامنا.

هذا ظاهر في اعتبار كونه من أهل النظر والاستنباط والاستخراج كما هو ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة رضى الله عنه وغيرها هذا مضافا إلى أن راوي الأحاديث

٢٦٧

باعتبار نقله لألفاظها لا يسمّى من أهل الذكر ، بل صدق هذا العنوان يتوقّف على استنباط الأحكام من المدارك المقرّرة كما ان صدق عنوان الفقيه يتوقف على الاستنباط المذكور بالفعل كما لا يخفى.

قوله : وامّا إذا انسد عليه بابهما ففيه إشكال على الصحيح من تقرير المقدّمات ...

فقد ظهر ممّا سبق عدم جواز تقليد من يرى حجية الظن من جهة انسداد باب العلم والعلمي أما على الحكومة فظاهر ، لأنّه لا يكون عالما بالأحكام الشرعية ولا عارفا بها مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم كما هو ظاهر المقبولة وغيرها.

وعلى هذا فالانسدادي جاهل بها لأنّ أقصى ما تقتضيه المقدّمات حينئذ هو استقلال العقل بحجّية الظن في حال الانسداد كحجّية العلم حال الانفتاح فلا يكون المجتهد الانسدادي على هذا الأساس عالما بالأحكام الشرعية بل هو جاهل فيكون الرجوع إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل.

ومن الواضح ان المنصوب للقضاوة في لسان الأخبار ليس إلّا العالم بها كما في المقبولة ورواية أبي خديجة رضى الله عنه. غاية الأمر كونه معذورا في عمل نفسه مع عدم التقصير في المقدّمات ، هذا مضافا إلى ان حجّية الظن مختصّة بمن تمّت في حقّه مقدّمات الانسداد ؛ ومنها عدم جواز التقليد وهذه المقدّمة لا تتمّ في حق العامي المتمكّن من الرجوع إلى المجتهد الانفتاحي. وأمّا على الكشف فلأنّه وإن كان عالما بجملة من الأحكام لأن الظن يكون طريقا منصوبا من قبل الشارع المقدّس كالطرق المنصوبة من قبله عند الانفتاحي.

وعليه فيكون الانسدادي عالما بالأحكام الشرعية الظاهرية كالمجتهد الانفتاحي حرفا بحرف إلّا أنّ حجيّة الظنّ حينئذ مختصّة بمن تمّت في حقّه مقدّمات الانسداد وقد عرفت عدم تماميتها في حق العامّي المتمكّن من الرجوع إلى المجتهد الانفتاحي.

٢٦٨

في إثبات نفوذ حكم المجتهد الانسدادي

قوله : إلّا أن يدعى عدم القول بالفصل وهو وإن كان غير بعيد ...

شرع المصنّف قدس‌سره في إثبات نفوذ حكم المجتهد الانسدادي بناء على الحكومة بأحد الوجهين :

الأوّل : هو الاجماع المركّب لأن الفقهاء (رض) اختلفوا بين من يقول بنفوذ حكم المجتهد مطلقا سواء كان انفتاحيا أم انسداديا ، وبين من يقول بعدم نفوذ حكمه مطلقا سواء كان انسداديا أم انفتاحيا ، فالقول بنفوذ حكم الانفتاحي وبعدم نفوذ حكم الانسدادي خرق للإجماع المركّب وهو لا يجوز لأنّه طرح للدليل الشرعي بدون مجوّز وكذا مخالفة الاجماع البسيط لا تجوز للوجه الذي ذكر آنفا.

الثاني : ان أحكامنا في المقبولة وإن كان جمعا مضافا إلى ضمير المتكلّم مع الغير وهو يفيد العموم كما ان اضافة الجمع إلى الاسم المحلّى باللام يفيد العموم نحو جاءني علماء البلد مثلا ، ولكن العارف بجملة معتدّ بها يصدق عليه انّه عارف بالأحكام وناظر إلى الحلال والحرام لأنّ هذا الخطاب ملقى إلى العرف كسائر الخطابات الشرعية.

ومن المعلوم أن العارف بجملة معتدّ بها من الأحكام يعدّ فقيها بنظر أهل العرف بأحكام الأئمّة عليهم‌السلام.

فالمجتهد الانسدادي بناء على الحكومة وإن كان باب العلم والعلمي منسدّا عليه ولكن هو عارف بكثير من الأحكام كما في موارد الاجماعات والأخبار المتواترة والأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن القطعية والقطعيات واليقينيّات فاذا صدق عليه عنوان راوي الحديث وعنوان العارف بالأحكام ثبت نفوذ حكمه وقضائه كما لا يخفى.

٢٦٩

في جواب المصنّف عنه

وردّ المصنّف قدس‌سره دعوى الاجماع المركب بأن دعوى عدم القول بالفصل وإن لم تكن بعيدة لإمكان تحقّقها إلّا أن الحجّة على الحكم ونفوذ حكم المجتهد الانسدادي هو الاجماع البسيط أعني منه القول بعدم الفصل. أما اختلاف الأصحاب (رض) على قولين فاذا كان كاشفا عن نفي القول الثالث كان حجّة ، وامّا إذا لم يكن كاشفا عنه فلا عبرة به لعدم ثبوت هذا الاجماع الذي هو الحجّة بمجرّد عدم الفصل في كلمات الأصحاب (رض). وعليه فلا يمكن تصحيح نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي بهذا الوجه الذي ذكر آنفا.

أمّا الوجه الثاني فهو باق على حاله لأن ملاحظة حال الرواة في عصر صدور المقبولة والمرفوعة وغيرهما تشهد بأن المراد من العارف بالأحكام هو العالم بمقدار معتدّ به منها وليس المراد منه العارف بجميع الأحكام لعدم إحاطة غير الإمام المعصوم عليه‌السلام بجميع الأحكام سيّما إذا كان المراد من المعرفة معرفة فعلية.

فالنتيجة ان حكم المجتهد الانسدادي بناء على الحكومة نافذ إذا كان عالما وعارفا بجملة من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان العارف بالأحكام والناظر إلى الحلال والحرام كما لا يخفى.

قوله : إلّا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات ...

ولا ينفذ حكم المجتهد الانسدادي ولا قضائه إلّا ـ أن يدعى بكفاية انفتاح باب العلم للانسدادي في موارد الاجماعات والضرورات من الدين أو المذهب والمتواترات إذا كانت موارد الاجماعات والضرورات والمتواترات جملة يعتدّ بها عرفا وان انسد عليه باب العلم بمعظم الفقه الشريف. إذ مدرك أكثر الأحكام الشرعية

٢٧٠

الأخبار الآحاد وإذا كان باب العلم والعلمي مفتوحا له بالإضافة إلى موارد الاجماعات والضرورات والمتواترات فيصدق عليه راوي حديثهم عليهم‌السلام والناظر في حلالهم وحرامهم ، والعارف بأحكامهم عليهم‌السلام عرفا حقيقة أي تطلق هذه العناوين المذكورة على المجتهد الانسدادي حينئذ حقيقة لا مجازا وعناية كصدقها على المجتهد الانفتاحي ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني لإثبات نفوذ حكم الانسدادي ، وهذا الوجه تام مقبول كما لا يخفى.

وعلى ضوء هذا فيثبت نفوذ حكم المجتهد الانسدادي بناء على الحكومة وثبت له منصب القضاء. ولكن قول الإمام عليه‌السلام في المقبولة بعد اعتبار معرفة الأحكام الشرعية فاذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فانّما بحكم الله تعالى استخف وعلينا ردّ والرادّ علينا على حدّ الشرك بالله ظاهر في كون حكم الحاكم والمجتهد من أحكام الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بقرينة إضافة الحكم إلى ضمير المتكلّم مع الغير.

وعليه إذا كان المقضي به والمفتى به من أحكامهم عليهم‌السلام كان قضاء الحاكم والقاضي نافذا وكذا فتوى المفتي حرفا بحرف وكون المقضي به من أحكامهم عليهم‌السلام منوطا باحراز أن ما يحكم به الحاكم ويقضي به القاضي يكون من أحكامهم عليهم‌السلام وهذا يتوقّف على انفتاح باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية في عصر الغيبة فالمجتهد الانسدادي لا يمكن له الاذعان والاعتقاد بأن حكمه حكمهم عليهم‌السلام.

وعلى طبيعة الحال فلا يكون حكمه نافذا ، هذا إشارة إلى الإشكال الثاني الوارد على نفوذ قضاء الانسدادي ، والاشكال الأوّل الوارد عليه قد سبق في طي قول المصنّف قدس‌سره بأنه ليس ممّن يعرف الأحكام ولا تغفل.

في بيان الدفع عنه

ودفعه المصنّف (طاب ثراه) بأن المراد من قوله عليه‌السلام : فإذا حكم بحكمنا أي

٢٧١

إذا حكم بأمرنا بحكم فلم يقبل منه وعلينا استخفّ لكونه منصوبا من قبلنا لا أنه إذا حكم على طبق حكمنا كي يتوقف ذلك الحكم على معرفة أحكامهم عليهم‌السلام تفصيلا في القضاوة والافتاء كيف لا يكون الأمر كذلك ، والحال أن حكم الحاكم والقاضي انّما يكون غالبا في الموضوعات الخارجية من قبيل ملكية الدار المعيّنة لزيد بن أرقم (مثلا) وزوجية امرأة متعيّنة لعمرو بن خالد وغيرهما ، والحال انه لا حكم لهم عليهم‌السلام في الموضوعات الخارجية إذ وظيفة الإمام عليه‌السلام بيان الأحكام الكلية من قبيل وجوب الواجبات وحرمة المحرّمات وبيان صحّة الأشياء وفسادها لا بيان الموضوعات الخارجية وتشخيصها حتى يكون حكمه على طبق حكمهم.

وعليه فصحّة اسناد الحكم أي حكم الحاكم إلى حكمهم عليهم‌السلام انّما هو لأجل كون حكمه بأمرهم عليهم‌السلام ومنصوبا من قبلهم وليس الاسناد المذكور من جهة كون حكمه على طبق حكمهم عليهم‌السلام.

في إمكان التجزّي

قوله : وامّا التجزي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام ...

ففي التجزي في الاجتهاد مواضع من الكلام :

الأوّل : في إمكانه وقد ذهب جماعة من الأعلام (رض) إلى استحالته بدعوى ان الاجتهاد عبارة عن ملكة الاستنباط ، وهي أمر بسيط وحداني والبسيط لا يتجزى وإلّا لهدم عنوان بساطته. وعليه فاذا أفاضت من قبل المبدأ الفيّاض لشخص فقد تحقّق له الاجتهاد المطلق وإلّا فلا اجتهاد أصلا :

وكذا الأمر إذا كان الاجتهاد عبارة عن نفس الاستنباط وليس بملكته فانّه أيضا أمر بسيط غير قابل للتجزي وللتبعيض ، هذا مضافا إلى أن العلم ببعض الأحكام لا يحصل لشخص إلّا بعد الاحاطة بكل المدارك المقرّرة وبجميع الأدلّة

٢٧٢

لأن المراد بالأدلّة في تعريف الفقه هو الامارات التي تفيد الظن وليس المراد منها فيه ما تفيد القطع.

وعليه فيحتمل احتمالا قويّا وجود المعارض فيما لا يحيط من الأدلة والمدارك على تقدير عدم الاحاطة بالكل فلا يحصل العلم ولا الظنّ المعتدّ به بالأحكام بناء على هذا المبنى بدون الاحاطة بالكل والاحاطة بكل الأدلّة لا يكون حاصلا إلّا للمجتهد المطلق وللمستنبط في الكل.

ولكن ذهب الأكثر إلى إمكانه بل ذهب بعضهم إلى وجوبه كصاحب الكفاية (طاب ثراه) بدعوى أن الوصول إلى المرتبة العالية التي هي عبارة عن الاجتهاد المطلق يتوقّف على طيّ المراتب النازلة على التدريج لبطلان الطفرة عقلا أما بيان الطفرة فواضح إذ ملكة الاستنباط هي ذات مراتب عديدة :

الاولى : مرتبة الدنيا. وهي الاقتدار على استنباط قليل من الأحكام الشرعية.

الثانية : مرتبة الوسطى. وهي الاقتدار على استنباط كثير منها.

الثالثة : مرتبة العليا. وهي الاقتدار على استنباط جميعها.

وعلى ضوء هذا فلا يمكن عادة حصول المرتبة العليا دفعة واحدة من دون السبق بحصول المرتبة الدنيا كما لا يمكن عادة حصول المرتبة الوسطى من دون السبق بحصول المرتبة الدنيا فحصول المرتبة العليا لا يمكن من دون السبق إلى المرتبتين المذكورتين ، وإلّا لزمت الطفرة ؛ وقد استدل الأكثر بوجهين :

الأوّل : أن أبواب الفقه مختلفة مدركا ومستندا إذ مدرك بعض أبواب الفقه سهل واضح ، ومدرك بعضها صعب مشكل وهذا يوجب حصول الاقتدار على استنباط الأحكام في بعض الأبواب دون بعض.

الثاني : أن الأشخاص مختلفون في المهارة على النقليات والمنقولات والعقليات والمعقولات.

٢٧٣

وعلى ضوء هذا فربّ شخص له مهارة تامّة في النقليات دون العقليات أو في العقليات دون النقليات أو مهارة تامّة في أبواب الطهارة مثلا لكونها سهل المأخذ والمدرك دون أبواب البيع مثلا لكونها صعب المأخذ والمدرك ، وهكذا هلمّ جرّا.

وهذا يوجب أيضا الاقتدار على استنباط الأحكام في بعض أبواب الفقه الشريف ، هذا مضافا إلى أن وقوع التجزي في الخارج لبعض الأشخاص أدلّ دليل على إمكان التجزّي ، والتحقيق ما عليه الأكثر من إمكان التجزّي لا الامتناع ولا الوجوب فانّ المراد من التجزّي هو التبعيض في أفراد الكلي لا التبعيض في أجزاء الكل إذ كما أن كل حكم من الأحكام الشرعية في مورد مغاير للأحكام الأخر في موارد أخر فكذلك استنباطه مغاير لاستنباطها ؛ أي استنباط حكم من الأحكام مغاير لاستنباط الأحكام فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة وملكة استنباط تلك المسألة فرد آخر منها وهكذا.

وبساطة الملكة لا تنافي التجزي بهذا المعنى كما هو ظاهر ، وهكذا بساطة الاستنباط حرفا بحرف وحيث إن مدارك الأحكام مختلفة جدّا فربّ حكم يبتنى استنباطه على مقدّمات كثيرة فيصعب استنباطه ؛ وربّ حكم لا يبتنى استنباطه إلّا على مقدّمة واحدة فيسهل استنباطه.

ومع ذلك كيف يمكن أن يقال ان الاقتدار على استنباط حكم واحد لا يكون إلّا مع القدرة على استنباط جميع الأحكام.

وبالجملة حصول فرد من الملكة لشخص دون فرد آخر منها له بمكان واضح من الإمكان ولا يحتاج تصديق التجزّي إلى أكثر من تصوّره ، ولعلّ القائل بالاستحالة لم يتصوّر المراد من التجزّي في المقام واشتبه تبعيض أفراد الكلي بتبعيض أجزاء الكل فانّ الثاني هو الذي تنافيه البساطة ، ولكن لا دخل له بالمقام فان الاجتهاد كلّي يصحّ تبعيضه من حيث افراده ومصاديقه وليس بكل لا يصح

٢٧٤

التبعيض في أجزائه ولهذا يقال زيد إنسان وبكر إنسان و ... و ... ولا يقال الماء سكنجبين والخلّ سكنجبين وهذا الأمر أحد الفروق بين الكلّ والكلّي ، لأن الكلّي يحمل حملا شائعا على جزئياته والكل لا يحمل على أجزائه.

قوله : وبساطة الملكة وعدم قبولها التجزية لا تمنع من حصولها ...

فإن قيل : ان الملكة أي ملكة الاجتهاد أمر بسيط. وعليه لو أمكن التجزّي في الاجتهاد للزم تجزّي الملكة وهو محال فالملزوم مثله. امّا بيان الملازمة فلأنّها من مقولة الكيف النفساني وقد تقرّر في محلّه انها لا تقبل القسمة ولا النسبة كما قال الحكيم السبزواري قدس‌سره في لئاليه المنظومة :

الكيف ما قرّ من الهيئاتي

لم ينتسب وينقسم بالذاتي

قلنا انّا منعنا الملازمة فان التجزية انّما تكون في متعلّقها الذي هو عبارة عن الاستنباط ، لا في نفسها ، ولهذا لا إشكال في حصول الملكة بالإضافة إلى النحو دون الصرف أو بالإضافة إلى المنطق دون المعاني والبيان أي ملكة استنباط قواعد النحو دون ملكة استنباط قواعد الصرف وهذا واضح.

فإن قيل : ان الاجتهاد في مسألة يتوقّف على النظر في جميع الأدلّة أي أدلّة الفقه الشريف ، لاحتمال دليل فيها متعلّق بتلك المسألة والقادر على النظر كذلك مجتهد مطلق وغير القادر لا يكون مجتهدا في هذه المسألة أيضا.

قلنا : إنّه ربّما يقطع المجتهد المتجزّي أو يطمئن بعدم دليل هذه المسألة بين سائر أدلّة الفقه الشريف متعلّق بتلك المسألة ، وهذا يكفي في الاستنباط ولا يعتنى باحتمال دخل ما في سائر أبواب الفقه الشريف ، لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمينان بعدم دخل ما في سائر الأبواب فيها كما ان الحال يكون هكذا في الملكة المطلقة بداهة أنه لا يعتبر في استنباط مسألة مع الملكة المطلقة الاطلاع بالفعل على مدارك جميع المسائل الشرعية من الطهارة إلى الديات.

٢٧٥

فالنتيجة : عدم اعتبار الإحاطة الفعلية بمدارك جميع المسائل الفقهية في استنباط مسألة واحدة سواء كان المستنبط مجتهدا مطلقا أي ذا ملكة مطلقة أم متجزّيا كما لا يخفى. إذ لا يعتبر استحضار فعلي للمجتهد المطلق بمدارك جميع المسائل في استنباط مسألة أو مسألتين مثلا كذلك لا يعتبر ذلك الأمر المذكور في المتجزّي.

في حجيّة رأي المتجزّي

قوله : الثاني في حجّية ما يؤدّي إليه على المتّصف به وهو أيضا محل الخلاف ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان إمكان التجزّي في الاجتهاد وعن وقوعه وتحقّقه شرع في بيان حجّية رأي المتجزّي لعمل نفسه وهي مورد الخلاف بين الأعلام (رض) قال الأكثر بحجّية رأيه لنفسه وقال بعض بعدم حجّيته لعمل نفسه بل لا بد له من التقليد أو الاحتياط واستدلّ عليها بأن المتجزّي بالإضافة إلى ما استنبطه من الحكم عالم فلا تشمله أدلّة التقليد فانّ قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) والسيرة العقلائية وغيرهما من أدلّة حجّية رأي المجتهد انّما تدلّ على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم لا رجوع العالم إلى العالم.

هذا ، مضافا إلى أن مقتضى الأدلّة والمدارك حجيّة فتوى المتجزّي لعمل نفسه لأنّ المدارك عبارة عن ظواهر الآيات المباركات والروايات المأثورة عن أئمّتنا الأطهار عليهم‌السلام وقبح العقاب بلا بيان والأصول الشرعية والاستصحاب وغيرها والدليل الذي جعلها حجّة هو سيرة العقلاء وبنائهم وهما تدلّان على حجّيتها على نحو الاطلاق بحيث تكون الظواهر حجّة للمجتهد المطلق وللمتجزي. غاية الأمر تكون حجّيتها مخصوصة بمن فحص عن معارضها وموانعها والفرض أن المتجزّي

٢٧٦

فحص على قدر اللازم عن المخصص والمعارض والمقيّد.

وعلى ضوء هذا فيكون رأي المتجزّي حجّة لأنّه يكون مفاد الظواهر وكل مفاد الظواهر حجّة ، فهذا حجّة.

وعلى طبيعة الحال فيشكل تقليده عن الغير بل هو خلاف الاحتياط. نعم لا بأس عليه أن يكون محتاطا لأنّ الاحتياط حسن عقلا وطريق النجاة ؛ ومضافا إلى أن المتجزي إذا فحص فحصا تامّا عن أدلّة المسألة فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، ولكن قصوره عن الإحاطة بأدلّة المسائل التي يصعب استنباطها لا يكون دخيلا في معرفة هذه المسألة أصلا فكما يجوز للمجتهد المطلق أن يعمل على طبق فتواه فكذا المتجزّي حرفا بحرف.

فالنتيجة : أنّه أقيمت الوجوه الثلاثة على جواز عمل المتجزّي على طبق فتواه ورأيه وقد مرّت مفصّلا فلا حاجة إلى الإعادة ؛ وأمّا الدليل على عدم جواز عمل المتجزّي برأيه فيقال انه ليس بمجتهد في جميع المسائل الشرعية ، وإذا لم يكن مجتهدا في الجميع فلم يكن مجتهدا في البعض لأجل بساطة ملكة الاجتهاد والبسيط لا يتبعّض ولا يتجزّى بل هي إمّا موجودة وامّا معدومة ، فتتصف الملكة المذكورة بالوجود والعدم ولا تتصف بالتجزّي. وإذا لم يكن مجتهدا فلم يجز العمل على طبق استنباطه إذ استنباطه في حكم العدم الذي لا يترتّب عليه الأثر. وأمّا الجواب عن هذا الدليل فقد مضى مفصّلا ، فليراجع هناك.

في رجوع الغير إليه

قوله : الثالث في جواز رجوع الغير إليه في كلّ مسألة اجتهد فيها ...

وأمّا المتجزّي فيقع الكلام تارة : في جواز عمله بفتواه في الموارد التي استنبط الحكم الشرعي فيها.

٢٧٧

واخرى : في جواز رجوع الغير إليه بحيث يقلّد عنه.

وثالثة : في نفوذ قضائه وحكمه في المرافعات ، وامّا الكلام في جواز عمله بفتواه فقد مضى. وأمّا رجوع الغير إليه فالظاهر عدم جوازه والوجه فيه أن السيرة العقلائية وإن كانت تقتضي جواز الرجوع إليه فان العقلاء لا يفرّقون في الرجوع إلى أهل الخبرة بين من تكون له خبروية في غير الأمر المرجوع فيه ، ومن لا يكون له خبروية فيه فالطبيب الحاذق في مرض العين الباصرة يرجع إليه في معالجة مرض العين الباصرة وإن لم تكن له خبروية في مرض القلب والمعدة مثلا ولكن مجرّد قيام السيرة العقلائية لا يفيد ما لم تقع مورد إمضاء الشارع المقدّس وقد ذكرنا أن الموضوع في أدلّة الامضاء انّما هو العارف بالأحكام الشرعية والفقيه وأهل الذكر والظاهر عدم صدق هذه العناوين إلّا على العالم بعدّة من الأحكام الشرعية المعتدّ بها. وعليه فلا تشمل المتجزّي.

فإن قيل : إنّ قول الإمام عليه‌السلام من عرف شيئا من قضايانا الخ شامل للمجتهد المطلق وللمتجزي.

قلنا : ان الجواب عنه قد مضى في طيّ رجوع الغير إلى المجتهد المطلق فلا حاجة إلى الاعادة ومن ان الرجوع إليه من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم فتعمّه أدلّة جواز التقليد فيجوز رجوع الغير إليه ؛ ومن دعوى عدم الاطلاق في أدلّة التقليد كي تشمل المتجزّي ومن عدم احراز أن بناء العقلاء بما هم عقلاء على الرجوع إلى مثل المتجزّي ومن عدم احراز أن سيرة المتشرّعة على الرجوع إليه أيضا كما ان سيرتهم قد استقرّت على الرجوع إلى المجتهد المطلق. وعلى ضوء هذا فلا يجوز رجوع الغير إليه وستعرف إن شاء الله تعالى مقتضى أدلّة جواز التقليد في بحث التقليد.

ومن هنا يظهر الوجه في عدم نفوذ قضائه وفصل خصومته إذ نفوذ حكمه وقضائه أشكل من نفوذ اجتهاده ومن جواز رجوع الغير إليه ومن حجّية فتواه على

٢٧٨

العامّي إذ نفوذ القضاء منوط بصدق عنوان الفقيه والعارف بالأحكام والناظر في الحلال والحرام بمقتضى الأدلّة اللفظية الاجتهادية ، وتلك كالمقبولة والمرفوعة وغيرهما ؛ أمّا بخلاف حجّية فتوى المفتي فانّها منوطة بالرجوع إلى العالم بالمسائل الشرعية سواء كان عالما بجميع المسائل الشرعية من الطهارة إلى الديات أم عالما ببعض المسائل المعتدّ به ، ولا ريب في صدق هذا العنوان على المتجزّي وإلّا لم يكن المتجزّي بمتجزّي ، وهذا المطلب المذكور يكون وجه الأشكلية (المذكورة) في كلام المصنّف طاب ثراه.

قوله : نعم لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدّا بها ...

نعم لا يبعد عن الانصاف نفوذ قضاء المتجزّي وفصل خصومته إذا عرف جملة معتدّا بها واجتهد يكون عارفا بأحكام القضاء وبأحكام الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام بحيث يصدق عرفا انّه ممّن عرف أحكامهم عليهم‌السلام وممّن نظر في حلالهم وحرامهم كما مرّ هذا في نفوذ قضاء المجتهد المطلق الذي انسد عليه باب العلم والعلمي في معظم الأحكام الشرعية والذي قال بالحكومة بعد تمامية مقدّمات الانسداد دون الكشف كما هو الأظهر عند المحقّقين (رض) وعند سيّدنا الاستاذ الخوئي قدس‌سره.

فالنتيجة : انّ الاشكال الوارد على نفوذ قضاء المتجزّي بعينه هو الإشكال الوارد على نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي القائل بالحكومة بتقرير المقدّمات ، الجواب هو الجواب الذي هو عبارة من انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات والضروريات من الدين أو المذهب والمتواترات إذا كانت جملة يعتدّ بها وان انسدّ باب العلم على المتجزّي بمعظم الفقه الشريف ، فانّه يصدق عليه حينئذ أنّه ممّن روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم عرفا حقيقة هذا جواب عن الاشكال الوارد على نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي القائل بالحكومة بأنه ليس ممّن يعرف الأحكام وكذا يكون هذا جوابا عن الاشكال الوارد على نفوذ قضاء

٢٧٩

المتجزّي.

ومن هنا انقدح ان المراد من المتجزّي ليس من عرف مسألة أو مسألتين أو ثلاث مسائل أو أربع مسائل مثلا بل يكون المراد منه من عرف جملة معتدّا بها أي يعلم تفصيلا باب الطهارة ، وباب القضاء ، وباب الصوم ، وباب الشهادات مثلا وإن لم يعلم باب الصلاة ، وباب الحج ، وباب البيع ، وباب الإرث مثلا إذ الفرض كون الشخص متجزّيا لا مجتهدا مطلقا.

في بيان مقدّمات الاجتهاد

قوله : فصل لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية ...

شرع المصنّف قدس‌سره في شرائط الاجتهاد ، وامّا شرائط المجتهد فستأتي إن شاء الله تعالى ، وقال لا يخفى على أحد احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية من علم الصرف وعلم النحو والمعاني والبيان واللغة لأنّ معظم أدلّة الأحكام الشرعية هو الكتاب الكريم والسنّة الشريفة وهما عربيّان لا يمكن معرفة معانيهما إلّا باللغة العربية ، وكذا لا تمكن معرفة ذوات كلماتهما صحّة واعتلالا ماضيا ومضارعا معلوما ومجهولا مجرّدا ومزيدا إلّا بعلم الصرف وكذا لا تقدر معرفة أحوال كلماتها. اعرابا وبناء فاعلا ومفعولا ومسندا إليه ومسندا عمدة وفضلة معرفة ونكرة مقدما ومؤخرا إلّا بعلم النحو وكذا لا يتيسّر عرفان وجه تقديم المسند إليه وتأخيره ووجه تعريفه وتنكيره ووجه تقديم المسند وتعريفه ، وكذا الفرق بين الأخبار والإنشاء ووجه الوصل والفصل وكذا معرفة أحوال متعلّقات الفعل وهي عبارة عن أمور ثمانية الفاعل والمفاعيل الخمسة من المفعول به والمطلق وفيه وله ومعه والحال والتميز نحو ضربت زيدا ضربا في الدار تأديبا وعمر نائما أو راكبا أربعة ضروب مثلا. إلّا بعلم المعاني.

٢٨٠