البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-8035-01-6
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٥٢

الموافق على المخالف ، وفي أخبار العرض على عدم الحجية ، أي عدم حجّية المخالف وهذا واضح.

وانما قال المصنف قدس‌سره ويؤيده ولم يقل ويدل عليه لان عرض المتعارضين على الكتاب ظاهر في المباينة الكلية لا المباينة الجزئية فاذا عرضا عليه فاما يوافق كلاهما الكتاب ، وإما يخالفان الكتاب معا ، وأما ان يوافقه احدهما ويخالفه الآخر.

أما الصورة الاولى فبعيد ، إذ التعارض بمعنى تكاذب احدهما الآخر والتكاذب لا يجتمع مع التوافق ، وأما الصورة الثانية فهو بعيد عن الفرض ، إذ هو على حجية احدهما في مقام التعارض وفرض حجيّة أحدهما لا يلائم مع مخالفتهما معا للكتاب الكريم ، فتبقى الصورة الثالثة وتأمرنا اخبار العرض بأخذ الموافق وطرح المخالف والطرح يكون بمعنى عدم حجّيته فالمخالفة ظاهرة في المباينة الكلية اما بخلاف المخالفة الأعمّي والاخصي ، إذ مباينتهما مع الكتاب مباينة جزئية لتحقق مورد الاجتماع في هذه الصورة ولهذا قال يؤيده سابقا.

وبقي الكلام في تحقق حال القياس الذي ينقّح به موضوع آخر ذو حكم من دون اعتماد عليه في مسألة اصولية ولا فرعية فيقال ان ترجيح احد الخبرين المتعارضين بسبب توافقه مع القياس ليس بممنوع ، إذ حال هذا القياس كحال القياس الذي ينقّح به موضوع ذو حكم شرعي كما يقال الفقاع حرام لانه مسكر كالخمر ويقاس الفقاع بالخمر من جهة وجود قدر الجامع بينهما وهو وصف الاسكار وينقح ويحرز بهذا القياس كون الفقاع الخارجي موضوعا للحرمة.

ويقال الفقاع حرام فهذا القياس ليس استعماله في الدين حتى يكون منهيا عنه لان الممنوع هو استعماله في الاحكام الشرعية الفرعية لا في الموضوعات الصرفة وكذا استعماله في ترجيح الخبر الموافق للقياس على المخالف للقياس ليس استعماله في الدين وفي الاحكام الشرعية الفرعية.

٢٤١

واجاب المصنّف قدس‌سره عن هذا التوهم : بانه قياس مع الفارق ، إذ استعمال القياس في تنقيح الموضوعات الصرفة ليس في الدين كي يكون افساده اكثر من اصلاحه أما بخلاف استعماله في ترجيح الخبر الموافق على المخالف له فانه يكون في الدين لان الخبر الموافق يصير حجة بسبب القياس ويستنبط الفقيه منه حكما شرعيا والحال ان القياس لو لم يكن مستعملا فيه لما كان حجة ، إذ لا تشمله أدلة حجية الأخبار الآحاد بسبب المعارضة والتعارض واخبار العلاجية تدل على حجية أحدهما تخييرا وحجية الموافق على التعيين تكون بواسطة القياس الظني وهذا يكون اقوى استعماله في الدين وفي ادلة الاحكام هذا توضيح توهم السابق والتكرار لا يخلو عن الفائدة.

قوله : اللهمّ إلّا ان يقال نعم إلّا دعوى الاختصاص هذه ...

فلو ادعينا التفكيك بين المخالفة في الأخبار العلاجية وفي اخبار العرض على القرآن الكريم بان تحمل المخالفة في اخبار العرض على الكتاب الشريف على المخالفة التباينية ، إذ لا معنى محصّل لقولنا ما خالف قول ربّنا لم نقله ، أو زخرف باطل إلّا ما علم صدوره عن المعصوم عليه‌السلام وان تحمل المخالفة في اخبار الأخذ بالموافق وطرح المخالف على الأعم والأخص المطلقين.

فالنتيجة ما يكون من المرجحات هو المخالفة بنحو العموم المطلق والخصوص المطلق : وما يكون مميزا للحجة عن اللاحجة هو المخالفة التبانية ويدل على هذا الحمل أمران :

الأول : هو القطع بصدور المخالف عن المعصوم عليه‌السلام. الثاني : إباء أى امتناع لسان اخبار العرض على الكتاب الكريم عن التخصيص ، إذ لا معنى لتخصيص ما خالف قول ربّنا لم نقله ، أو زخرف ، أو باطل بهذا النحو إلّا ما علم صدوره عن

٢٤٢

المعصوم عليه‌السلام ، إذ مخالف قول الربّ لم يصدر عنه عليه‌السلام أصلا وكذا زخرف وباطل حرفا بحرف فهذه الدعوى غير بعيدة عن الواقع فأخبار العرض على القرآن الكريم مع ملاحظة القطع بصدور المخالف غير المباين مع القرآن المجيد ، إذ ربما يكون العام في القرآن الكريم والخاص في الأخبار المروية عن الائمة المعصومين عليهم‌السلام وبالعكس تختص بالموارد التي تكون المخالفة بين القرآن العظيم وبين الخبر على نحو المباينة الكلية وان كانت الأخبار العرض عاما بقرينة كلمة الموصولة وهي الما الموصولة مع قطع النظر عن القطع بصدور المخالف بحيث تشمل بعمومها المخالفة التباينية والمخالفة العموم والخصوص المطلقين.

وخلاصة الكلام ان المخالفة في أخبار العرض أعم من المخالفة التباينية ومن المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلقين.

غاية الأمر ان العلم الاجمالي بصدور الأخبار التي تخالف القرآن الكريم على نحو المخالفة غير التباينية فهذا العلم يكون قرينة خارجية على كون المراد من المخالفة في اخبار العرض مخافة تباينية فقط وان كانت هذه الأخبار مع قطع النظر عن هذه القرينة الخارجية آبية عن التخصيص ولكن بواسطتها رفعنا اليد عن ظاهرها ولا بد من ذكر المثال لموافق الكتاب الكريم ولمخالف الكتاب الكريم وهو إذا ورد خبر يدل على حرمة الربا بين الزوج والزوجة : وورد خبر آخر يدل على اباحته بينهما فالاول موافق لقوله تعالى حرّم الربا والثاني مخالف له على نحو المخالفة العموم المطلق والخصوص المطلق وقدّم الموافق ان لم يكن ترجيح للمخالف وإلّا فيقدّم المخالف ويخصّص به عموم الكتاب الكريم ، أي حرّم الربا إلّا الرباء الذي يكون بين الزوج والزوجة هذا بناء على جواز تخصيص عام الكتابي بخبر الواحد كما هو الأظهر وقد سبق تحقيقه في بحث الخاص والعام.

٢٤٣

في المخالفة على نحو العموم من وجه

قوله : وان كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه ...

وإذا خالف الخبر القرآن والسنة القطعية بالعموم والخصوص من وجه فالظاهر أن حكم هذا الخلاف يكون كحكم الخلاف في صورة المخالفة التباينية لأجل تحيّر العرف في الجمع بين العامين من وجه في مورد اجتماعهما كما ان العرف لم يتحيّر في الجمع بين العام والخاص المطلقين فتدخل المخالفة بالعموم من وجه في أخبار العرض لعدم الموجب لخروج المخالفة بالعموم من وجه عنها والموجب للخروج عبارة عن العلم الاجمالي بصدور روايات مخالفة للكتاب الكريم على نحو مخالفة الأعم والأخص المطلقين. وعن آباء بعض أخبار العرض عن التخصيص فالمخالفة بالعموم من وجه تكون من مصاديق المخالفة عرفا كما لا يخفى.

مثلا : ورد في القرآن الكريم : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وورد الخبر بتحريم الربا ، وورد خبر آخر دالا على حلية كل قرض ولو بالربا فبين الربا والقرض عموم من وجه مادة اجتماعهما في القرض الربوي ، ومادة الافتراق عن جانب الربا في البيع الربوي ، ومادة الافتراق عن جانب القرض في القرض غير الربوي. فالمخالفة في الخبر الآخر لعموم الكتاب بالعموم من وجه فيقدم الموافق للكتاب على المخالف له ويكون الكتاب مرجّحا للموافق.

فالنتيجة انه يحرم الربا القرضي كما لا يخفى على أحد.

قوله : وأما الترجيح بمثل الاستصحاب كما وقع في الكلام ...

إذا وافق أحد الخبرين المتعارضين الاستصحاب كما إذا دل احد الخبرين على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة والخبر الآخر يدل على حرمته فيه فالخبر الدال على وجوب صلاة الجمعة موافق لاستصحاب وجوبها ، إذ هي كانت

٢٤٤

واجبة في زمان حضور الائمة عليهم‌السلام يقينا وفي زمان الغيبة نشك في بقاء وجوبها وزوالها فالاستصحاب يدل على بقاء وجوبها في عصر الغيبة.

فقد رجّح بعض الاصحاب قدس‌سره الموافق للاستصحاب على المخالف له وهذا مبتن على كون الاستصحاب حجّة من باب افادته للظن بالبقاء وعلى كونه من الامارات لا من الأصول العملية وعلى القول بالتعدي من المرجحات المنصوصة إلى كل مزية.

وأما بناء على التحقيق الذي هو عبارة عن كون حجية الاستصحاب من باب الأخبار تعبدا وعلى كونه أصلا عمليا جعل للشاك في ظرف الشك ولا يكون امارة وطريقا إلى الواقع فيكون حال الاستصحاب حينئذ كحال سائر الأصول العملية العقلية والنقلية ، إذ كلها يكون وظيفة للشاك في ظرف الشك.

وعليه لا يكون الاستصحاب بمرجّح للخبر الموافق أصلا كسائر الأصول العملية ، إذ بواسطة الأصل العملي لا تحصل القوة لمضمون الخبر أصلا ويدل على ذلك الأمر كون مدلول الخبر حكما واقعيا وكون مؤدى الأصل العملي حكما ظاهريا.

ومن الواضح عدم وحدة رتبة هذين الحكمين كي يتقوى مدلول الخبر بسبب الموافقة لمؤدى الأصل العملي والاستصحاب ولو بملاحظة دليل اعتبار الاستصحاب وهو عبارة عن جملة لا تنقض اليقين بالشك بل تنقضه بيقين آخر وهذا خبر ولا يخفى عليك ان مراد الاصوليين العظام (رض) من كلمة التعادل تكافؤ الدليلين المتعارضين من جميع الجهات التي تقتضي ترجيح أحدهما على الآخر.

ومرادهم من كلمة التراجيح مرجحات تقتضي ترجيح أحدهما على الآخر فهي جمع ترجيح على خلاف القياس في جمع المصدر ، إذ جمع المصدر قانونا اما بالالف والتاء كتفضيلات وتكثيرات جمع تفضيل وتكثير ، وإما يجيء على وزن

٢٤٥

افعال كانواع واوزان جمع نوع ووزن ، أما جمعه على وزن فعالل فهو غير معهود في كلام العرب فشاذ ، وانما أتوا بالترجيح على صيغة الجمع وقالوا : التراجيح دون التعادل لان المرجّحات بين الدليلين المتعارضين متعددة.

وأما التعادل فهو لا يكون إلّا في فرض فقدان جميع المرجّحات ولهذا أوتي الأول بلفظ الجمع وقيل التراجيح : ولكن التعادل لا يكون إلّا في فرض فقدان كل المرجّحات ولهذا أوتي بلفظ المفرد وقيل التعادل.

٢٤٦

الاجتهاد والتقليد

قوله : وامّا الخاتمة فهي فيما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد :

فصل : الاجتهاد لغة تحمّل المشقّة ، واصطلاحا كما عن الحاجبي ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بحث التعادل والتراجيح شرع في بحث الاجتهاد والتقليد.

فإن قيل : لم جعل بحثهما خاتمة ولم يجعله مقصدا التاسع من مقاصد الكتاب كمبحث الأوامر والنواهي والعام والخاص والمطلق والمقيّد وكالامارات المعتبرة شرعا أو عقلا وكالأصول العملية : وكالتعادل والتراجيح :

قلنا : ان بحثهما صغروي وليس بكبروي والبحث الصغروي لا يليق في علم الأصول : امّا بيان كون بحثهما صغرويا فلأنّه يبحث عن وجوب التقليد على غير المجتهد في الخاتمة ، ولا يجب عليه على نحو الكلي إذ يجوز له العمل بالاحتياط ؛ وعن وجوب الاجتهاد ولا يجب على كل مجتهد أن يكون مقلّدا (بالفتح) وان يجتهد في الأحكام الشرعية بعنوان كونه مرجعا للتقليد إذا قام به من به الكفاية ويستنبطها للناس.

نعم لا يجوز للمجتهد التقليد عن الغير ، ولهذا جعله خاتمة لمباحث علم الأصول ولمقاصده وانّما جعله خاتمة لشدّة المناسبة بين المقاصد الثمانية لعلم الأصول والاجتهاد والتقليد لأن الأصولي المطّلع على قواعد هذا العلم ومسائله حصلت له ملكة يقتدر بها على ردّ الفروع إلى الأصول واستخراجها منها وعلى استنباط الأحكام الفرعية.

فالنتيجة : ان ثمرة العلم بالقواعد الأصولية والاطلاع على مسائله هو

٢٤٧

الاجتهاد والاستنباط ولذا ذكر بحثه في طيّ الخاتمة. وأمّا بحث التقليد فهو استطرادي وثمرة بحث الاجتهاد.

قال المصنّف قدس‌سره : الاجتهاد لغة تحمّل المشقّة وهو مأخوذ من الجهد (بالفتح) أو بالضم بمعنى بذل الوسع والطاقة في طلب الأمر. قال الفراء : ان الجهد (بالفتح) بمعنى المشقّة ، و (بالضم) بمعنى الطاقة ، وكلا المعنيين مناسب في المقام فالاجتهاد مصدر باب الافتعال مأخوذ من الجهد والجهد بمعنى الطاقة والوسع واصطلاحا كما عن الحاجبي والعلّامة الحلّي رحمهما‌الله استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي. وعن غيرهما عرّف الاجتهاد بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل والمدارك بالفعل أو بالقوّة القريبة أي يكون الاستنباط بالفعل بسبب الملكة أو بالقوّة القريبة فالمراد من الأوّل الاقتدار على الاستنباط الفعلي بلا حالة الانتظارية غير المراجعة الاختيارية إلى المدارك (المقرّرة) والأصول المعتبرة عند الأصحاب (رض).

ومن الثاني الاقتدار على الاستنباط مع حالة الانتظارية من غير المراجعة الاختيارية إلى المدارك ولكن لعروض العوارض الخارجية كفقد الكتب والمدارك عند شخص لا يقتدر على الاستنباط الفعلي أما بخلاف العوام حال كونه ذا استعداد فانّه يقتدر على الاستنباط والاستخراج بالقوّة البعيدة.

قوله : ولا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا ليس ...

اختلاف عبارة الأعلام (رض) في بيان معنى الاجتهاد اصطلاحا ليس من جهة الاختلاف في حقيقة الاجتهاد وماهيته ، إذ من الواضح أنّهم ليسوا في مقام حدّ الاجتهاد ولا في صدد بيان رسمه ؛ بل كانوا في صدد شرح اللفظ وفي صدد شرح اسم الاجتهاد بنحو يشيرون إلى مفهوم لفظ الاجتهاد بسبب لفظ آخر كما ان اللغوي يبيّن معاني الألفاظ التي استعملت في محاورات أهل اللسان بسبب التبديل بلفظ

٢٤٨

أوضح مفهوما كما يقول ان الصعيد بمعنى التراب أو مطلق وجه الأرض وان السعدانة نبت ؛ وكذا الأصولي يقول ان الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي أو ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من المدارك المقرّرة شرعا سواء كان دليلا اجتهاديا أم أصلا عمليا ودليلا فقاهتيا.

ولا يخفى عليك ان التبديل للفظ باللفظ الآخر الذي يكون أوضح بحسب المفهوم اللغوي من اللفظ الأول في التعريف اللفظي وشرح الاسمي قد يكون أعم من اللفظ مفهوما ومصداقا الأول كقول السعدانة نبت والسماء جهة العلو ؛ وقد يكون أخص منه بحسب المفهوم والمصداق كقول النبت سعدانة والدواء سناء ، وقد يكون مساويا له مفهوما ومصداقا كقول الإنسان حيوان ناطق بناء على كونه من قبيل التعريف اللفظي لا الحقيقي كما هو مختار المصنّف قدس‌سره ولهذا يقال كل انسان حيوان ناطق ؛ وكل حيوان ناطق انسان.

وعلى ضوء هذا يكون الميز بين التعريف الحقيقي وبين التعريف اللفظي من جهات :

الاولى : في اشتراط المساواة في الصدق في الأوّل وعدم اشتراطها في الثاني.

الثانية : الاطلاع على حقيقة المعرف (بالفتح) وكنهه أو الامتياز عمّا عداه في الأوّل دون الثاني بل يشترط في الثاني الامتياز في الجملة.

الثالثة : يشترط في الأول الاطراد ومانعية الاغيار ؛ والانعكاس وجامعية الافراد ؛ دون الثاني.

الرابعة : ان الأوّل يقع في جواب ما الحقيقية ، والثاني يقع في جواب ما الشارحة».

قوله : ومن هنا انقدح انّه لا وقع للايراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطراد ...

٢٤٩

قد علم من كون تعريف الاجتهاد لفظيا لا حقيقيّا عدم المجال للاشكال على تعريفه عكسا وطردا لكون هذا الاشكال متفرّعا على كون التعريف حقيقيّا لا لفظيّا ، ولكن اعترض على تعريف الحاجبي والعلّامة قدس‌سره بعدم الانعكاس :

أوّلا : بأن استنباط الحكم من الاستصحاب كاستنباط وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة من استصحاب بقاء وجوبها وكاستنباط عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال بسبب أصالة البراءة يكون اجتهادا عرفا مع أنّه لا يحصل منهما الظن بالحكم الشرعي الفرعي.

وثانيا : قد يؤدي الاجتهاد إلى القطع بالحكم الشرعي كموارد الاستلزامات العقلية كالأمر بشيء يستلزم عقلا النهي عن ضدّه العام قطعا وكاستلزام وجوب شيء وجوب مقدّمته عقلا مع كونه من مصاديق الاجتهاد.

وثالثا : بأن استفراغ الوسع ليس في استنباط جميع الأحكام الفرعية التي يسهل استنباطها لسهولة مداركها فاستنباط بعض الأحكام لا يتوقّف على استفراغ الوسع وعلى تحمّل المشقّة مع كونه اجتهادا ؛ وبعدم الاطراد على التعريف الثاني حيث ان قوّة الاستنباط ربّما تتناول القوّة القريبة من الاجتهاد مع أنّها ليست باجتهاد قطعا لأنّ المقصود بقوّة الاستنباط هو الملكة الحاصلة فعلا بدون التلبّس بالاستنباط الفعلي ، أما بخلاف القوّة القريبة من الاجتهاد فان معناها قرب حصول الملكة وعدم وجودها فعلا مع ان المشتغل بعلم الأصول ان لم تحصل له الملكة القدسية الاجتهادية لم يصح اطلاق المجتهد عليه قطعا بلغ من الفضل ما بلغ.

قوله : كما هو الحال في تعريف جلّ الأشياء لو لا الكل ...

فلا محل للاعتراض عليه بعدم الانعكاس أو بعدم الاطراد بعد ان كان التعريف لفظيا لشرح الاسم لا حقيقيّا لبيان الكنه والماهية ضرورة عدم الإحاطة بحقيقة الأشياء بكنهها أو بخواصها الموجبة لامتيازها عمّا عداها لغير علّام الغيوب.

٢٥٠

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن عدم الاحاطة لغير علّام الغيوب بحقيقة الأشياء أو بخواصها الموجبة لامتيازها عمّا عداها على الدقّة ممّا لا ينافي كون الاعلام (رض) بصدد التعريف الحقيقي على حسب وسعهم ومقدار طاقتهم ويدل على هذا الأمر تصريحهم بأن القيد الفلاني لاخراج كذا أو لادخال كذا مثلا يقولون في تعريف الانسان بأنه حيوان ناطق ان الحيوان جنس يشمل جميع أنواع الحيوان لأنه جنس التعريف والناطق فصل يخرج سائر أنواع الحيوان من الابل والفرس وغيرهما وهذا قرينة قطعية على كونهم بصدد التعريف الحقيقي وفي مقام بيان الكنه والماهية.

وعلى ضوء هذا فكيف يحمل تعاريفهم على التعاريف اللفظية وأنهم بصدد شرح الاسم وبصدد حصول الميز في الجملة.

قوله : وكيف كان فالأولى تبديل الظنّ بالحكم بالحجّة عليه ...

سواء كان تعريف الاجتهاد بتعريفين السابقين حقيقيّا أم لفظيّا فالأولى تبديل الظنّ بالحكم بالحجّة عليه لوجهين :

الأوّل : انّ بعض الأحكام الشرعية الفرعية تستنبط من الأصول العملية وهي لا تفيد الظن بالحكم الشرعي الفرعي الواقعي ، وعليه يكون المناط في الاجتهاد هو تحصيل الفقيه الحجّة على الحكم سواء كان دليلا اجتهاديا أم دليلا فقاهتيا لا التحصيل للظن عليه.

الثاني : ان الظنّ بما هو ظنّ ليس بحجّة لأنّه منهي عنه بمقتضى الآيات القرآنية إلّا ما خرج بالدليل كالظن الذي ثبتت حجّيته بأدلّة خاصة ، أو بدليل الانسداد على تقدير تماميته.

فالصحيح أن يعرّف الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية الفرعية أو استفراغ الوسع في تعيين الوظيفة عند عدم الوصول

٢٥١

على الحجة سواء كان تحصيلها بالفعل أم كانت ملكة تحصيل الحجّة ولو لم تحصل بعد وليس الاجتهاد بمعنى تحصيل الظنّ بالحكم إذ ليس مناطه تحصيله به حتى عند العامّة القائلين بحجيّة الظن سواء كان باب العلم مفتوحا بالأحكام الشرعية الفرعية أم منسدا وحتى عند المحقّق القمّي قدس‌سره القائل بحجيّة الظن بالأحكام الشرعية عند انسداد باب العلم بها فالظن مطلقا عند العامة من أفراد الحجة كما أنه حجّة عند الانسداد عند الفاضل القمّي قدس‌سره.

ولأجل كون المناط في الاجتهاد تحصيل الحجّة على الأحكام لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل العلم بالأحكام وفي تحصيل غير العلم من الطرق التعبّدية غير المفيدة للظنّ. وتلك كالأصول العملية لأنها لا تكون كاشفة عن الواقع لا علما ولا ظنّا أبدا ولكنّها معتبرة شرعا فيصح الاستناد إليها في مقام العمل كما نعمل على طبق الاستصحاب وأصالة البراءة واصالة التخيير واصالة الاحتياط في مواردها ، وهذه الأصول العملية التعبّدية لا تفيد الظن بالأحكام لا الظن النوعي ولا الظن الشخصي اجتهادا أيضا وهذا خبر الكون السابق إذ الحجّة تشمل الظن بالأحكام والعلم بها والأصول العملية التعبدية فيحصل الظن بها عند الانسدادي والعلم بها عند الانفتاحي إذ ظنّية الطريق لا تنافي علمية الحكم الظاهري أي يحصل لنا العلم بالأحكام الظاهرية من آيات الأحكام والأخبار الآحاد ، وهذا لا يستلزم التصويب الباطل بإجماع العدلية كما لا يخفى.

قوله : ومنه انقدح أنه لا وجه لتأبى الأخباري عن الاجتهاد ...

قد ظهر لك من تعريف الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الأحكام أن الاجتهاد بهذا المعنى ممّا لا مناص عن الالتزام به للاخباري والأصولي فلا وجه لاستيحاش الأخباري عنه ولا وجه لمنعه عنه بهذا المعنى إذ لا محيص عن الاجتهاد بهذا المعنى في عصر الغيبة كما لا يخفى.

٢٥٢

غاية الأمر أن الأخباري ينازع في حجّية ما يراه الأصولي حجّة كأصالة البراءة في الشبهات التحريمية الحكمية لأن الأخباري قائل فيها بالاحتياط ، وهو لا يضرّ في الاتفاق على صحّة الاجتهاد بالمعنى الذي ذكرناه.

ولعلّ النزاع بين الأخباري والأصولي في صحّة الاجتهاد وعدمها لفظي إذ استنكار الأخباري راجع إلى الاجتهاد بمعنى تحصيل الظن بالحكم الشرعي واثبات الأصولي راجع إلى الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجّة القطعية على الأحكام الشرعية فمورد الانكار والاثبات متعدّد وقد وقع النزاع بين الأخباريين ، كما في الشبهة الوجوبية فأكثرهم قائل بالبراءة فيها وبعضهم قائل بالاحتياط فيها ، وكذا في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية إذ المحدّث الاسترآبادي قدس‌سره أنكر جريانه فيها ، كما وقع بينهم وبين الأصوليين مثلا في الشبهات الحكمية الوجوبية قال جمهور الأخباريين بجريان البراءة فيها وذهب بعضهم إلى لزوم الاحتياط فيها ، اما في الشبهات الحكمية التحريمية فقد التزموا بالاحتياط فيها وقد سبق هذا المطلب. وأما الأصوليون فهم قائلون بالبراءة فيها.

في تقسيم الاجتهاد إلى مطلق وإلى تجزّي

قوله : فصل ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزّي فالاجتهاد المطلق ...

فهنا مقامان :

المقام الأوّل : فيما يتعلّق بالاجتهاد المطلق ؛ وفي أحكامه ولا بدّ من تعريف الاجتهاد المطلق أوّلا ثم بيان أحكامه ثانيا إذ أحكام الشيء من لوازمه وأوصافه فالشيء متى لم يعرّف أوّلا كيف يبحث عن أوصافه وأحواله ، ولهذا شرع المصنّف قدس‌سره في تعريفه وقال ان الاجتهاد المطلق هو ما يقتدر الشخص على استنباط الأحكام الفعلية لا الإنشائية من أمارة معتبرة كاشفة عن الحكم الواقعي كخبر العدل والثقة مثلا أو أصل معتبر عقلا كالبراءة العقلية ويعبّر عنه في الاصطلاح

٢٥٣

بالأصل العملي كما يعبّر عن الامارة المعتبرة بالدليل الاجتهادي أو نقلا كالاستصحاب والبراءة الشرعية وبالدليل الفقاهتي أيضا في الموارد التي لم يظفر الفقيه فيها بالامارة المعتبرة.

هذا تعريف اجتهاد المطلق والتجزّي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام الشرعية الفرعية فيطلق الاجتهاد حقيقة على كليهما معا.

في إمكان الاجتهاد المطلق

قوله : ثم انّه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للاعلام ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن تعريف الاجتهاد المطلق والتجزي شرع في بيان أحكام الأوّل قال : لا إشكال في امكان الاجتهاد المطلق وحصول ملكة الاستنباط في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات للاعلام قدس‌سرهم.

فإن قيل : ان الاعلام (رض) قد يتردّدون في بعض المسائل بحيث لا يتمكّنون من الترجيح في المسألة ومن تعيين حكمها مثلا لا يقتدرون على تعيين وجوب القصر أو التمام على المسافر الذي قطع الطريق أربعة فراسخ وأراد أن يبيت في رأس أربعة فراسخ وفي الغد رجع حتى يكون إيابه وذهابه ثمانية فراسخ. وعليه فكيف يكون الاجتهاد المطلق حاصلا لهم ، وهذا واضح.

قلنا : ان تردّدهم في بعض المسائل انّما هو بالنسبة إلى حكمه الواقعي لأجل فقد الدليل المساعد عليه ، أو لأجل عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم. وأمّا بالنسبة إلى الأحكام الظاهرية الفعلية فلا تردّد لهم أصلا فانّهم بعد الفحص عن الدليل على الأحكام بالمقدار اللازم ـ وهو عبارة عن حدّ اليأس ـ يرجعون إلى الأصول العملية ولا ريب في أن مؤداها هو الحكم الظاهري الفعلي وليس تردّدهم في بعضها لقلّة الاطّلاع ولضعف الاستعداد أو لقصور الباع.

٢٥٤

كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتّصف به لأنّ المفروض كونه عالما بالحكم الواقعي وجدانا كما إذا ظفر في مقام الاستنباط بما يفيد العلم به أو عالما بقيام حجة شرعية عليه كما في موارد الطرق أو الأصول المثبتة للحكم. وتلك كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة مثلا ، أو عالما بأن الشارع المقدّس جعل له حكما ترخيصيا في مقام الظاهر كما في موارد الأصول الشرعية النافية للتكليف كأصالة البراءة عن وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وعن حرمة شرب التبغ ؛ أو عالما بمعذوريته في مخالفة الحكم على تقدير وجوده واقعا كما في موارد الطرق النافية للحكم أو الأصول العقلية النافية للحكم.

ومع علمه بما ذكر كيف يمكن القول بعدم جواز العمل بعلمه مع أنّ حجية العلم ذاتية وهل يكون رجوعه إلى غيره إلّا من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل أو إلى مثله ، وهما ليسا بصحيحين عقلا وهذا كلّه واضح بالنسبة إلى العالم بالفعل. وأمّا الجاهل بالفعل المتمكّن من استنباط الأحكام الشرعية فادّعى شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسالته الخاصة بمباحث الاجتهاد والتقليد قيام الاجماع على عدم جواز رجوعه إلى الغير ، وأن ما دلّ على جواز التقليد من الآية الشريفة والرواية المباركة منصرف إلى الجاهل غير المتمكّن من الاستنباط فعلا.

قوله : وامّا لغيره فكذا لا إشكال فيه إذا كان المجتهد ممّن كان باب العلم أو العلمي ...

وأمّا العمل باجتهاد المجتهد المطلق لغيره فكذا لا إشكال فيه أي في جواز العمل إذا كان المجتهد المطلق ممّن يرى انفتاح باب العلم أو العلمي بالأحكام الشرعية الفرعية إذ يصدق حينئذ رجوع الجاهل إلى العالم. بناء على مقتضى الأدلّة التي ستأتي إن شاء الله تعالى.

أمّا بخلاف ما إذا انسد عليه بابهما فجواز تقليد الغير عن المجتهد المطلق

٢٥٥

الانسدادي في غاية الاشكال فانّ رجوع الغير الذي يكون جاهلا بالأحكام إلى المجتهد المطلق الانسدادي ليس من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم بل من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل. والحال أن أدلّة جواز التقليد إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى.

فإن قيل : انه قد ثبتت بمقدّمات الانسداد حجّية الظنّ المطلق وهو نزّل منزلة العلم فكأنّ الانسدادي انفتاحيا. وعلى ضوء هذا يكون الرجوع إلى الانسدادي كالرجوع إلى الانفتاحي.

قلنا : ان مقتضى مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجّية الظنّ حكومة أو كشفا على المجتهد الانسدادي لا على غيره لأنّ الأحكام تختلف إذ بعضها يختص بالمجتهد ، وذلك كجواز الافتاء ونفوذ القضاء ، وبعضها يختص بالمقلّد كجواز التقليد ووجوب الرجوع إلى العالم ، وبعضها مشترك بينهما نحو وجوب الواجبات وحرمة المحرّمات.

ومن الأشياء التي تختص بالمجتهد الانسدادي حجّية الظنّ ؛ فلا بدّ حينئذ في حجّية اجتهاد مثل المجتهد الانسدادي على غيره من المقلّدين من التماس دليل آخر غير أدلّة التقليد ؛ وغير دليل الانسداد الجاري في حق المجتهد دون العامي من إجماع أو من جريان مقدّمات الانسداد في حق الغير بحيث تكون منتجة لحجيّة الظن الذي ثبتت حجّيته بمقدّمات الانسداد للغير أيضا كما هي منتجة لحجية الظن للمجتهد الانسدادي.

ولكن لا مجال لدعوى الاجماع لكون مسألة الانسداد من المسائل المستحدثة ولم يكن لها رسم ولا أثر في كلام قدماء الأصحاب (رض) فدعوى الاجماع فيها غير مسموعة أصلا ولا يجوز تمسّك العامي في جواز تقليده عن المجتهد الانسدادي بدليل الانسداد إذ هي غير جارية في حق الغير لعدم انحصار

٢٥٦

المجتهد بالمجتهد الانسدادي أو لعدم محذور عقلي من جهة عمل العامّي بالاحتياط وان لزم من الاحتياط العسر والحرج إذا لم يكن للعامّي سبيل إلى اثبات عدم وجوب الاحتياط مع عسر الاحتياط.

فالنتيجة : أنّ مقدّمات الانسداد لا تجري في حق العامّي إذ يجوز له تقليد الانفتاحي أو العمل بالاحتياط ففي الصورتين لا تجري في حقّه كي يجوز تقليد الانسدادي.

فإن قيل : إذا لزم من الاحتياط العسر الأكيد والحرج الشديد فهو غير واجب فلا بدّ له من التقليد فرارا من العسر والحرج.

قلنا : نعم انه غير واجب إذا استلزم العسر ولكن هو غير واجب إذا تمكّن المقلّد من ابطال عدم وجوبه بالدليل ، وامّا إذا لم يتمكّن منه بالدليل فلا إشكال في لزومه إذا لم يقلّد مجتهدا جامعا للشرائط.

قوله : نعم لو جرت المقدّمات كذلك بأن انحصر المجتهد ...

هذا استدراك عن عدم جريان مقدّمات الانسداد في حق المقلّد (بالكسر) وعن بطلان تقليد المجتهد الانسدادي بان انحصر المجتهد في عصر من الأعصار وفي زمان من الأزمنة في الانسدادي وبأن لزم من العمل بالاحتياط اختلال النظام أو لزم منه العسر والحرج مع تمكّن المقلّد من ابطال وجوب الاحتياط بالدليل والبرهان حين اختلال النظام وحين لزوم العسر.

وفي هذه الصورة جرت المقدّمات في حق المقلّد (بالكسر) وهي منتجة لحجية الظن في حق المقلّد أيضا ولكن دونه خرط القتاد. هذا أي عدم جواز تقليد الانسدادي انّما هو بالنسبة إلى القول بالحكومة أي كان الظن حجّة عند الانسدادي من باب حكم العقل بحجية الظن بعد تماميّة مقدّمات الانسداد.

قوله : وامّا على تقدير الكشف وصحّته فجواز الرجوع إليه في غاية الإشكال ...

٢٥٧

منع المصنّف قدس‌سره من رجوع الجاهل إلى المجتهد الانسدادي الذي يقول بالكشف بعد تماميّة مقدّمات الانسداد لوجهين :

الأوّل : هو المنع عن أصل القول بالكشف إذ مقدّمات الانسداد لو تمّت مقتضية لحجّية الظن المطلق على الحكومة لأن العقل لا يكشف بعد تمامية المقدّمات عن حجيّة الظنّ عند الشارع المقدّس ؛ إذ يحتمل أن يرجع الشارع المقدّس المكلّفين بعد تمامية المقدّمات بطرق عقلية وأن يكتفي بحجية الظنّ عند العقل حينئذ أو أن يكتفى بالتبعيض في الاحتياط.

وعلى أي حال لا يجب على الشارع المقدّس أن يجعل الظن المطلق حجّة بالخصوص بعد تمامية المقدّمات فالمقدّمات لا تكشف عن حجيّة الظن عند الشارع المقدّس ، ولكن بناء على هذا المبنى أي بناء على الكشف عن حجيّة الظنّ عند الشارع المقدّس يكون هذا الظن مثل سائر الظنون والامارات الخاصة ، كالبيّنة ، وخبر العدل ، وخبر الثقة.

وعلى طبيعة الحال يشكل جواز تقليد المجتهد الانسدادي القائل بالكشف بعد تماميّة مقدّمات الانسداد إذ لا تشمله أدلّة التقليد أي أدلّة تقليد الجاهل عن العالم لأنّ المجتهد الانسدادي القائل بالكشف ليس بعالم بالوجدان ومقدّمات الانسداد تكشف عن حجيّة الظن عند الشارع المقدّس للمكلّف الذي تجري المقدّمات في حقّه وهو المجتهد الانسدادي فتكون حجيّة الظنّ مختصّة بهذا المجتهد وليس الظن هذا بحجّة في حق المقلّد لعدم انحصار المجتهد به.

وعليه يمكن له أن يقلّد عن المجتهد الانفتاحي وان يكون محتاطا إذا لم يكن مخلّا بالنظام ، وامّا العسر فهو وإن كان يلزم من الاحتياط ولكن المقلّد إذا كان عامّيا محضا لم يدرك عدم وجوبه شرعا ، وعليه فيحتاط في أعماله ولا يقلّد عن المجتهد الانسدادي.

٢٥٨

وعلى أي تقدير ليس الظن حجّة له. نعم إذا فرض حصر المجتهد بالانسدادي ولزوم الاختلال أو العسر بسبب الاحتياط وقد أدرك المقلّد حرمة الاحتياط حينئذ أي حين كونه مخلّا بالنظام أو عدم وجوبه إذا كان عسريا وحرجيا تمّ الانسداد في حق الغير أيضا وأوجب الانسداد حجية ظن المجتهد الانسدادي للغير ولكنّه مجرّد فرض ليس بمتحقّق في الخارج أصلا.

وخلاصة الكلام : أن دليل الانسداد يختص بالمجتهد الانسدادي وهو يجعل الظنّ حجّة له من باب الكشف ولم يجعله حجّة للمقلّد. وعلى هذا لا يجوز التقليد عنه لاختصاص دليل حجّية الظن بالمجتهد.

نعم لو سلّم أن مقتضى المقدّمات كون الظن المطلق معتبرا شرعا كالظنون الخاصّة التي دلّ الدليل الخاص على اعتبارها بالخصوص ، وتلك كالظن الذي يحصل لنا من ظواهر الآيات القرآنية ومن ظواهر الأخبار الآحاد ومن الاجماعات المنقولة على فرض حجيتها بلا فرق بينهما من حيث الحجّية فلا إشكال حينئذ في تقليده عنه.

قوله : فتأمّل ...

وهو إشارة إلى أنّ الظن طريق منصوب من قبل الشارع المقدّس في حال الانسداد فهو يكون كالعلم حال الانفتاح عند الانفتاحي. وعليه كما يجوز التقليد عن المجتهد الانفتاحي إذ العلم حجّة له ولغيره فكذا يجوز التقليد عن المجتهد الانسدادي لأنّ الظنّ كالعلم في الحجّية. فجواز التقليد عن المجتهد الانسدادي القائل بالكشف ممّا لا ينبغي التأمّل فيه.

٢٥٩

في الإشكال الأوّل

قوله : ان قلت حجية الشيء شرعا مطلقا لا توجب القطع بما أدّى إليه ...

واستشكل المستشكل على جواز الرجوع إلى المجتهد الانفتاحي أيضا بناء على مختار المصنّف قدس‌سره في حجّية الامارات من التنجيز والتعذير فقط فحجّية الظنون الخاصّة الحاصلة من ظواهر الكتاب والأخبار لا تدلّ على العلم بالواقع حتى يصدق على المجتهد الانفتاحي انه عالم بالأحكام الشرعية ويصدق الرجوع إليه أنه من رجوع الجاهل إلى العالم.

فإن قيل : إنّه يحصل العلم بالأحكام الظاهرية للانفتاحي من طريق الامارات غير العلمية ، إذ ظنّية الطريق لا تنافي علمية الحكم الظاهري.

نعم ؛ ظنّية الطريق تنافي علمية الحكم الواقعي المجعول في اللوح المحفوظ ولا يخفى عليك انه لا يلزم حينئذ التصويب الباطل إذ المراد حصول العلم بالحكم الظاهري من طريق الظنّي لا العلم بالحكم الواقعي من الطرق الظنّية دلالة كظواهر الكتاب الكريم ، أو دلالة وصدورا كظواهر الأخبار الآحاد كي يلزم كون الأحكام الواقعية تابعا لآراء المجتهدين.

فلا يجوز الرجوع إلى المجتهد سواء كان انفتاحيا أم انسداديا بناء على مختار المصنّف قدس‌سره في حجيّة الامارات غير العلمية وقد مرّ تحقيقه في حجيّة الأخبار من أنه ليس أثر الحجيّة إلّا تنجّز الواقع عند الاصابة والعذر عند الخطأ.

وعلى هذا الأساس فيكون رجوع الغير إلى المجتهد وان انفتح عليه باب العلمي من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل فضلا عمّا إذا انسد عليه باب العلمي.

فالنتيجة : اشتراك الانفتاحي والانسدادي في الجهل بالحكم الواقعي والظاهري إذ ليس مؤدّى الامارات غير العلمية حكما ظاهريا على مبنى المصنّف قدس‌سره ومن تبعه بل يكون مؤدّاها صرف المنجزية للواقع عند الاصابة

٢٦٠